تابعنا على

جور نار

ورقات يتيم … الورقة رقم 10

نشرت

في

darbouka percussion instrument de le milieu est vecteur illustration 23736326 Art vectoriel chez Vecteezy

يوم وصلتني بطاقة الدعوة لاجراء مناظرة السيزيام لم ينتبني اي شعور بالرهبة او بالخوف … ولم اجد لحد يوم الناس هذا اي تفسير لحالتي العادية في جل امتحاناتي …

عبد الكريم قطاطة
<strong>عبد الكريم قطاطة<strong>

ليس معنى هذا اني كنت واثقا من نجاحي، ابدا فبعضها كانت بحق مناظرة مصير …الا اني هكذا ! … بل وصل بي التعنت احيانا الى مخاطر في بعضها (وللحديث بقية) …وكان اليوم الموعود، نهضت باكرا وكعادتي لم آكل شيئا في فطور الصباح فعلاقتي منعدمة تماما بالبيض والحليب والزبدة والسمن (ان وجدوت) وكل ما في الامر بقايا عشاء البارحة …وهو لا يغريني … الا ان امي لم تنفك تردد: “يا وليدي ماشي للامتحان على ريقك ؟؟؟ اشكون يعرف ادوخشي في (الكار) كول حويجة” … ولست ادري مالذي جعلها تخاف من الحافلة رغم اني لم امتطها من قبل الا في مناستين …يوم ذهابي الى المصور الزواري لاخذ صورة لبطاقة التعريف المدرسية للمناظرة المرتقبة ..او يوم ذهبت مع خطيب اختي الى السينما …

و في الحقيقة ولان قلب المؤمن خبيرو، هي على حق في نصيحتها لاني وبعد معاشرتي للحافلات خلال مرحلة تعلّمي الثانوي الاولى خاصة،كثيرا ما احسست بالدوار متى بالغ السائق في استعمال فرامله …بل واحيانا كنت انزل قبل محطتي بمحطات واكمل بقية الطريق ماشيا حتى اتفادى الدوخة … يومها رافقني ابي الى معهد الهادي شاكر طريق قابس (الليسيه) وكان اول عهدي بمعهد ثانوي بمثل تلك الضخامة المعمارية … يفجع … ولكني لم افجع …لا اتذكر بالضبط كم يوما قضيته في امتحان المناظرة، ولكن كل ما اذكره سؤال امي الذي لم ينقطع: “يا وليدي عديت بالباهي ؟” … واجابتي الدائمة:لا.باس …اميتها وشبه امية ابي ما كانت لتسمح لهما باسئلة اكثر تفاصيل … ورب ضارة نافعة اذ اني وعلى عكس اولياء هذا الزمن (اللي يسالوا على البسباس واللي كانلو غراس) الى حد الارهاق …

لم يكن هنالك اي اشكال من هذا القبيل من ناحيتهما …كنت احس بداخلي بوجع امي خاصة وهي الأم غير القادرة على نبش تفاصيل امتحان ولدها وهي التي ما انفكت تعبر عن عدم رضاها على مذاكرته لدروسه وكثرة نهمه لشتى انواع اللعب …ولقد لازمها هذا الوجع حتى يوم اعلان النتيجة …النتائج انذاك كانت تظهر فقط في الجرائد اليومية والتي كانت “الصباح” و”العمل” في نسختيها العربية والفرنسية، و”لابريس” …

يومها ولاول مرة اشترينا جريدة الصباح وثمنها 20 مليما (حق خبزة والخبزة ابجل اولا ثم لم يكن انذاك مكان للجريدة الا لدى بعض الكبايرية من مثقفين او من المتمظهرين بالعلم والثقافة) …وبدأت ابحث عن اسمي بين الاف الناجحين …لست ادري اي حدس انتابني يومها لاقلب نتائج التلاميذ الناجحين والموجهين في نفس الوقت الى معهد دون غيره ..حدسي جعلني ابحث عن اسمي في معهد الحي الزيتوني (15 نوفمبر حاليا)… و”اوريكا”! اسمي موجود … فرحت نعم …ولكن كانت فرحة عادية … بل واصبحت مشوبة بحذر شديد لان ابن عمي لم يحالفه النجاح …وحتى عندما دخلت الحوش كانت العائلتان تنتظران التلميذين بكل وجل والف سؤال يرتسم في اعين الجميع ..وكان من واجبي ان اعلن عن نجاحي بكل هدوء ورصانة حتى لا ابدو شامتا في فشل ابن عمي … وكذلك عائلتي … هو الفرح الصامت، وما اتعس الفرح الصامت …

كان هم امي وابي واختي الكبرى ان انجح حتى لا يتحول زواج اختي في اوت الى شبه مأتم …كيف لا والعائلة معلقة آمالها على ابنها ؟؟ كيف لا وهو سيكون اول ناجحي السيزيام في الحوش ؟؟؟ وحتى اختي التي حرمت من التعليم من اجلي كانت فرحتها كبيرة خوفا على مراسم زواجها … لو فشل عبدالكريم “يتعدالها عرس سلاطة” … وللامانة اصبحت منذ تلك اللحظة كسرى انو شروان … نحكم باحكامي … لقد رفعت راس العائلة وكنت في مستوى التضحيات الجسيمة (ماديا) التي قاست منها ميزانية العائلة من اجلي … لا تذهبوا بتصوراتكم بعيدا فعبارة كسرى انو شروان نسبية وعيارة تضحيات جسيمة لا تقل عنها نسبية …لان لعب الكرة ما زال ممنوعا ولان مخالطة اي كان ممنوعة ولان الحوش هو مقر سكناي ولعبي اي سجني … وحتى بعض هدايا العائلة لي بمناسبة نجاحي لا تتجاوز ڨازوزة بوڨا سيدر ، او بعض البسكويت القطعة الواحدة منه بمليم واحد اي الهدية 20 مليما … ثمنهما معا …

وكنت كلما عبرت عن رغبتي في “روبولوت” اي اعادة الزردة الڨازوزية، واجهتني امي باجابتها الحاضرة: “اه وليدي ماذا بيّا اما ما تنساش رانا قادمين على عرس وخيتك” … ولعله من ميزات العائلات في صفاقس انها ومهما كان مستواها المادي تستعد جيدا لكل المناسبات، بفضل حكمة وزيرة الاقتصاد والمالية التي عادة ما تكون الام … وهذا ما يحدث في عائلتي ..ابي كان “ترتاق” متاع فلوس، ولا يخبئ القرش الابيض لليوم الاسود …وهذا ما ورثته عنه في القليل الذي ورثته عنه …اما امي فهي وكاغلب الصفاقسية تحكم التصرف في الميزانية اذ لا عيد اضحى دون كبش العيد يعلف 4 اشهر قبل ذبحه، ولا عيد فطر دون حلوياته وحوت مالحه وشرمولته، ولا صائفة دون عولة (محمص وكسكسي وملثوث) اللي كتب من ربي كما تقول …فما بالكم وهي تستعد لزفاف ابنتها البكر ؟؟؟؟

هي منذ ان بلغت اختي الكبرى 14 سنة ووالدتي “تحَتْرف” طرف فلوس لتشتري كل مرة شيئا من جهازها، اي ملابسها لتحملها معها قبل عرسها الى بيت العروس … ودائما على عربة مجرورة ببغلين (الكارو) و فرقة فلكلورية تصحبها بالكورنيطة …وسيارتان او ثلاثا على اقصى تقدير مكتظة باهل البنت حتى التخمة (نساء) وهن المكلفات بترتيب جهاز العروسة بمنزل زوجها …كنت سعيدا بالحدث وكنت اترقب الاسبوع الاخير قبل اليوم الموعود لاستعرض عضلاتي في الدربكة والغناء كما يحدث في كل الاعراس … إذ قد حفظت من مذياع الجيران عديد الاغاني التونسية والشرقية وحان الوقت لاستعراضها …وطبيعي جدا ان يكون الاختيار على تلك التي احدثت “بيزززز” من جهة وعلى اغاني الافراح (من الغريب جدا اننا في عصرنا الحاضر نستمع الى مطريبن ومطربات يتغنون في حفلات الاعراس بـ “يا غدارة” او “يا خاينة” او ما شابههما في المعاني ..

المطربون الذين كان لهم صيت ذائع انذاك هم نعمة، علية، صفية شامية، الهادي القلال، الجموسي، احمد حمزة … علاوة على الاغاني الفلكلورية لجهة صفاقس والتي وقع تسجيلها في ما بعد مع افتتاح الاذاعة الجهوية بصفاقس (يمة لسمر دوني، يا رمانة، سيدي منصور…) اما من المشرقيين فكانت جل الاغاني التي تلاقي صدى لدينا من الطقطوقات (العصفورية والغاوي لصباح، بحلم بيك وبتلوموني ليه لعبد الحليم، انا قلبي ليك ميال لفائزة احمد، “اش لوننا” لشفيق جلال، على شط بحر الهوى لكارم محمود) … اي ان الفوندو من فصيلة ام كلثوم وعبدالوهاب لم نكن قادرين على فك رموز شفراته …وانا من الجيل الذي عرف ام كلثوم يوم التقائها بعبدالوهاب في “انت عمري” …

كنت اذن اتأهب لاكون في نفس الوقت درابكي الفرقة ومغنيها ومنشطها … وما ان حل الاسبوع الموعود حتى ابتليت بـ “بوجنيّب” في سبابة يدي اليسرى وهو نوع من الدمّل الذي يؤلم جدا … ولكم ان تتصوروا العازف على آلة الايقاع وهو يقضي العشية والسهرة يعزف ويغني ثم يؤوي الى فراشه كل ليلة وهو يبكي من الألم … السبابة تبات تنقّح، بثلاث نقاط على حرف القاف … وعبثا ان تحاول امي اثنائي عن العزف والغناء غدا …_النافع ربي … مما جعل الورم يزيد تعفنا و إيلاما ولم اشف منه الا بعد الزواج باسابيع …حتى ان آثاره ما زالت مرسومة علىي سبابتي ليوم الناس هذا …

حفل الزواج انذاك يخضع الى تقاليد وحيثيات هي في جلها معمول بها الى الآن … هناك الحمام ثم الحنة ثم البطالة ثم النزول ثم يوم العرس … وهنالك ايضا السبوع، اي مرور سبعة ايام بعد العرس وهي من التقاليد التي اصبحت نادرة جدا في صفاقس … الحيثيات الاولى لا تختلف في شيء عما يحدث الان من حيث المبدأ رغم اختلافها في جزئياتها … فالحمام مثلا كان في حمام عربي في المدينة العتيقة ولعل اشهرها “حمام بوعصيدة” واليوم اصبح “عند محاسن” …ولست ادري هل عرائس اليوم يستمتعن بنفس رائحة الحمام العربي ايام زمان …لست ادري لاني ببساطة وشيء من البلادة …لم احضر يوما حمام نساء … على عكس طفل “عصفور السطح” …اتصور فقط ان مثل هذه الحمامات العصرية يستحيل ان نجد فيها نكهة ايام زمان …

مما اذكره في مراسم النزول ان الفرقة نسائية بآلات ايقاع (دربوكة وطار وبنادر) …وكانت احدى تلك الفرق تترأسها امرأة متقدمة في السن تسمى “الدجيجة”وهي بالكاد ترى … وهي امرأة كثيرة الخصام مع بدء عملية الرشقان على العروسة …فاحداهن تدعي انها رشقت 5 دينارات والدجيجة تقسم انها رشقت 10د لانها ستاخذ نسبة من كل الآلاف التي يقع رشقها على جبين العروسة …ومن مآثر هذه البندارة (وهو اللقب الذي يطلق عليها من خلال مهنتها)، انها كانت لا تشرب الماء الا من حلابها الصغير (درجية) واننا كنا نتسرب خفية الى حرمها وهي غاطسة في التبندير ونقوم بسرقة الدرجية لاستفزازها حتى تقول جملتها الشهيرة:اشكون هز الدرجية يجعل كبدو مشوية! وذاك ما كنا نبغيه من فعلتنا …التمتع بتلك السمفونية التي “تخرج عسل” من فم الدجيجة …

يوم العرس كان في جله حفلا نهاريا اما بمنزل العروس ان كان يستجيب جغرافيا للحشد الكبير، او باحدى صالات الافراح ويتصدرها انذاك صالة الافراح البلدية (للدمادم ماديا) او صالة العموص وهي التي تقع في بودريار وكانت تؤمنها عادة فرقة نسائية بالبيانو واشهرها فرقة كسودية ثم فرقة ذيابة …ولا مجال لدخول اي رجل داخل الصالة (ذاك حرم نسائي لا ينتهك) وللرجال مكانهم في حديقة الصالة يتلصصون على هذه او تلك رغم ان تلصصهم لا يسمن ولا يغني من جوع، لان جل النساء متزوجات وصبايا بالسفساري … ماعدا “كعيبات” لا يتجاوز عددهن اصابع اليدين … لكن المهم ان لا تمر واحدة دون ان يتهامس الشبان اذا اعجبهم الجسد المكور داخل السفساري: “هذي زعمة من جماعة العروس والا العروسة ..؟؟؟ والله منظرها ما تخيبش” … ولست ادري اي منظر يقصدون ..؟؟؟ ام ان الرجل العربي في ذلك الزمن وربما لحد الان مغرم بالتربيع والتكوير ؟؟؟؟

يوم العرس كادت الامور تؤول الى ما لا يحمد عقباه …العائلتان اتفقتا على ان يضمن العروس يوم الزفاف (اي يوم قدومه لاخذ العروسة واهلها الى الصالة) … اتفقتا على ضمان خمس سيارات لنقل اهل العروسة …الا ان السيارات التي انتصبت امام باب الحوش كانت اربعا …وحملق الوالد وبدأ عرق النرفزة يتصبب ومباشرة صاح: “وينو علي ولد عمي ..؟؟؟ يا سي علي ولينا مسخرة نتفاهمو في خمسة تجيبلي اربعة …؟؟؟؟” ويربت سي علي على كتف ابي: “اه اها يا محمد وليدات احنا ؟؟؟؟” اما الخامسة تبلّعت في التراب متاع الزنقة (وفعلا زنقتنا، زنقة المظفر، كانت مضربا للامثال في ترابها _العيثة _ وكانت العديد من السيارات لا تغامر بولوج كثبان رمالها …_لا تبحثوا عنها كثيرا زنقة المظفر لانها اصبحت الان تتشهى رمالها بعد ان تربضت وكغيرها كل الزقاق) … زمانا كان في صفاقس بعض الارباض لا تعد حتى على اصابع اليد الواحدة كربض القائد وربض زنقة بن سعيد …والان …..ياااااااااااااااااااااااه لقد وأدوا الغابات والرمال وطوابي الهندي واصبحت صفاقس يتيمة منها .. اصبحت صفاقس ام الارباض ..

وهدّأ سي علي من روع ابي ووعده بان يعوضها له يوم السبوع …يوم السبوع هو يوم يحتفل به اهل العروس باهل العروسة ويتم كما تدل تسميته بعد اسبوع من حفل الزفاف تقديرا من العروس للعائلة التي انجبت عروسته وخاصة لاصالتها وتربيتها والمحافظة على شرفها حتى تصل بكرا الى زوجها وحتى تقدم عربون الشرف الى والديها من خلال ما تخبؤه العروس في احدى السلال المخصصة للغرض …دماء الشرف … وتقدمه بخجل وسعادة الى امها وكل من صاحبها من نساء عاقلات لا فتيات يسترقن السمع والنظر لما في السلة من كنز والكبريات ينهرنهن: “هذي امور خاطيتكم يززيو من التنسنيس” ….وما هي الا زغاريد الافراح تتعالى من جميع النساء …ويعلو البشر والفخر لدى الاب ولدى العريوس ايضا ..الاول افتخارا ببنت الاصول والثاني افتخارا برجولته والاصح بفحولته …التي قد تصل احيانا بالفحل الى حجز اقامة لدى بعض المستشفيات لانقاذ زوجته المسكينة من وحشيته …_طبعا ….تحبهم يقولو عليه موش راجل ؟؟؟؟ ضربة بموس ولا ها الشيء …

وبكل امانة مثل هؤلاء قد نجد لهم تبريرا لا عذرا لما يقترفونه في حق زوجاتهم من سلوك شنيع قد يؤثر على كل الحياة الزوجية بفعل الصدمة لان معظمهم لم يعرفوا يوما ان المرأة كيان انساني وان الرجولة الحقيقية في ان تكون انسانا معها لا وحشا كاسرا … في المقابل واذا حدث ووجد العريوس عروسته غير عذراء فانه وعلى عكس العديد من الجهات التي تصبح الحالة فيها مدمرة قد تصل الى القتل من قبل والدها لانها لوثت شرفه وشرف العائلة او من قبل العروس انتقاما لشرفه المهدور …فان ما يحكى عن مثل تلك الحالات في صفاقس وفي جلها هو ما تتداوله بعض الالسن الخبيثة من النساء وبعد مرور مدة طويلة على الحدث والتي تصل احيانا الى سنوات …ان فلان كلاها ورقد …مرتو ما لقاهاش بنية (وبنية هنا تعني عذراء) …وترد عليها اخرى امالا اش يعمل بنت عمو راهي ..اشبيك يلزمو يسترها ويستر العائلة الكل …هذا اذا كان الزواج زواج اقارب ..اما اذا كان من فصيلة اخرى فكثيرا ما تمضي النسوة في وصفها بابشع النعوت لعل اخفها وقعا عليكم كقراء: “اشبيك راهي العوبان كلاتلو عقلو ووكلتهولو في الزميت” (اي مسحور) “قللك وكلتلو ذيل ام البويا” (الحرباء) …

اولم يكن من الافضل دينا وفكرا واخلاقا ان يبتلع هؤلاء النساء الحرباوات لسانهن وان يسترن ما ستر الله ..؟؟؟ …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 79

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

الشجاعة عندي ان نواجه الخصم وجها لوجه لا ان نكيل له كلّ التّهم في ظهره ونواجهه بابتسامة خادعة، هي النفاق وهي الجبن والخزي والعار …

عبد الكريم قطاطة

لذلك لمّا انهى السيّد عبدالرزاق الكافي مكالمته مع السيّد منصف بن محمود الرئيس المدير العام لمؤسسة الاذاعة والتلفزة التونسية انذاك ليُشعره بقراره المتمثّل في عودتي لبيتي لاذاعة صفاقس… طلبت منه بكلّ لطف ورجاء ان كان لا يُزعجه، ان يُعلم عبر مكالمة هاتفية مديري السيّد محمد عبدالكافي بقراره، حتّى لا اعود اليه بمنطق المنتصر من خلال قرار فوقي ياتيه من اعرافه … اذ انّ في ذلك اهانة لشخصه ..وانا يعزّ عليّ ان يُهان الانسان مهما كانت نوعية الخلاف الذي بيننا …الكرامة كانت عندي وستبقى خطّا احمر ومثلما دافعت عنها عندما يتعلّق الامر بكرامتي، فمن باب المنطقي جدا ان ادافع عن غيري في هذا الباب مهما حدث …

للامانة فوجئ السيّد الوزير بموقفي … سكت لثوان ثمّ وبابتسامة رضا قال لي: (هذا موقف رجولي …وتقديرا لك سافعل) … رفع سمّاعة الهاتف وباختصار شديد وبصوت هادئ قال: (سي محمد مرحبا بيك معاك عبدالرزاق الكافي .. انا توة بحذايا توة سي عبدالكريم قطاطة حكيت انا وياه في الاشكال اللي وقع بيناتكم ويبدو انو موش كبير… واعتقد انو حان الوقت لانهاؤو ولعودة المذيع للمصدح … مازلت كيف كلمت سي المنصف وعلمتو بقرار عودة سي عبدالكريم وبطلب من هذا الاخير انا كلمتك باش تكون على علم … نطويو الصفحة اللي خذات برشة وقت ونعوّل عليك وعليه باش تخدمو في كنف التأخي بما فيه مصلحة الاعلام …ايّا في لمان)… علّق السيّد الوزير سمّاعة الهاتف ثمّ مدّ يده لي بكلّ حرارة وقال … تشرّفت بمعرفتك ونعرفك تهنّيني …اجبت: (شكرا انّك سمعتني وان شاء الله نكون في مستوى ثيقتك) …

خرجت من الوزارة بفخر واعتزاز وسعادة لا تُوصف … للامانة لم تكن سعادة مشوبة بالخيلاء والانتصار على الخصوم بقدر ما كانت سعادة العودة الى المصدح والى اصدقائي المستمعين… كنت دوما اقول لكلّ متدرب عندي في ميدان التنشيط الاذاعي …. المصدح امّا ان يكون حبّا كبيرا غامرا عارما لحدّ الغرق الجميل او لا يكون… بعضهم لم يكن في بدايته يستوعب مثل هذه الكلمات بل كان يستغرب منها … وكثير منهم من غرق في لجج حبّ المصدح لحدّ الهوس …لكن يبقى الاشكال الاكبر في توظيف هذا الهوس بشكل ايجابي ومن زاويتين … الاولى الايمان بالرسالة الكبيرة التي على المنشّط ان يعتنقها من اجل اعلام يرتقي بالذات وبالوطن وبالانسان والا اصبح المصدح والاعلام من صنف هشتكنا بشتكنا …

الزاوية الثانية الايمان وبشكل دائم انّ حبّ المصدح وتحقيق بعض النجاح ستكون عاقبته الفشل متى اصبح المنشّط يعتقد انه اصبح نجما لمجرّد ان ينهال عليه مجموعة من المستمعين بعبارات النفخ والشكر والمديح وعبارات من نوع انت مبدع وانت رائع ..وهو لم يفهم بعد انّه سلك بضع خطوات في سلّم الطريق الصعب والشائك والطويل… ولم يتفطّن انّ عملية النفخ هذه هي تماما كالنفخ في الرماد …كنت دائما اردّد: شرعيّ جدا ان يتوق ايّ منشّط للنجومية …ولكن بداية النهاية ان تصبح لدى المنشّط قناعة كاملة بأنّه نجم لا يُشقّ له غُبار منذ بداياته وهو غير قادر احيانا حتى على صياغة فقرة دون الوقوع في اخطاء لغوية ونحوية بدائية … درب التنشيط ينتهي فقط عندما ننتهي …علاقتنا بالمصدح هي علاقة التلميذ بالدراسة ومدى الحياة …لذلك كنت كثير الانزعاج بالنسبة لي ولمن ادرُسهم فنون التنشيط من كلمات الاعجاب على شاكلة (انت مبدع) …. عن ايّ ابداع تتحدثون ؟؟ هذا هو الفخّ الكبير الذي ينساق اليه العديد من المنشطين وخاصة المبتدئين منهم …

عندما غادرت مبنى الوزارة اتجهت مباشرة الى محطة اللواجات …كنت لا الوي على شيء وكان كلّ همّي ان ازفّ البشرى لعائلتي واصدقائي … بعد اربع ساعات وجدتني بمنزلي… زوجتي كانت اذاك تُقيم بالمستشفى الجامعي قسم الولادات نظرا لاشكال صحّي حتّم عليها الاقامة والعناية الدائمة بها، ووالديّ رحمهما الله كانا في استقبالي … توجّست الوالدة خوفا وهي تعلمني بأنّ سيارة الاذاعة جاءت لتسأل عنّي، وكعادتها بادرتني بالسؤال (لاباس يا وليدي ؟؟ كرهبة الاذاعة اربع مرات تجي وترجع تسأل عليك جيتشي من تونس ؟؟)… طمأنتها بالقول (وراسك لاباس يا عيادة الحمد لله عن قريب ترجع تسمعني في الاذاعة) … (ايّا الحمد لله ما تخافش في جرّتك دعاء الخير مادامنا راضيين عليك) …

وماكادت تُنهي كلامها حتى رنّ صوت منبّه السيارة … خرجت لأجد الزميل السائق …سلّمت عليه وسألت لاباس ؟؟ اجاب زميلي … لاباس سي محمد حاجتو بيك وقلّك دوب ما توصل ايجاني … تبسّمت وقلت … اوكي هيّا نمشيو …كنت قد فهمت قصد سي محمد عبدالكافي … لمّا وصلت وتطلّعت الى نظرات عينيه … سلّمت عليه وقبل ان ينبس ببنت شفة قلت له: صاحبك راجل اقسم لك بكلّ المقدّسات اني لم اقل فيك كلمة سوء … كلّ ما في الامر وبالحرف الواحد قلت للسيّد الوزير وقعنا في سوء تفاهم انا ومديري استغلّه اصحاب السوء ليُعكّروا الاجواء بيننا، وطلبت منه بعد مكالمته مع الرئيس المدير العام ان يبلغك مباشرة بقراره حفاظا على كرامتك وعزّة نفسك …

كان متجمّدا في كرسيّه ينظر اليّ بكلّ تركيز … نهض من الكرسيّ وجاءني معانقا والدمع مترقرق في مقلتيه وقال …الله يهلك اصحاب الشرّ واكاهو … ومدّ يده وقال … )هذا وعد من عند خوك من هنا فصاعدا ما ترى منّي كان الخير) … وللامانة كانت بداية عهد جديد مع الزميل والعرف سي محمد … اصبحنا صديقين جدا لدرجة انه كان يستشيرني عند ايّ تغيير او مع بداية ايّة شبكة، مما جعل البعض يعلّقون على ذلك بالقول وبشكل مازح (الشبكة ما تخرج اللي ما يشوفها عبدالكريم) … كانت فرحة للعائلة والاصدقاء والزملاء في الاذاعة وفي الصحافة المكتوبة كبيرة… وطبعا الصدقة ما تخرج كان ما يشبعو امّاليها وباعتبار انتمائي لجريدة الاعلان لعدد الثلاثاء، ظهر اوّل خبر عن عودة الكوكتيل بهذه الجريدة وبتاريخ 6 جانفي 1987:

“رسمي… كوكتيل عبدالكريم يعود يوم الاثنين القادم

في ظرف اقلّ من شهر نسجّل للاستاذ عبدالرزاق الكافي مبادرة ثانية في اعادة المياه لمجاريها وتحقيق رغبة الجماهير الواسعة… فبعد ان استجاب لطلب الزملاء الذين اتصلوا به في صفاقس لاعادة الزميل مختار بكور للنقل الرياضي (هنا لابدّ من الاشارة الى انّ الزميل الهادي السنوسي هو الذي وقع تكليفه منّا جميعا كي يكون المحاور في قضية الزميل مختار بكور وفعلا نجح في مهمته وعاد الينا بوعد من الوزير باعادة زميلنا مختار)، علمنا انّ السيّد الوزير تدخّل شخصيا في الايام الاخيرة لاعادة شيطان الميكروفون الزميل عبدالكريم قطاطة الى التنشيط الاذاعي …اذن سيعود في الايام القليلة القادمة الكوكتيل الى شبكة اذاعة صفاقس بعد غياب تواصل حوالي السنة وثمانية اشهر، ليزيد في تدعيم البرامج المباشرة … وقد اتصلنا بالسيّد محمد عبدالكافي مدير اذاعة صفاقس الذي افادنا انّ سيادة الوزير قد قرّر اعادة الزميل عبد الكريم الى حظيرة العمل الاذاعي بداية من 2 جانفي، وعلمنا انّ توقيت البرنامج قد تغيّر ليصبح يوميّا من الاثنين الى الخميس من الثانية والنصف بعد الظهر الى الرابعة وذلك لضغوط الشبكة الحالية”

قد يتبادر لذهن البعض مجموعة من التساؤلات حول توقيت البرنامج ومدّته ويوم عودته الذي تأخّر إلى 12 جانفي عوضا عن 2 جانفي …اوّلا وبكلّ موضوعية عندما قرر الوزير اعادتي لاذاعة صفاقس كانت الشبكة جاهزة تقريبا .. لذلك عندما تحاورت مع السيّد محمد عبدالكافي عبّر لي عن انشغاله لعدم وجود مساحة كافية للكوكتيل واستحالة عودته في مكانه المعتاد (العاشرة صباحا)… وطلب رايي في الامر وبكل صدق ونزاهة عبّرت له عن يقيني بأنّه ليس التوقيت ما يخلق نجاح ايّ برنامج بل المحتوى وسترون اني في ما بعد عملت بكل المساحات توقيتا … الاصيل ما بين الثانية والنصف الى الرابعة … المساء من الرابعة الى السادسة … الليل من التاسعة الى منتصف الليل… وصولا الى فجر حتى مطلع الفجر من منتصف الليل الى الخامسة صباحا ….

وللامانة ايضا كان ذلك نوعا من التحدّي من جانبي للذين يقولون (طبيعي انو عبدالكريم نجح في الكوكتيل لانو واخذ احسن توقيت من العاشرة الى منتصف النهار … متجاهلين اني عندما اخذت على عاتقي الكوكتيل في ذلك التوقيت كانت تلك الفترة اذاعيا فترة ميّتة وليس بها سوى برامج اهداءات … لذلك قبلت التحدّي واضفت متحدثا الى الزميل محمد عبدالكافي… ما رايك بما انّ توقيت البرنامج يأتي في الاصيل ان نبدّل اسمه إلى “كوكتال الاصيل” ؟… وللامانة مرة اخرى كان تفكيري ليس مأتاه التوقيت فقط بل صفة الاصالة تعنيني ايضا …لست ادري هل فهم سي محمد الامر كما فهمته ولكنّه وافق دون نقاش….امّا تاجيله ليوم 12 فذلك كان حرصا منّي على استنباط محاور جديدة للكوكتيل بعد ان وقعت سرقة جلّ اركانه القديمة إلى برامج اخرى… وهذا ايمان منّي ايضا بأنّ المنتج والمنشّط غير القادر على الابتكار والخلق مآله الموت الاذاعي السريري …

وجاء يوم 12 وقسمت الكوكتيل الى محورين… نصف الساعة الاولى يحتوي على المقدمة الشخصية اي (الموقف) باعتباري كنت ومازلت اؤمن بالاعلامي صاحب المواقف لكن دون غرور وبكل تواضع… ولا قيمة عندي لذلك الاعلامي عموما الذي يكون (صباب الماء على اليدين او القفاف والانتهازي والذي تشتريه بكسكروت) وهذا وقع …. نعم هنالك من وقع شراؤه بشاطر ومشطور وبينهما كامخ (وهو اسم الكسكروت باللغة العربية القحّة… ما ارزنو وقداش فيه تجوعيب على لغتنا الجميلة) …امّا النصف الثاني للكوكتيل وبمعدّل ساعة فادرجت فيه ركنا جديدا تحت عنوان بكلّ احراج …وفيه اقوم بدعوة ضيف لاطرح عليه بعض الاسئلة الخالية من المجاملة ولكن بكل لياقة وبعيدا عن الاساليب الوقحة التي انتشرت بشكل مقذع بعد 14 جانفي (وقيّد على حريّة التعبير والتي هي في الحقيقة حريّة التبعير)…

وللعدد الاوّل اخترت ضيفا من الوزن الثقيل… ومن يكون غير ساحر الاجيال حمادي العقربي …دعوني احك لكم عن علاقتي بحمادي … انا اعرفه منذ كان يكوّر في البطاحي …حمّادي من ميزاته انّك وانت تشاهده في ايّة تكويرة يستحيل ان تتكهّن بايّة حركة كروية سيقوم بها …ومن عيوبه انّه لا يُجيد الكلام الا برجليه …اتذكّر جيّدا انّي وفي اوّل لقاء طويل معه وانا اقترح عليه لقاء صحفيا مطوّلا بجريدة الايام، وجدته معجبا بي وببرامجي… فاجأني بذلك وفاجأني اكثر عندما قال انه لم يسبق له ان ادلى بحوار مطوّل لايّة جريدة وانّ العديد من الحوارات التي صدرت ببعض العناوين الصحفية كانت وهمية … وبكلّ صدق كان يومها يفضّل ان لا يكون الحوار … لكن لم استسلم واقنعته بأنّه من حقّ الناس عليه ان يعرفوا العديد من التفاصيل واكّدت له انّني لن اقدّم الحوار للنشر الاّ بعد ان يطّلع عليه كاملا …الاّ انّ اجابته اخجلتني واسعدتني … قال حمادي … نعرفك معلّم وعندي ثيقة فيك … وكان الحوار صفحة كاملة في جريدة الايام …

عندما دعوته ليكون ضيفي الاوّل في كوكتيل الاصيل …كان سعيدا بعودة الكوكتيل وكان مراوغا كعادته وبابتسامته الخجولة المعهودة قال … تي اشنوة يا سي عبدالكريم موش لو كان نخليوها مرة اخرى خير؟ …قلت له لا يا حمادي، الحلقة الاولى نحبّها مع معلّم … ومرة اخرى يرواغ ويقول … يخخي انت موش معلّم ؟؟….ودون تطويل مشاور قلتلو يا حمّادي قُضي الامر انت ضيفي في الحلقة الاولى … وبكلّ حبّ وحياء يُجيب حمادي … وانا عندي حكم معاك؟ …. وكان ذلك …وكان يوم 12 جانفي وكان يوم 13 جانفي ايضا …حاصيلو كيف تمشي تقطّع السلاسل وكيف تجي تجيبها سبيبة …اقداااااااااااااااااااار

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم… الورقة 78

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

الثلاثية الاخيرة لسنة 86 شهدت مجموعة من الاحداث الهامة … لنبدأ بسبتمبرها حيث انتقلت مجموعة “الايام” الصحفية بجلّ عناصرها وبعد الاستقالة من الجريدة الى خانة صحفية اخرى .. جريدة الاعلان …

عبد الكريم قطاطة

هذه الجريدة كانت، اسما على مُسمّى، عنوانا صحفيا جلّ صفحاته اعلانات … كانت تصدر يوم الجمعة وبرئاسة تحرير للمتميّز جدا الزميل جمال الدين الكرماوي، ربي يشفيه*… جمال هو فنان بكل موازين الكلمة فهو لاعب ممتاز في كرة القدم لعب بالملعب التونسي … وهو عازف غيتار وهو ايضا قلم فينو ومن افضل من عرفت الساحة الصحفية فيانة ونقشا… اشتهر في جريدة الاعلان بمقاله الاسبوعي الو الاعلان …مقال كان ينتظره عشاق الكلمة الرشيقة والاسلوب السمح …

السيّد نجيب عزوز مدير الجريدة اغتنم فرصة انسحاب فيلق الايام من الايام ليضرب عصفورين بحجر واحد… العصفور الاول تمثّل في استغلال تألّق مجموعة الاقلام في تجربتها مع الايام وانتدابها … والعصفور الثاني توسيع دائرة انتشار جريدة الاعلان لتصبح جريدة نصف اسبوعية وذلك بالصدور مرتين في الاسبوع … يوم الجمعة لفريق جمال الكرماوي و يوم الثلاثاء لفريق نجيب الخويلدي … كان ذكيّا جدّا في ادراكه لما قد تخلقه روح المنافسة بين الفريقين واستغلالها ايجابيا … وفعلا نجح في الرهان رغم كلّ عوائق ومشاكل الغرور التي عاشها الفريقان …وفعلا انطلقت التجربة الثانية لاسرة الايام داخل اروقة الاعلان في 30 سبتمبر 1986…

شهر ديسمبر من نفس السنة شهد حدثين اوّلهما عيد ميلاد اذاعة صفاقس (8 ديسمبر) والذي كان بالنسبة للمستمع المتعلّق بالكوكتيل مناسبة اخرى لاحياء مأتم … هاكم ما كتب عبداللطيف الحداد مرة اخرى بجريدة النهار يوم 3 ديسمبر 86 حول الحدث وتحت عنوان “خطاب عاجل الى مدير اذاعة صفاقس .. عيدا سعيدا في غيابنا”:

(سيّدي .. تحتفلون بعيد ميلاد اذاعة صفاقس الـ 25 وكلّكم فرح وترح واشياء اخرى وذلك من حقّكم طبعا ..اعرف انّ ربع قرن من الحياة والجهد والدأب له وزنه وثقله المُعتبر ولونه الخاص جدا .. اعرف وثانية انّها فرصتكم كاملة لتقولوا هكذا فليذهب المتنطعون الى الجحيم … انّنا نفهمهم وبكلّ تاكيد ونحتفظ ـ مازلنا ـ بأدقّ تفاصيل ذبحة ذلك المطرود منذ عشرين شهرا عبدالكريم قطاطة … انّها 8 ديسمبر اخرى لن يكون فيها فتى اذاعة صفاقس الاوّل هناك ..وانّه امر يُثير فينا كثيرا من الحزن والبكاء … اتُصدّق سيّدي انّ كلّ التقارير التي تصلك عنّا كاذبة ..؟ فنحن لم نعد نُننصت اليكم منذ ماي 85 والسبب بسيط جدا جدا ..وهو انّ اذاعتكم امست بدون الكوكتيل كأيّة قلعة خاوية … ونحن اصدقاؤه ما كنّا عصابة مافيا ولا جماعة كوكايين .. بل انّنا لم نقتل قطّة ولم نحرق قمحة ولم نطالب برأس احد .. فقط نادينا ومازلنا باعادة الكوكتيل وصاحبه الى ساحة الاذاعة…

ونحن ثالثة يا حضرة المدير مازلنا على عهدنا مع صاحب الكوكتيل حبّا وارادة واملا الى ان ينام القمر .. هكذا ذاكرة الناس الطيبين في هذا الوطن العزيز وهذا الجنوب الطيّب لا تنقطع بتلك السهولة المزعومة وتعوّدت ان تخبّئ الحب لمن حفر ويحفر فيها بالمثل فهل تُجبر الكسر وتضع امرا ؟؟… لقد كان لك ومازال كلّ الوقت لتطرح وتجمع وتضرب وتقسم وتكسر وترتّب الاوراق وتُمعن في تجميد تلك الامبراطورية الهائلة في التنشيط، وبث الفرح في البيوت الحزينة والمدن الباردة ولكن عبدالكريم قطاطة عائد الينا غبّا وكفّه مضرّجة بالحبّ والفرح لجما ودما … ذلك حدسنا ورهاننا … لاننا تعلمنا معا انّه حيث البكاء والبكاء والبكاء نتقمّص الكلمة ونحفر المدى حتّى ينبجس الحلم غدا وتمطر السماء .. وحتى يأتي ذلك اليوم الاكيد فهو سيظلّ منّا في العمق وفي تجاويف الذاكرة امّا انتم يا سيّدي فطاب عيدكم في غيابنا… عبداللطيف حداد ـ قصر الحدادة غمراسن)

هنا لابدّ لي من توضيح امر هام … نشري لمثل هذه المقالات يأتي فقط من زاوية التوثيق ولم ولن يكون قصدي التفاخر بما كّتب حولي والله على ما اقول شهيد… ثم هو حرص منّي ايضا على العرفان بالجميل للمستمع وهو يُدلي بشهادته في كلّ ما حدث وذلك اراه واجبا تجاه هذا المستمع وتجاه ما دوّنه من اوجاع وجراح …شهر ديسمبر ايضا شهد سابقة اعلامية هامة … اثر مباراة في كرة القدم بين النادي الصفاقسي وضيفه الترجّي والتي تمّ فيها طرد اللاعب منصف الطرابلسي ثم شطبه مدى الحياة وقع ما وقع … ومن ضمن تلك الوقائع ايقاف الزميل مختار بكّور عن التعليق الرياضي للاذاعة الوطنية … نعم … اذ ارتأت في تعليقه انحيازا للنادي الصفاقسي … وهو امر يصل الى درجة الكفر والردّة في نظر المسؤولين الكبار والذي مازال مثل هذا التصرّف العمودي لحدّ الان يتمرّغ على مسامّ جلودنا رغم انّ 99 في ال 100 من الاعلام العاصمي ولحدّ الان هو مكشّخ وبامتياز …اعني وبنذالة …مع احترامي للاقلّية النزيهة والشريفة … لا علينا سآتي حتما يوما ما وفي الورقات القادمة لهذا الملّف … اذن وقع ايقاف الزميل مختار بكور عن النقل الاذاعي الرياضي رغم انه من اكثر المتعاونين هدوءا ورزانة في اذاعة صفاقس …

امام هذا الوضع ارتأيت ان اغتنم فرصة زيارة وزير الاعلام انذاك السيد عبد الرزاق الكافي لاذاعة صفاقس التي ستحتفل بعيد ميلادها الخامس والعشرين، كي انظّم مباراة في كرة القدم بين اعلاميي الجهة وزملائهم من العاصمة… والحرص بعدها على اللقاء بالوزير ومطالبته فضلا لا امرا بارجاع الزميل مختار بكور لسالف نشاطه… تحادثت في الامر مع السيد عبدالعزيز بن عبدالله رئيس النادي الصفاقسي انذاك وعبّر لي عن مساندته المطلقة ماديا وادبيا لحدّ التكفّل بمصاريف اقامة ضيوفنا الزملاء من تونس… وكان الامر كذلك… مباراة ودية بالملعب الفرعي للطيب المهيري… سهرة رائقة شائقة بكلّ المفاهيم …لحدّ الثمالة وبكلّ المفاهيم لاحفاد ابي نواس… ثمّ لقاء مع الوزير واستجابة لرجاء الجميع واعادة مختار بكور الى سالف نشاطه…

اعود بكم الان الى خاتمة الورقة 77 والتي همس لي انذاك وزير الاعلام وهو يسلّمني الكأس … (انت هو سي فلان ؟؟ طلّ عليّ في مكتبي بالوزارة يوم الاثنين المقبل) … عندما ختم كلامه نظرت مليّا في عينيه بعد ان قلت له: حاضر … فقرأت فيهما وداعة ولطفا … ثمّ كان لزاما عليّ ان البّي الدعوة مهما كان الامر …بوزيد مكسي بوزيد عريان …ما الذي سيحصل اكثر ممّا حصل ؟؟… ربّما هي (صحّة راس) … غرور … تنطّع … _ قولوا ما شئتم …فأنا كنت ومازلت هكذا …ثوابتي لن يمسّها احد وقناعاتي ومهما خلقت لي من مشاكل وخصوما لن اتزحزح عنها …والروح ما يهزّها كان اللي خلقها …

يوم الاثنين كنت بمكتب الوزير … استقبلني ببشاشة وابتسامة عرفت مغزاها خاصة بعد انا قال: (مرحبا بيك سي عبدالكريم …تي العريضة متاع 20 الف امضاء امضاء اطول منّك) … ابتسمت بدوري ولم اردّ عليه …ولج للحوار بشكل فوري وسألني: (اشنوة اللي بينك وبين سي محمد عبدالكافي؟؟)… لم اتردّد لحظة واحدة في القول: (سي محمد عبدالكافي عرفي امس واليوم وغدا، والذي وقع سوء تفاهم بيننا استغله اصحاب النفوس المريضة) .. لم يكن موقفي مبنيا على الخوف او هزان القفة لعرفي، ولكن كنت مدركا اوّلا بل متيقّنا بمعرفة والمام الوزير بتفاصيل ما حدث… وثانيا ما كنت ولن اكون من تلك الشريحة التي تغتنم مثل هذه الفرص لتطعن في الظهر الخصوم … لو كان السيد محمد عبد الكافي رحمه الله حاضرا لقلت كلّ ما لديّ في صدري …. امّا اغتنام فرصة غي والتشهير به فذلك الجبن والنذالة بعينها…

نظر اليّ مرّة اخرى السيد عبدالرزاق الكافي بنفس الابتسامة الوديعة … وحمل سمّاعة الهاتف وطفق في تركيب رقم … وماهي الا لحظات حتى سمعته يقول: (عالسلامة سي المنصف بحذايا سي عبدالكريم قطاطة وحكيت معاه ونحبو يرجع لبرنامجو في اقرب فرصة) … فهمت انّ “سي المنصف” هو السيد منصف بن محمود رئيس الاذاعة والتلفزة انذاك … نظر اليّ السيّد الوزير وقال: (انتهى الاشكال سي عبدالكريم؟)… اجبته: (شكرا سيّدي الوزير على الثقة، ولكن لي رجاء لو تسمح) .. (تفضّل سي عبدالكريم) …وانتم لو تسمحون انتظروا معي الرجاء في الورقة القادمة … يخخي موش يقولوا ذوّق وشوّق ..؟؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*كتب المقال قبل وفاة الزميل الكرماوي رحمه الله

أكمل القراءة

جور نار

ماذا ينتظر التونسيون خلال العهدة الجديدة من رئاسة قيس سعيد؟ (2)

نشرت

في

محمد الزمزاري:

ذكرنا في الحلقة الماضية بجريدة جلنار الجزء الأول من انتظارات الشعب خلال طرح تحليلي مختصر يشير خاصة إلى أن الانتخابات الرئاسية التي تمت يوم 6 اكتوبر تعد اول انتخابات نزيهة وشفافة لم تشبها عمليات تدليس مثلما وقع في مرحلة بورقيبة، او تهافتا ومباريات بين الولاة للترفيع في نسب التصويت زمن بن على…

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari

كما كانت هذه الانتخابات نقية من المال الفاسد والتدخلات الداعمة الخارجية (القطرية و التركية) عبر الجمعيات الاخوانية المشبوهة التي توزع حقق الطماطم وارطال المكرونة و الأوراق النقدية لاستغلال أصوات البؤساء وضعاف الارادة من المواطنين، وكذلك تكفير من لا يصوت للنهضة من خلال المساجد وابواقها والتهديد بالسحل وغير ذلك من صفحة تلك الفترة الظلامية المظلمة…

الانتخابات التي شهدتها تونس هذه المرة أعطت الصورة الحقيقية لما يستوجب ان تكون عليه الانتخابات بالعالم الثالث والبلدان العربية جمعاء… كما عبر خلالها الشعب التونسي على رغبته الجامحة والحاسمة لكنس منظومة فاشلة وخطيرة لوثت وطنا جميلا… عبّر الشعب عن ثقته بقيس سعيد متمنيا و معتقدا انه الكفيل بتحسين أوضاع البلاد التي دمرتها عشرية ما بعد 2011.

لقد تناولنا باختصار عددا من انتظارات وتطلعات الشعب خلال السنوات القادمة وذكرنا اهم القطاعات ذات الاولوية مثل الفلاحة و الصحة و التعليم وعلى المستوى الاجتماعي تطرقنا إلى التشغيل و القدرة الشرائية للأسر التونسية والغلاء الفاحش للأسعار كما عرجنا على قطاع الخدمات و عصرنة الإدارة التونسية وفرض قدسية العمل وتنقية القطاعات من كل مخلفات الارتخاء والفساد (انظر عدد جلنار ليوم 8 أكتوبر 2024)…

في هذا الجزء الثاني نبدأ بضرورة تأهيل العمل الدبلوماسي والقنصلي بالخارج و الرفع من الدور المناط بمهامه الكلاسيكية وحسن اختيار التمثيليات حسب الأهداف السياسية والامنية وخاصة الاقتصادية، ودعوة القناصل إلى تحسين العناية بمواطنينا بالخارج ونبذ روح الارتخاء و عقلية اللامبالاة التي تطغى من حين لآخر.. كما على السفراء تأكيد لهتمامهم خارج الوطن بالمعطيات الأمنية نعم ولكن الاقتصادية أيضا، عن طريق رسم منهجية لجلب الاستثمارات لتونس و متابعة التطورات التي من شانها دعم تصديرنا وتنمية مدخراتنا من العملة الصعبة… كذلك حث مواطنينا بالخارج على المشاركة في عمليات ومشاريع التنمية.

بخصوص المتطلبات الأمنية.يبدو أنه من البديهي دعم مؤسسة الأمن ومواكبة كل التحولات الفنية وتحديث التجهيزات ومزيد ضمان اكثر رفاهة لاطارات واعوان الأمن، و تعزيز الاجراءات التشريعية لمحاربة الإرهاب والجريمة المنظمة…

قطاع الثقافة يعد من القطاعات المظلومة منذ حكم بن علي وسعت منظومة ما بعد الثورة إلى كنس حضور الفعل الثقافي و تقزيم الإبداع والمبدعين… ويكفي الإشارة إلى هرسلة المسرحيين و الاعتداءات على الأساتذة والقناة الوطنية… ولحدود السنوات الأخيرة فإن ميزانية وزارة الشؤون الثقافية (أقل من 1 بالمائة من ميزانية الدولة) تبعث على الاستغراب … فلا إمكانيات لدعم الإنتاج الثقافي من مسرح او سينما او فنون أخرى لتبقى القنوات تلوك مسلسلات السبعينات و الثمانينات…

كذلك هناك احساس تبعا لما ذكرنا بكبح الإبداع والإنتاج الأدبي… وكل ما تفعله وزارة الثقافة اليوم لا يتجاوز “التكرّم” بإقتناء بعض الكتب يخصم جزء من ثمنها لفائدة الضرائب … أين دعم الروايات؟ والسيناريوهات؟ والإنتاج السينمائي؟ وكيف يتم اسناد الدعم على أيدي اللجان او القبول من قبل القناة الوطنية؟؟ كلها اسئلة و مسائل تنتظر مزيدا من التنظيم او الدعم او المراجعة او عدالة الاختيار.

لعل قطاع الطاقة يحتل مكانة أثيرة في أولويات تونس ويفرض تدخلا عاجلا ضمن مخطط واضح المعالم… إذ نحن نستمر في تجاهل الطاقة الشمسية التي حبى بها الله بلادنا والتي يمكن أن تكون أكبر رافد للتشغيل و تصدير الطاقة عوض الترفيع المستمر في اسعار استهلاك الكهرباء و استيراد التجهيزات او المنصات…

كذلك وإثر تحرر قطاع الفوسفات من عبث و تجميد عانى منهما طيلة اكثر من عشر سنوات، يتطلب اليوم هذا المجال مزيدا من الرفع في طاقة إنتاجه و اقتناص مزيد من الأسواق العالمية وتنويعها ..

نمر إلى قطاع السياحة الذي بقي لسنوات طويلة يعزف على وتر واحد، موسيقي كلاسيكية وجب تجاوزها… ذلك أنه اصبح اليوم من الضروري المرور إلى تنويع الوجهات والمواد السياحية. لتشمل الشمال الغربي ومزيد دعم السياحة الثقافية، كالآثار التاريخية المتعددة بجهات جندوبة و القصرين، وقفصة (الحضارة القفصية) ويعين بريمبة بقرية المنصورة قبلي و كذلك توريس… كلها في مجملها وخصوصياتها تمثل ركائز لتنويع المنتج السياحي.

وفي حقيقة الأمر لا يمكننا تناول كل الملفات الوطنية الهامة التي تتطلب الدعم خلال السنوات القادمة مثل القطاع الصناعي والبيئة والعدالة الجبائية والخدمات البلدية ومراقبة انجاز المشاريع المعطلة اصلا منذ العشرية، وكذلك أهمية دعم قطاع العدلية لتسريع التقاضي وتحسين ظروف عمل الفاعلين في المرفق القضائي.

لن انهي هذا الطرح دون أن أشير إلى ضرورة ترسيخ اكثر ما يمكن من مكتسبات الثورة عبر ضمان ديمقراطية حقيقية لكل التونسيين دون استثناء، بالتوازي مع التزام الجميع بمصلحة الوطن ووضوح الرؤيا السياسية ومزيد دعم الحريات الفردية و العامة وحرية الرأي و الصحافة دون أي احتراز ..

الوطن للجميع لكن جميعنا مطالب أيضا بوضع أولوياتها و مصالح شعبها قبل كل الأولويات الأخرى فردية او حزبية، فتونس تستحق دوما الأحسن.

أكمل القراءة

صن نار