تابعنا على

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 49

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

في حياة الواحد منّا ما يُسمّى باللحظة الفارقة ..وقتها لن يرحمك الزمن ولن يمكّنك من بونيس الانتظار… وقتها يجب ان تكون ..

عبد الكريم قطاطة

كان جميع الزملاء التونسين متحلّقين حولي بعضهم برغبة جامحة في معرفة قراري وبعضهم بشفقة على هبلة من هبلاتي… اذ كيف لواحد مثلي يفرّط في مرتب شهري يتقاضاه من مؤسسته على امتداد سنتين ويُوضع مباشرة في دفتر ادّخاره البنكي دون المساس منه ولو بـ”دانقي” واحد، من جهة …ثم هو ايضا يتمتّع بمنحة جامعية من المعهد 130 د شهريا، علاوة على ما تجود به بعض الاعمال الاضافية كمركّب افلام في شركة خاصّة … و”الجود” الاضافي هذا مرموق جدا… من هذه الزاوية ترك كل هذه المغريات المادية تدخل حتما في خانة سوء التقدير للاقدار التي حبتني بهذه الفرص ..وهذا منطقي ومعقول ومهبول من يعمل ضد هذا التيار ..

لكن يا جماعة يا جماعة*…

… في تلك اللحظة الفارقة التي سآخذ فيها قراري حول مواصلة دراستي او اجراء المناظرة والعودة الى بلدي صفر اليدين من المنح والمرتب والعلاوات الخاصة، ارتسمت على شاشة فكري لوحتان اولاهما تعليق كتبته يوما على احدى صوري وانا ادرس بمركز تكوين الاطارات التابع للتلفزة التونسية: (لابد ان اصل يوما الى هيمالايا)… وارتأيت يوم اتمام الدراسة والولوج الى دنيا المهنة اني مازلت في حدود الشعانبي**…

..اللوحة الثانية والتي تابعتني طيلة حياتي، وعدي لعيادة بان اكون لها “راجل وسيدي الرجال” وانا ااهديها كل براهين الدنيا على انّ ولدها لن يخيّب آمالها فيه …انتفضت من مكاني بين زملائي دون الاعلان عن اي قرار وتوجّهت مباشرة وتوّا ..توّا..الى مكتب مدير المعهد ..اندهش من مجيئي وبادرني بالقول ..اهلا ..يبدو انك اخذت قرارك ..انا امهلتك اسبوعا فاذا بك تاتيني بعد نصف ساعة …قلت له نعم . لا فائدة في تأخير قرارا اليوم الى الغد… ساُنهي علاقتي بالدراسة في المستوى الثاني وانا مستعد لاجراء مناظرة المستوى الثالث والعودة الى بلدي في انتظارالنتيجة … صمت قليلا وقال: “انا فخور بقرارك ..لانه قرار شجاع ..الاسبوع المقبل سامكّنك من اجراء المناظرة وفي نهايته ستعود الى بلدك ..انه قانون اللعبة يا ابني” …

في الحقيقة انا ايضا كنت سعيدا جدا وفخورا بالقرار ..لم اكن يوما مثاليا في مثل هذه المواقف ولكن كنت دوما اعطي للجانب المادّي في حياتي الدرجة العاشرة من اهتماماتي …ولهذا يقول عنّي العديد ممّن يعرفونني وهم محقّون في ذلك (هاكة علاش قعدت طول عمرك منتّف)… في قراري كان كلّ همّي مزيد العلم والمعرفة حتى أقترب من هيمالايا … قلت اقترب ولم اقل اصل لأن الوصول الى هيمالايا فقط والاكتفاء بها كآخر محطّة من الطموح، هو يعني عندي الموت … حياة الانسان بالنسبة لي قطار لا يعرف التوقف الا عندما يشاء الله ذلك ..لذلك وبعد سنوات من العمر ضحكت من نفسي وانا اعتبر هيمالايا هي المحطة الاخيرة والهدف الاقصى ..بعد سنوات من عمري اصبحت اؤمن بان هيمالايا لا تساوي شيئا امام حدود السماء… نعم يجب ان نرسم يوما ما هدفا في الطموح نسمّيه حدود السماء والتي ننظر من موقعها الى كل العالم ليبدو لنا هيمالايا نقطة صغيرة جدا… ولنكتشف ان الحلم لم يكن كبيرا وهائلا كما رسمناه… وحتى عندما نحقق الوصول الى حدود السماء، علينا ان نتجاوز ذلك الى ما بعد حدود السماء …

الحياة بحلوها ومرّها علمتني ان لا حدود للطموح، تجسيدا لـ”لو تعلقت همة المرء بما وراء العرش لناله”… لكن المأساة في العديدين منّا انهم يطمحون ويعملون ويسعون الى العرش القذر ..سواء بافتكاك مكان الرب ليفتوا ويستفتوا ويمنحوا صكوك الجنة للغلابة البسطاء ..دون ان يفهموا انهم بفعلهم ذلك يشركون بالله الواحد الاحد ..اذ انه لا يزكّي الا الله …او اولئك الذين يسعون الى عرش الحكم اما سياسيا او ماديا… رغم انّ العلاقة بينهما قائمة على اقتسام عرش السلطة بما معناه (غمّض عينيك عليّ نغمّض عينيّ عليك… ناقف معاك وانت اوقف معايا … وتعرّي عليّ الستر نعرّي عليك الستر)… هل فهمتم ان المصالحة التي يُحكى عنها كذبة؟؟ هي فقط للاستهلاك ..هي فقط حربوشة . احيانا لتلهية عن امر ما وقع او سيقع …واحيانا للابتزاز السياسي كلما قرُب موعد انتخابي …اقول هذا لماذا ..؟؟.لان المصالحة وقعت من زمااااااااااااااااااااااان بين شياطين المال وشياطين السياسة وهذا هو المعنى الحقيقي للتوافق …

يوم اتخاذ قراري لم تكن المعادلة صعبة الحل عندي .. في الكفّة الاولى كان هناك الجانب المادي المهم جدا كمّا ..ثم كان هناك ايضا امكانية الفشل في مناظرة المستوى الثالث وهو امر وارد ..وفي الكفّة الثانية كان هناك وجه عيادة يوم توديعي بمطار تونس قرطاج بتجاعيده الرقيقة وبعينين كم هما الجمال والرهبة ..كم هما الخوف من مجهول مّا لولدها في بلاد الغربة والخوف من بنت الرومية ..وكم هما التوق الذي لا حدود له حتى يعود اليها ولدها سيد الرجال كما وعدها ..وهل هنالك كفّة اخرى تستطيع ان تغلب هذه الكفة؟ ..عندما انتفضت واسرعت لمقابلة مدير المعهد لاعلمه بقراري الذي لا رجعة فيه ما كان وقتها بشر في الدنيا قادر على اثنائي في قراري ..والله لو وضعوا الشمس والقمر وكل الكواكب في يدي لما عدلت عن قراري …وهكذا كنت طيلة حياتي ومازلت لن يردعني اي كان في اتخاذ قراراتي ..قد اخطئ واعتذر ولكن ابدا ان اندم ..لأني اتعلم ايضا من اخطائي ..وحده الذي لا يقرّر هو الذي لا يخطئ …

عدت الى زملائي لاعلمهم ايضا… نظروا اليّ دون اي بوح ..قرات في اعين بعضهم “ملاّ طلعة … يسلّم في النعيم ويمشي للجحيم”…وفي اعين بعضهم “هاكا ماهو يحب روحو موش كيف لخرين …توة يندم ويرجع ياكل في صوابعو” … هذه الفئة لم تفهم يوما انك عندما ترضى بان تكون كالآخرين فمعنى ذلك ان تكون دجاج حاكم… فمتى ينتفض الواحد منّا على ذاته كي يخلع عنه ريش دجاج الحاكم ويكون مختلفا لا متخلّفا ؟؟؟ .. صنف آخر في تعامله مع قراري .. اللامبلاة …اي “يدبّر راسو يخخي هو صغيّر اش دخّلني في امورو؟”…كنت وقتها اقول لهم بنظراتي فقط ..عندكم حق اللي ما يدريها يقول سبول …

في نهاية الاسبوع دُعيت لاجراء المناظرة وبشكل استثنائي ..هكذا قررت الادارة ..مناظرة استعجالية ثم عودة سريعة بعدها الى تونس … نوع من انواع الترحيل … ولانني قبلت بقوانين اللعبة اجريت المناظرة وبدأت الاستعداد بعد يومين منها للرحيل ..كان عليّ ان اتصل يوم الاثنين صباحا لارتّب اموري مع المركز الفرنسي للطلبة الافريقين و المكلف بكل شؤون وجودنا على التراب الفرنسي …كان عليّ ان اسلّم بطاقة اقامتي وان يمكّنوني من تذكرة طائرة العودة لتونس …

كانت الساعة تشير الى التاسعة صباحا عندما وصلت ..وكالعادة وبكل بشاشة الموظّفين الواعين بدورهم استقبلتني احداهن ..اعلمتها بموضوعي… تسلمت منّي بطاقة الاقامة ورجتني ان انتظر قليلا لترتيب اموري ….وانتظرت .. وطال انتظاري ..وقتها همهمت (اشنوة حتى في فرانسا يخلليونا نستناو ساعة زادة؟)… وفعلا انتظرت ساعة كاملة ..حتى تخرج اليّ الموظّفة بابتسامة صادقة وتقول ..اعرف جيّدا اني اثقلت عليك بالانتظار ولكن كل ما ارجوه ان تعذرني عندما تكتشف اسباب ذلك …دعتني الى داخل مكتبها ودعتني للجلوس قبالتها …اخذت مكانها على كرسيها الفاخر وبدات:

السيد عبدالكريم كنت ابحث مع المسؤولين في معهدك عن سبب رحيلك الى تونس وانت لم تُكمل” دراستك ..وابلغوني بكل ما حدث لك …وانا بقدر ما انا متفهمة لموقفك بل واقدّره بقدر ما عليّ اعلامك بالاتي: صلاحياتنا في هذا المركز لا تمكنك من التمتع بتذكرة العودة …لانك بالنسبة لنا انت طالب انقطع عن دراسته وعليه ان يتحمّل مسؤولياته ..نحن نمكّن الطلبة فقط عند اتمام دراستهم من تذكرة العودة ..وفي هذه الحالة انت لست منهم … الا انني وباجتهاد شخصي تحادثت مع نظرائي في المركز وفي المعهد في نفس الوقت… وحاولت ان اجد لك مخرجا من هذه الورطة ..وانت تستحق منّا جميعا هذا الاجتهاد …وعرفت بوسائلي وارجوك عدم توريطي وانا كلّي ثقة فيك، انك نجحت في مناظرة المستوى الثالث .. لذلك اعتبرنا في المركز انك أنهيت المستوى الثاني ومن حقك ان تتمتع بتذكرة طائرة لعودتك ..اهنئك وارجو ان يبقى امر نجاحك في صدرك لان النتائج ستعلن رسميا بعد ثلاثة اشهر من الان… وعودة ميمونة الى بلدك الجميل تونس …ونراك قريبا بيننا” …

ياااااااااااه يادي النعيم اللي انت فيه يا قلبي ….كيف يمكن لي ان اصف من انا ؟؟ اين انا..؟؟

اوووووووووووووووووف كم هي مستبدة وظالمة تلك اللغة التي تتمنّع دلالا وغنجا لتقسو عليك فلا تمنحنا ابجدية جديدة لنصف بها من نحن اين نحن … نعم في بعض حالاتنا فرحا او الما نحتاج الى ابجدية جديدة ..تصبح فيها جميع لغات العالم عاقرا او هي ان اعطتك البعض من احرفها فهي تافهة وسقيمة …نجاح في المناظرة خطوة اخرى نحو هيمالايا …عودة الى تونسي الحبيبة و الى …عيادة الاحب ….يا دي النعيم اللي انت فيه يا قلبي …

ـ يتبع ـ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامش:

*انا سبقت ذلك الاعلامي السوري في اتجاهه المعاكس والذي هو في الحقيقة “معاكس” باتم معنى الكلمة… لانه اتجاه مسبوق الدفع من مؤجّريه حتى يخدم اجندتهم كما يريدون… وما هو في الحقيقة الا بيدق رخيص لا ذمة له ولا موقف ولا ضمير رغم كل ما يبذله من تمثيل … وهو يجيد ذلك ليظهر بمظهر الاعلامي الفذ الذي يبحث عن الحقيقة كل الحقيقة دون تحيّز ..الا ان حقيقة ذلك الفيصل اكدت للعاقل منّا انه لم يكن يوما لا فيصلا يفصل بين الحق والباطل… ولا قاسما يقسم حرفته الاعلامية بعدل على ضيوفه…

**يوم كان الشعانبي شعانبي وقبل ان يتحول الى زريبة ذئاب تقوم بانشطة رياضية لازالة الكوليستيرول..، حسب رواية بعضهم وربي يفتقهم من بعضهم على بعضهم..، واذا بها تزرع كل الاورام في جسد تونس او هكذا توهموا ..ولم يعرفوا يوما ان تونس عصيّة عليهم وعلى جنرالاتهم الذين لهم خارطة طريق واضحة انتقاميّة ومخرّبة، عملت ومازالت تعمل في الخفاء .. قطّع الله اوصالهم!

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 97

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

من ضمن ما تعلمته في دراستي بالمعهد الوطني للعلوم السمعية البصرية بباريس، قاعدة اعتبرتها ذهبية في الانتاج السمعي البصري الا وهي نجاح اي برنامج يعتمد اساسا وبدرجة 80 بالـ 100 على الاعداد الجيّد… نعم والاعتناء بتفاصيل التفاصيل… وهذا ما حرصت عليه منذ وجدت نفسي امام المصدح فما بالكم ببرنامج يمتدّ على مساحة زمنية بـ24 ساعة دون توقف…

عبد الكريم قطاطة

اذن وجب الاعداد الجيّد شكلا ومحتوى لهذا البرنامج… لذلك حرصت قبل تنفيذ البرنامج على تكوين فرق للاعداد معي لهذا الغرض: فريق خصصته لآراء المستمعين بمدينة صفاقس وضواحيها حول مسيرة اذاعة صفاقس ومدى تجاوب المتلقّي معها طيلة 35 سنة… فريق آخر كلّفته بآراء المستمعين الشباب الذين لم يواكبوا الاذاعة الا في سنواتها العشر الاخيرة وخاصة نقاط ضعف الاذاعة التي علينا تلافيها ونقاط قوتها التي وجب تعزيزها… وكلا العملين كان ضمن ريبورتاجات … فريقان اثنان يواكبان السهرة مباشرة مع مستمعينا خارج ولاية صفاقس بداية من الساعة العاشرة صباحا ليوم 7 ديسمبر، حيث ينطلق الفريق الاول في رحلة ماراثونية من بنزرت حتى صفاقس طيلة البرنامج، ليلتقي بعديد المستمعين في منازلهم وفي مدن مختلفة وليفسح لهم المجال للتعبير عن آرائهم سلبا او ايجابا حول ما تقدمه اذاعة صفاقس من برامج…

وفريق ثان يقوم بنفس المهمة انطلاقا من بن قردان الى صفاقس… على ان يكون وصول أفراده الى صفاقس وبالتحديد الى مقرّ الاذاعة يوم 8 ديسمبر على الساعة الثامنة صباحا… حيث يكون اللقاء مع هذين الفريقين مباشرة من الاستوديو للتعبير عن رحلتهما كيف كانتا، وعن انطباعاتهما حول كلّ ما عاشاه في تلك الرحلة… لم انس كذلك مستمعينا عبر الهاتف حيث خصصت طيلة السهرة نصيبا من الوقت لمداخلاتهم… ودعوت صديقي وزميلي عبدالجليل بن عبد الله لمشاركتي في التنشيط الذي حرصنا فيه معا على اضفاء روح الدعابة فيه… وتداول على الكونسولات العديد من التقنيين الذين هبوا وبكل طواعية لياخذ كل واحد منهم نصيبه من الحدث… وقبل 24 ساعة من انطلاق البرنامج كان دليل البرنامج مُعدّا بكل تفاصيل البرنامج وبتوقيت المداخلات وبكلّ اغانيه…

ودليل البرنامج عندي من الاشياء المقدسة رغم انّ ظاهره عمل عسكريّ قاس لانّه مفصّل بالدقائق والثواني وهو ما يعتبره البعض عملا شاقا ثم هو لا يفسح المجال للارتجال… وحجة هؤلاء في مفصل الارتجال انهم يعتبرونه هامشا هاما من الحرية لا استغناء عنه… بينما ارى الارتجال في تقديري هروبا من مسؤولية تنظيم العمل بدقّة اي هو تعلّة كاذبة… لانّ العمل المنظم لا يتعارض مع الارتجال ان لزم الامر… امّا ان يدخل المنتج الى الاستوديو دون اعداد جيد تاركا الحبل على الغارب للفنّي الذي يتولّى اختيار وتمرير الاغاني التي تروق له، فذلك عندي (تخلويض وكسل)… اذ كيف لمنتج ومنشط لا يقوم هو باختيار اغانيه التي تتلاءم والمواضيع المقترحة في برنامجه ؟؟ وفي رواية اخرى نعم للحرية والارتجال اذا كان ذلك يخدم مصلحة المنتوج ولا للعبث والتهاون..

عندما قدمت دليل البرنامج للسيد عبدالقادر عقير للاطلاع عليه وامضائه.. اندهش من دقة التفاصيل وللامانة امضى عليه دون ايّ اطلاع… واضاف مرّة اخرى: (يخخي انا نعرف خير منك؟)… اخذت دليل البرنامج بعد ان امضاه واغتنمت الفرصة لتذكيره بالجائزة… تلفزة من الحجم الصغير… طمأنني بالقول (صاحبك راجل)… اتفقنا وتمنى لي النجاح والتوفيق… ارتأيت ان تكون الجائزة لافضل مداخلة في البرنامج سواء كان ذلك من الريبورتاجات المسجلة او من مستمعينا في مداخلاتهم من خطّي بنزرت وبن قردان او من مستمعينا عبر الخطوط الهاتفية واعلنت عن ذلك منذ بداية البرنامج …

وانطلق قطار البرنامج كما هو محدّد له يوم 7 ديسمبر 1996 على الساعة التاسعة صباحا لينتهي يوم 8 ديسمبر 1996 على الساعة التاسعة صباحا… واقسم بالله انّ دليل البرنامج وقع تنفيذه بنسبة 99 في الـ100 دون ايّ خطأ او خلل .. اذن لماذا 99 في الـ 100 ؟ اين ذهب الواحد في الـ100 ؟؟ على الساعة الخامسة صباحا من يوم 8 ديسمبر فوجئنا جميعا بالسيّد عبدالقادر عقير يحلّ بيننا بالاستوديو… كان في قمّة السعادة والفرح… هنّأني وهنّأ الجميع بنجاح التجربة وطلب منّي دون ازعاج ان يقول كلمة ليعبّر فيها عن شكره وامتنانه لفريق البرنامج على نجاح المهمّة… لبّيت طلبه ولمدّة لم تتجاوز الثلاث دقائق اردفت كلمته باغنية من الاغاني الاحتياطية التي ابرمجها في كل انتاج اقدّمه لمثل هذه المفاجآت…

عنصران اخيران اختم بهما هذه الورقة الخاصة بالحدث… عيد ميلاد اذاعة صفاقس الخامس والثلاثين: العنصر الاوّل مآل جائزة البرنامج … للامانة كنت مركّزا جدّا على تدخلات المستمعين في الريبورتاجات المسجّلة وفي خطّي بنزرت وبن قردان مع اهالينا هنالك وفي المكالمات الهاتفية… وللامانة ايضا، عديد المداخلات كانت متميّزة جدا من هنا وهناك…و كان عليّ ان اجتهد وان اكون عادلا في اختياري للفائز… ثمّ هلّت مكالمة هاتفية وبالتحديد من مساكن ومن مستمعة اذاعة صفاقس السيّدة فاطمة بيّة والتي يعرفها الجميع باسم امّ غسّان… وهل يُعقل ان لا تكون (فطّوم) كما يحلو لي تسميتها غير حاضرة في مثل هذه المواعيد ؟؟ فطّوم هي بنت اذاعة صفاقس بل هي صنيعة اذاعة صفاقس…

فطوم وهذا يعرفه جلّ الناس نشأت من رحم اذاعة صفاقس… القدر جعل من اذاعة صفاقس لها المدرسة التي لم تدخل قبلها ايّة مدرسة… نعم وبإرادتها وعزمها نحتت الصخر… صخر الجهل والظلام… وخرجت الى نور العلم وهي تخطّ اوّل حروف الابجديّة لتكتب اوّل رسالة في حياتها الى (سِيدها) كما يحلو لها ان تسميني دائما… وكان لزاما عليّ وهو من واجباتي مهنيا وانسانيا ان آخذ بيدها وان اعينها على كسر حواجز كهف الجهل… وبفضل ارادتها وعزيمتها وبشيء قليل من تشجيعي تعلّمَت وشقّت طريقها لمزيد المعرفة والنور… واقسم لكم باصدق الايمان انّ فطوم حاليا تكتب شكلا ومحتوى افضل من الكثيرين الذين يحملون شهائد عليا وهي التي لم تدخل المدرسة يوما… هنيئا لي ولنا جميعا بك…

ليلتها تدخلت فطوم كعادتها عبر الهاتف لتدلي بدلوها في البرنامج الحدث وفي مدرستها اذاعة صفاقس… ولولا حرصي الشديد على تمكين كلّ المستمعين من نفس الحجم الزمني في مداخلاتهم لما توقفت شهرزاد الفطومية عن الكلام المباح حتى الصباح… في نهاية المكالمة دغدغني صوت وليدها انذاك مهران… وما اجمل دغدغة صوت الاطفال… في تلك اللحظة قفز لذهني من هو صاحب افضل تدخل ولمن ستؤول الجائزة… ستكون لمهران ولا لغيره لاني اعتبرت تدخله افضل تدخل من حيث الصدق والبراءة… هكذا اجتهدت… هكذا قررت… وهكذا اعلنت عن حصول مهران على الجائزة في نهاية البرنامج… وهكذا تسلمت فطوم وزوجها ومهران الجائزة في احتفال خاص بالحدث جانفي 1997 …

خاتمة البرنامج كان ايضا مسرحا للقرار… نعم قرار فاجأ الجميع… لم اعلنه لاحد قبل يوم 8 ديسمبر 1996 … لا احد على الاطلاق … حتى عائلتي التي كانت حاضرة بالفضاء الخاص بالتقني صباح 8 ديسمبر فوجئت به… قلت امام المصدح وللجميع: (هذا اخر عيد ميلاد اقدم فيه برنامجا خاصا بالحدث)… وتحول الفرح بالنسبة للبعض إلى دموع … فوجئوا جدا بقراري… فكيف لمنشط مثلي في (طمبك) نجاحه ونجاح الحصص الخاصة باعياد ميلاد اذاعة صفاقس التي قدمتها، أن يعلن الانسحاب ؟؟ خاصة وهم يدركون جيّدا انّي عنيد في قراراتي وندُر جدا ان تراجعت فيها.. وها انا اجيب عن (لماذا كان ذلك القرار)…

انا وبعد انتاج هذا البرنامج الحدث محليا ووطنيا وعربيا وعالميا اكون حلّقت في اعلى درجات السُلّم انتاجا… اذن على الانسان ان يعرف موعد مغادرة السُلّم… ثمّ ما ذنب ذلك الكمّ الهائل من الشباب الذي ينتظر فرصته ليتسلّم المشعل؟… اليس من واجبي ان اتنحّى لاتيح الفرصة لهم ؟؟… وتاكدت من واقعيّة قراري خاصة بعد ان دُعيت للعودة للمصدح بعد جانفي 2011 … نعم دُعيت للعودة ولم اجر وراءها… وساعود لذلك الزمن الارعن في ورقات قادمة… عندما لبيت دعوة الواجب وعدت لمصدح اذاعة صفاقس قال بعضهم (تي يخخي هالسيد يحب ياخذ زمانو وزمان غيرو ؟؟ تي يمشي يشدّ دارو ويشدّ سبحة خيرلو) … سامحهم الله …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم ..الورقة 96

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

توضيح: العمر يجري .. وها انا احاول السباق مع الزمن حتى اختم هذه السلسلة والتي في تقديري ستكون قفلتها سنة 2022* … أرجو من الله ان يمدّ لي في العمر حتى اختتمها …

عبد الكريم قطاطة

الورقة 96 ستكون خاصة بما عشته وعاصرته في اذاعة صفاقس في اواخر سنة 1996 … تلك السنة عشت فيها حدثين اولهما تعيين السيد عبدالقادر عقير مديرا لاذاعة صفاقس خلفا للسيد النوري العفاس رحمهما الله… والحدث الثاني هو الاحتفال بعيد ميلاد اذاعة صفاقس الخامس والثلاثين وذلك نظرا الى خصوصيات ذلك الحدث… دعوني اوضّح فيما تعلّق وسيتعلّق بايّ زميل غادرنا، لن اسمح لنفسي بذكر بعض التفاصيل عنهم احتراما لـ(اذكروا موتاكم بخير)… لكن وللتوثيق وهي القاعدة الاساسية في الورقات هنالك احداث لابدّ من ذكرها ولو بشيء من الاقتضاب…

عندما عُين الزميل عبدالقادر عقير مديرا لاذاعة صفاقس كان الامر غير منتظر بالمرّة… اذ انّ تعيين مدير لاذاعة صفاقس غير منتسب للجهة أمر يحدث لاوّل مرّة… وفهمت بعدها انّ ماكينة عبدالوهاب عبد الله اصيل المنستير وامبراطور الاعلام انذاك بدات تشتغل… فعيّنت العديد من اصيلي اما المنستير او الساحل في عديد المراكز الاعلامية الحساسة… والزميل عبدالقادر عقير مسيرته الاعلامية كانت متواضعة جدا ..اذ هو عمل باذاعة المنستير كمنتج ومنشط لمدّة قصيرة للغاية ..وبعدها دخل سلك المعتمدين حيث اشتغل كمعتمد بقرقنة ثم بعقارب… دون ذلك وقبل ذلك اشتغل كمعلّم في المدارس الابتدائية في تونس وفي ليبيا كواحد من المتعاونين انذاك…

يوم تعيينه وبعد انتهاء المراسم الرسمية فوجئت بحاجب الادارة يبحث عنّي ليقول لي (سي عبدالقادر يحب عليك) فاستجبت لدعوته … وكلّ ما اتذكره عن سي عبدالقادر انه يوما ما كان هنالك برنامج مشترك بين اذاعتي صفاقس والمنستير كنت انا امام مصدح اذاعة صفاقس وكان هو امام مصدح اذاعة المنستير… وقبل بداية البرنامج بنصف ساعة هاتفني ليقول لي انّ تجربته متواضعة في التنشيط ورجاني ان امدّ له اليد ووعدته بذلك… وتعدّى البرنامج لاباس… دون ذلك لم يكن لديّ عنه ايّة فكرة لا سلبا ولا ايجابا … وتلبية لدعوته وجدتني بمكتبه كمدير .. كان استقباله لي على غاية من الحرارة والصدق… هنأته بمنصبه وتمنيت له النجاح … ودون مقدمات قال لي: (انا لا اعرف ايّ احد في اذاعة صفاقس باستثنائك… اريدك ان تقف معي فهل اعوّل عليك ؟)… اجبته دون تردّد وبكلّ شفافية وصدق: (يشرّفني ذلك متى عملت من اجل مصلحة اذاعة صفاقس… ولكن سأكون اوّل من يقف ضدّك ان عملت من اجل مصلحتك وعلى حساب مصلحة اذاعتي)… واضفت (هذا هو انا ولك الاختيار)… فاجاب دون تردّد او حتى لحظة تفكير: (وانا اخترتك انت بالذات لاني عرفتك من خلال مسيرتك وكلّي ثقة في آرائك ومواقفك ولن تجد منّي الّا ما يرضيك ويرضي المجموعة…

ولم تدم جلستنا طويلا حيث دعاني للخروج معه في نزهة على سيارته وليته ما فعل… مدير جديد يهزّ عبدالكريم معاه في كرهبتو نصف ساعة بعد مراسم التعيين ؟؟؟ والف لسان يتساءل: (تي من اوّل نهار عبدالكريم كلالو عقلو ؟؟)… وهذا كالعادة لا يعجب الملأ … ساعود في ورقات قادمة لما فعله هذا الملأ والذي انتصر في معارك عديدة ولكنه خسر الحرب… هذا الملأ حوّل علاقتي بالزميل عبدالقادر عقير من علاقة ودّ وانسجام لما فيه خير للدار واهل الدار (والله شاهد على ما اقول)… الى علاقة حرب بدأت خفية واصبحت مع مرور الوقت معلنة بيني وبينه وانتهت باقالته من منصبه وبتعويضه بالسيد رمضان العليمي… وستأتي اهم التفاصيل كما اسلفت في ورقة قادمة. ..

الحدث الثاني الذي عشته سنة 96 كان عيد ميلاد اذاعة صفاقس الخامس والثلاثين… مما عودت عليه المستمع اني طيلة السنوات التي انتجت فيها حصصا خاصة بعيد ميلاد اذاعتي كنت دائما ابحث عن بصمة خاصة لكلّ عيد ميلاد… وعندما بدات في التفكير في عيد الميلاد الخامس والثلاثين ومنذ بداية شهر سبتمبر 96 كان هاجسي ان يكون البرنامج مختلفا تماما شكلا ومضمونا عن كلّ ما سبق محليا ووطنيا وعربيا ولم لا عالميا… ولم تطل مدّة التفكير والبحث طويلا… نعم قلت في نفسي لم لا يكون البرنامج على امتداد 24 ساعة تنشيطا دون انقطاع… وامتلأت بهذه الفكرة صدقا بكثير من النرجسية ايضا ..اذ انّي سانجز ما لم يقع انجازه على الاطلاق ..شكلا وحجما … ثمّ اعتكفت لمدة اسبوع ابحث عن محتوى لهذا البرنامج اذ لا يكفي ان يكون الشكل مبهرا فذلك يذهب مع او نسمة رياح… المحتوى يجب ان يكون مقنعا ومدروسا بعناية وبفريق كامل يؤمن معك بالمشروع… واخترت مكوّنات هذا الفريق وكنت واضحا مع الجميع ..من يقبل بالمشاركة عليه ان يقبل بالعمل تطوّعا كاهداء لاذاعتنا في عيد ميلادها الخامس والثلاثين… وللامانة قبل الجميع بالفكرة وبكلّ سعادة…

وبدات اعقد اجتماعات دورية مع الفريق بعضها في صفاقس واخرى في تونس مع البعض الذي كان يزاول دراسته الجامعية هنالك… ومع نهاية شهر اكتوبر اصبح كل شيء جاهزا وحتى دليل البرنامج جاهزا بالدقيقة والثانية… وانا المعروف عني اني لا اترك للحظ او للصدفة او لايّ عائق ان يقف ضدّ اعدادي لتفاصيل التفاصيل… وعندما عرضت المشروع جاهزا للسيد عبدالقادر عقير كان في قمة السعادة والرضاء ..كيف لا واذاعة صفاقس وفي عهد ولايته عليها ستحقق رقما قياسيا عالميا ..وكيف لا والمشروع لن يكلّف حزينة الاذاعة ايّ مليم باعتبار تطوّع كامل الفريق… وعندها اغتنمت الفرصة لاقترح عليه ان تخصص اذاعة صفاقس جائزة في حجم الحدث… ودون ايّ تردد اجابني: (الغالي طلب على الرخيص؟)… قلت له جهاز تلفزة من حجم صغير … ضحك بقهقهة سي عبدالقادر وقال لي: (جهاز تلفزة ضربة وحدة يا خويا عبدالكريم ؟؟) قلت له نعم ..وتأتي على قدر الكرام المكارم… مدّ يده لي بحرارة وقال: اطمان ستكون الجائزة كما اردت… وللامانة لم يطلب منّي السيّد عبدالقادر عقير ايّ شيء عن تفاصيل البرنامج بل اضاف: (عندي فيك ثقة عمياء، هو انا نعرف خير منّك ؟) حييته واجبت: لن اخذلك…

وجاء يوم 7 ديسمبر 1996 وجاءت الساعة التاسعة صباحا وانطلق قطار البرنامج الذي لم يتوقف الا على الساعة التاسعة صباحا ليوم 8 ديسمبر 1996 … يااااااااااه وعلى طريقة سعيد صالح، المسافة طوييييلة قوي … ولكنها ممتعة للغاية عشتها وعاشها الفريق بكل سعادة وجدية وعاشها معنا المستمع من بنزرت لبن قردان كذلك بكثير من الذكريات… اذن دعوني استرح لاعود اليكم في الورقة 97 بعديد تفاصيلها اعذادا وتنفيذا…

ـ يتبع ـ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*ونحن الآن في نهاية 2024 وما زال النيل يجري والورقات تتوالى وتتوالد… حفظك الله مبدعنا الدائم (التحرير)

أكمل القراءة

جور نار

أسعار تنخفض ومواد تعود إلى السوق… ولكن أين الإعلام؟

نشرت

في

محمد الزمزاري:

لماذا يتردد الإعلام الوطني في الإشارة إلى تراجع الغلاء الذي شهدته الأسواق ومنها خاصة الأسبوعية؟ بالإضافة إلى كل ذلك نلاحظ صمتا مطبقا عن بداية توفير المواد المعروضة بنسبة كبيرة (مثل الكسكسي وخاصة الفارينة والسميد وبقية أصناف العجين الغذائي) فيما مواد اخرى في طريقها إلى العودة مجددا مثل القهوة والسكر بصفة تدريجية كما ان بعض المساحات التجارية والدكاكين تعرض القهوة والسكر رغم بعض التهافت …

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari

إن النقص في مادة القهوة قد شجع بارونات هذه المادة والمساحات التجارية على عرض النوعيات الباهظة الثمن فوق طاقة المواطن لتحرير بيعها في غياب عرض القهوة المعتادة المطلوبة… كما تم تسجيل انخفاض نسبي في أسعار جل الخضروات وشهدت الأسواق أيضا أسعارا معقولة في البرتقال بأنواعه والتمور بصورة اقل كما لاحظ المستهلكون عرض كميات وافرة من الموز بصنفين بين اسعار تصل إلى 7 دنانير للكيلو للصنف الكبير و 5 دنانير للصنف الاقل…

وعلى مستوى بيع زيت الزيتون يبدو أن الأسعار شهدت انخفاضا بسيطا لا يشجع المستهلك على اقتناء كميات هامة للعولة التقليدية… ذلك ان القوارير سعة لتر واحد من المعروضة بالمغازات الكبرى، حافظت على سعرها (15د) ولم تعرف اقبالا كبيرا من المستهلكين أملا في تنزيل مفترض لسعر اللتر… خاصة أن رئيس الجمهورية قد أكد اول امس على ضرورة تمكين المواطنين من اقتناء الزيت بأسعار معقولة، تتماشى مع الطاقة الشرائية… فهل سينزل السعر إلى 10 او 12 د؟ هذا ما سنراه قريبا لانه سيكون في النهاية لمصلحة الفلاح والمستهلك معا…

من ناحية أخرى هناك مؤشرات على اعتزام شركة الكهرباء والغاز إجراء تخفيض مشروط على الفواتير الاقل استهلاكا للطاقة (اقل من 300 كيلوواط في الشهر) مما يعطي سعرا إجماليا منخفضا نسبيا نهاية الشهرين لمن استهلاكهم اقل من 600 ك.و… ويعد ذلك طريقة ذكية قد تأتي بنتائج محفزة وجهود عامة للتحكم في استهلاك الكهرباء والغاز…

ونتمنى أن يقع تطبيق هذا القرار دون أية تعطيلات محلية او جهوية او مركزية باعتبار بناء على تركيز منظومة متطابقة مع هذا الهدف.

أكمل القراءة

صن نار