منذ حوالي خمس وعشرين عاما، كانت أنجيلا ابنة شهور، كنت اسوق سيارتي وهي في كرسيها الخاص على المقعد الخلفي. الطقس حريق، والسيارة قديمة والمكيف مفلّس.تعطّلت بي وأنا أعبر مدينة تعتبر الأخطر في كاليفورنيا، سكانها من العرق الأسود، وعندما تأخذ بعين الاعتبار أن أعلى نسبة من الجرائم يرتكبها السود في أمريكا، لا شك أن امرأة سترتجف خوفا عندما تقع فريسة سهلة في مدينتهم.
<strong>وفاء سلطان<strong>
لم تهتز عندي شعرة!
حملت طفلتي واقتربت من تلفون عمومي، ورحت أفتش غن بعض القطع المعدنية من حقيبتي.
نقصني ” دايم” أي قطعة بقيمة عشرة سنتات لأدفع ثمن مكالمة لزوجي.بدا الحل مستحيلا، فالشارع خال من الانس والجان، وكأن حظرا “لمنع التجول” قد طُبق بشدة، ولم يلح في الافق القريب أو البعيد أي محل تجاري.تمسكت بالأمل، وطفا على سطح وعيي يقين من أن مساعدة كونية في طريقها.لم يمكث هذا اليقين طويلا حتى تحول إلى واقع. إذ لمحت رجلا مشردا (هومليس) يخرج بثيابه الرثة من أحد الأزقة وهو يعرج، خرج مادا كفه المليء بالقطع المعدنية وراح يمشي باتجاهي.حييته بلطف، وقلت: هل تقايضني ورقة دولار بقطعة “دايم”؟
فرد: خذي ما تشائين واحتفظي بدولارك!
قلت: ولكنك تبدو محتاجا!
قال: لو أخذت الدولار سأبدو وكأنني بعتك دايم بدولار، وهذا ليس سلوكا جيدا!
مازالت فلسفة هذا الرجل الشحاذ حتى تاريخ تلك اللحظة تدغدغ مشاعري وتبرهن لي أن الكون خيّر ودوما ينثر خيره.
…………
بعد تلك الحادثة بزمن قصير كنا في طريق جبلي إلى مكان ما….انفلقت عجلة السيارة، فاضطررنا للوقوف على منعطف خطير.
لم يعثر زوجي في الصندوق الخلفي على العجلة البديل، كان قد تأكد من سلامتها قبل أن نغادر البيت ونسى أن يعيدها إلى مكانها في السيارة.فاحترنا ماذا نفعل وتسمرنا في مقاعدنا قلقين على سلامة الأطفال.لم تمض دقائق إلا وسائق كبس على فرامله وترجل صائحا: هل تريدون مساعدة؟
شرحنا له الموقف،فركبنا معه وعدنا إلى البيت، وظل مرافقا لزوجي حتى عاد بالعجلة إلى السيارة وقام بتركيبها!
…………
مرة وفي طريقي إلى البنك تذكرت أنه لا يفتح قبل التاسعة صباحا، فعرجت على ماركت واشتريت بعض الحاجات.قررت أن أعيدها إلى البيت قبل أن أذهب إلى البنك خوفا على الحليب واللحوم. رحت لأنبش عن مفتاح البيت من الحقيبة فلم أعثر عليها في السيارة.
جن جنوني، وعدت إلى الماركت بسرعة تزيد عشرين ميلا في الساعة عن السرعة المسموح بها، فخسارة الحقيبة بمحتوياتها ستكون صاعقة.
دخلت الماركت واقتربت من المحاسبة، ثم قلت وأنا أرتجف: هل رأيت حقيبة سوداء؟؟؟ ارتبكت قليلا ثم قالت: اشكري هذين الزوجين اللذين أعاداها إليّ بعد أن عثرا عليها داخل عربة التسويق في المرآب!
كانا يقفا أمامها.فقال الزوج غاضبا: فتحت الحقيبة علني اعثر على هوية أو رقم هاتف، ولما لمحت ما بداخلها تكهربت وفضلت أن أتركها مع البائعة لتتصرف فيها، وتابع: هل أنت مجنونة لتحميلي معك هذا الكم من المال؟؟
قلت: صدقني كنت في طريقي إلى البنك!
ويبقى السؤال: لو لم يصادف الامر أنني وصلت في اللحظة التي همّ بها هذان الزوجان ـ وهما في الثمانين من العمر ـ بمغادرة المغازة، من يضمن لي أن تعترف هذه الشابة التي لم تتجاوز العشرين من عمرها بالحقيبة؟ فهي مازالت غضة، وقد تكون أكثر حاجة إلى المال وأقل حكمة وتعقلا من أن تعيدها!
…………
منذ حوالي اسبوعين اتفقت مع شخص ما على أن نلتقي في مرآب أحد البنوك لتوقيع وثيقة ما من البنك.وصلت قبله وأعلمته أنني أنتظر في سيارتي ذات الموديل كذا واللون كذا.تأخر قليلا فأسندت رأسي على المقود وكأنني أغط في نوم عميق.أعادتني إلى انتباهي طرقات خفيفة على الشباك،فتحت النافذة وإذا بامرأة تقول: هل أنت بخير؟ أم تحتاجين لمساعدة؟قلت: شكرا على اهتمامك، أنتظر أحدا هنا!
…………
هذا الصباح وبعد تغيّب دام عدة أيام عن مقهاي المفضل بسبب انشغالي، فاجأني مدير المقهى وإحدى العاملات وهما يغنيان لي Happy Birthdayويحملان لي قطعة من الكيك! تذكروا عيد ميلادي لأن أولادي وفي العام الماضي احتفلوا لي به في ذلك المقهى كيف تشعر لو أن غريبا تذكر عيد ميلادك بعد مضي عام من معرفته بتاريخه، ثم جاء ليبارك لك به؟؟؟ألا تشعر بأنك موصول به كونيا؟!!
…………
تلك هي حياتي، كانت ولم تزل وستبقى تواصلا كونيا،وانفتاحا لكل ماهو خيّر وجميل….ليس هذا وحسب، بل امتنانا لأصغر ذرة خير أتلقاها من الكون، ولكل جميل فيه!
في أقسى اللحظات وأشدها حرجا لا يغادرني ذلك اليقين من أن مساعدة كونية في طريقها إليّ وبسرعة الضوء…أعدّل دائما جهاز الارسال والاستقبال الكامن في خفايا روحي ليتناغم مع الجهازالكوني للاستقبال والارسال،
فلا يفوتني دفق منه أيا كان حجم ذلك الدفق، والكون لا يتدفق إلا يسرا وثراء
…………
نعم أنا ثرية وميسورة ليس بسبب حجم حسابي البنكي، الذي ـ وفي حقيقة الأمرـ بالكاد يسد الفواتير ومتطلبات الحياة في أمريكا، وما أكثرها!!
بل أنا ثرية وميسورة لأنني موصولة بالحساب البنكي للكون،وهذا الحساب يعطيك حسب حاجتك وحسب درجة تناغمك معه وانفتاحك عليه، والأهم من ذلك بكثير: يعطيك حسب درجة قبولك لأن تكون معبرا ـ وليس حاجزا ـ لكل دفق يصلك منه
…………
يقول العالم الروحاني الهندوسي المتصوف :
Vivekananda A man may have never entered a temple, nor performed any ceremony; but if herealize God within himself, and is thereby lifted above the vanities of the world, that manis holy man, a saint, call him what you will(
لو أن انسانا ما، لم يدخل في حياته معبدا ولم يمارس طقسا دينيّا، ولكنه استطاع أن يتعرف على الله الذي في عمقه، ومن ثمّ ارتقت به هذه المعرفة فوق غرور العالم،هذا الإنسان هو المقدس….هو قديس…..هو أي لقب جميل سوف تمنحه اياه!
…………
أما أنا فأقول: ما يتبقى من جمال روحك بعد أن تغادر معبدك وتترك وراءك طقوسك هو الجزء الكوني ـ أو الالوهي
ـ الذي يسكنك، وكل ما مثلّته داخل المعبد هو غرور العالم!
في زمن تتكاثر فيه الأقلام المتطفّلة على النقد الفني، وتختبئ وراء قناع “المحبة الصامتة” لتبثّ سمًّا باردًا في جسد الإبداع، يطلّ علينا مقالٌ “غير ودّي” عن حفل السيّدة ماجدة الرومي في “أعياد بيروت”، لا يحمل من الحسّ النقدي سوى مفردات طبية سطحية ومصطلحات صوتية غير واضحة أو مبررة ومبتورة السياق.
إن الحديث عن انتقال الصوت من طبقة الـ”Soprano Lyric” إلى “Mezzo-Soprano” أو حتى إلى “Alto” هو كلام صحيح علميًا من حيث التدرج الطبيعي لأي صوت بشري، لكنه يصبح مضللاً عندمايُطرح كأداة للطعن، لا كظاهرة بيولوجية طبيعية يعرفها كل دارس حقيقي لفسيولوجيا الصوت. فحتى مغنّيات الأوبرا العالميات ينتقلن تدريجيًا في طبقاتهن مع التقدم بالعمر، دون أن يُعتبر ذلك سقوطًا فنّيًا، بل نضجًا صوتيًا وإعادة تموضع ذكي للريپرتوار.
أما مصطلح “Tremolo” الذي استخدمته الكاتبة، (وليتها شرحت لنا نحن البسطاء اللي فهماتنا على قدنا معنى المصطلح الذي زودها به أحد المطرودين من حياة الماجدة) وهي استخدمته على عماها فأساءت فهمه على ما يبدو. فالـTremolo ليس عيبًا صوتيًا بالضرورة، بل أسلوب تعبير ديناميكي مقصود في الأداء، يُستخدم في الموسيقى الكلاسيكية والشرقية، ويُضفي بعدًا دراميًا على الجملة الغنائية، لا سيما في الأعمال العاطفية أو الإنسانية. لكنه يتحوّل إلى “اهتزاز غير إرادي” فقط في حالات مرضية مُثبتة طبيًا، وهو أمر لا ينطبق على الماجدة ولم تثبته أي جهة موثوقة في حالة السيدة ماجدة، بل استنتجته الكاتبة بإذن نقدية هاوية غير مؤهلة سريريًا أو أكاديميًا.وربما بأذن مستعارة ، من شخص ما !!
إن وصف الكورال بـ”العكّاز الصوتي” يعبّر عن جهل صارخ بوظيفة الكورال في الموسيقى الكلاسيكية والحديثة وكل الأغاني على حد سواء. الكورال ليس ترميمًا لعيوب، بل جزء أساسي من البنية الهارمونية، يعمل كدعامة جمالية وتعبيرية، سواء في موسيقى “باخ” أو أغاني فيروز أو إنتاجات اليوم الحديثة. حتى أم كلثوم ختمت حياتها الفنية بأغنية فيها كورال ومسجلة في الستوديو، وهي أغنية “حكم علينا الهوى”، فهل غرام بليغ حمدي بإضافة الكورال على أغلب ألحانه كان “عكازاً” لوردة وعبد الحليم وكل من لحّن لهم؟ استخدام الكورال لا يعني ضعفًا بل انسجامًا مع شكل موسيقي راقٍ يسمّى “الهارموني الكورالي”.
أما التلميح إلى أن السيدة ماجدة الرومي “تصارع للبقاء”، فذاك تعبير درامي هابط يتنافى مع اللياقات كما مع حقيقة ما رأيناه وسمعناه: فنانة قديرة تتحكّم بمسرحها، تدير الفرقة بوعي موسيقي عالٍ، تؤدّي بجملةٍ صوتية مدروسة تحترم مساحة صوتها الحالية، وتوظّف إمكانياتها التقنية بإحساس رفيع دون أن تفرّط بكرامتها الفنّية. ذلك يسمّى في لغة الموسيقى “interpretative maturity” أي النضج التعبيري، وليس انهيارًا كما يحاول البعض التسويق له بلغة “فيسبوكية” مستهلكة.
وأخيرًا، المقارنة بين ماجدة وصباح وفيروز مضلّلة وغير دقيقة. فكل صوت حالة مستقلّة، وكل مدرسة غنائية تُقاس بمعايير مختلفة. وإن كانت فيروز قد اختارت الابتعاد، في مرحلة ما بعد السبعين ،فذاك قرار شخصي لا يُفرض كنموذج على الأخريات. لأن أم كلثوم ظلّت تغني حتى العقد الثامن من عمرها، وهي راعت كما هو معروف طبقاتها الصوتية منذ بلغت الستين من عمرها. وهذا ما ما فات كاتبة المقال ذكره.
نحن لا نصفّق من دون وعي، بل نُصغي بفهم. وما سمعناه من ماجدة في “أعياد بيروت” كان صوتًا لا يزال يُغنّي بروح تُحسن استخدام تقنيات الـVibrato Controlled، وتعرف متى تُمسك بالجملة ومتى تُسلمها للمرافقة الموسيقية، دون أن تفقد شخصيتها الأدائية.
السكوت الذي دعا إليه كاتب المقال باسم “المحبّة”، هو صمت الجاهلين. أما المحبّة الحقيقية، فهي أن نعرف الفرق بين الهبوط الصوتي، وبين إعادة توزيع القدرات وتكييف الأداء بما يليق بمقام الفنّ النبيل…
كان مثيرا ولافتا أن طرفي الحرب الإيرانية الإسرائيلية التي امتدت لـ(12) يوما، يعتبر نفسه منتصرا.
فور وقف إطلاق النار خرج الإيرانيون إلى شوارع وميادين طهران يحتفلون بالنصر، يرددون الهتافات، ويتعهدون بمواصلة القتال في جولات أخرى.
بذات التوقيت، سادت التغطيات الإعلامية والسياسية الإسرائيلية نزعة انتصارية إجماعية.
ألقى رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” كلمة أطلق عليها “خطاب النصر”.
من الذي انتصر حقا؟!
أسوأ إجابة ممكنة إصدار الأحكام بالأهواء، وتنحية الحقائق جانبا.
إنها جولة في صراع طويل وممتد، تليها جولات أخرى بعد وقت أو آخر.
القضية الفلسطينية جوهر ذلك الصراع.
لم تكن من أعمال المصادفات عودة الزخم مرة أخرى إلى ميادين القتال في غزة فور وقف إطلاق النار على الجبهة الإيرانية.
“حان وقت التركيز على غزة لإنهاء حكم حماس واستعادة الرهائن”.
كان ذلك تصريحا كاشفا للحقائق، أطلقه رئيس الأركان الإسرائيلي “إيال زامير” في ذروة دعايات النصر.
إنهما حرب واحدة.
هكذا بكل وضوح.
أكدت المقاومة الفلسطينية المعنى نفسه في عملية مركبة بخان يونس، أوقعت أعدادا كبيرة من القتلى والمصابين، وأثارت الفزع في صفوف الجيش الإسرائيلي.
لا يمكن إنكار مدى الضرر الفادح، الذي لحق بالمشروع النووي الإيراني، جراء استهدافه بغارات إسرائيلية وأمريكية مكثفة ومتتالية.
هذه حقيقة.. لكنه يستحيل تماما أي زعم إنها قوضته، أو أن أمره انقضى.
لم يتمالك الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، الذي انخرط بصورة مباشرة وغير مباشرة في الحرب على إيران، أعصابه فأخذ يكيل الشتائم المقزعة لمحطة “سي. إن. إن”، على خلفية تشكيكها في روايته.
“إنها حثالة”!
لم يكن لديه دليل قطعي أن العملية الأمريكية، التي استهدفت ثلاث منشآت نووية، “أصفهان” و”ناطنز” و”فوردو” الحصينة في أعماق الجبال، حققت أهدافها.
حسب تسريبات عديدة فإن السلطات الإيرانية نجحت في نقل اليورانيوم المخصب وأجهزة الطرد المركزية من تلك المنشآت قبل قصفها بقاذفات (B2) إلى أماكن أخرى آمنة.
التسريبات شبه مؤكدة بالنظر إلى عدم حدوث تسرب إشعاعي، أو تلوث بيئي إثر تلك الضربات، التي استخدمت فيها قنابل عملاقة لأول مرة.
يصعب التسليم بـ”الإنجازات” الإسرائيلية في ضرب المشروع النووي الإيراني دون فحص وتأكيد.
بقدر آخر فإنها لم تحقق نجاحا يذكر في تقويض المشروع الصاروخي الباليستي، الذي أثبت قوته التدميرية ودرجة تقدمه، التي ألزمت الإسرائيليين البقاء في الملاجئ لفترات طويلة.
قبل وقف إطلاق النار مباشرة بدت الضربة الصاروخية في بئر السبع، تأكيدا أخيرا على درجة عالية من الفشل الإسرائيلي في إضعاف القدرات الإيرانية.
ثم تبدى الفشل فادحا في طلب إثارة الفوضى بأنحاء البلاد، تفضي تداعياتها إلى الإطاحة بنظام الحكم.
بحقائق الجغرافيا والتاريخ والحضارة، إيران ليست دولة صغيرة أو عابرة.
إنها مع مصر وتركيا الركائز الكبرى في حسابات الإقليم، مهما جرى لها، أو طرأ عليها من متغيرات سياسية.
بقوة إرثها التاريخي تحركت الوطنية الإيرانية لرفض الاستسلام بلا شروط لـ”السلام عبر القوة” حسب تعبير “ترامب”.
تحت الخطر الوجودي توحدت إرادتها العامة، بغض النظر عن أية تحفظات على نظام الحكم.
كان المواطن الإيراني البطل الأول في التصدي لتغول القوة الأمريكية والإسرائيلية.
أبدى الإيرانيون قدرة لافتة على الإحلال في مراكز القيادة والسيطرة تحت أسوأ الظروف، بعدما نال العدوان من قيادات عسكرية وعلمية ذات وزن ثقيل في الضربة الافتتاحية.
في حرب الـ(12) يوما تبدى شيء من التعادل الاستراتيجي، الطرفان المتحاربان تبادلا الضربات الموجعة.
فرضت السلطات الإسرائيلية تكتما مشددا على حجم الأضرار التي لحقت ببنيتها التحتية والعسكرية؛ جراء الضربات الإيرانية، حتى لا يفضي النشر إلى زعزعة ثقة مواطنيها في قدرة جيشهم على المواجهة.
فاقت الخسائر الباهظة أية طاقة على الإفصاح، لا عرفنا عدد القتلى والمصابين، ولا ما هي بالضبط المواقع الاستراتيجية، التي استهدفت، ومدى الضرر الذي لحقها.
المعلومات المدققة من متطلبات إصدار الأحكام.
بصورة عامة تقارب الحقيقة فإننا أمام حالة “لا نصر ولا هزيمة”، غير أن إسرائيل يمكن أن توظف مجريات الحرب لإثارة اليأس من كسب أي معركة ولو بالنقاط.
بدا المشهد الختامي ملغما بالتساؤلات الحرجة.
وجه الإيرانيون ضربة رمزية لقاعدة “العديد” الأمريكية، لتأكيد حقهم في الرد على العمل العسكري الأمريكي داخل أراضيهم ضد ثلاث منشآت نووية.
أُبلِغت مسبقا السلطات القطرية باستهداف القاعدة القريبة من العاصمة الدوحة خشية ردات فعل سلبية.
نُقِلت إلى الأمريكيين فحوى الرسالة الإيرانية.
كان ذلك عملا احترازيا، حتى لا تفلت الحسابات، في وقت توشك فيه الحرب على الانتهاء.
وصفت الضربة الإيرانية بـ”التمثيلية”.
الأقرب للحقيقة، إنه سوء تقدير فادح، لم يكن له لزوم، أو ضرورة، أربك البيئة العربية العامة المتعاطفة مع إيران، كما لم يحدث من قبل.
أثارت الضربة الرمزية شكوكا وظلالا لا داعي لها.
بقوة الحقائق كانت الحرب على وشك أن تنتهي.
الخارجية الإيرانية تشترط وقف الهجوم الإسرائيلي قبل العودة إلى المفاوضات مرة أخرى.
والحكومة الإسرائيلية تطلب وقفا فوريا لإطلاق النار، تحت ضغط الترويع، الذي ضرب مواطنيها، إذا ما وافقت طهران.
الجانبان المتحاربان يطلبان لأسباب مختلفة وقف إطلاق نار.
هكذا توافرت أمام “ترامب” فرصة للتخلص من عبء الحرب على شعبيته.
لم تكن إسرائيل مستعدة لأي اعتراف، بأنها لم تحقق أهدافها من الحرب، لكن الحقائق وحدها تتكلم.
أعصاب المرأة قوية في أمور عديدة، لكن الموقف الذي يجمد الدم في عروق معظم الرجال ولا يجسرون على تصوره هو عملية الشراء …
لا أعتقد أن عنترة بن شداد الذي صارع الأسُود في الوديان المقفرة بيده العارية، كان يجسر على القيام بهذا النشاط الأنثوي المعتاد: الدخول إلى محل لمشاهدة كل شيء واستعراض كل شيء والسؤال عن كل شيء، بينما هو لا ينوي الشراء وجيبه خاو تماماً. رأيت الكثيرات يفعلن هذا العمل البطولي، بينما أعترف لك بأنني اشتريت أشياء كثيرة جدًا في حياتي لمجرد أنني خجلت من البائع.
يحكي أنيس منصور في كتاب (200 يوم حول العالم) أنه كان في سنغافورة يستمتع بمشاهدة التنسيق البديع في محل للخضراوات والفاكهة، هنا اقتنصه بائع .. ووجد أنيس نفسه يغادر المحل وهو يحمل ثياباً داخلية باعها له الرجل دون أن يطلبها منه، ولا يعرف سبب وجودها في محل للفاكهة!
كلما تقدمت السيدة في السن ازدادت ثبات أعصاب ولم تعد تشعر بالحرج على الإطلاق. عرفت سيدة من هذا الطراز تذهب لشراء شيء .. تعرف أن ثمنه مائة جنيه … أقول لها وأنا أهرع خارجاً من باب المتجر:
“ـ “انتهى الأمر .. هيا بنا ..فمهما خفضت السعر سيظل عالياً ..
لكنها تقف في ثبات وتنظر إليّ منذرة كي أصمت .. هذه معركتها وقد احتشد الأدرينالين في دمها حتى ليوشك على أن يسيل من أنفها.
تقول للبائع في ثبات:
ـ “عشرون جنيهاً!”
أُوشِكُ على الفرار لكنها تطبق على معصمي بقوة: اِنتظر ولا تكن رعديداً…
البائع يضحك في سخرية ويقسم بقبر أمه أن ثمن هذا الشيء 85 جنيهاً… مكسبه خمسة جنيهات لا أكثر … لكنها تبدو مصممة، وفي النهاية تقترح ثلاثين جنيهاً. ..
يدور الفصال المرهق الذي يستمر ساعات عدة… البائع يقسم بقبر أمه ألف مرة… صحيح أن السيدة المسنة الجالسة هناك هي أمه، لكنك تقبل هذا باعتباره من آليات التسويق..
في النهاية تظفر السيدة التي أرافقها بسعر لا يوصف… أربعون جنيهاً … لكنها غير راضية .. تشعر بحسرة لأن هذا يعني أنه كان بوسعها أن تصل لسعر أقل ..
أربعون جنيهاً … هذا نصر مؤزر ..
تخرج من حقيبتها عشرين جنيهاً وتؤكد:
ـ “ليس معي سوى هذه .. يمكنك أن تعوضها في المرة القادمة ..”
لكن البائع يكون قد بلغ درجة البله المغولي .. لا يعرف ما يقول ولا ما يشعر به. يريد الخلاص منها بأي ثمن لذا يوافق .. هنا تناوله المال وتطلب منه:
ـ “سأقترض منك خمسة جنيهات لأنك لم تترك لي نقوداً أعود بها لداري”
أمد يدي لجيبي لكنها تباغتني بنظرة مرعبة .. لا تفسد كل شيء علي .. يا لك من غبي ..
يناولها البائع خمسة جنيهات وهو زائغ العينين لا يعرف ما يدور من حوله، فلو طلبت منه مفاتيح بيته أو رقم حسابه في المصرف لأعطاها بكل سرور .. الحياة بالنسبة له تنقسم إلى ما قبل لقاء هذه السيدة وهو مرحلة سعيدة، وما بعد لقائها وهو جحيم ..
في النهاية نغادر المتجر حاملين الشيء الذي كان سعره مائة جنيه فصار خمسة عشر .. تقول لي في حسرة:
ـ”ربما لو بذلت مجهوداً أكبر لصار بعشرة جنيهات”
ـ “لو بذلت مجهوداً أكبر لأعطانا البائع مالاً أو أهدانا المتجر كله ليتخلص منا”
ـ “لا أحب أن يخدعني أحد”
ولأنها لا تحب أن يخدعها أحد فهي تحطم أعصاب الباعة وعقولهم في كل مكان. كما قلت لك تملك النساء أعصاباً أقوى من الرجال بكثير، ولا يمكن أن نحلم أن نكون مثلهن تحت أية ظروف..