جور نار
بلد ناطحات التراب (5)
نشرت
قبل 9 أشهرفي
رجاني بعض القراء الكرام أن أفسر عنوان الجزأين الماضيين من المقال … ولكي أجيب عن ذلك، أعود إلى بضعة عقود خلت حينما كنا على مقعد الدرس في الثانوي …
المادة كانت جغرافيا والدرس يتعلق بأشكال المدن … وكان أستاذنا المهيب سي منصف بوغزالة، يشرح لنا كيف تصاغ الحواضر معماريا مع تفصيل ذلك بالرسم والصورة … واستعرض لنا نماذج من المدن العصرية المخططة شوارعها بنظام المربعات كنيويورك، أو بنظام الدوائر على غرار لشبونة، أو بنظام الأشعة أو الطائرات المتلاقية في الوسط … مثل ساحة النجمة أو الكونكورد بباريس … وفي الأخير وصل بنا إلى هندسة المدن الفوضوية (العربية) التي تتداخل مسالكها مثل العروق في نبتة مسنّة، ورسم لنا حبّة من ثمرة متكمّشة وقال: هذا يسمّى تصميم البطاطس (Plan patate) … وقد رسخ ذلك في أذهاننا …
مع العلم بأن مدننا العتيقة وعلى عكس ما قد نتصور، فيها هندسة محكمة ووراءها مهندسون لهم فكر… وتلك المدن والأحياء تملك نظاما مرتبطا بحاجات ذلك الوقت… فللأسواق مكانها، وكذلك للدواوين والمدارس ودور العبادة وورشات الحرف وقلاع الجيوش، وصولا إلى المساكن والجنائن … أي نظام المدينة والحظيرة والجامعة … والذي يتجول في بلادنا العربي من العاصمة إلى القيروان إلى صفاقس إلى المهدية إلى الكاف وباجة والمنستير وسوسة وبنزرت وتوزر وتستور وسليمان إلخ … يلاحظ هذا، كما يلاحظ وفرة المرافق العامة التي كان مصمم المدينة يضعها على ذمة المارة، مثل الخانات (الفنادق) وحنفيات الماء الأثرية وأحواضها في الكاف وتبرسق مثلا، والتي ما زال بعضها شغّالا إلى اليوم …
تحدثنا عن فكر؟ نعم … فن العمارة رؤية ومنطق وغايات وأولويات، ومباني الأوطان الحارة الجافة ليست هي نفسها حيث البرودة والرطوبة، كما أن نوافذ المدن كثيرة التعرض للشمس مثلا هي أقل اتساعا من غيرها حيث يشحّ نور الشمس غالب السنة … بنفس المنهج، يتصرف المعماريون والمصممون بحسب مساحات الأرض المتاحة ويراعون ما يبقى للزراعة في بلاد تقل فيها الأراضي الخصبة … أو يحسبون حساب كلفة تلك الأرض في فاتورة العقار النهائية، تحت مبدإ: أكثر ما يمكن من البناء بأقل ما يمكن من الكلفة … لهذا، وبما أن مجلس ولاية (مثل نيويورك) رفض أن يعطي للبناءات أكثر من مساحة معينة على حساب الأراضي الفلاحية والمحميات الطبيعية… وفرض عليك فوق هذا، منتزها حضريا في قلب المدينة لا سبيل إلى المساس به كـ “سنترال بارك”… بما أنه فرض واقعا كهذا، لم يبق لبلدية المدينة وباعثيها العقاريين سوى التصرف في الجزء المتاح لهم كرصيد عقاري … ومن هنا جاء الامتداد العمودي للمدينة بدل التوسع أفقيا … يعني إذا كانت الأرض باهظة الثمن وربما مستحيلة الاستغلال، فإن الهواء في المقابل، لا ثمن له ولا اعتراض على استغلاله …
هذا طبعا علاوة على عناصر أخرى تدخل في التصميم، كاختصار المسافات وقرب المرافق من بعضها البعض، وتجميع الخدمات بدل تشتيتها، وإحكام مخطط المرور والنقل، وتمكين متاجر الجوار من سوق استهلاكية مكثفة من شأنها تحقيق أرباح ضخمة دون رفع مشطّ للأسعار … ودون نسيان سلاسة العمل الأمني وضمان أكثر ما يمكن من السيطرة على الطوارئ الكبرى في مجال يسهل فيه تنقل القوات النظامية وحتى رجال المطافئ والإسعاف … ويقابل هذا الاقتصاد في مساحات الأرض المبنية، تصرف مريح في سعة الشوارع والساحات العامة المحيطة … فإذا بقوانين الطريق العمومي تتيح شوارع فسيحة للجولان، وتمكّن هذه الكثرة من المتساكنين المتجمّعين في مكان واحد، من التحرك بيسر في جميع الاتجاهات … سواء كمترجلين أو كمستعملي وسائل نقل بشتى درجاتها، من الحافلة العملاقة إلى الدراجة الهوائية … لكل مجاله وحظوته والقانون الذي يحميه …
قلبي بدأ يوجعني عند الاقتراب مما حدث ويحدث في بلادنا العزيزة … عندنا يكاد يتم العكس تماما، وبشكل عبثي تتساءل بعده هلى عندنا مهندسون يفكرون في حياتنا، بل هل عندنا مهندسون يفكرون، بل هل هناك مهندسون من الأساس؟ … أولا وكما أسلفنا، تشعر أنه لا يوجد وعي بتاتا بأننا بلد ضئيل المساحة قياسا إلى معظم بلاد العالم … وثانيا هذه المساحة أربعة أخماسها إما صحراء أو مناطق قاحلة أو شبه قاحلة أو جبال صمّاء لا يسكن فيها حتى النسر الحالق، فماذا بقي؟ … مربعات صغيرة أو متوسطة بالشمالين الشرقي والغربي، وحوالي العاصمة والمدن المعمورة، وهي بالكاد تكفي ـ زراعيا ـ لإعالة شعب متوسط العدد يذهب معظم دخله لأجل الطعام … ومائدته تصرّ إصرارا على أن تكون من القمح ومشتقاته … ورمضانه يستهلك من البيض ما تعجز عنه كل طيور العالم … وعيده الكبير يأتي على الصين الشعبية نفسها لو كان سكانها خرفانا لا بشرا …
يعني لا قدرنا على تحقيق مداخيل تضمن لنا احتياجات أكبر من مجرد الأكل، ولا استطعنا تنويع ذلك الأكل نحو أنماط غذائية أرقى من الخبز والمقرونة والكسكسي، ولا ـ كي قدّر ربي ـ وفّرنا منظومة إنتاج تحقق لنا الاكتفاء وعدم مد الأيدي نحو هذه البلاد أو تلك الباخرة أو ذاك الصندوق الدولي … وهكذا ها أننا ندور ندور ونرجع إلى السياسة والكرامة والقرار السيادي … وها أننا نجد مفتاح كل ذلك في تفاصيل تبدو صغيرة ولكنها هي اللبّ لو كانت لنا ألباب … فلو كان لنا إحساس عال بالكرامة، لوضعنا اكتفاءنا الذاتي الغذائي قبل كل الأولويات، ولصار شعارنا “نموت ولا نستدين” بدل “نموت نموت ونحيا الوطن” وهو كلام إنشائي أجوف، فلو متنا جميعا من سيبقى في هذا الوطن؟ كما قال ساخر…
مهندسونا والذين وراءهم من بلديات ووزراء إسكان وراسمي أمثلة عمرانية ومحرري قانون العمران وأعضاء لجان ومعدي مخططات تنموية بلا حصر … هذا الجمع العرمرم لا يضع في حسبانه معطيات بسيطة يعرفها تلاميذ الابتدائي حول تونس جغرافيا وتضاريس وموارد طبيعية … بل يفلّحون وكأن تحت أيديهم الكرة الأرضية بأسرها لا فضاءنا المحدود، ويخترقون الأراضي الزراعية طولا وعرضا وكأنها تختفي هنا لتولد من هناك … فإذا المساحات المبنيّة تمتدّ أفقيا بشكل لا متناه كما قلنا سابقا، وإذا بمدننا تبدو من فوق بالطائرة وكأنها مخيمات لا مدن … وتأكل ولايات بكاملها كانت بالأمس القريب ضيعات وحقولا وغابات خضراء مونقة، كأريانة وبن عروس ومنوبة، فتحولت اليوم إلى ركام رمادي مسطّح مترام كأنقاض مقبرة … وفي المقابل تتقشف في الفضاء العام حيث تضيق الشوارع بشكل لا يصدّق، وتنعدم المساحات الخضراء تماما إلا ما رحم ربك وما ترك المستعمر… حتى المنتزهات الحضرية عملها بن علي ذات مرة ووضع عليها فائزة الكافي، وما إن راح وراحت، حتى أهملت هذه المنتزهات تماما …
مهندسونا ومن وراءهم، لا يقيمون وزنا لقيمة الأرض كما أسلفنا، فإذا هم بدل الاقتصاد فيها يقتصدون في الهواء وكأنه بالفلوس … والله … تماما كما يقتصدون في ما تحت الأرض (وهو مجاني أيضا) كلما تعلق الأمر بمشاريع مترو الأنفاق التي أجهضت جميعا … هل هو الجهل؟ لا أظن ذلك، فأعرف الكثيرين منهم وفيهم أجلاّء وأدمغة ويقدرون على الخوارق، ولكن هناك مشكلة أعمق … أحدهم صديقي وقد سألته يوما عن نفورنا من بناء العمارات الشاهقة أو حفر أنفاق للمترو … ولماذا نحن أوطى عاصمة عربية وأقلها بهجة بعد طرابلس الغرب … فقال لي إننا نتجنب ناطحات السحاب خوفا على مرور الطائرات، ونتفادي الأنفاق لأن العاصمة قريبة من البحر … وقد صدقته فورا ليقيني أنه لا يوجد أي مطار في نيويورك وطوكيو وهونغ كونغ …وأن مجالنا الجوي أكثر ازدحاما من “هيثرو” لندن حيث تحط وتطير رحلة كل ثلاث دقائق … وفي ما يخص الأنفاق والبحر فالناس في باريس والقاهرة حفرت ممرات تحت النيل ونهر السين بالإسمنت المسلح، أما نحن فربما نبني بالشوكوتوم أو البسيسة؟
ضحك صديقي وفهمني وفهمته … كان يستعرض الأسباب “الرسمية” التي ينهي بها مسؤولونا باقتضاب وحسم كل تقرير أو نقاش في الغرض … أما الأسباب الحقيقية فهي عديدة متشعبة وأحيانا ترتبط بمصالح ضيقة لهذه الفئة أو ذلك الشخص … ففي المجلة العمرانية مثلا، يتوجب على كل من يبني عمارة تفوق أربعة طوابق أن يجهزها بمصعد كهربائي، وقد يتطور ذلك إلى ما أكثر من مصعد بحسب عدد الطوابق والشقق … والمصاعد تتكلف ما تتكلف، شراء وتركيبا وصيانة … فيهرب الباعث العقاري من كل هذا ويقول ماذا دهاني؟ بدل عمارة واحدة بعشرين طابقا أشيّد خمسا وأستريح من كلفة مصاعدها … أما عن الأرض فهي من الدولة وبفضل علاقاتي أقتنيها بالدينار الرمزي أو ما يشبه …
وينال مراده واضرب ذلك في مئات وآلاف … و”الله لا يفكّر” في البلاد وفي مصيرها وغذائها وأراضيها …
ـ يتبع ـ
تصفح أيضا
عبد الكريم قطاطة:
هذه الورقة تروي ما حدث لي مع حلول سنة 1998… وهي سنة هامة جدا في حياتي المهنية وفي اذاعة صفاقس… سنة 98 تكون اذاعة صفاقس قد عاشت سنتين تحت عهدة المرحوم عبد القادر عقير كمدير لها…
وللامانة وكما اسلفت الحديث في هذا الامر كان الرجل حركيا جدا وحاول استقطاب عديد الكفاءات الثقافية في الجهة ونجح ايما نجاح في ذلك… وللامانة ايضا كان يعتبرني عضده الاوّل كمستشار له في تسيير شؤون الاذاعة، ومثل هذه الاوضاع تسعد بعض الزملاء وتشقي آخرين… مع حلول سنة 98، ارتأت مؤسسة الاذاعة والتلفزة تحديث تشريعاتها ومن بين ما قامت به سن قوانين جديدة في اسناد الخطط لموظفيها… والتي كان من ضمنها احداث خطة مدير عام للقنوات الاذاعية.. وكان اوّل من ترأسها زميل سابق عرفته عندما كان يشغل خطة رئيس تحرير شريط الانباء التلفزي باللغة العربية… السيد عبد الله عمامي…
علاقتي به كانت مهنية بحتة… كنت كسائر تقنيي قسم المونتاج اقوم مرّة واحدة في الاسبوع ودوريا، بتركيب فيلم شريط الانباء لنشاط رئيس الدولة واعضاده… وهي مهمة تتطلب انتباها جيد لكلّ ما يمدنا به زملاؤنا في قسم التصوير… وخاصة اعطاء الحجم والقيمة لنشاط رئيس الدولة والوزراء… لذلك يحرص كل مركّب منّا على التمحيص وبانتباه شديد للصور واختيار افضلها جودة… نوعية اختصاصنا تجعل كل رئيس تحرير يحرص على مدّنا بتوجيهاته التي يتلقاها بدوره من الرئيس المدير العام… اذ نحذف احيانا وبامر من رئيس التحرير بعض المشاهد او نضيف في مدة مشاهد اخرى… تلك كانت نوعية علاقتي بالسيد عبدالله عمامي وهي علاقة ولّدت بمرور الزمن ثقته فيّ وفي جودة عملي…
عندما كُلّف السيّد عمامي بخطّة مدير عام للقنوات الاذاعية، تنقّل نحو كلّ الاذاعات الجهوية ليطّلع على واقعها ومشاغلها… وجاء دور اذاعة صفاقس ليحلّ ضيفا عليها… وكان استقباله لي حارّا اذ اننا لم نلتق منذ سنة 1976 عندما غادرت المؤسسة لاتمام دراستي بفرنسا… يوم مقدمه لصفاقس اجتمع السيد عبدالله عمامي بالمسؤولين في اذاعتها ليتطارح معهم ومع السيد عبدالقادر عقير احوال اذاعة صفاقس… وكنت من ضمن المدعويين لحضور ذلك الاجتماع… واخذت الكلمة كسائر زملائي وطرحت نقطة اعتبرتها انذاك في منتهى الاهمية و الغرابة… اذ كيف يُعقل لاذاعة عمرها 37 سنة وليس فيها من الخطط الوظيفية الا ثلاثا… فيما بقية المسؤولين على المصالح والاقسام لم يدرجوا يوما ضمن خطة وظيفية …اي انهم لم يعيّنوا يوما بشكل رسمي ضمن خططهم…
وكانت دهشة السيد عبدالله عمامي كبيرة… ووعد بانّ اوّل عملية اصلاح سيقوم بها هي تدارك هذه الوضعية غير العادلة والتي استمرّت أربعة عقود… وانتهى الاجتماع وطلب منّي السيّد عبدالله عمامي ان ارافقه لاجتماع ثلاثي يجمع بيننا وبين السيد عبدالقادر عقير مدير الاذاعة… وكان لنا ذلك وهو اجتماع تاريخي بكلّ المقاييس وهاكم التفاصيل…
بدأ السيد عبدالله عمامي بالاشادة بالنقطة التي اثرتها والمتعلقة بالخطط الوظيفية وهو ما يحتم منذ اليوم على انجاز الـ”اورغانيغرام” (التنظيم الهيكلي) لاذاعة صفاقس… وهذا يعني اقتراح مجموعة من الخطط الوظيفية وفي كل درجاته اي من مدير فرعي الى رئيس قسم مرورا برؤساء المصالح… واضاف متوجها بكلامه الى السيد عبدالقادر عقير: (مهمة انجاز التنظيم الهيكلي ساكلّف بها سي عبدالكريم واريدها اسمية لانه يعرف جيّدا زملاءه الذين عاصرهم منذ نهاية السبعينات ومؤكّد اكثر من ايّ كان، وانا كلّي ثقة فيه ولا اتصورك اقلّ ثقة منّي)… وللامانة رحّب المدير وعن طواعية بالمقترح…
وانتهى الاجتماع الثلاثي وعكفت على انجاز الاورغانيغرام واخترت اسماء زملاء يشهد الله اني وضعت كفاءتهم فقط كفيصل في الاختيار… واطلعت عليها السيد عبدالقادر عقير ودون ايّ جدال وافق عليها واضاف بعض الخطط التي نسيتها… وارسل الاورغانيغرام عن طريق الفاكس للسيد عبدالله عمامي… وماهي دقائق حتى وجدت السيد عبدالله يطلبني على هاتفي… بادرني اوّلا بالشكر على الانجاز السريع واضاف: (فقط لي ملاحظتان، الاولى تتعلق بتسمية الزميل زهير بن احمد كمدير فرعي للبرامج… حيث ابدى لي احترازه من هذا الاسم… وعندما طلبت منه السبب قال لي بكل ايجاز ووضوح: زميلك زهير محسوب على اليسار هل تدري ذلك ؟ قلت له لا ..قال لي: رسالة ختم دروسه بمعهد الصحافة، كانت حول صحف المعارضة في تونس!
ولانّي عرفت زميلي زهير بن احمد بما فيه الكفاية اسرعت بالردّ: واين الاشكال ؟؟ فأسرع هو ايضا بالرد: (خويا عبدالكريم، مدير فرعي للبرامج موش شوية راهي)… ولم اتركه يتمّ حديثه اذ قلت: (انت عندك ثقة فيّ، سي عبدالله ؟) اجاب طبعا ..فقلت له: (زهير هو الاجدر بهذا المنصب وانا اتحمل مسؤولية ما اقول)… اكتفى سي عبدالله بالقول: (دبّر راسك اما اتحمّل مسؤوليتك)… ثم جاءني للملاحظة الثانية وقال: ( إي انت وينك سي عبدالكريم في الاورغانيغرام ؟)… وكنت فعلا لم اسند ايّة خطة وظيفية لشخصي… قلت له: (انت تعرف جيدا ماذا يعني المصدح بالنسبة لي… هو أهم عندي من ايّة خطة وظيفية)… قفز السيد عبدالله على العبارة وقال: (يخخي انا قلتلك ابعد عن المصدح ؟ اما في نفس الوقت ولاني اعرفك واعرف حكايتك بكل تفاصيلها مع المصدح ومع اذاعة صفاقس، لا ارى احدا غيرك يستحقّ مصلحة البرمجة في اذاعتكم… واضيف بكل رجاء اقبلها من اجلي ومن اجل الاذاعة مع مواصلة علاقتك بالمصدح)… قلت له ساناقش الموضوع مع سي عبدالقادر… ردّ عليّ: انه في انتظارك وسيكون سعيدا بقبولك لتلك الخطة…
وما ان انهيت المكالمة حتى هاتفني سي عبدالقادر للحضور بمكتبه… دخلت عليه فوجدته في قمة الانشراح وبدأ بالقول: (شنوة الكيلو يطيّح الرطل ؟؟)… وقتها عرفت انّ خطة رئيس مصلحة البرمجة وهي المصلحة الاهم في كل اذاعة تحادث فيها السيد عبدالله عمامي والسيد عبدالقادر عقير واتفقا على ان اكون انا من يشغلها… وبدأت مسيرتي المهنية تاخذ ابعادا اخرى… عبدالكريم لم يعد كما كان مستشارا للمدير بل اصبح رسميا عضوا في (حكومة) اذاعة صفاقس… وكما اسلفت القول، بقدر ما استبشر العديد بهذه التسمية بقدر ما اغاظت البعض… اي نعم هؤلاء..كانوا دوما وفي كل معركة ينتظرون هزيمتي بالضربة القاضية فاذا بهم يجدونني في وضعية ارقى…
هي ليست حالة خاصة بي بل هي حالة منتشرة في كل الادارات دون استثناء… حرب ضروس كلما خفّت حرائقها فترة، اشتعلت من جديد وربما باكثر ضراوة… انها طبيعة البشر منذ أول الخلق… فاذا كان الانبياء اولى ضحايا اقوامهم فمن نكون نحن حتى لا نعيش نفس الاوضاع؟… وحده الله يعلم من منّا قابيل ومن منّا هابيل وعند الله تجتمع الخصوم…
ـ يتبع ـ
محمد الزمزاري:
يبدو أن ” الأيام والليالي البيض” ستشرّف بداية من اليوم 25 ديسمبر هذا الذي يتميز باصطحاب عاملين اثنين هامين:
اولا نزول الأمطار بكميات معتبرة ومطلوبة لإخراج البلاد من مأزق الجفاف، خاصة ان كل التكهنات توحي وتؤكد احيانا ان الأمطار متواصلة ومن شأن هذا الهطول المخالف للسنة الماضية الجافة، ان يغذي بالأمطار عددا وافرا من السدود وسقي الأراضي الفلاحية، والتبشير بسنة ممتازة في الإنتاج الزراعي عسى أن يقع تقليص حاجتنا وارتباطنا بواردات قمح اوكرانيا او روسيا… والتأكيد مجددا على غرس عقلية الاعتماد على انتاجنا الوطني لتحقيق الأمن الغذائي وهو ليس أمرا ممكنا فقط بل ضروري…
لقد تم القضاء على الارهاب وتمت مقاومة الفساد وتحريك رافعات التنمية… وكذلك تحسين مخزون العملة الأجنبية بالبنك المركزي التي وصلت إلى حوالي 120 يوم توريد بعد سقوطها فترات حكم الاخوان إلى اقل من 60 يوما… كما يستوجب لفت النظر الى ان الدينار التونسي اخذ طريقه للتعافي وحقق زيادة اكثر من 1.6 % مقابل اليورو… والأمر يستوجب مواصلة دعم الدينار أمام العملات الأجنبية خاصة اليورو و الدولار ..وهذه أيضا مستجدات لا تقل أهمية..
عدنا لحالة هذه المدة الفصلية الأولى من شتاء يبدو باردا هذه السنة زيادة عن الأمطار المباركة… و مقابل ذلك يرتعش المواطنون و قد يصطلون من البرد القارس والرياح المرافقة… وقد يشتد وقع البرد على شريحة كبرى من التونسيين الذين يلتجئون بنسب متفاوتة إلى سخانات الغاز او الفحم او الكهرباء… وهي طرق تتطلب قواعد ثابتة لتحقيق الدفء النسبي مع التوقي من اخطارها… فالفحم له أضرار كبيرة متمثلة في ثاني أوكسيد الكربون القاتل… والغاز له اخطار لا تقل عن الفحم… وحتى جهاز الكهرباء المحمول يتطلب “تنفيس” البيت…
تبقى اخطار اضافية خلال هذه الفترة وهي ما اعلنته وزارة الصحة العمومية مشكورة من ضرورة التحلي السريع قصد مواجهة منتظرة للكورونا خاصة لدى كبار السن و المصابين بالامراض المزمنة والأطفال… وربما نضطر إلى العودة لاستعمال الكمامات خلال الازدحام الذي نراه في وسائل النقل المتعددة… لذا قد يتحتم على الدولة استشراف تغيرات واردة للمناخ ببلادنا… والاحتياط اكثر من العوامل التي نراها بالغرب القريب لتوفير الغاز الطبيعى لأكبر جزء من المواطنين في كل مكان لا لمواجهة البرد العائد مع كل شتاء بأكثر قوة، لكن أيضا لرفاه التونسيين شمالا ووسطا وجنوبا… وعدم حصر هذا الرفاه الشرعي عند شريحة واحدة، نسبة منها من الجشعين والسراق… اقول نسبة قليلة لأن متطلبات الرفاه لم تعد مفخرة او من علامات الأرستقراطية.
ملاحظة مبدئية … هذه الورقة ساخصصها لفترة هامة جدا في مسيرة اذاعة صفاقس… فترة تولّى فيها المرحوم عبدالقادر عقير ادارة اذاعة صفاقس، وامتدت من سنة 1996 حتى 2004 …
واحتراما لروحه سامرّ على بعض الاحداث دون ذكر تفاصيلها السيئة… نعم احتراما لروحه دعوني في البداية اقسّم فترة ادارته لاذاعة صفاقس على ثلاث مراحل… الاولى من 96 الى 98 والثانية من 98 الى 2002 والثالثة من 2002 الى 2004… هذا التقسيم مأتاه ما عايشته في المراحل الثلاث من احداث مختلفة جدا… كما اسلفت سابقا ومنذ قدوم الرجل سنة 96 وبطلب منه نشأت بيننا علاقة متينة للغاية… كنت بالنسبة له مستشاره الاول في كلّ ما ينوي القيام به وكان كثير النشاط متعدّد الرؤى لتطوير العمل الاذاعي… وحتّى في علاقاته مع زملائي في الاذاعة كان يستشيرني كلما حدث حادث وكان شديد الثقة بي…
ودعوني هنا اقسم لكم بالله الواحد الاحد اني لم اغتنم طيلة وجودي معه تصفية ايّ حساب مع ايّ كان لكن في المقابل كنت لا اخفي تماما قناعاتي تجاه ايّ زميل ايجابيا او سلبيا… وكانت مواقفي تنبع دائما من حبّي لاذاعتي وحرصي ومن خلال تجربتي ان اقول له الحقيقة عارية… هنا ساذكر بعض الامثلة…
في احدى المرات دعاني على عجل وعبّر لي عن غضبه الشديد لعدم كفاءة احد منظوريه مهنيا… كان في قمة الغضب واخبرني انه يريد ان يضع حدّا لوجود ذلك الشخص في الاذاعة… وكان موقفي ان تريّث يا سي عبدالقادر وسنجد الحلّ ونزلت من مكتبه بحثا عن ذلك الزميل لاعرف لبّ الاشكال ..وجدته في حالة مزرية ..كان يبكي كطفل صغير بعد ان توعّده سي عبدالقادر بالطرد ..هدّأت من روعه ووعدته بالتدخل ايجابيا لفائدته لانّ قناعتي لم تقبل بطرده والقضاء على مورد رزقه ..وللتوّ عدت الى مكتب المدير عارضا عليه الحلّ الامثل ..قلت له مساعد ذلك الذي تريد طرده على غاية من الكفاءة… اذن دع ذلك السيد وشأنه وليكن من الان مخاطبك هو مساعده …وللامانة قال لي اللي تحكم انت مبروك وفعلا كان الامر كذلك …
المثال الثاني حدث مع ثنائي من الزملاء لاحظت انهما اصبحا كثيري التردّد على مكتبه ثم اكتشفت انّ احدهما اصبح ملازما اسبوعيا لهداياه لمنزله (اشي لحوم ..اشي سمك ..اشي غلال ..) فما كان منّي الا ان فاتحته في الامر وحذرته منهما لاني اعرف جيّدا معدنهما… وقلت له بالحرف الواحد ان حدثت لك يوما مشاكل في اذاعة صفاقس، وقتها ستدرك انهما وراء ذلك… وفعلا كانا وراء العديد من مشاكله مع الزملاء …
المثال الثالث حدث مع منشطتين كانتا شاركتا في كاستينغ لتطعيم اذاعة صفاقس باسماء شابة لضخّ دماء جديدة واخذ المشعل عنّا يوما .. وحرصت في هذا الكاستينغ على تكوين لجان حتى لا يكون القرار فرديا… نعم كنت رئيس تلك اللجان ولكنّ القرار كان جماعيا والله .. احداهما نجحت باجماع الجميع على اهليّتها لتكون ضمن من ساتكفّل بتكوينهم وتاطيرهم ..والثانية لم تحظ بايّ صوت في الكاستينغ ..سي عبدالقادر انذاك (جا راسو) على التي نجحت وحاول بكل الوسائل اقناعي بالتخلّي عنها ولكنه فشل تماما ..ونجحت في اصراري ونجحت هي في دورتها وبامتياز ..اليس كذلك حنان التريشيلي .. ؟؟ الثانية والتي لم تنجح في الكاسنينغ وبالاجماع وساتحاشى ذكر اسمها حتى لا احرجها، حكايتها تتلخّص في الآتي:
دعاني يوما سي عبدالقادر الى مكتبه ورجاني اخذا بخاطره ان اقبل بها كمنشطة اقوم بتاطيرها لانّ والدها وهو صديق له احرجه وطلب منه ذلك … موقفي كان الرفض التام لانّه وهذا يعرفه كلّ من تتلمذ عنّي، ليس لي قلب في الامور المهنية .. ابنتي كرامة مثلا ارادت ان تشارك في احدى دورات الكاستينغ .. لم ار مانعا في تمكينها من ذلك الحق لكن كان شرطي ان اقوم انا فقط بالكاسيتينغ… لاني كنت مدركا انّ من سيحضر معي لتقييمها سيراها كابنة لعبدالكريم ولن يكون موضوعيا مائة بالمائة ..وفعلا وكغيرها اجريت لها التجربة الصوتية واكتفيت بذلك… وعندما خرجت كرامة من الاستوديو لاستطلاع رأيي فيها قلت لها في جملة واحدة ..انت لست للميكرو .. ولانها تعرفني وتعرف قناعاتي، ودّعتني وذهبت وكأنّ شيئا لم يكن…
وهذا ما اعنيه وانا اقول دائما المصدح يُفتكّ ولا يُعطى، وسي عبدالقادر يعرف قسوتي وصلابتي وعنادي وكسوحية راسي في مثل هذه الحالات… فقال لي زايد انلحّ عليك وسآخذها على عاتقي وعلى مسؤوليّتي… قلت له ذلك شأنك ..نعم وأخذها على مسؤوليته ولم امكّنها من حضور الدورة التكوينية لانها بالنسبة لي لا تصلح للعمل الاذاعي بتاتا… وهي على فكرة الان مرسمة وتشتغل … ليس ذلك فقط بل تعتبر نفسها وخاصة بعد 14 جانفي نجمة النجوم …رغم انّ نوعيّة ما تقدّمه لا يختلف كثيرا عن احاديث النسوة في حمّام او احاديث بعض الرجال في لعبة البازقة… كلّ ذلك لن يمنعني من القول انّ الفترات الذهبية التي عاصرتها كانت ثلاثا…
اذ انّي لم اعاصر فترتي المؤسس الباعث عبدالعزيز عشيش رحمه الله ولا التوفيق الحشيشة اطال الله عمره… لذلك كانت الاولى التي عاصرتها مع المرحوم قاسم المسدّي، والثانية مع المرحوم محمد عبدالكافي، والثالثة مع المرحوم عبدالقادر عقير .. القاسم المشترك بينهم، نشاط حثيث لا يكلّ ..كانوا ما شاء الله قادرين على العمل طيلة 16 ساعة دون انقطاع… ثم كانت لهم رغبة جامحة في تطوير العمل الاذاعي كل من زاوية رؤيته الخاصة به ..لذلك وهذا عايشته معهم، كانوا لا يتوانون لحظة واحدة في تجميع الكفاءات الثقافية بالجهة لدعمها وللارتفاع بمستوى المنتوج .. وكذلك للاخذ بيد الطاقات الشابة وتشجيعه. . وللامانة نجحوا في ذلك ايما نجاح … اليس كذلك احمد الشايب ؟؟ اتفهّم عرفانك له بالجميل… ولكن هنالك اشياء لا تقلّ اهميّة تطبع مسيرة ايّ مسؤول بايجابياتها نعم، ولكن بسلبياتها ايضا ..
وهذه في تفاصيلها يعرفها فقط من عاشر السيد عقير وعاضده عن قرب .. وسادوّن العديد منها في الورقتين 99 و100 ..كموثّق لما عشته معه ..اذ انّ مبدأ هذه الورقات منذ عددها الاوّل: التوثيق لكلّ ما عشته وعاشه معي جيلي والله وحده يعلم صدقي وامانتي …
ـ يتبع ـ
ورقات يتيم… الورقة 99
رحالة شابة من فرسان الدرّاجات… اعشق نبض الطبيعة والحياة من خلال “شهلة”
معرض بيع التمور من المنتج إلى المستهلك بالعاصمة
قضية وفاة جيلاني الدبوسي… تمديد إيقاف طبيبة السجن
قوات الاحتلال تشن حملة اعتقالات في قلب رام الله!
استطلاع
صن نار
- جور نارقبل 11 ساعة
ورقات يتيم… الورقة 99
- رياضياقبل 22 ساعة
رحالة شابة من فرسان الدرّاجات… اعشق نبض الطبيعة والحياة من خلال “شهلة”
- اقتصادياقبل 22 ساعة
معرض بيع التمور من المنتج إلى المستهلك بالعاصمة
- تونسيّاقبل يوم واحد
قضية وفاة جيلاني الدبوسي… تمديد إيقاف طبيبة السجن
- صن نارقبل يوم واحد
قوات الاحتلال تشن حملة اعتقالات في قلب رام الله!
- صن نارقبل يوم واحد
تحطم طائرة أذربيجانية… ومصير مجهول لركابها الـ 120
- صن نارقبل يوم واحد
صواريخ فرط صوتية من اليمن… وتدافع على الملاجئ في تل أبيب
- جور نارقبل يومين
إنه الشتاء يا حبيبتي