يكاد زمام الأزمة الأوكرانية المتفاقمة يفلت عن أي قيد. من تصعيد إلى آخر في ميادين القتال والسياسة والاقتصاد يجد العالم نفسه مشدودا إلى مواضع النار، كأنه طرف مباشر فيها.
<strong>عبد الله السنّاوي<strong>
نفي “الطابع العالمي” للأزمة تجهيل بها من حيث هي صراع مفتوح على مستقبل النظام الدولي، أو اختبار ميداني لموازين القوى المستجدة، أو التي قد تستجد، في عالم متغير. هناك عالم قديم يغرب لكنه لا يريد أن يخلي مواقعه، وعالم جديد يولد دون أن تتضح معالمه. في الهوة بين القديم والجديد تتبدى فوضى دولية ضاربة. لا نحن في حرب باردة جديدة؛ حيث تغيب أية قواعد اشتباك كالتي حكمت العالم أغلب سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية. ولا الحرب النووية قدر مكتوب، فإذا ما انزلقت إليها السياسات بحماقات القوة فإنها كلمة النهاية للحضارة الإنسانية كلها، ولا أي شيء بعدها.
كان مستلفتا تراجع الكرملين عن التلويح بالخيار النووي بعبارات أقرب إلى التنصل مما تورط فيه عندما بدأت قواته تتراجع بفداحة في ميادين المواجهة العسكرية. التلويح بدا تعبيرا عن نوع من اليأس والتراجع عكس بدرجة أخرى نوعا من الثقة في ترميم الأوضاع الميدانية وكسب الحرب بالنقاط في نهاية المطاف. المعضلة الحقيقية أن أحدا من أطراف المواجهة العسكرية في أوكرانيا ليس بوارد أن يراجع مواقفه أو أن يتراجع عن مطالبه، كأن ما هو مطروح عليه “الخيار شمشون” أن يكسب كل شيء، أو أن يهدم المعبد فوق رأس الجميع! نحن أمام معادلات مضطربة في عالم فوضوي لا تحترم فيه أية قوانين دولية، ويفتقر بفداحة إلى أية قواعد أو أصول تضبط صراعاته ونزاعاته. في مشهد دولي متناقض أدانت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية (143) صوتا ما أطلق عليها “الاستفتاءات غير القانونية والصورية”، التي ضمت بمقتضاها أربع مناطق أوكرانية للاتحاد الروسي فيما كان رجله القوي فلاديمير بوتين، يشارك بفاعلية في قمة “آستانا” الآسيوية.
الإدانة الأممية تنطوي نظريا على عزلة روسية دبلوماسية مفترضة، فيما المشاركة بالقمة الآسيوية تعكس واقعيا حضورا فاعلا في المعادلات الدولية. لا كل الذين صوتوا ضد موسكو يناهضونها ويطلبون عزلتها، ولا كل الذين امتنعوا عن التصويت محايدون ــ الصين والهند كمثالين! جرت إدانة روسيا استنادا إلى القوانين الدولية، التي تجرم ضم أراضي دولة أخرى بقوة السلاح، أو باستفتاءات مشكوك في نزاهتها، فيما لا تحظى نفس هذه القوانين لأي اعتبار فى حالات أخرى مماثلة، كضم الدولة العبرية لهضبة الجولان السورية المحتلة. ازدواجية المعايير إحدى مناطق الخلل في بنية النظام الدولي المتهالك، الذي تغيب عنه أية قدرة على استبيان الحقائق، فكل شيء يخضع للمصالح المتغيرة، أو لمنطق القوة القاهرة. شيء من ذلك حدث فى التفجيرات التى نالت من خطى أنابيب الغاز “نورد ستريم1″ و”نورد ستريم2”. الأطراف المتنازعة أجمعت على وصفها بـ”العمل الإرهابي”.
كل طرف حمَّل الآخر مسؤوليته دون أن تتبدى أدنى فرصة لإجراء تحقيق مستقل وشفاف. بحكم المصالح الاقتصادية المباشرة لا تصب التفجيرات في صالح روسيا ولا في صالح أوروبا. بعض الفرضيات الرئيسية ذهبت إلى أن الولايات المتحدة ربما تكون تورطت فيها لقطع أية صلة استراتيجية اقتصادية مستقبلية بين روسيا وألمانيا دون أن تضع في اعتبارها أزمة الغاز المستحكمة التي تنذر بشتاء أوروبي قارس، خاصة في ألمانيا وفرنسا. هذا العمل التخريبي لا تقدر عليه سوى دولة كبرى ــ حسب تقدير الشرطة الألمانية. كل شيء محتمل ووارد في مثل هذا النوع من الحروب بغض النظر عن القوانين الدولية، حتى لو تضررت البيئة فى بحر البلطيق واهتز الأمن في دول أوروبية عديدة وتفاقمت أزمة الغاز في أوروبا كلها. ثم كانت المفارقة الكبرى في الفوضى الدولية الراهنة أن الولايات المتحدة، التي تحوطها شبهات قوية في تفجيرات أنابيب الغاز، أبدت معارضة بالغة العصبية للقرار، الذي أصدرته بالإجماع دول “أوبك بلوس” بتخفيض إنتاج النفط مليوني برميل يوميا، متواعدة بإنزال العقوبات وفق تشريع أمريكي مقترح بالدول التي أصدرته.
بتوصيف الرئيس الأمريكي جو بايدن فإنه: “قرار قصير النظر يصب فى صالح روسيا”. كان ذلك التوصيف توظيفا سياسيا لأزمة الطاقة في الانتخابات النصفية لمجلسى الكونغرس الشهر المقبل. أراد أن يقول للجمهور الأمريكي إنه حريص على ألا تؤثر الأزمة على ضرورات حياته ومستويات معيشته وأنه معنيّ باتخاذ كل ما يلزم من إجراءات عقابية ضد حلفاء مفترضين دفاعا عن مصالحه. إنها الانتخابات النصفية التي يخشى أن يخسرها الحزب الديمقراطى قبل روسيا والحرب الأوكرانية! لم يكن بايدن مستعدا أن يتفهم أسباب تخفيض إنتاج النفط بالإجماع، إنه الاقتصاد أولا وأخيرا. ولا كان مستعدا أن يحمل بلاده أدنى مسؤولية في التربّح من ارتفاع أسعار الغاز في الدول الأوروبية الحليفة بذريعة أن “أوبك بلوس” تعبير عن مصالح دول فيما شركات الغاز الأمريكية ليست له ولاية عليها بحكم أن ملكيتها خاصة. كانت تلك حجة مستهلكة، فالسياسات الأمريكية تعمل طوال الوقت على خدمة كبريات شركاتها بما في ذلك التدخل العسكري المباشر والإطاحة بحكومات ونظم، كما حدث بانقلاب تشيلي واغتيال الرئيس سلفادور اللينيدي سبعينيات يالقرن الماضى.
في أحوال الفوضى الدولية الراهنة لم يكن ممكنا أيضا إجراء أي تحقيق في مسؤولية انفجار جسر القرم. أوكرانيا اعترفت بمسؤوليتها قبل أن تتراجع وتنسب الحادث “الإرهابى” إلى صراعات الأجهزة الأمنية في موسكو. جرى احتفاء غربى واسع بما جرى فوق الجسر وإدانة رد الفعل الروسي العنيف بقصف البنية العسكرية والمدنية في العاصمة كييف. انتهكت المعايير مرة أخرى دون أي اعتبار ــ كما هي العادة ــ للقوانين الدولية. ارتفعت مجددا دون مقتضى أحاديث الخيار النووى بلغة تحذير من الجانب الغربي هذه المرة أن تقدم عليه موسكو، فالعواقب سوف تكون وخيمة. إنه التصعيد ثم التصعيد ثم المزيد من التصعيد دون أن يكون هناك أي مؤشر في الأفق المنظور لوقف “الخيار شمشون”.
في زمن تتكاثر فيه الأقلام المتطفّلة على النقد الفني، وتختبئ وراء قناع “المحبة الصامتة” لتبثّ سمًّا باردًا في جسد الإبداع، يطلّ علينا مقالٌ “غير ودّي” عن حفل السيّدة ماجدة الرومي في “أعياد بيروت”، لا يحمل من الحسّ النقدي سوى مفردات طبية سطحية ومصطلحات صوتية غير واضحة أو مبررة ومبتورة السياق.
إن الحديث عن انتقال الصوت من طبقة الـ”Soprano Lyric” إلى “Mezzo-Soprano” أو حتى إلى “Alto” هو كلام صحيح علميًا من حيث التدرج الطبيعي لأي صوت بشري، لكنه يصبح مضللاً عندمايُطرح كأداة للطعن، لا كظاهرة بيولوجية طبيعية يعرفها كل دارس حقيقي لفسيولوجيا الصوت. فحتى مغنّيات الأوبرا العالميات ينتقلن تدريجيًا في طبقاتهن مع التقدم بالعمر، دون أن يُعتبر ذلك سقوطًا فنّيًا، بل نضجًا صوتيًا وإعادة تموضع ذكي للريپرتوار.
أما مصطلح “Tremolo” الذي استخدمته الكاتبة، (وليتها شرحت لنا نحن البسطاء اللي فهماتنا على قدنا معنى المصطلح الذي زودها به أحد المطرودين من حياة الماجدة) وهي استخدمته على عماها فأساءت فهمه على ما يبدو. فالـTremolo ليس عيبًا صوتيًا بالضرورة، بل أسلوب تعبير ديناميكي مقصود في الأداء، يُستخدم في الموسيقى الكلاسيكية والشرقية، ويُضفي بعدًا دراميًا على الجملة الغنائية، لا سيما في الأعمال العاطفية أو الإنسانية. لكنه يتحوّل إلى “اهتزاز غير إرادي” فقط في حالات مرضية مُثبتة طبيًا، وهو أمر لا ينطبق على الماجدة ولم تثبته أي جهة موثوقة في حالة السيدة ماجدة، بل استنتجته الكاتبة بإذن نقدية هاوية غير مؤهلة سريريًا أو أكاديميًا.وربما بأذن مستعارة ، من شخص ما !!
إن وصف الكورال بـ”العكّاز الصوتي” يعبّر عن جهل صارخ بوظيفة الكورال في الموسيقى الكلاسيكية والحديثة وكل الأغاني على حد سواء. الكورال ليس ترميمًا لعيوب، بل جزء أساسي من البنية الهارمونية، يعمل كدعامة جمالية وتعبيرية، سواء في موسيقى “باخ” أو أغاني فيروز أو إنتاجات اليوم الحديثة. حتى أم كلثوم ختمت حياتها الفنية بأغنية فيها كورال ومسجلة في الستوديو، وهي أغنية “حكم علينا الهوى”، فهل غرام بليغ حمدي بإضافة الكورال على أغلب ألحانه كان “عكازاً” لوردة وعبد الحليم وكل من لحّن لهم؟ استخدام الكورال لا يعني ضعفًا بل انسجامًا مع شكل موسيقي راقٍ يسمّى “الهارموني الكورالي”.
أما التلميح إلى أن السيدة ماجدة الرومي “تصارع للبقاء”، فذاك تعبير درامي هابط يتنافى مع اللياقات كما مع حقيقة ما رأيناه وسمعناه: فنانة قديرة تتحكّم بمسرحها، تدير الفرقة بوعي موسيقي عالٍ، تؤدّي بجملةٍ صوتية مدروسة تحترم مساحة صوتها الحالية، وتوظّف إمكانياتها التقنية بإحساس رفيع دون أن تفرّط بكرامتها الفنّية. ذلك يسمّى في لغة الموسيقى “interpretative maturity” أي النضج التعبيري، وليس انهيارًا كما يحاول البعض التسويق له بلغة “فيسبوكية” مستهلكة.
وأخيرًا، المقارنة بين ماجدة وصباح وفيروز مضلّلة وغير دقيقة. فكل صوت حالة مستقلّة، وكل مدرسة غنائية تُقاس بمعايير مختلفة. وإن كانت فيروز قد اختارت الابتعاد، في مرحلة ما بعد السبعين ،فذاك قرار شخصي لا يُفرض كنموذج على الأخريات. لأن أم كلثوم ظلّت تغني حتى العقد الثامن من عمرها، وهي راعت كما هو معروف طبقاتها الصوتية منذ بلغت الستين من عمرها. وهذا ما ما فات كاتبة المقال ذكره.
نحن لا نصفّق من دون وعي، بل نُصغي بفهم. وما سمعناه من ماجدة في “أعياد بيروت” كان صوتًا لا يزال يُغنّي بروح تُحسن استخدام تقنيات الـVibrato Controlled، وتعرف متى تُمسك بالجملة ومتى تُسلمها للمرافقة الموسيقية، دون أن تفقد شخصيتها الأدائية.
السكوت الذي دعا إليه كاتب المقال باسم “المحبّة”، هو صمت الجاهلين. أما المحبّة الحقيقية، فهي أن نعرف الفرق بين الهبوط الصوتي، وبين إعادة توزيع القدرات وتكييف الأداء بما يليق بمقام الفنّ النبيل…
كان مثيرا ولافتا أن طرفي الحرب الإيرانية الإسرائيلية التي امتدت لـ(12) يوما، يعتبر نفسه منتصرا.
فور وقف إطلاق النار خرج الإيرانيون إلى شوارع وميادين طهران يحتفلون بالنصر، يرددون الهتافات، ويتعهدون بمواصلة القتال في جولات أخرى.
بذات التوقيت، سادت التغطيات الإعلامية والسياسية الإسرائيلية نزعة انتصارية إجماعية.
ألقى رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” كلمة أطلق عليها “خطاب النصر”.
من الذي انتصر حقا؟!
أسوأ إجابة ممكنة إصدار الأحكام بالأهواء، وتنحية الحقائق جانبا.
إنها جولة في صراع طويل وممتد، تليها جولات أخرى بعد وقت أو آخر.
القضية الفلسطينية جوهر ذلك الصراع.
لم تكن من أعمال المصادفات عودة الزخم مرة أخرى إلى ميادين القتال في غزة فور وقف إطلاق النار على الجبهة الإيرانية.
“حان وقت التركيز على غزة لإنهاء حكم حماس واستعادة الرهائن”.
كان ذلك تصريحا كاشفا للحقائق، أطلقه رئيس الأركان الإسرائيلي “إيال زامير” في ذروة دعايات النصر.
إنهما حرب واحدة.
هكذا بكل وضوح.
أكدت المقاومة الفلسطينية المعنى نفسه في عملية مركبة بخان يونس، أوقعت أعدادا كبيرة من القتلى والمصابين، وأثارت الفزع في صفوف الجيش الإسرائيلي.
لا يمكن إنكار مدى الضرر الفادح، الذي لحق بالمشروع النووي الإيراني، جراء استهدافه بغارات إسرائيلية وأمريكية مكثفة ومتتالية.
هذه حقيقة.. لكنه يستحيل تماما أي زعم إنها قوضته، أو أن أمره انقضى.
لم يتمالك الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، الذي انخرط بصورة مباشرة وغير مباشرة في الحرب على إيران، أعصابه فأخذ يكيل الشتائم المقزعة لمحطة “سي. إن. إن”، على خلفية تشكيكها في روايته.
“إنها حثالة”!
لم يكن لديه دليل قطعي أن العملية الأمريكية، التي استهدفت ثلاث منشآت نووية، “أصفهان” و”ناطنز” و”فوردو” الحصينة في أعماق الجبال، حققت أهدافها.
حسب تسريبات عديدة فإن السلطات الإيرانية نجحت في نقل اليورانيوم المخصب وأجهزة الطرد المركزية من تلك المنشآت قبل قصفها بقاذفات (B2) إلى أماكن أخرى آمنة.
التسريبات شبه مؤكدة بالنظر إلى عدم حدوث تسرب إشعاعي، أو تلوث بيئي إثر تلك الضربات، التي استخدمت فيها قنابل عملاقة لأول مرة.
يصعب التسليم بـ”الإنجازات” الإسرائيلية في ضرب المشروع النووي الإيراني دون فحص وتأكيد.
بقدر آخر فإنها لم تحقق نجاحا يذكر في تقويض المشروع الصاروخي الباليستي، الذي أثبت قوته التدميرية ودرجة تقدمه، التي ألزمت الإسرائيليين البقاء في الملاجئ لفترات طويلة.
قبل وقف إطلاق النار مباشرة بدت الضربة الصاروخية في بئر السبع، تأكيدا أخيرا على درجة عالية من الفشل الإسرائيلي في إضعاف القدرات الإيرانية.
ثم تبدى الفشل فادحا في طلب إثارة الفوضى بأنحاء البلاد، تفضي تداعياتها إلى الإطاحة بنظام الحكم.
بحقائق الجغرافيا والتاريخ والحضارة، إيران ليست دولة صغيرة أو عابرة.
إنها مع مصر وتركيا الركائز الكبرى في حسابات الإقليم، مهما جرى لها، أو طرأ عليها من متغيرات سياسية.
بقوة إرثها التاريخي تحركت الوطنية الإيرانية لرفض الاستسلام بلا شروط لـ”السلام عبر القوة” حسب تعبير “ترامب”.
تحت الخطر الوجودي توحدت إرادتها العامة، بغض النظر عن أية تحفظات على نظام الحكم.
كان المواطن الإيراني البطل الأول في التصدي لتغول القوة الأمريكية والإسرائيلية.
أبدى الإيرانيون قدرة لافتة على الإحلال في مراكز القيادة والسيطرة تحت أسوأ الظروف، بعدما نال العدوان من قيادات عسكرية وعلمية ذات وزن ثقيل في الضربة الافتتاحية.
في حرب الـ(12) يوما تبدى شيء من التعادل الاستراتيجي، الطرفان المتحاربان تبادلا الضربات الموجعة.
فرضت السلطات الإسرائيلية تكتما مشددا على حجم الأضرار التي لحقت ببنيتها التحتية والعسكرية؛ جراء الضربات الإيرانية، حتى لا يفضي النشر إلى زعزعة ثقة مواطنيها في قدرة جيشهم على المواجهة.
فاقت الخسائر الباهظة أية طاقة على الإفصاح، لا عرفنا عدد القتلى والمصابين، ولا ما هي بالضبط المواقع الاستراتيجية، التي استهدفت، ومدى الضرر الذي لحقها.
المعلومات المدققة من متطلبات إصدار الأحكام.
بصورة عامة تقارب الحقيقة فإننا أمام حالة “لا نصر ولا هزيمة”، غير أن إسرائيل يمكن أن توظف مجريات الحرب لإثارة اليأس من كسب أي معركة ولو بالنقاط.
بدا المشهد الختامي ملغما بالتساؤلات الحرجة.
وجه الإيرانيون ضربة رمزية لقاعدة “العديد” الأمريكية، لتأكيد حقهم في الرد على العمل العسكري الأمريكي داخل أراضيهم ضد ثلاث منشآت نووية.
أُبلِغت مسبقا السلطات القطرية باستهداف القاعدة القريبة من العاصمة الدوحة خشية ردات فعل سلبية.
نُقِلت إلى الأمريكيين فحوى الرسالة الإيرانية.
كان ذلك عملا احترازيا، حتى لا تفلت الحسابات، في وقت توشك فيه الحرب على الانتهاء.
وصفت الضربة الإيرانية بـ”التمثيلية”.
الأقرب للحقيقة، إنه سوء تقدير فادح، لم يكن له لزوم، أو ضرورة، أربك البيئة العربية العامة المتعاطفة مع إيران، كما لم يحدث من قبل.
أثارت الضربة الرمزية شكوكا وظلالا لا داعي لها.
بقوة الحقائق كانت الحرب على وشك أن تنتهي.
الخارجية الإيرانية تشترط وقف الهجوم الإسرائيلي قبل العودة إلى المفاوضات مرة أخرى.
والحكومة الإسرائيلية تطلب وقفا فوريا لإطلاق النار، تحت ضغط الترويع، الذي ضرب مواطنيها، إذا ما وافقت طهران.
الجانبان المتحاربان يطلبان لأسباب مختلفة وقف إطلاق نار.
هكذا توافرت أمام “ترامب” فرصة للتخلص من عبء الحرب على شعبيته.
لم تكن إسرائيل مستعدة لأي اعتراف، بأنها لم تحقق أهدافها من الحرب، لكن الحقائق وحدها تتكلم.
أعصاب المرأة قوية في أمور عديدة، لكن الموقف الذي يجمد الدم في عروق معظم الرجال ولا يجسرون على تصوره هو عملية الشراء …
لا أعتقد أن عنترة بن شداد الذي صارع الأسُود في الوديان المقفرة بيده العارية، كان يجسر على القيام بهذا النشاط الأنثوي المعتاد: الدخول إلى محل لمشاهدة كل شيء واستعراض كل شيء والسؤال عن كل شيء، بينما هو لا ينوي الشراء وجيبه خاو تماماً. رأيت الكثيرات يفعلن هذا العمل البطولي، بينما أعترف لك بأنني اشتريت أشياء كثيرة جدًا في حياتي لمجرد أنني خجلت من البائع.
يحكي أنيس منصور في كتاب (200 يوم حول العالم) أنه كان في سنغافورة يستمتع بمشاهدة التنسيق البديع في محل للخضراوات والفاكهة، هنا اقتنصه بائع .. ووجد أنيس نفسه يغادر المحل وهو يحمل ثياباً داخلية باعها له الرجل دون أن يطلبها منه، ولا يعرف سبب وجودها في محل للفاكهة!
كلما تقدمت السيدة في السن ازدادت ثبات أعصاب ولم تعد تشعر بالحرج على الإطلاق. عرفت سيدة من هذا الطراز تذهب لشراء شيء .. تعرف أن ثمنه مائة جنيه … أقول لها وأنا أهرع خارجاً من باب المتجر:
“ـ “انتهى الأمر .. هيا بنا ..فمهما خفضت السعر سيظل عالياً ..
لكنها تقف في ثبات وتنظر إليّ منذرة كي أصمت .. هذه معركتها وقد احتشد الأدرينالين في دمها حتى ليوشك على أن يسيل من أنفها.
تقول للبائع في ثبات:
ـ “عشرون جنيهاً!”
أُوشِكُ على الفرار لكنها تطبق على معصمي بقوة: اِنتظر ولا تكن رعديداً…
البائع يضحك في سخرية ويقسم بقبر أمه أن ثمن هذا الشيء 85 جنيهاً… مكسبه خمسة جنيهات لا أكثر … لكنها تبدو مصممة، وفي النهاية تقترح ثلاثين جنيهاً. ..
يدور الفصال المرهق الذي يستمر ساعات عدة… البائع يقسم بقبر أمه ألف مرة… صحيح أن السيدة المسنة الجالسة هناك هي أمه، لكنك تقبل هذا باعتباره من آليات التسويق..
في النهاية تظفر السيدة التي أرافقها بسعر لا يوصف… أربعون جنيهاً … لكنها غير راضية .. تشعر بحسرة لأن هذا يعني أنه كان بوسعها أن تصل لسعر أقل ..
أربعون جنيهاً … هذا نصر مؤزر ..
تخرج من حقيبتها عشرين جنيهاً وتؤكد:
ـ “ليس معي سوى هذه .. يمكنك أن تعوضها في المرة القادمة ..”
لكن البائع يكون قد بلغ درجة البله المغولي .. لا يعرف ما يقول ولا ما يشعر به. يريد الخلاص منها بأي ثمن لذا يوافق .. هنا تناوله المال وتطلب منه:
ـ “سأقترض منك خمسة جنيهات لأنك لم تترك لي نقوداً أعود بها لداري”
أمد يدي لجيبي لكنها تباغتني بنظرة مرعبة .. لا تفسد كل شيء علي .. يا لك من غبي ..
يناولها البائع خمسة جنيهات وهو زائغ العينين لا يعرف ما يدور من حوله، فلو طلبت منه مفاتيح بيته أو رقم حسابه في المصرف لأعطاها بكل سرور .. الحياة بالنسبة له تنقسم إلى ما قبل لقاء هذه السيدة وهو مرحلة سعيدة، وما بعد لقائها وهو جحيم ..
في النهاية نغادر المتجر حاملين الشيء الذي كان سعره مائة جنيه فصار خمسة عشر .. تقول لي في حسرة:
ـ”ربما لو بذلت مجهوداً أكبر لصار بعشرة جنيهات”
ـ “لو بذلت مجهوداً أكبر لأعطانا البائع مالاً أو أهدانا المتجر كله ليتخلص منا”
ـ “لا أحب أن يخدعني أحد”
ولأنها لا تحب أن يخدعها أحد فهي تحطم أعصاب الباعة وعقولهم في كل مكان. كما قلت لك تملك النساء أعصاباً أقوى من الرجال بكثير، ولا يمكن أن نحلم أن نكون مثلهن تحت أية ظروف..