تابعنا على

جور نار

ورقات يتيم … الورقة رقم 27

نشرت

في

Enfant Triste Png, Vecteurs, PSD et Icônes Pour Téléchargement Gratuit |  Pngtree

كانت خربشات لا تتجاوز بضعة اسطر ..وكم من سطر او مجرّد كلمة تهزّ كل ما فينا …فتحوّلنا الى اطفال …نعم الى اطفال … نردّد في داخلنا (يا وردتي ما احسنك ..سبحان من قد انبتك) …

عبد الكريم قطاطة
<strong>عبد الكريم قطاطة<strong>

خربشاتها يوما كانت عريشة ورود ورياحين ..وكنت كطفل صغير يهديه والده يوم نجاحه وهو يتم حفظ سورة الفجر وروعة نهايتها (يا ايها النفس المطمئنة ارجعي الى ربّك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنّتي) …يعطيه 5 مليمات (اي دورو) ليشتري بها ما يشاء …انذاك “دورو” يعني اصرف وفضّل…فيرقص فرحا على نغمات الدّورو ويتباهى به امام اترابه المعوزين… يختار فقط من هو الاقرب الى قلبه منهم لتقاسم الغنيمة معه، والتي كانت اما قطعا من الحلوى او قطعا من البسكويت “سيّدة” … والتي كانت تساوي القطعة الواحدة منه ملّيما واحدا …

عندما قرأت خربشات صاحبة اللكمة الشهيرة (ما ابلدك) لم اكن اعرف وقتها انها هي صاحبتها .. اسرعت الى الاطلاع على الامضاء فوجدت اسمها ..كنت بجانب الحافلة وكما تعرفون اتلهّى بلحس كورنو الكريمة والتي كانت يومها “جيلاط” وهو ما يعرف الان بـ”سيترون” نصف مثلّج .. عدت الى الاسطر الاولى لاجدها تقول ..اهلا اخي عبدالكريم ..تابعت سلوكياتك منذ مدة فعرفت انك شهم وذو اخلاق عالية وها انا اقبل بحبّك وانا كذلك احبّك …وقتها لم اتفطّن الى كلمة اخي و ما محلّها من الاعراب في رسالة حبّ بين فتاة وفتى !! وقتها لم اتفطّن الى كورنو الجيلاط الذي سقط من يدي دون ان اشعر بذلك ..وقتها كنت صدقا اكثر كفاءة من عبّاس ابن فرناس في الطّيران ….

ما حزّ في نفسي.وقتها انّي لم اجد بجانبي من اقول له بصوت عال “حبّينا واتحبّينا”… وقتها لم اجد من اعرفه حتى اتماهى مع عبدالحليم في معبودة الجماهير وهو يمرّ على كل سكان حيّه ويغنّي بحبّك ..و”يا عنيّ جرى ايه الدنيا احلوّت كده ليه ..يا صحابي يا اهلي يا جيراني ..انا عايز اخذكو في احضاني” … واذا كان العندليب محظوظا وهو يجري بين ازقّة حارته بكل سعادة الدنيا ليعبّر للاخرين عن نغم الحب في كل شرايينه، بعد ان غمرته شادية بالموجة الرائعة وهي تعلن لها عن وقوعها في شباكه ..فانا كنت ذلك السجين بين جدران الحافلة … فوجدتموني عاجزا عن التحليق خارج فضائها وعاجزا عن البكاء داخل فضائها…بكاء؟ … نعم بكاء ..الا تبكون من شلّالات من السعادة ..شلاّلات غامرة جامحة تضيق بها الانفاس ..تتجمّر منها الشرايين (من الجمر الحارق اللذيذ)…

ولكن كيف لي انذاك ان ابكي وانا وسط حشد هائل من الركّاب ..الم يعلّمونا بكل حماقة وجهل “الراجل ما يبكيش” .. وليتهم فهموا ان الانسان ذكرا كان ام انثى ليس فقط من حقّه ان يبكي بل انّ البكاء احيانا هو قمّة المتعة ..وانّه نعمة كبرى ..وانّه كلمات ليست كالكلمات بل هو اروع من الكلمات …ثم حتى لو تحدّيت وقتها تلك المقولات المتخلّفة وكسرت جدار كهوفهم وتمرّدت على قوالبهم البالية (وهو ما فعلته في قادم عمري او على الاقلّ بعضه وما لم يفعله الكثير لحدّ يومنا هذا) ..لو تحدّيت وبكيت …آش ماشي يقولو الركّاب .؟؟؟ اشبيه هذا هبل …؟؟…

صدقا يومها طالت الرحلة رغم انّها لم تختلف عن زمنها المعهود ..ولكن كنت كذلك الفريق الذي يتقدّم على خصمه في النتيجة ويعيش الدقيقتين او الثلاث من الوقت بدل الضّائع وكانّها ساعات ..وعندما يصفّر الحكم النهاية تنطلق صيحات الخلاص ..عندما فتح السائق باب الحافلة لانزل بمحطتنا ..انطلق جنون الخلاص ..وجدت امامي صديقي (لطفي) وهو الملقّب انذا ك بـ”لوريمار” (لاعب فريق ليدز يونايتد الانكليزي ايّام عزّه) ..لطفي هذا كان لاعبا متميّزا في كرة القدم وكان ينتمي لصنف الاصاغر في السي اس اس وهو من الاصدقاء المقرّبين اليّ ويعرف قصّة معاناتي مع (ما ابلدك) .. وجدته امامي عند النزول من الحافلة فانهلت عليه ضربا (ببونية خفيفة) على صدره … كما تفعل جل الفتيات على صدر حبيبهن عندما يشاكسهن … لم يفهم لطفي شيئا … ودزّ عليها: “يا ولدي اشبيك اش ثمّة اش صار؟” … واصلت الضرب ثم قلت له ..هي ..هي ..واعطيته الرسالة …قرأها وعانقني وهو يقول مبروك مبروك ..واخيرا …كان سعيدا وهو يرى فرحي.. نشوتي ..انتصاري .. وحتى يشيّئ الامور ويخرجني من هوسي اضاف: ايّا ان شا الله الي بلّك يرشّنا … وتوجّهنا الى سي المبروك الحمّاص الطيّب واشترينا سجائرنا … يومها كان للسيجارة عندي طعم خاص ..كنت ادخّن مزهوّا كملك ..كسلطان ..ومن مثلي؟ ..عبدالكريم احبّها وبادلته الحب ..

يومها احسست ربما لأوّل مرة اني اصبحت ” راجل ..وعليه الكلام”… يومها انطلقت في رسم ملامح مستقبلي ..كيف يمكن لي ان احقّق حلمي لاتواصل مع من احب اولا ثم كيف يمكن لي ان ابني احلامي مع من احبّتني (هو الحب لعبة ؟؟)… لابد من التفكير في مقوّمات الزواج من الان .المسكن ..المهنة .. تكاليف الزواج …وبداخلي هاجسان اولهما الدراسة…وانا مازلت تلميذ “الرابعة ثانوي” …ثانيهما كيف لي ان اوفّر لوازم العرس وانا المنتمي الى عائلة معوزة ..في تلك السن العقل يكاد يكون مغيّبا عندما نحبّ …في تلك السن يصبح الواحد منّا قارون في ثرائه ..عبدالحليم في رومانسيّته ..وشمشون الجبّار وهو يهدّ الدنيا في قوته ….ذلك هو واقعنا انذاك …مراهقة فكرية وعاطفية …كانت تلك الرسالة الوحيدة التي وصلتني منها انذاك وحتى في الايام القليلة التي كنّا نتقاطع فيها في الحافلة، لم تتجاوز علاقتنا نظرة خاطفة نسرقها بكل حذر خوفا من الاخرين …

وجاءت العطلة وجاء الحرمان الكامل من تلك اللقاءات الحافلية ..وزاد اهتمامي بكل ما هو فن او سينما لاعوّض به عن ذلك الحرمان فكانت ام كلثوم و “عودت عيني على رؤياك”… وكان حليّم حاضرا كعادته بـ “بكرة وبعده”… وحضر محمد رشدي في بداياته بـ”ميتى اشوفك يا غايب عن عيني”… في السينما تطورت علاقتي بنوعيّة اخرى من الافلام …”مورير ديميه” (الموت حبّ لـ”آني جيراردو” كبطلة ..فتاة ريان ..”دكتور جيفاغو” وعمر الشريف…باب الحديد ليوسف شاهين … “ذهب مع الريح” وهو واحد من اروع انتاجات السينما عبر التاريخ …المهم ان ينطلق الفيلم من قصة غرام …مع البعد عن تلك القصص الشرقية التافهة …

في علاقتي بمحيطي العائلي والاصدقاء …زادت نرجسيّتي وتعاظم غروري .._اشكون كيفي … كُريّم لم يعد كُريّم …اصبح في نظر كل من تسرّب له خبر علاقتي بفتاتي “سي عبدالكريم” بالنسبة لمن لي معهم علاقت ودّ وصفاء ..وعلاقات بغض للقليل من الذين هم من فصيلة (اش يحسب روحو ؟؟)… ولم استغرب وقتها او حتى في ما تقدّم من عمري من فصيلة اش يحسب روحو واشكونو هو .؟؟ هذه تفوّه بها حتى من تعلّم ابجدية المهنة عندي ..انّها فصيلة ناكري الجميل في كل عهد وفي كل قطاع الم يغتظ قابيل من هابيل عندما تقبّل الله القربان من هابيل ..؟؟؟ اليست فعلته الشنيعة هي من نوع اش يحسب روحو هابيل ؟؟ … ورغم نكران بعض تلاميذي للجميل فها انا اعيدها لهم وللمرّة الالف ..ما قمت به ليس جميلا بل هو واجب ..وانا لن احقد يوما على احد منكم ولن اصل الى ذلك الحثالة الذي كان ضيفا على بلدنا ..و تشدّق يوما وهو يخطب في انصاره ..موتوا بغيظكم .. ويعني بها من لا يشاركه في الرأي ..بل واذهب ابعد من ذلك، مسامحكم دنيا وآخرة …

انتهت العطلة الصيفية وعدنا الى الدراسة ..انها السنة الخامسة من التعليم الثانوي سنة الجزء الاول من الباكالوريا… .في تلك الحقبة كانت شهادة الباكالوريا نجتاز امتحانها على جزأين ..الجزء الاول في السنة الخامسة والجزء الثاني في السادسة ..وانا تلميذ شعبة الاداب الكلاسيكية اجتاز الباكالوريا في جزأيها بالمواد التالية اجباريا .. العربية ضارب 4 …الانكليزية ضارب 2 … التاريخ والجغرافيا ضارب 2 … العلوم الطبيعية ضارب 2 … الفيزياء والكيمياء ضارب 2 والرياضيالت ضارب 2 مع اضافة الفلسفة في السنة السادسة ضارب 6 والفرنسية والتفكير الاسلامي والعربية شفويا ….نعم نحن تلامذة شعبة الاداب الكلاسيكية نجتاز الامتحانات في كل تلك المواد ولم تكن لدينا مواد اختيارية …

ومنذ اليوم الاول ومع كل دعوات الوالدين بالنجاح كنت اهمس لعبدالكريم : “اليوم اصبحت مسؤولا على مستقبلك وعلى مستقبل تلك التي احببتها ._اعمل الملح في عينيك واقرا على روحك ..تعرف اش يستنى فيك” …هكذا كانت وصيّتي لي ..الا اني ورغم كل ذلك لم استطع يوما واحدا في دراستي ان اصبح “محراث قراية”… بقيت على عهدي ..ادرس فقط وقتما ارغب وكيفما ارغب كمّا ونوعا …وابدا ان “فلّتّ” مباراة في كرة القدم او فيلما سينمائيا او موعدا حافليا (من حافلة) مع فتاة احلامي… وانقضت السنة دون ادنى جديد في علاقتي بها… نظرات ..بعض الابتسامات …”وهزّ ايدك من المرق لا تتحرق”… وفي احيان نادرة جدا ارسل لها سلامي مع اختي او ترسل هي سلاما في كلمات من نوع ما قلّ ودلّ مع نفس ساعية البريد فكرية اطال الله عمرها ومتّعها بالصحّة …

كنت اكره عطلتي الشتاء والربيع رغم كل مغرياتهما الكروية والبولاتية ….انهما تمرّان بتؤدة بالغة ..فكيف لي ان اتحمّل بعاد الحبيبة ..؟؟ وجاءت ساعة الحقيقة في اخر السنة ..امتحان الجزء الاول من الباكالوريا …وعلى عكس ما كان يصوّره لنا الاخرون من هول ذلك اليوم كغول يدمّر الاعصاب ويبعثر التلاميذ، اجتزت كل المواد بروح معنوية عالية تصل حدّ الاستهزاء بمن يهوّل ذلك اليوم ..كنت اتعامل مع اي امتحان وفي كل المواد بمنطق بسيط ..اعطي ما اعرفه دون ان يبعثرني ما لا اعرفه …”متملّح” لكن بايجابية وبعيدا عن العبث …

وجاء يوم الاعلان عن النتائج وانتقلنا جميعا الى الحي للاستماع الى اسمائنا عبر مكبّر الصّوت ..كان بجانبنا اساتذتنا في المواد الرئيسية يترقبون هم ايضا نتائج جهدهم وكدّهم ..وبكل فخر ..وكانت النتائج في معهدنا من افضل النتائج مقارنة بالمعاهد الاخرى (الحي وما ادراك)… وبدأ مكبّر الصّوت يزلزل الارض تحت اقدامنا وحان وقت الاقتراب الى رقمي في شعبة الاداب ..ياه هاهو التلميذ الذي قبلي “نڨّزها” و… ماذا يحدث؟ لم يذكر رقمي ولا اسمي … ذكر اسم من بعدي …هل يعني انه نسي اسمي ..؟؟ هل “مرڨت فيّ” الباك ..؟؟؟ هل انهزم مرسي الزناتي ..؟؟؟ احسست وقتها بدوران رهيب ..حضرت صورة عيادة وهي تنتظر فلذة كبدها ..روحها ..عبدالكريمها … يسعدها ويرفع راسها (امام الحبيب والعدوّ كما تقول هي)..حضرت امامي صورة والدي الذي يبكي لابسط الاشياء في حلوها ومرّها ..حضرت امامي صورة اصدقائي الذين يحبّونني جدا واولئك الذين من فصيلة (اش يحسب روحو)… وحضرت امامي صورة حبيبتي وهي تنتظر فارسها يزف لها خبر حصوله على الجزء الاول من الباكالوريا ..حضرت كل هذه الصور وغابت الباكالوريا …عبدالكريم لم ينجح وسبب خسارته مادة العربية …نعم نلت 6 من عشرين في العربية .نعم تلك الستة ..العاهرة …وكان يكفيني ان اتحصل على 7 من عشرين حتى انجح باعتبار ضاربها المرتفع: 4…

يومها كان بامكاني لو كنت من عشاق بنت العنبة ان اسكر حتّى الثمالة … يومها اشعلت السيجارة من اختها …يومها لم اعرف كيف استطاعت قدماي ان تصلا بي الى منزلي ..كنت مطأطأ الرأس كنت حزينا جدا وكنت صامتا جدّا .. لم يسألني احد عن النتيجة فالاجابة مرسومة على وجهي …وكم كانت نظرات الحزن والالم والصدمة مرسومة علي محيّا عيّادة … والدموع في عيني ابي …والوجوم والاصفرار على اوجه اخوتي ..سيدهم خاب في الباك …هنالك ليلتان في حياتي لم انبس فيهما ببنت شفة . كنت اخرس تماما …ليلة الباكالوريا وليلة خسرنا النهائي ضد الاهلي برادس . وهي ليلة الجلطة الكروية الرهيبة …والتي كان وراءها وعلى عكس ما يعتقد البعض اطراف من داخل تونس هي من اشترت الحكم كوفي ومساعديه حتى لا يكون السي اس اس اول فريق تونسي يشارك في كأس العالم للاندية …_.هاكة اللي مازال علينا …يمشي السي اس اس لاول بطولة عالمية في الكرة الطائرة ببارما ويزيد يمشي هو زادة في كرة القدم … شفتو قدّاش يحبّونا ..؟؟

يومها قضّيت كامل ليلي وفكري يكاد يُختزل في: “ما مصيري كتلميذ فاشل مع تلك الفتاة ؟؟ كيف يمكن ان اقنعها بانتظاري ..؟؟ ثم كيف لي القدرة حتى على النظر اليها في السنة المقبلة وانا “واحد مدوبل وفاشل” ؟؟؟ يا فضيحتك يا عبدالكريم” ….ولم يطلع صبح ذلك اليوم حتى كان قراري جاهزا ..انتهت الدراسة بالنسبة لي ولابد من البحث عن شغل … “ما يلزمنيش نظلم” لا عائلتي التي تكبدت مصاريف دراستي لسنوات ..ولا الفتاة التي احبّها لعلّي اقدر ان اوفّر لها كل ما يلزم لتكوين عش الزوجية يوما ما …اذن يوفى االحديث ….عبدالكريم انس الدراسة وابحث لك عن شغل …يوفى الحديث …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 67

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

حياتنا عادة ما تكون اشبه بدرس من دروس الجغرافيا… الم نقرأ في ما قرأنا عن التضاريس والتلال …؟؟؟… الم نقرأ عن السهول والمروج ..؟؟؟ الم نقرأ عن الامطار الاستوائية وعن الجفاف ..؟؟؟ الم نقرأ عن الزلازل والفيضانات ؟؟؟ اليست هذه هي مواصفات حياتنا ؟؟؟

عبد الكريم قطاطة

ولعلّ السمة البارزة التي طبعت حياتي منذ خُلقت ـ والحمد للكريم في ذلك ـ انني عشت الجغرافيا بكلّ طقوسها واحوالها … اذ كانت تترواج بين المدّ والجزر فأنا عشت الفقر والجوع وعشت ايضا كسب التحدّيات …كلّ ما درسته سواء في المدرسة والمعهد او في مدرسة الحياة جعلني انتمي الى عشيرة نيتشة الذي يرى انّ الحياة ارادة …اُعيد القول انّ العنصر الايماني انذاك كان شبه مفقود …الاّ ان داخلي كان ممتلئا بعزيمة لا تُقهر وبالرضى بالاقدار المؤلمة تلك التي لا حول لي فيها ولاقوّة …

ففي عامي الاوّل بعد الزواج رزقني الله بتوأم (ايمن وايمان) في الشهر السابع من الحمل …الا انهما كانا غير مكتملي التكوين وزنا (كلغ واحد وبعض الغرامات) مما جعلهما غير قادرين على مقاومة الصراع مع الحياة … ايمان انتقلت الى جوار ربّها بعد 48 ساعة من ولادتها وايمن بعد نصف شهر … كان الطبيب انذاك يهمس لي لا تحزن …عند الله افضل …لانهما كانا مهددين بالاعاقة الحتمية اذا استمرّا في الحياة… وبقدر شوقي كي اكون ابا بقدر عجبي من نفسي وانا اقبل القدر بكل راحة بال ورضى …عندما التفت الان الى جويلية 1981 شهر انجابهما وارى التوائم الان اغبط والديهما على مثل تلك النعمة الكبرى …ياااااااااااه ما اعظم ان يكون للواحد منّا توائم وما اسعد من منّ الله عليه بهم … واذكّر فقط بأني وُلدت مع توأم (بنت) لم يُكتب لها النور اذ وُلدت ميتة …

ما اردت قوله وانا في الثلاثين من عمري ان تجاربي فيما عشته جعلت منّي ذلك الذي لا يسقط بسهولة امام نوائب وصروف الدهر … ولعلّ مازاد في صلابة مواقفي وعنادي وصحّة راسي النجاح المهني الذي حققته منذ اوّل يوم باشرت فيه العمل بالاذاعة والتلفزة التونسية (1972) كمركّب افلام، الى اخر يوم من خروجي من هذه المؤسسة بعد انسحابي النهائي سنة 2012 كمنشّط عندما ادركت انّي اصبحت عبئا على بعض المناوئين والذين عملوا وبكل الاساليب الرخيصة كي يعبثوا بكرامتي ويكون طردي على ايديهم كما خططوا لذلك … ولكن عزّة نفسي ابت الا ان تكون حاضرة لحرمانهم من هذه الامنية الغادرة فانسحبت وانسحبت معي ابتسام … وها انا اعيد القول: انا مسامحهم دنيا وآخرة، لسببين اوّلهما ومهما كان الذي حدث انا لن اسمح لنفسي بحمل ايّة ضغينة تجاه ايّ كان ..ثمّ لانّي ادركت ودون رجعة ان اذاعة صفاقس مُقبلة على مرحلة مؤلمة للغاية بعد 14 جانفي… مرحلة تعملق التافهين وعنتريتهم… مرحلة يصول فيها ويجول الفارغون والصراصير _ مع احترامي الشديد للعديد من الزملاء الصادقين الطيبين والذين يقولون سرّا ما اقوله الان جهرا …وحتما ستكون لي عودة لكلّ التفاصيل في ورقات قادمة حتّى يعلم الجميع ما حدث …

مضت السنة الاولى من الكوكتيل في وهج جماهيري غير متوقّع… صمتت الادارة العامة عنّي ولم تعد ولو مرّة واحدة لطلبها عودتي الى تونس العاصمة وكأنها قبلت بالامر بشكل نهائي … وبدأت الجرائد تتابع مسيرتي وتثمّن انجازات كوكتيل من البريد الى الاثير والذي استطاع ان يخلق مساحة اذاعية جديدة في المشهد الاذاعي التونسي… اذ تخلت الاذاعة الوطنية واذاعة المنستير عن برامج الاهداءات وقلّدت اذاعة صفاقس في برمجة الضحى… نعم وبكل صدق كان للكوكتيل دور كبير في خلق مساحة اذاعية اسمها منوعة الضحى في الاذاعات الثلاث ..هذه الفترة التي كانت شبه ميّتة اصبح العديدون ولحد هذا اليوم يتكالبون عليها ويعتبرون أنفسهم مظلومين اذا لم ينالوا نصيبهم منها مرّة في الاسبوع ..

ومما يُحكى عن زميلي محمد عبد الكافي والذي كان يشغل وقتها مديرا لاذاعة المنستير انّه كان يجتمع اسبوعيّا مع المنشطين ويحثهم وبشدّة وبغضب احيانا على ان يقتدوا بما فعله عبدالكريم باذاعة صفاقس في فترة الضحى … بعبارة اخرى _ كان يقطّع شعرو ويقللهم اش عندو زايد عبدالكريم هذا متاع وذني باش ما تعملوش كيفو _ رغم انّ عبارة (يقطّع شعرو) لا تصحّ عليه نظرا لقلّة الانتاج في شعر رأسه …في الاذاعة الوطنية كان نجيب الخطاب وصالح جغام رحمة الله عليهما هما المتصدران للمشهد الاذاعي كنجمين من الطراز العالي … في اذاعة المنستير كان هنالك العديد من الاسماء علياء رحيم حبيب جغام رابح الفجاري فتحية جلاد السيدة العبيدي و نجاة الغرياني وشادية جعيدان رحمهما الله وغيرهم الذين يتداولون يوميا على مصدح منوعة الضحى… وكانت علياء اقربهم الى قلبي هي امرأة متمردة عصامية وتحمل نفسا مغايرا وهذا ما اعشقه في الفرد عموما … ولذلك هي ايضا عانت كثيرا ولكنها لم تنثن …لانّها شامخة واصيلة … كنت كذلك اتنبأ بمستقبل واعد لمنشطة مبتدئة انذاك (الفة العلاني) طالبة حقوق وقتها ومتعاونة … وكم كانت حسرتي شديدة عليها عندما غادرت هذا الميدان لاسباب اجهلها تماما …

في اذاعة صفاقس ونظرا إلى عملي اليومي في الكوكتيل من العاشرة الى منتصف النهار كامل ايام الاسبوع انذاك، لم تُتح الفرصة لزملاء آخرين حتّى ينالوا حظّهم وتلك كانت من النقاط السلبية التي طبعت مسيرتي رغم انفي .. كان بامكان الادارة انذاك ان تفكّر في اخرين الا انّ منطق (لا نغيّر الفريق الرابح) وتشبّث ايّة ادارة بالربح الآني دون التفكير في المصلحة العليا للاذاعة، حال دونها ودون مجرّد التفكير في هذه النقطة… فالمسؤولون عموما وفي ايّ قطاع يفكرون في اليوم فقط .. اتذكّر جيدا احد المديرين في الاذاعة وانا اعرض عليه مقترح التفكير في غد اذاعة صفاقس كيف يجب ان نعتني به استشرافيا.. اجابني ربما دون وعي منه ولكن كانت الحقيقة (احييني اليوم واقتلني غدوة)… معنى ذلك وهو المعمول به لحد الان في جل القطاعات المهم تلميع صورة المسؤول وتلميع انجازاته في تلك المرحلة حتى ولو كانت من نوع الـ”ان بي كا”، سرطان الفوسفات في قلب مدينة صفاقس …او بورقيبة رئيسا مدى الحياة … وهذه لمعلوماتكم اوّل من صدح بها في احد مؤتمرات الحزب هو مدير من مديري اذاعة صفاقس…. فعلا شأنه هو ايضا مدى الحياة لحدود السابع من نوفمبر (بات ما صبح) اي دخل الثلاجة مدى الحياة …

في اذاعة صفاقس كانت هنالك اربعة اسماء تحتلّ مكانة جماهيرية… عبدالكريم ابتسام ابو سهيل وبدرجة اقل عبدالجبار العيادي ..الا انّ انتظام الكوكتيل يوميا في دورية البرمجة جعله الاكثر حضورا … ابتسام المكوّر كانت ومازالت من اقرب المنشطين اليّ … كنّا ومازلنا نحمل عديد الثوابت المشتركة وحتى العيوب المشتركة (ياما عملت فينا نرجسيتنا) وللحديث عودة … كلّ ذلك جعل بعض الزملاء غير مرتاحين لهذا الوافد الجديد على اذاعة صفاقس خاصة وهو لا يتردد لحظة واحدة في التعليق على اي حدث دون نفاق او قفافيز… كنت (فرشك نيو نيو من فرنسا) متشبعا بحرية التعبير دون خوف او وجل لذلك لم ار يوما ما اي حرج في ان ابدي رايي في كل ما يحدث داخل اذاعة صفاقس مهنيا او نقابيا او علاقاتيا ..

هذا قرّب اليّ العديد من الزملاء لكنّه في نفس الوقت جعل من القليل منهم في موقع احتراز اوّلا ثم في موضع قلق ثانيا واخيرا في حالة حرب ثالثا ..اذ كيف لهذا الوافد الجديد ان يلتفّ حوله من كانوا بالامس لا يثقون ولا ينصتون الا في زيد او عمرو …رغم انني كنت اؤكد دوما انّني في طموحاتي بعيد كل البعد عن منطق الزعامة لأي هيكل مسيّر في اذاعتنا …الا ان زيدا وعمروا وشلّتهم كانوا يرون في موقفي هذا (خطابا وقتيا) وهو للاستهلاك فقط … غير انّ التاريخ اثبت في ما بعد انّي كنت نزيها مع نفسي … وحتى اشرافي على اذاعة الشباب سنة 1988 واشرافي على مصلحة البرمجة باذاعة صفاقس ثم تكليفي بمصلحة الانتاج التلفزي بوحدة الانتاج التلفزي بعدها، انتفت فيه رغبتي تماما واقسم بكل المقدسات اني لم ارغب فيها ولم اعمل عليها بتاتا … وستاتيكم تفاصيل ما حدث في ورقات لاحقة … اذن انقسمت اذاعة صفاقس في علاقتي بالزملاء الى ثلاثة اصناف… صنف اوّل وهو متواجد في كل الازمنة حدّو حد روحو لا يهمّو لا خلات لا عمرت الخبز مخبوز والزيت في الكوز… صنف ثان رأى في عبدالكريم نفَسا جديدا بكلّ المقاييس واغلبهم من الفنيين والاداريين والموسيقيين… وصنف اخير يرون في عبدالكريم ذلك الذي يهددهم اما مهنيّا او في زعامتهم …

في اواخر السنة الثانية من وجودي باذاعة صفاقس حدثت اشياء كثيرة وهامة جدّا… في 21 جويلية 1982 رزقني الكريم باوّل مولودة لي (كرامة)… كانت سعادتي لا توصف … محيطات وسماوات سبع واراض سبع بحجم سعادتي جاءت ليلة عيد فطر فاحتفل العالم الاسلامي بقدومها وكأنه اراد ان يهمس لي بكل حب ما اسعدك بعيد الكرامة … ما اروع ذلك الاحساس .. كلّ ما اذكره والحال صيف اني اشتريت لكل العاملين ليلتها بالمصحة مثلجات … كنت كطائر السنونو الذي يحلّق وهو في مكانه من وجع السعادة اللذيذ… اسالكم بالله هل هناك سعادة في الدنيا تضاهي سعادة ان تكون ابا او امّا لأوّل مرّة ..؟؟؟ مع اعتذاري الذي لا حدود له للذي حُرم من هذه السعادة… كان عيدا ليس ككلّ الاعياد… عيد عاد بكل الوان قوس قزح الجميلة وبكل طعم السعادة السعيدة… ايه يا كرامة لو تدرين … ايه يا يوزرسيف لو تدري … ايه يا عالم لو تدري …

الحدث الثاني في بداية تلك السنة … 3 جانفي 82… وفاة الاخ العزيز جدا على قلبي الفنان الاول في تونس بالنسبة لي وبكلّ المقاييس، محمد الجموسي … مرضه في البداية لم نحسب له حساب الموت… كنت زرته وهو في مصحة التوفيق (السلامة حاليا) وكنت سجلت له حوارا تلفزيا قصيرا سائلا عن صحته… وما زلت اتذكّر وجهه الباسم وهو يردّ عليّ بخفّة روحه وانا اسأل عن حالته ليقول: {خويا عبدالكريم موش طلع عندي مقطع حجر في الكلاوي!}… كانت تلك اخر كلمات اسمعها منه… بعدها تدهورت حالته بشكل مفاجئ وتحوّل اثرها الى المستشفى الجامعي الحبيب بورقيبة ليشرف على علاجه “الدكتور الجدّ” واحد من ابرز الاسماء الذي مرّت على قسم الانعاش كفاءة وحضورا دائما به …

كنّا نزوره بشكل يومي وهو في غيبوبة تامة الى ان انتقل الى رحمة الكريم … كانت وفاته الما كبيرا لكل الناس لانّه كان حبيب كل الناس في اذاعة صفاقس… وهو من القلائل الذي كان حبيب الجميع لأنّه كان حبيب الفن من قمة راسه الى اخمص قدميه… ولانّه وكما غنّى (عمري للفن)…وحتى قصة تلك الفتاة التي تعرّف عليها في اواخر حياته ويبدو انه قرّر الاقتران بها، كان فيها الجموسي الفنان الانسان الرقيق الصادق الجميل … رحل الجموسي وكان حتما عليّ ان اُخلّد رحيله بحصّة خاصّة به… حصّة خلّفت مشاكل لي في ما بعد لأن البعض من ابناء الحلال لم استدعهم للادلاء بدلوهم في مسيرته… فاعتبروا ذلك جريمة في حقّهم وحين التآمر عليّ لابعادي من اذاعة صفاقس وجدوا الفرصة سانحة ليغرسوا انيابهم فيّ وبكل شراسة …ربّي يهديهم وانا مسامحهم …

لم تمض ايام على وفاة الكبير محمد الجموسي ودفنه بمقبرة الهادي شاكر بطريق تونس حتى دُفن بجانبه من قام بتأبينه …انّه محمد قاسم المسدّي مدير اذاعة صفاقس الذي تُوفّي في حادث مرور مع والي صفاقس ايضا في طريق عودتهما من تونس العاصمة بعد ان كانا في مهمّة … رحمهما العزيز الرحمان … اثر ذلك كان لابُدّ من مٌعوّض للمرحوم المسدّي في انتظار تعيين مدير جديد، فكلّفت الادارة العامة الزميل محمد الفراتي رحمة الله عليه رئيس مصلحة الاخبار انذاك باذاعة صفاقس بخطّة مدير بالنيابة على راس ادارتها لتسيير شؤونها اليومية اداريا …ومعه بدات اولى حلقات المعاناة …

واذا كان حليّم ونزار يقولان في “رسالة من تحت الماء” (لو أني اعرف خاتمتي ما كنت بدأت) فانا اقول: لو كنت اعرف خاتمتي لكنت بدأت وبدأت واعدت… الم اقل لكم ان الحياة علمتني فيما علمتني ان الواحد منّا دون معاناة والم هي حياة فاقدة للنكهة ؟ ما معنى ان لا نسير حفاة على الرمل حتى نقبّل ولو بارجلنا اصلنا ..؟؟؟ السنا من تراب ؟؟؟ ما معنى ان نتبرجز في كل طقوس حياتنا …؟؟؟ كيف نحسّ انذاك بالفقير ؟؟ باليتيم ؟؟ بالملهوف ..؟؟؟ دعوني هنا اذكر مثلا واحدا في حياتي المهنية … كان بامكاني وانا في تنقلاتي لتسجيل “مع احباء البرنامج على عين المكان” ان اتمتّع وظيفيا بالسيارة الادارية وبمنحة الإقامة في اقرب نزل للمكان الذي اعمل به… لكنّي كنت افضّل ودون ايّ تردد ان ابيت مع المستمعين وهم يفتحون بيوتهم البسيطة واحضانهم الكبيرة لينعموا حسب قولهم بحلمهم الاكبر والذي كان بالنسبة لي الواجب الاكبر… كنت اراني وانا على حصير وفوقه جلد كبش اسعد الناس …

اتذكّر جيّدا زيارة لن انساها لاحد مستمعيّ (محمد كمال بن سالم) بمنطقة الماي جربة… هو صديق مُعاق اليدين والرجلين وكانت رسائله لي رغم اعاقته من اجمل الرسائل شكلا ومضمونا… يوم زرته لم يكن مصدّقا بالمرّة بأن هذا الذي ذاع صيته موجود لا فقط ببيته بل جالس على الارض بجانب سريره… كانت سعادته يومها لا يمكن ان تمُرّ دون ترك اثر على لسانه … صدقا لقد خرس الرجل … عجز محمد كمال عن الكلام لكنّ عينيه كانتا تقولان اشياء واشياء …ولانّه كان ثملا دون النبس بأية كلمة، قلت له هامسا: وماذا ستقول لو اعلمتك بأني سأبيت الليلة بجانبك افترش ذلك الجلد الصوفي ونسهر معا ونتسامر؟؟؟… وقتها تكلُم محمد كمال وقال (بعدها مرحبا يا موت)… وبتّ بجانبه ليلتها واستجاب الرحمان لرغبته… اذ توفي فعلا بعد ايام …

الم اقل لكم انّ الحياة جغرافيا لكلّ المتناقضات بما في ذلك الحياة والموت ؟؟؟ هنيئا لكلّ واحد منّا يحبّ الانسان … يحب الحياة بسهولها وتضاريسها بحلوها ومرّها اذ هي بالحلو بتمرّ بالمرّ بتمرّ ..

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 66

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

السنة الاولى من الكوكتيل شهدت تغييرات جذرية في حياتي الشخصية منها والمهنية … منذ سفري الى فرنسا، نصحني الاصدقاء والمقربين بفتح حساب ادخار بنكي سكني .. من اجل ضمان محلّ للسكنى (قبر الحياة) كما يسمونه هنا في مدينتي …

عبد الكريم قطاطة

هو من الاولويات في فلسفة الحياة لدى العائلة الصفاقسية … لذلك وعندما يتقدّم اي شاب لخطبة فتاة يُطرح السؤال الاول: عندو دار ؟؟… ثمّ تاتي الاسئلة الاخرى (اشنية خدمتو ..؟؟ عندو اخوات بنات .؟؟؟) ..وهذا سؤال مفصلي لان اخواته البنات منظور اليهن كآفات (اخت الراجل عقرب في الطاجن)… ومن جهة مضادة تصبح (مرت الخو عقرب في الدلو)… من تلك الزاوية جاء التفكير في فتح حساب ادخار سكني ببنك الاسكان …الا انّ الثلاث سنوات التي قضيتها في دراستي بفرنسا، ومرتباتي التي كانت تدخل بشكل كامل في حسابي البنكي… لم تكن لتفي بالمبلغ المأمول لامتلاك منزل ولو متواضع…

المرتبات انذاك كانت لا تتجاوز الستين دينارا ..وما ادخرته من عملي بفرنسا اقتنيت به اثاثا وملابس فقط ..في الملابس لابد من الاشارة اني ( تحلّيت طول وعرض)… لم اكن ذلك “الصّفق” الذي يدّخر الملاليم ولا الدينارات ولا مئات الدينارات ..لم اكن يوما (قرنيطة) في جمع المال ..بل كنت بالعكس (اكبر فلاقة) في تبذيره ..كنت مغرما بشراء افضل الملابس لي وللعائلة ولخطيبتي ولخطيبة صديق عمري رضا … صديق عمري هذا يوم حمل الادباش الى منزله في عرسه، كان العديدون وبمزاح يقولون (يخخي فلانة واخذة رضا او صاحبه؟!) … وكنت انا المقصود، نظرا إلى الكمّ الهائل من الملابس التي اهديتها ايّاها… كيف لا وهي خطيبة اخي؟ …

ومن صدمات حياتي انّها وبعد الزواج اي بعد ان تمكّنت من صديقي، اصبحت حياتي معهما عبئا ثقيلا عليها… هي من صنف التي تريد التملّك الكلّي بزوجها دون ان يقاسمها احد فيه ولو كنت انا …كنت في منتهى التعاسة من هذا المآل ..وكان عليّ ان اتصرّف بحكمة ….دعوته يوما للقاء على انفراد ..ذهبنا معا على شاطئ بحر سيدي منصور واعلمته بقراري النهائي …لابد ان اخرج من حياتك… زوجتك حامل وأنت ستصبح ابا وهي لا تحتمل ايّا كان في علاقتها بك… لذلك ومن اجل سعادتك يجب ان انسحب …كان لقاء الدموع والصمت …ما ابشع لقاءات الخيبة، ما ابشع حوارات الخيبة ما ابشع الكلمات التي تخرج بمرارة …تختلج طويلا في الحلوق وكأنها تعلن ولادة مأساة … وخسرت صديقي الى الابد ..

لم ادّخر اذن في فرنسا الا ثمن السيارة التي عدت بها وهو لا يتجاوز الثلاثة آلاف دينار وبعض القروش … من جهة ثانية، وعند عودتي بديبلوم درجة ثالثة علوما سمعية بصرية من دراستي والذي وقعت معادلته حيفا وظلما باربع سنوات تعليما عاليا عوضا عن ستّ… والذي كذلك وقع تصنيفي بمقتضاه في المعادلة ضمن سلك مهندس اشغال دولة وهو ما لم اقبل به يوما… ونظرا إلى تمسّكي بحقّي ان اكون ضمن سلك المخرجين التلفزيين كما ينص الديبلوم… ونظرا ايضا إلى تمسّكي برفض العودة لتونس العاصمة اي للمؤسسة بعد تجميد مشروع النواة التلفزية للانتاج بصفاقس …كل هذه العوامل جمّدت وضعيتي المهنية ماديا وكأنني لم ادرس بفرنسا، وكأنني معاقب على اشياء لم اقترفها بتاتا ..

تصوروا فقط ان فكّ عقدة هذا الاشكال لم يتمّ إلاّ بعد 11 سنة… اي سنة 1990… والفضل في ذلك يعود لشخصين كانا من اصدقائي قبل ان يصبح اولهما رئيسا مديرا عاما للمؤسسة: الصديق صلاح الدين معاوية … شكرا وألف رحمة خويا صلاح… والصديق مختار الرصاع الذي اصبح مديرا للتلفزة التونسية انذاك… شكرا خويا مختار… هذان وبعد عشرات الرسائل التي وجهتها للادارة العامة لتسوية وضعيتي وتمكيني من حقوقي الضائعة، والتي لم اتلق عليها ولو ردّا بالنفي او الايجاب .. هذان هما اللذان اخذا الامور بكل جدّية وسرعة وقاما بتسوية وضعيتي (دون مفعول مادي رجعي) …وهذا يعني “ملاين” حُرمت منها …

نظرا إلى كل ما اوردته وجدت نفسي في نهاية سنة 1980 وبالتحديد في بداية اكتوبر، في مفترق طرق …السن 31 سنة ..فترة الخطوبة طالت (5 سنوات) والامل في الحصول على قبر الحياة ضئيل للغاية … بين عشية وضحاها وجدتني امام هبلة من هبلاتي ..فليذهب مشروع قبر الحياة للجحيم وليكن العرس بعد شهرين على اقصى تقدير …فوجئت العائلتان بقراري ولكنهما لانهما تدركان انّي قراقوش في مواقفي، قبلتاه على مضض …طبعا بعد تلك الاسطوانات من فصيلة (كيفاش ما حضرنا شيء ويصير هكة في شهرين ..؟؟ اش يقولو علينا الناس ..؟؟ علاش تغصر فينا اش عملنالك؟؟؟)… كنت استمع فقط واكرّر: (العرس سيكون نهاية نوفمبر)..

وكان لي ذلك وكان حفل زفافي يوم 30 نوفمبر 1980 … تسوغت منزلا فخما (فيلا) واثثته بالكامل واقمت كل مراسم العرس من سهرية للاصدقاء المقربين وكل واحد وشربو… الى حفل يقيمه العروس للاهل (عوّادة) الى نزول بكل تفاصيله ثم يُختم بالحفل الرسمي للجميع بافضل صالة افراح انذاك (صالة البلدية) كيف لا والحفل عروسه المنشط (اللي قدّ الدنيا) كما يقولون… عبدالكريم ..؟؟ مما اذكره في حفل زواجي انذاك اني كنت اوّل من رفض ان يسوق سيارة العروسين ايّ كان ..كنت ارفض ان اكون ذلك السلطان بالمفهوم الكلاسيكي للكلمة… كنت اريد ان اكون سلطانا على طريقتي… لا ذلك الذي تجرّه العربة الكبيرة والسائق المسكين الذي يضرب بعصاه الجوادين وهو يهمس بين جنباته (بلعن بو هالخدمة نقولشي عبد عند سيادتو) …

كنت ارى في ذلك اهانة لذات الانسان ..سائق السلطان … سائق الوزير ..سائق الرؤساء والملوك …. لماذا وهبهم الله تلك الايدي ..؟؟؟ وحتّى لو كانوا مرهقين من شدة المشاغل …لماذا يلجؤون الى المقاعد الخلفية ..؟؟؟ اليس في ذلك احتقارا للذات البشرية ؟؟؟ تماما كذلك المواطن الذي ياخذ سيارة تاكسي ويسقط على ذاته صورة المتجبرين وياخذ مكانه في المقعد الخلفي ودون حتى اية نظرة احترام لسائق سيارة الاجرة… وما يخسر عليه كا ن يقوللو العويّات …او حيّ البحري …لا اشكال ان نكون من سكان الاحياء الفقيرة بل كل الاشكال ان تكون نفوسنا فقيرة ورخيصة …

وتمّت مراسم الزواج على احسن حال ..كيف لا وانا قد سحبت كل المبلغ الذي ادخرته لمدة ثلاث سنوات … وهنا لابد من التأكيد على امر مهمّ جدا في ما حدث …كما ذكرت لكم لست من اولئك الذين قال فيهم الشاعر (يا عابد المال قلي هل وجدت به… روحا تواسيك او روحا تواسيها )… ولست ايضا من عشاق المظاهر في كل شؤون حياتي حتى يُقال عنّي (ملاّ عرس عملو فلان شيء يفتّق)… بل كان كلّ همّي ان اُسعد عيادة بفرح وليدها كما حلمت به… وعيادة رحمها الله تحب كل شيء بالفرننو… وفي نفس الوقت اسعد عائلة خالي حيث ابنته الوحيدة لابد ان تعيش فرحتها كما تشتهي ..

لهذه الاسباب وقع انفاق كل المال المدّخر … وخرجت من “المولد” (لا عاد موش بلا حًمّص) بل بهناء وراحة بال وبسعادة وهّاجة لمن ذكرت ..لامعة براقة في اعينهم …

وبدأت مشوارا جديدا في حياتي …عبدالكريم المنشط الزوج …هي فرصة لأتقدّم بعبارات العرفان الى زوجتي التي ضحّت معي بالكثير وعلى حساب حياتها ..البرنامج كان يتطلب منّي يوميا 16 ساعة عملا، اعداد ومونتاجا وتنفيذا وخاصة قراءة رسائل ..ايّة زوجة منذ الشهر الاول من حياتها تعيش شبه طلاق مع زوج منغمس للعنكوش في عمله؟ … اية زوجة تحملت ومازالت (وبكل فخر واعتزاز ) العشق المجنون للمعجبات بزوجها …سألها مرة احد الصحفيين عن هذه المسألة فاجابت بكل ثقة وصدق (هات لي اي واحد منكم لا يعشق فنانا ما او فنانة ما … اذن اين الاشكال ..؟؟ عشق الاخرين والاخريات لزوجي يعني انه ناجح في عمله وذلك مصدر سعادتي)… وتضيف: .انا اسعد زوجة في الوجود لاني احب زوجي جدا ولانه لم يرفع صوته يوما عليّ ولم يتفوه طيلة زواجنا بأية كلمة نابية او سبّة معي ولا مع اطفالي ..والذي على الجميع ان يعرفه انه في الاخير يدخل الى بيتنا ويُغلق الباب دون الجميع …. ثم تضيف وبدموعها: يا رب اجعل يومي قبل يومه …

شكرا منية على صبرك شكرا على سعة بالك وعذرا ان قصّرت في حقك ولكن تلك هي مهنتنا وذلك هو قدري و قدرك …

في نهاية تلك السنة ايضا ونظرا إلى لنجاح الجماهيري الذي حظي به الكوكتيل بدات اشعر بتضايق البعض من الزملاء منّي ولكن بشكل خفيّ… لكنّ هذا لا ينفي وجود بعض ممن ربطتني بهم علاقات ممتازة جدا وعميقة جدا وناصعة البياض …لعلّ في مقدمتهم جل التقنيين الذين كانوا يقدّرون نوعية عملي وحرصي الشديد على الاتقان والجودة منا جميعا ..كذلك جل الاداريين والموسيقين الذين رأوا فيّ اسما يمكن ان ينافس وبجدية اسماء المنشطين بالاذاعة المركزية وفي ذلك فخر لابن مدينتهم واذاعتهم …

بعض المنشطين وفي مقدمتهم انذاك الصديقة والزميلة ابتسام المكوّر …كانت من المعجبات بحق وصدق بعبدالكريم المنشط والانسان… وكان نفس الموقف منّي تجاهها لانها بالنسبة لي تُعدّ انذاك وحتى خروجها من اذاعة صفاقس، واحدة من افضل المنشطات للبرامج الثقافية في المشهد الاذاعي التونسي دون ايّ جدال …علاوة على علاقة الصداقة العائلية التي ربطتني بزوجها ذلك الرجل المحترم جدا والنقي جدا (خويا التوفيق المكور) والذي كلما وقع سوء تفاهم بيني وبين ابتسام الا وكان دوما من جانبي …

مقابل ذلك كنت ارى وجوها لبعض الزملاء يصعب انذاك فك شفرتها …انا من الذين يؤمنون بأن بعض الظن اثم اذ انّي كلما رايت تجهما في وجه زميل ما اُرجعه الى مشاكل حياتية يومية خاصة به كسائر الناس …وابدا في البداية ان اقرأه كموقف مبطّن منّي … الا انّ ما وقع لي قي السنة الثانية من عمر الكوكتيل كان مغايرا تماما لقراءاتي وتوقعاتي …كانت هناك مقالب تُطبخ على نار هادئة وتنتظر الساعة الصفر لتنفيذها… للتخلّص من عبدالكريم اذاعيا وبشكل شيطاني… وكلّ لحسابه الخاصّ..

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

“صعيدي” في الألعاب الأولمبية!

نشرت

في

عبد القادر المقري:

في باريس، انطفأت أنوار لتضاء أخرى… ودعنا ألعابا أولمبية صيفية للأسوياء، وجاء الدور على ألعاب أجمل وأنبل: ألعاب بارالمبية… أولمبياد مواز… ألعاب أولمبية لذوي الاحتياجات الخاصة.. التسميات متعددة والكائن واحد، رائد، صامد.

عبد القادر المقري Makri Abdelkader

هي بعدُ الألعاب الأولمبية “العادية” حزمة تحديات تحضر فيها الموهبة والعمل والذكاء والتكنولوجيا والقيم الإنسانية والصراع الأزلي بين الإنسان والطبيعة… الطبيعة في حدود الجسد البشري التي لم تتوقف عن الاتساع ولو بالسنتيمتر، ولو بكسور الثانية، ولو بما لا يطاق من تحمل وتنفس ومغالبة للتعب والوجع وعناد الآخرين، منافسين وأعلاما وأناشيد وطنية… الطبيعة في قوانين الجاذبية وهبوب الرياح وهطول المطر وصلابة الأرض التي نجري فوقها…الطبيعة في تيارات الماء التي لها نزواتها ومطلوب من الحفناوي والملولي وغيرهما، مقاومتها مقاومة محرك ديزل بعشرة خيول حتى يفلتوا من سطوتها…

والطبيعة أخيرا في طبائع أفراد اللجان وسياسات الحكومات وتكييف الرياضة لخدمة الأقوى ولو كال بمكيالين… فإذا بمئات الأبطال الروس يُحرمون من الألعاب وتٌحرم منهم بدورها وهم الذين كانوا يكملون اللوحة برشاقتهم وعطائهم اللامحدود، ويعتلون جدول الميداليات ولا يبزّهم أحد في بعض التخصصات… وكم كان مؤسفا غياب الرائعة “إيزنباييفا” أو من يخلفها في القفز بالزانة مثلا… والسبب حرب لا ناقة (بل لا “دب”) لهم فيها ولا جمل… ولا نجد من يعامل بنفس المقياس “رياضيين” سيعودون فورا بعد الألعاب إلى ثكنات ودبابات وطائرات تقصف أهالينا في غزة أطفالا ونساء وكل من يتحرك هناك ولو كان رضيعا، ولو كان جنينا في بطن أم…

هذا عن أولمبياد الأسوياء… فما بالك بالدورة الأخرى التي تقام بنفس المكان ونفس الاحتفال ونفس الأمم ونفس البروتوكول… ولكن مع أبطال أعيق من أجسادهم بعض أو كلّ، ويسابقون ويقاتلون ضد ما ذكرناه أعلاه من تحد، يضاف إليه تحدي النقص الذي حُكم به عليهم، ومطلوب منهم مع ذلك أن يراهنوا وأن يتفوقوا وأن يحملوا على أكتافهم المظلومة رايات شعوب وأحلامها… وأن يصعدوا حيث منصة الميداليات أخيرا … وأن يفرحوا ويُفرحوا، ولكن بعد أي جهد وبعد أية تضحية!… ومطلوب منهم أن يحطموا أرقاما وقبلها أغلال وُلدت معهم … فإذا الصرخة آتية من أفئدتهم ومن جمهورهم ومن معلق منبهر بما يأتي به هذا الكائن المليء ضعفا وحتى تشوّهات مفروضة عليه: اخلع نظّارتيك ما أنت أعمى.. انهض وسر في سبيل الحياة… ستعيش نسرا رغم كل داء!

ثم وهذه مباراة أخرى بين الشعوب والدول والمنظومات… بين حال المعاق في بلد، وحاله في بلد ثان… بين مدللين مرفهين مرعيين رعاية كاملة تحرسهم مؤسسات وجمعيات وقوانين وتمييز أكثر من إيجابي… وبين آخرين لم يكفهم ظلم القدر الذي سلبهم بعضا من الحواس أو الأعضاء، فإذا به أيضا يُسقطهم في بلاد لا أهمية فيها لإنسان سويّ ولا معاق… حيث الحياة صعبة على الكل، وحيث الإهمال هو القاعدة، وحيث المعيشة أقرب ما تكون إلى ظروف الغابات…

إذن هو “تحد ثالث” ما يخوضه أبطالنا وبطلاتنا في ميادين باريس… نحن الذين رياضتنا بلا نسب ولا وليّ أمر… يطلع فيها الموهوبون كأزهار البرّ لا أحد يزرع ولا أحد يسقي ولا أحد يحمي… وكم يضحكني المتحدثون اليوم عن مراكز التكوين عندنا وكأنهم يخوضون في سيرة بلد آخر… عن أية مراكز تكوين يهذون؟ وما نُشر عن المركز “الوحيد” ببئر الباي ذات مرة، يصيبك بالهزيمة قبل أن تبدأ يومك… عن أية مراكز تكوين يخرّفون ونحن مركز تكويننا الوحيد هو حانوت الجربي الذي كان يبعد 20 كلم عن منزل أسرة محمد القمودي… وبفضل الركض المزمن والمفزوع بين النقطتين، وُلد عندنا واحد من أفضل عدّائي العالم والتاريخ… وما تزال تلك هي بنيتنا التحتية اليتيمة، ما تزال…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار