اكتساب الثقة موهبة متأصلة عند هيكل، وفن يتقن قواعده، وكانت مواهبه الأخرى كثيرة ومتعددة، فتفوق على ثلاثة كانوا قد سبقوه إلى الاقتراب من كثيرين من أعضاء مجلس قيادة الثورة، وعرفوهم معرفة وثيقة، إبان سنوات الإعداد لها، وكانوا ثلاثتهم يصادقون عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وصلاح سالم (6).
<strong>محمد حماد <strong>
تفوق هيكل على إحسان عبد القدوس صاحب معركة «الأسلحة الفاسدة»، وتفوق على أحمد أبو الفتح (7) بكل معاركه حول قوانين «تعبيد الصحافة»، وتفوق على حلمي سلام صاحب الحملة على «فساد إدارة الجيش».
تفوق على الجميع، لأنه بلا شك كان يملك ما لا يملكونه، تفوق عليهم، لأنه كان مؤهلاً لهذا التفوق، ولأنه كان موهوباً بالفطرة ليتبوأ تلك المكانة.
**
كان هيكل مجرد صحفي بين صحفيين. لا هو أشهرهم و لا أخملهم. و لكنه بالقطع كان من أذكاهم. و قد صادفه حظه، و صادف هو قدره.
و لم يكن أياً من دعاة النظام السابق مؤهلاً لأن يكون داعية النظام الجديد خاصة لدى الرجل الأول في هذا النظام. كانت الساحة مليئة بأسماء تتقدم لتنال رضا النظام الجديد و رجله القوي.
مصطفى أمين حاول، و لكن عبد الناصر كان يشك في نواياه، لأنه كان مسموعاً و مقروءاً في نظام ما قبل الثورة.
كان الذين قاموا بثورة يوليو سنة 1952 قد طلعوا من المجهول، و لم يكن ليقبلوا التعامل مع هؤلاء الذين كانوا نجوماً في عصر ما قبل الثورة. و هكذا سقط واحد مثل التابعي. و تأرجح موقع وموقف مصطفى أمين. و الآخرون جميعاً قصرت مؤهلاتهم عن أن تدفع بهم إلى الموقع الأثير لدى رجل النظام الجديد.
وحده هيكل، دفعته جملة مصادفات إلى حيث يمكنه أن ينفرد بتلك المكانة و ذلك المكان. لم يكن ملوثاً قدر ما كانوا ملوثين. لم يكن منخرطاً قدر ما كانوا منخرطين. لم يكن ذا لون سياسي قدر ما كانت لهم ألوان و انحيازات. و اللون السياسي يجذب كما أنه ينفر.
و كان مؤهلاً أكثر من غيره لتقدير و تفهم و التعبير عن أفكار القادم الجديد. بدا كأنه واحد من القادمين الجدد، عمره قريب جداً إلى أعمارهم. يوم الثورة كان عمره حوالي 29 سنة، و هم أكبر بسنوات معدودة، لا تزيد على الخمس و الست سنوات.
كان معهم من نفس الجيل، من نفس الطبقة، من الشرائح الدنيا للطبقة الوسطى. كانوا تواقين لصناعة مجد الأمة. و لتخليد أسمائهم في التاريخ. و كان تواقاً لصناعة مجده و تخليد اسمه في التاريخ. لم يكن مثلهم ثورياً. و إن كان مثلهم يأمل في عهد جديد يتيح له و لطبقته ما حُرمت منه طويلاً.
**
من حسن حظ جمال عبد الناصر أنه وجد واحداً مثل هيكل بالقرب منه. و من حسن حظه أيضاً أنه وجد مفسراً و معبراً عن سياسته بهذه الروعة التي وجدها في هيكل الكاتب و الصحفي.
كان عبد الناصر فوق قمة الهرم، في أعرق سلطة دولة في العالم، و هناك فوق تلك القمة لا أحد غير العزلة و الوحدة، و لا شيء غير صقيع القمة. و في هذه العزلة، و في تلك الوحدة، و في ذلك الصقيع يصبح واحد مثل هيكل هدية من السماء.
وقد لامس هيكل هذا الصقيع بيديه، و كتب عن ذلك مرة قال: «كنا ليلتها على ظهر باخرة الحرية، في وسط الأدرياتيكي قادمة من يوغوسلافيا، بعد اجتماع بين عبد الناصر و تيتو(8) ، و كانت الثورة في العراق قد قامت يوم14 يوليو سنة 1958، و فى وسط طريق العودة، و نحن بعد في الأدرياتيكي، جاءت الأنباء بحشود الأسطول الأمريكي السادس في البحر الأبيض و بالإنزال الأمريكي على شاطئ لبنان.
و فكر جمال عبد الناصر أن يقطع عودته إلى الإسكندرية، و فكر في وسيلة يطير بها إلى موسكو يتباحث مع القادة السوفييت في التطورات الجديدة، لكي يستطيع تقدير موقفه بجلاء و يقين، قبل أن يعود إلى منطقة الشرق الأوسط، و العواصف المتحفزة للهبوب عليها.
و دعانا إلى مكتبه على ظهر الباخرة الحرية: الدكتور محمود فوزي و أنا، ثم طلب رأينا في فكرته بأن يطير إلى الاتحاد السوفيتي، و أعطانا ربع ساعة، لكي نعود إليه بجواب.
و خرجنا نفكر معاً، ثم عدنا بعد ربع ساعة، و قال الدكتور فوزي للرئيس: «إنك وحدك تستطيع أن تجيب على هذا السؤال بتفاعلك الداخلي مع الحوادث، و باتصالك العميق بالجماهير العربية، هذا سؤال يتولى الجواب عليه «إلهام الزعامة»، و لا يتولى الجواب عليه «حساب المنطق»، قرر بإحساسك ماذا تريد؟، و ما تقرره سوف يكون الصواب»، و أصغى الرئيس جمال عبد الناصر في سكون، ثم كان قراره وحده بالسفر. و كان تعليق هيكل: «أحسست بالوحدة المروعة عند القمة».
أحس هيكل بالصقيع الذي يعانيه من هم فوق القمة. و لعلها لم تكن المرة الأولى التي يلمس تلك البرودة عن قرب، و لكنها بالنسبة لنا تدل على وعيه المبكر بما يعانيه صاحب القرار من وحدة و عزلة، و مسؤولية، و أمانة ناءت بحملها الجبال. و لا شك عندي أن وعي هيكل المبكر بهذه الحالة جعله يرسم لنفسه دوراً إلى جانب الرئيس، دور يكون مفيداً فيه، بأكثر ما يكون مجرد عالة على صاحب القرار
* محمد حماد: كاتب و صحفي مصري، مؤلف كتابي “الرئيس و الأستاذ” – “دراما العلاقة بين الكاتب و السلطان و قصة الدستور المصري”، و نائب رئيس تحرير صحيفة العربي السابق
(6) صلاح سالم (1920 ـ 1962): ضابط مصري، تخرج في الكلية الحربية سنة 1940 و هو في الثامنة عشرة من عمره. تخرج في كلية أركان الحرب سنة 1948، و شارك مع قوات الفدائيين التي كان يقودها الشهيد أحمد عبد العزيز، و هو الأخ الأصغر لجمال سالم، انضما إلى تنظيم الضباط الأحرار، ثم صارا عضوين بمجلس قيادة الثورة بعيد 23 يوليو سنة 1952، تولى وزارة الاعلام في بداية الثورة، و اشتغل بالصحافة حيث تولى الاشراف على صحيفتي الشعب و الجمهورية، و تولى رئاسة مجلس ادارة دار التحرير للطباعة و النشر، و رأس تحرير جريدة الجمهورية. كان صلاح سالم أول من توفى من أعضاء مجلس قيادة الثورة، حيث توفي في سن صغيرة عن عمر 41 عاما في 18 فيفري 1962 بمرض خبيث، و تصادف موته مع الانتهاء من الأعمال التنفيذية للطريق الذي أطلق اسمه عليه، و أصبح من أشهر شوارع القاهرة.
(7) في كتابه: « لمصر لا لعبد الناصر» ص 72 يذكر الأستاذ هيكل أن أحمد أبو الفتح كان قد تعرف إلى جمال عبد الناصر عن طريق صهره ثروت عكاشة الذي كان عضواً مرموقاً في حركة الضباط الأحرار، و يعترف هيكل بأن: «صوت الأستاذ أحمد أبو الفتح كان من الأصوات المسموعة لدى مجلس الثورة في الفترة الأولى، فقد كان دوره وسط مجموعة الشباب التقدمي الجديد الذي ظهر في حزب الوفد و على اليسار من التيار الرئيسي فيه، دوراً ظاهراً و من هنا كان طبيعياً أن يكون الأستاذ أحمد أبو الفتح حلقة الاتصال بين النظام الثوري الجديد و بين حزب الوفد الذي كان حزب الأغلبية في ذلك الوقت. و مع بداية سنة 1953 بدأت الخلافات تدب في العلاقات بين جمال عبد الناصر و الأستاذ أحمد أبو الفتح لأسباب سياسية و أخرى نفسية و بعضها يعود إلى وفاء الأستاذ أحمد لأخيه محمود».
8) جوزيف بروز تيتو (7 مايو 1892 ـ 4 مايو 1980): رئيس يوغسلافيا في الفترة من 14 جانفي سنة 1953 حتى وفاته في 4 ماي سنة 1980 بعدما حكم يوغوسلافيا لمدة 35 عامًا، و انقسمت الدولة بعد رحيله بحوالي تسع سنوات. بدأت مواقف تيتو من القضايا العربية منذ لقائه مع الرئيس جمال عبد الناصر، و وقفت يوغسلافيا بجانب مصر و أيدتها في قرار التأميم، و ظهر موقفها الداعم لمصر في الأمم المتحدة، و كان تيتو من الداعمين للوحدة العربية بين مصر و سوريا سنة 1958 و إعلان الجمهورية العربية المتحدة. و ساند مصر في حرب الاستنزاف التي أعلنها الرئيس عبد الناصر ضد الاحتلال الإسرائيلي لسيناء، و قام تيتو بزيارات عديدة إلى مصر، و جرى خلال تلك الزيارات توحيد الجهود ضد الاستعمار و الصهيونية، و حتى بعد رحيل عبد الناصر سنة 1970، ظل تيتو وفيا لخطه الأول و لم يحد عن دعم القضايا العربية العادلة حتى رحل في 4 ماي سنة 1980.
يخجل القلب من نعيك، ويضيق الحرف برثائك، تفيض المشاعر حزناً وصدمة إنّما لا يتّسع الفضاء الالكتروني لترجمتها.. تربّطت أصابعي عن النقر على لوحة الحروف واحترقت دموعي غزارة في المُقل.
غبت أيّها المتمرّد الأوّل يا من نفضت الغبار عن فكرنا لنستنير وبقينا جهالاً!
هذا المقال أوائل البدايات فيالصحافة كتبته في 2018 وكان من أجمل ما كتبت لأجمل من عنه كتبت
تأثّرت بك وانتظرت عودتك لأعاصر شيئاً من فنّك الأسطوري.
كان مقالي حلماً جميلاً لكنّك رحلت دونما وداع كما أعزّ أحبّائي.
ثقُل كأس الموت يا تمّوز، حرقته لاذعة ترفض التروّي فمهلاً على المواجع
شخصٌ بمثابة الحلم تتمنّى إدراك حقيقته و سبر عمق أغواره، إلّا أنّك إن نلت شيئاً عنه تجد أنّك لا زلتَ على البرّ المربِك، الأكثر حيرةً.
لطالما تمنيّتُ أن أفهم من هو؟وكيف يُفكّر؟ ومن أين يأتِ لنا بكلّ تلك الحقائق الصادمة؟ السّاخرة والآخذة.
لِمَ هو بهذا التعقيد وتلك السلاسة في وقتٍ واحد؟!
كلّما صعُبَ عليك فهمه هان، و كلّما هانت كلماته استصعبت.
ذلك السّهلُ الممتنع ممتلئٌ بالشغف وكثير البرود، أستمعُ إلى حواراته القليلة جدّاً فأتمنّى أن أجد لتساؤلاتي أجوبة..
زياد الرّحباني اعترافات مشاكسة عمّا يجول في خاطره، يفاجِئُكَ ببساطة مفرداته وصعوبة تقبّلها في آن، حين يقول ” أنا مائة ألف شخصيّة فايتين ببعض” ويذهلك بحقيقةٍ أمرّ.
مضيفاً “بعد 5 دقائق من ولادتك رح يقرّروا دينك، جنسيتك، مذهبك، طائفتك، ورح تقضّي عمرك عم تدافع بغباء عن إشيا ما اخترتا”!! حتّى أنّه علّق وانتقد تغيير التوقيت حيث قال ساخراً:
” كل سنة بتقدموا السّاعة وبترجعوا لورا 10 سنين”.
هل هو بهذه العبقريّة التي يبدو عليها أم نحن بتنا جهالاً، لكثرة ما خذلتنا المعرفة في هذا الوطن الكئيب.
لماذا لا نرى ما يراه و نفقه ما يقوله، ونفكّر ولو قليلاً بنهجٍ يماثله؟!!
ليس زياد الرّحباني ذلك الموهوب، المؤلّف المسرحيّ أو الكاتب والملّحن الموسيقيّ فقط.
هو مَن لا تفوته فائتة في السياسة والأدب والفن والموسيقى والمجتمع ودائماً ما يُفصّلُ اعتراضات واتّهامات للجميع دون استثناء..
إنّه المشاكس الحذر، الصامت طويلاً ولكن إن حكى، أبكى التخلّف وأحبط مفاعيل الجهل، وصبَّ لينَ الزّيت على أفواه النار.
من هنا فإنّ المسرح اللّبناني في غياب زياد ناقصٌ وعند مستوى خطِّ الفقر!!
إلّا أنّه يغيب فجأةً وينقطع عن محبّيه عمراً. ليمنَّ علينا مؤخراً بعودةٍ خجولة أطلق فيها الوعد بالبقاء.
وها نحن هنا بعد سنوات من القطيعة المجحفة تلك، لا نُريدُ رحبانيّات متفرّقة، بل تتملّكنا رغبةٌ جامحة بلوحةٍ عنوانها فيروز وزياد الرحبّاني يغنيّان معاً، ويكسران كبرياء أفقٍ مثقّلٍ بانحطاط موسيقيّ!
ها هو المجنون العبقريُّ يحطّم صومعته ويُلقي علينا بسحر التراتيل.. بذكاءٍ فطري يضبطُ التوقيت الذي يراه مناسباً. مهما انتظرنا يبدو العناء مستحقّاً أمام جنون العظمة.
حين تدرك أنّ وحدَها النّسور من تغرّد خارج السّرب، وحين تقرّر تعود إلى أحضان فيروزها لتصبح الأغنية صلاة..
في زمن تتكاثر فيه الأقلام المتطفّلة على النقد الفني، وتختبئ وراء قناع “المحبة الصامتة” لتبثّ سمًّا باردًا في جسد الإبداع، يطلّ علينا مقالٌ “غير ودّي” عن حفل السيّدة ماجدة الرومي في “أعياد بيروت”، لا يحمل من الحسّ النقدي سوى مفردات طبية سطحية ومصطلحات صوتية غير واضحة أو مبررة ومبتورة السياق.
إن الحديث عن انتقال الصوت من طبقة الـ”Soprano Lyric” إلى “Mezzo-Soprano” أو حتى إلى “Alto” هو كلام صحيح علميًا من حيث التدرج الطبيعي لأي صوت بشري، لكنه يصبح مضللاً عندمايُطرح كأداة للطعن، لا كظاهرة بيولوجية طبيعية يعرفها كل دارس حقيقي لفسيولوجيا الصوت. فحتى مغنّيات الأوبرا العالميات ينتقلن تدريجيًا في طبقاتهن مع التقدم بالعمر، دون أن يُعتبر ذلك سقوطًا فنّيًا، بل نضجًا صوتيًا وإعادة تموضع ذكي للريپرتوار.
أما مصطلح “Tremolo” الذي استخدمته الكاتبة، (وليتها شرحت لنا نحن البسطاء اللي فهماتنا على قدنا معنى المصطلح الذي زودها به أحد المطرودين من حياة الماجدة) وهي استخدمته على عماها فأساءت فهمه على ما يبدو. فالـTremolo ليس عيبًا صوتيًا بالضرورة، بل أسلوب تعبير ديناميكي مقصود في الأداء، يُستخدم في الموسيقى الكلاسيكية والشرقية، ويُضفي بعدًا دراميًا على الجملة الغنائية، لا سيما في الأعمال العاطفية أو الإنسانية. لكنه يتحوّل إلى “اهتزاز غير إرادي” فقط في حالات مرضية مُثبتة طبيًا، وهو أمر لا ينطبق على الماجدة ولم تثبته أي جهة موثوقة في حالة السيدة ماجدة، بل استنتجته الكاتبة بإذن نقدية هاوية غير مؤهلة سريريًا أو أكاديميًا.وربما بأذن مستعارة ، من شخص ما !!
إن وصف الكورال بـ”العكّاز الصوتي” يعبّر عن جهل صارخ بوظيفة الكورال في الموسيقى الكلاسيكية والحديثة وكل الأغاني على حد سواء. الكورال ليس ترميمًا لعيوب، بل جزء أساسي من البنية الهارمونية، يعمل كدعامة جمالية وتعبيرية، سواء في موسيقى “باخ” أو أغاني فيروز أو إنتاجات اليوم الحديثة. حتى أم كلثوم ختمت حياتها الفنية بأغنية فيها كورال ومسجلة في الستوديو، وهي أغنية “حكم علينا الهوى”، فهل غرام بليغ حمدي بإضافة الكورال على أغلب ألحانه كان “عكازاً” لوردة وعبد الحليم وكل من لحّن لهم؟ استخدام الكورال لا يعني ضعفًا بل انسجامًا مع شكل موسيقي راقٍ يسمّى “الهارموني الكورالي”.
أما التلميح إلى أن السيدة ماجدة الرومي “تصارع للبقاء”، فذاك تعبير درامي هابط يتنافى مع اللياقات كما مع حقيقة ما رأيناه وسمعناه: فنانة قديرة تتحكّم بمسرحها، تدير الفرقة بوعي موسيقي عالٍ، تؤدّي بجملةٍ صوتية مدروسة تحترم مساحة صوتها الحالية، وتوظّف إمكانياتها التقنية بإحساس رفيع دون أن تفرّط بكرامتها الفنّية. ذلك يسمّى في لغة الموسيقى “interpretative maturity” أي النضج التعبيري، وليس انهيارًا كما يحاول البعض التسويق له بلغة “فيسبوكية” مستهلكة.
وأخيرًا، المقارنة بين ماجدة وصباح وفيروز مضلّلة وغير دقيقة. فكل صوت حالة مستقلّة، وكل مدرسة غنائية تُقاس بمعايير مختلفة. وإن كانت فيروز قد اختارت الابتعاد، في مرحلة ما بعد السبعين ،فذاك قرار شخصي لا يُفرض كنموذج على الأخريات. لأن أم كلثوم ظلّت تغني حتى العقد الثامن من عمرها، وهي راعت كما هو معروف طبقاتها الصوتية منذ بلغت الستين من عمرها. وهذا ما ما فات كاتبة المقال ذكره.
نحن لا نصفّق من دون وعي، بل نُصغي بفهم. وما سمعناه من ماجدة في “أعياد بيروت” كان صوتًا لا يزال يُغنّي بروح تُحسن استخدام تقنيات الـVibrato Controlled، وتعرف متى تُمسك بالجملة ومتى تُسلمها للمرافقة الموسيقية، دون أن تفقد شخصيتها الأدائية.
السكوت الذي دعا إليه كاتب المقال باسم “المحبّة”، هو صمت الجاهلين. أما المحبّة الحقيقية، فهي أن نعرف الفرق بين الهبوط الصوتي، وبين إعادة توزيع القدرات وتكييف الأداء بما يليق بمقام الفنّ النبيل…
كان مثيرا ولافتا أن طرفي الحرب الإيرانية الإسرائيلية التي امتدت لـ(12) يوما، يعتبر نفسه منتصرا.
فور وقف إطلاق النار خرج الإيرانيون إلى شوارع وميادين طهران يحتفلون بالنصر، يرددون الهتافات، ويتعهدون بمواصلة القتال في جولات أخرى.
بذات التوقيت، سادت التغطيات الإعلامية والسياسية الإسرائيلية نزعة انتصارية إجماعية.
ألقى رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” كلمة أطلق عليها “خطاب النصر”.
من الذي انتصر حقا؟!
أسوأ إجابة ممكنة إصدار الأحكام بالأهواء، وتنحية الحقائق جانبا.
إنها جولة في صراع طويل وممتد، تليها جولات أخرى بعد وقت أو آخر.
القضية الفلسطينية جوهر ذلك الصراع.
لم تكن من أعمال المصادفات عودة الزخم مرة أخرى إلى ميادين القتال في غزة فور وقف إطلاق النار على الجبهة الإيرانية.
“حان وقت التركيز على غزة لإنهاء حكم حماس واستعادة الرهائن”.
كان ذلك تصريحا كاشفا للحقائق، أطلقه رئيس الأركان الإسرائيلي “إيال زامير” في ذروة دعايات النصر.
إنهما حرب واحدة.
هكذا بكل وضوح.
أكدت المقاومة الفلسطينية المعنى نفسه في عملية مركبة بخان يونس، أوقعت أعدادا كبيرة من القتلى والمصابين، وأثارت الفزع في صفوف الجيش الإسرائيلي.
لا يمكن إنكار مدى الضرر الفادح، الذي لحق بالمشروع النووي الإيراني، جراء استهدافه بغارات إسرائيلية وأمريكية مكثفة ومتتالية.
هذه حقيقة.. لكنه يستحيل تماما أي زعم إنها قوضته، أو أن أمره انقضى.
لم يتمالك الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، الذي انخرط بصورة مباشرة وغير مباشرة في الحرب على إيران، أعصابه فأخذ يكيل الشتائم المقزعة لمحطة “سي. إن. إن”، على خلفية تشكيكها في روايته.
“إنها حثالة”!
لم يكن لديه دليل قطعي أن العملية الأمريكية، التي استهدفت ثلاث منشآت نووية، “أصفهان” و”ناطنز” و”فوردو” الحصينة في أعماق الجبال، حققت أهدافها.
حسب تسريبات عديدة فإن السلطات الإيرانية نجحت في نقل اليورانيوم المخصب وأجهزة الطرد المركزية من تلك المنشآت قبل قصفها بقاذفات (B2) إلى أماكن أخرى آمنة.
التسريبات شبه مؤكدة بالنظر إلى عدم حدوث تسرب إشعاعي، أو تلوث بيئي إثر تلك الضربات، التي استخدمت فيها قنابل عملاقة لأول مرة.
يصعب التسليم بـ”الإنجازات” الإسرائيلية في ضرب المشروع النووي الإيراني دون فحص وتأكيد.
بقدر آخر فإنها لم تحقق نجاحا يذكر في تقويض المشروع الصاروخي الباليستي، الذي أثبت قوته التدميرية ودرجة تقدمه، التي ألزمت الإسرائيليين البقاء في الملاجئ لفترات طويلة.
قبل وقف إطلاق النار مباشرة بدت الضربة الصاروخية في بئر السبع، تأكيدا أخيرا على درجة عالية من الفشل الإسرائيلي في إضعاف القدرات الإيرانية.
ثم تبدى الفشل فادحا في طلب إثارة الفوضى بأنحاء البلاد، تفضي تداعياتها إلى الإطاحة بنظام الحكم.
بحقائق الجغرافيا والتاريخ والحضارة، إيران ليست دولة صغيرة أو عابرة.
إنها مع مصر وتركيا الركائز الكبرى في حسابات الإقليم، مهما جرى لها، أو طرأ عليها من متغيرات سياسية.
بقوة إرثها التاريخي تحركت الوطنية الإيرانية لرفض الاستسلام بلا شروط لـ”السلام عبر القوة” حسب تعبير “ترامب”.
تحت الخطر الوجودي توحدت إرادتها العامة، بغض النظر عن أية تحفظات على نظام الحكم.
كان المواطن الإيراني البطل الأول في التصدي لتغول القوة الأمريكية والإسرائيلية.
أبدى الإيرانيون قدرة لافتة على الإحلال في مراكز القيادة والسيطرة تحت أسوأ الظروف، بعدما نال العدوان من قيادات عسكرية وعلمية ذات وزن ثقيل في الضربة الافتتاحية.
في حرب الـ(12) يوما تبدى شيء من التعادل الاستراتيجي، الطرفان المتحاربان تبادلا الضربات الموجعة.
فرضت السلطات الإسرائيلية تكتما مشددا على حجم الأضرار التي لحقت ببنيتها التحتية والعسكرية؛ جراء الضربات الإيرانية، حتى لا يفضي النشر إلى زعزعة ثقة مواطنيها في قدرة جيشهم على المواجهة.
فاقت الخسائر الباهظة أية طاقة على الإفصاح، لا عرفنا عدد القتلى والمصابين، ولا ما هي بالضبط المواقع الاستراتيجية، التي استهدفت، ومدى الضرر الذي لحقها.
المعلومات المدققة من متطلبات إصدار الأحكام.
بصورة عامة تقارب الحقيقة فإننا أمام حالة “لا نصر ولا هزيمة”، غير أن إسرائيل يمكن أن توظف مجريات الحرب لإثارة اليأس من كسب أي معركة ولو بالنقاط.
بدا المشهد الختامي ملغما بالتساؤلات الحرجة.
وجه الإيرانيون ضربة رمزية لقاعدة “العديد” الأمريكية، لتأكيد حقهم في الرد على العمل العسكري الأمريكي داخل أراضيهم ضد ثلاث منشآت نووية.
أُبلِغت مسبقا السلطات القطرية باستهداف القاعدة القريبة من العاصمة الدوحة خشية ردات فعل سلبية.
نُقِلت إلى الأمريكيين فحوى الرسالة الإيرانية.
كان ذلك عملا احترازيا، حتى لا تفلت الحسابات، في وقت توشك فيه الحرب على الانتهاء.
وصفت الضربة الإيرانية بـ”التمثيلية”.
الأقرب للحقيقة، إنه سوء تقدير فادح، لم يكن له لزوم، أو ضرورة، أربك البيئة العربية العامة المتعاطفة مع إيران، كما لم يحدث من قبل.
أثارت الضربة الرمزية شكوكا وظلالا لا داعي لها.
بقوة الحقائق كانت الحرب على وشك أن تنتهي.
الخارجية الإيرانية تشترط وقف الهجوم الإسرائيلي قبل العودة إلى المفاوضات مرة أخرى.
والحكومة الإسرائيلية تطلب وقفا فوريا لإطلاق النار، تحت ضغط الترويع، الذي ضرب مواطنيها، إذا ما وافقت طهران.
الجانبان المتحاربان يطلبان لأسباب مختلفة وقف إطلاق نار.
هكذا توافرت أمام “ترامب” فرصة للتخلص من عبء الحرب على شعبيته.
لم تكن إسرائيل مستعدة لأي اعتراف، بأنها لم تحقق أهدافها من الحرب، لكن الحقائق وحدها تتكلم.