تابعنا على

بنات أفكار

صالح السيد: فتنة السرد و تشكيل الحكاية … في رواية “طعم النوم”

نشرت

في

تشتغل عتبة العنوان في رواية “طعم النوم” للروائي طارق إمام على مذاق حسي ينفتح على احتمالات متعارضة: بين الانقطاع الناعم عن العالم بغية الراحة و السكينة والطمانينة والسلام ،أو الانسلاخ القهري عنه رفضًا لقسوته وعنفه واضطهاده والرهبة من  سوء المصير .

<strong>د صالح السيد<strong>

وتتشكل المغامرة الجمالية للروائي من خلال ثنائية فنية: تعمد الأولى إلى التقابل/التعارض مع السرديات الكبرى مثل روايتي “الجميلات النائمات” لياسوناري كاواباتا و”ذاكرة عاهراتي الحزينات” لغارثيا ماركيز وكذلك حكايات شهزاد في  ألف ليلة وليلة ،أما الثانية فهى ترتبط بالبنية الداخلية من خلال التناسل الحكائي،تعدد الأصوات،تناسخ الشخصيات،ظهور المؤلف كشخصية”ثقافية” تبدي ملاحظات نقدية لمخالفة الروايتين السابقتين    

يتسع الزمن الروائي ليشمل عدة عقود تقع بين حدثين خطيرين :الهزيمة العسكرية عام 1967م وانتكاسة الثورة الشعبية المصرية وحلقاتها الأخيرة عام 2014م ، وهذان الحدثان يسبغان هذه الفترة بالقتامة واليأس وهو ما ينعكس على بناءالمكان و يبرز طبيعة الشخصيات حيث تعيش حالات من الغفلة والسُبات والاغتراب والرغبة في الهروب من العالم .

ينفتح الفضاء المكاني في الإسكندرية ليشمل أحياءً مثل: المعمورة،العجمي،الشاطبي،سموحة،البيطاش  بميادينها وشوارعها،وعمارتها،ومقابرها،لكن الأحداث الخطيرة إنما تقع في الأماكن المغلقة؛ المستشفى، المصنع،البيوت /المنازل ،الغرف/الحجرات .

 كما تتمتع الرواية بخارطة شخصيات نوعية تفرضها طبيعة المروي السردي، ويحتل كبار السن من الرجال “الصحفي جبريل،صاحب المصنع،زبائن بيوت المتعة” والعجائزُ من النساء “روزا الكبيرة ،روزا الصغيرة أم شهرزاد، الخادمة دميانة ” صدارة هذه الشخصيات التي تقف دائمًا على مبعدة  من ذواتها الحقيقية، إنها تركض خلف ماضيها، تعيش حالات الندم والأمل ،الحسرة والرجاء،وكأنها  قلب السر في تجسيد أزمة الموجود البشري .  

ويمثل المسنّون من الرجال فتنة المدينة أو يقعون في حبائلها ، ويتصارع على السيطرة عليهم أو النيل منهم ثلاث قوى تعمل الأولى على غوايتهم وتمنحم الفرصة الأخيرة لمزاولة فحولتهم الغاربة بينما تسعى الثانية إلى  قمعها والكيد لهم، أما الثالثة فهى تمارس عليهم فعل الإرهاب عبر اختطافهم والمتاجرة بهم .

على النقيض من وضع الشخصيات النسائية في روايتي “الجميلات النائمات”و”ذاكرة عاهراتي الحزينات ” يمنح الروائي طارق إمام بطلاته من النسوة (روزا الصغيرة “مدام شهرازاد”،الفتاة شهرزاد )  سلطات مركزية تتمثل في :الأولى : فعل السرد “الحكي ”  فيصبحان أشبه بممثل  يجسّد  حضوره  بوسائل لغوية ومواقف فكريّة ولكنه  في كلّ الحالات يؤدّي لعبة معقدّة؛ ظهور، اختفاء، تصريح ،تلميح .أما الثانية : فهي المشاركة في التأليف حيث يشاركان الصحفي جبريل في استكمال مخطوط روايته التي يكتبها .

وعلى صعيد آخر يخالف الروائي طقس الحكي”الحياة/النجاة” عند شهرازاد “ألف ليلة وليلة: ،إذ أن بطلته ” مدام شهرزاد”  تمارس الحكي، من خلال فعل القتل،حيث  تدفع ضحاياها إلى العالم الآخر.

صورة المدينة :

تقع المدينة ـ الإسكندرية ـ في أحداث الثورة المصرية فريسة لصراع السيطرة بين القوتين المركزيتين:التيارات الدينية المتطرفة والسلطة الحاكمة ، ويتساءل الراوي  في جزع عن مصير المدينة في ظل هذا الصراع :” أي القدمين ستنتصر في النهاية لتكمل المدينة حياتها بساق واحدة ؟!”

وتصطبغ المدينة بروح الصراع وتفقد  سكينتها ووداعتها وتتحول إلى رمز عدواني” شفرة/سلاح” تعمل ضد الأحياء من أبنائها لكي تمارس عليهم التشويه  كما تصف مدام شهراز جسد الصحفي جبريل :

” هذه المدينة مُدْية مُشهرة،يتسلل النور عبر نصلها كلصّ ويبدو لها في لحظة أنه يبدأ العمل في جسده، كأن ذلك النور هو ما يمنح تشوّهه معناه ويجعل من الرجل الممدود بأكمله محض جُرح “

وبرغم احتفاظ المدينة بوجودها المادي الراسخ،إلّا أنها تفقد حضورها المعنوي الباذخ الأصيل، إذ تتحول في عقول و وجدان أبنائها إلى  مجرد مَعْبَر أو جسر لمدن أخرى أو عوالم جديدة :

” الإسكندرية شارع طويل وضيق بين بحر ومقابر ينتهي كل منهما عند مدن أخرى، على الأرض أو في السماء، الفارق ليس كبيرًا. لذلك نشعر نحن أبناء المدينة أننا لا ننتمي إليها إلّا بقدر ما نشخص خلف حدودها”.

فضاءات الحكاية:

يتشكل ويتوزع السرد في الرواية على ثلاثة فضاءات :الأول وهو فضاء الحكاية المثالية كما ينبغي ان تُكتب ويمثله المؤلف الذي يتجسد كشخصية ثقافية تكتب مقالات في الصحف و تمارس رؤيتها الفنية على روايتي كاواباتا وماركيز .

الثاني: وهو المسار الحكائي داخل إطار واقعية الحكي حيث يشتعل في تربة الحكاية صراع جماعي تمارس النساء فعل الغواية/القتل على الرجال،كما يخلق التناقض في طبيعة الشخصيات على المستوى الثنائي والفردي فجوة من التوتر في نسيج الحكاية.

الثالث: وهو فانتازيا الرؤيا التي تمتح من الأسطورة والخرافة والحكايات الشعبية وهو يتقاطع ويتعارض  مع الفضاء الثاني ويعمل على تحطيم هيمنة العناصر وسياقتها ويتلاعب بالزمن والمكان والحدث والشخصية بحرية مفتوحة . 

فضاء الحكاية الواقعية:

تلعب الغواية السلطة المركزية في هذا الفضاء ، وهي سلطة متبادلة بين النساء والرجال ، ولكنها ذات طبيعة مختلفة بين الطرفين ، فبينما تمارس النساء غواية جسدية/ حسية، يمارس الرجال غواية معرفية /سردية

 1 – غواية المرأة:

“روزا الكبيرة” و”روزا الصغيرة”/ مدام شهرزاد ،كلتاهما تتاجر بالمسنين من الرجال، فأما الأولى فتمنحهم  الروّاء، فرصتهم الأخيرة للتعبير عن رجولتهم، من خلال المنزل الذي تقيمه لهم “منزل العجائز” بينما الثانية على النقيض تذيقهم مرارة العطش،لا يملكون سوى مشاهدة العذارى من الفتيات وهن نيام دون مساس، حيث تقيم لهم “منزل النائمات”، وكلتاهما تمارسان القتل في حال مخالفة أوامرهما . وهما تتحركان على مسرح الحكاية بإيقاع سردي نشط، في حين أن الرجال ومسرحهم “الغرفة” يتحركون بإيقاع سردي بطيء جدًا.  

 ثمثل روزا الكبيرة الجيل الأول في الرواية، تعاني من التمزق النفسي لغياب ابنها محاربًا في جبهة القتال، وهي تجسد مأساة الهزيمة في الستينيات، وتتخذ قرار الانتحار في لحظة إعلان الهزيمة وخطاب التنحي وقد حملت معها  صورة الزعيم والراديو وألقت بنفسها من سطح المنزل .

تحمل مدام شهرزاد راية الجيل الثاني – ربما تمثل جيل الانفتاح في السبعينيات-  وهي تمثل الإنسان الصورة الذي يحاول توحيد ذاته المشتتة في أكثر من أنا، وكأنها جماعة تتصارع معاً، تعيش حالة من الانتقام الدائم   تجمع بين النقيضين ممارسة مهنة الرعاية الطبية والإنسانية “كممرضة” و كذلك احتراف القتل، كما أنها  تحب ابنتها و في نفس الوقت تدفعها إلى عالم متعة الرجال .

 2 – غواية الرجل:

شهرزاد الفتاة التي لم تنم أبدًا في بيتها و على سريرها – ربما تمثل الجيل الضائع من شباب الثورة – تقتحم بيوت الغرباء لكي تجد حيزا تنام فيه “فور أن يُفتح الباب كنت أعب، متجاهلة ذهول صاحب الشقة، المتيبس على عتبته، أفتش الغرف حتى أعثر على سرير خال، وحتى لو لم يتوفر واحد، كنت أتكوم بهدوء إلى جوار نائم. في تلك اللحظة لا يعود بوسع أحد أن يوقظني” .  

تقع هذه الفتاة في حب الصحفي العجوز جبريل –  و هو يتردد على منزل النائمات الذي تسكنه – وقد بدأت كملهمة له في كتابة روايته التي يسخّر كل حياته ويحتشد من أجل إنجازها، لكنها في النهاية تقع في غرامه  و تلقى مصيرها المشئوم .    

فضاء الحكاية الفانتازيا:

 على النقيض من الفضاء الأول ، يتحرر هذا الفضاء من القيود المكانية أو الزمانية أو محدودية  وعقلانية الأفعال ويكتسب طابعًا عجائبيًا ، يمتح من الخرافة والأسطورة ، وينسحب ذلك على الأشياء والأماكن والشخصيات .

 1 – قالمقعد الخالي في ورشة المصنع يمثل الثقب الأسود حيث يختفي من يجلس عليه  : “كان هناك مقعدان خاليان متجاوران هممت أن أجلس على أحدهما لكن واحدة من الفتيات نبهتني مفزوعة: “لأ بلاش ده.. اقعدي على اللي جنبه”.. وأكملت وهي تهمس في أذني :”أصل اللي بتقعد ع الكرسي ده بتختفي “.

2 – ويسترد الكتاب سلطته المهدرة فتنتفي مشاعيته ويتكرس وجوده فيصبح هو من يتخير وينتقي الشخص الذي يمنحه شرف المعرفة : “إنه الكتاب الذي يختار قارئه،كان الرملي محبطًا لأن كل من اشتروه أعادوه، حيث رفض الكتابُ أن يقرأوه، كانت صفحاته ملتصقة و يلزم لفتحه سكين أو مسطرة ككتب هيئة الكتاب زمان، وإذا رَفض الكتاب القارئ سيعجز الأخير عن فض صفحاته الملتصقة، حصلت مدام شهزاد على نسخة وعادت للبيت، انفتحت صفحات الكتاب معها بيسر شديد  “.  

3 – يتحول صاحب المصنع إلى أسطورة الرجل الخارق الذي لا يموت: “تقدم منّا أخرج منديله الكبير وفرده في الهواء ليبدأ فقرة اليوم السحرية. سمعنا صوت طلقة نارية ستظل آذاننا بعدها تعاني الصمم أيامًا. رأينا الثقب العميق في جبهته مكان علامة الصلاة الداكنة وخيط الدم اللزج يسيل طوليًا بامتداد وجهه. بعدها نهض مبتسما بثقة السحرة دون أن يلتئم الثقب أو يتوقف خيط الدم عن التمدد اقترب من قاتلته وقال لها:طلّعي الرصاصة من شنطتك دي عُهدة وضحك لمزحته” .

خاتمة الرواية:

تأتي نهاية الرواية تعبيرًا عن الإدانة الكاملة لهذا العالم الواقعي  حيث يقضي الموت على الشخصيتين الرئيسيتين، وتتولى  شهرزاد المهمة بمفردها، فتقوم  بحقن السائل السام في وريد الصحفي جبريل و في ذراعها أيضًا: ” تدس الإبرة في وريده وتشعر براحة الاقتراب من الموت، كأن السائل السام يجري في عروقها هي، وتشهر ذراعها أيضًا وتستقبل جرعة أخيرة حقنة لروزا، لتعبر العتبة الهشة نحو العالم الذي لا عجائز فيه”.

ومع تلك الظلمة و سقوط الستار يلوح ضوء خافت مع ميلاد طفلة جديدة، حفيدة شهرزاد، ابنة الفتاة التي اشتهرت بلقب الفتاة  النائمة: “غير أن المولودة تقف على قدميها و دون أن تنظر إليهما تتحرك صوب باب الغرفة المفتوح وتغلقه خلفها، قبل أن يسمعا انغلاق بوابة المنزل الحديدية”.    

  فهل الأمل في الفانتازيا ، وهل البعث لا يتأتى إلّا من عالم الحلم ، أو قلب الفنان ، وربما إجابات أخرى تشرق من  شرفات الرواية وعلينا مداومة التبصر بأرواح صادقة .  

_______________________________________

الهوامش :

1 – إنشائية الخطاب في الراوية العربية الحديثة : دكتور محمد الباردي

2 – المغامرة الجمالية للفن القصصي : دكتور محمد صلبر عبيد

3- حول بعض قضايا نشأة الرواية : د. امينة رشيد ،مجلة فصول ،المجلد السادس 1986م 

4 – قص الحداثة  : د. نبيلة إبراهيم ، مجلة فصول المجلد السادس 1986م  

أكمل القراءة
تعليق واحد

تعليق واحد

    اترك تعليقا

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    بنات أفكار

    المعمار الشعري وفضاء الرؤيا… في ديوان “أحاديث الكباش”

    نشرت

    في

    100 لوحة عالمية منظر لمعبد الأقصر من النيل حضارة مصر فى مشهد واحد اليوم السابع

    الشعر هو فن التشكيل لنص العالم بجماليات اللغة، من خلال إبداعات القصائد التي تبحث في جوهر الوجود، وتُفصح عن كينونة الإنسان، حيث تستلهم في محبة صادقة روحه الصافية وأحلامه العذبة، وتنسج بمغزل من القلب المكلوم أوجاعة المضنية، وربما لم تعرف البشرية عبر العصور صورتها الحقيقية إلّا بفضل المبدعين من الشعراء .

    <strong>صالح السيد<strong>

     يتشيّدُ المعمارُ الشعري للنصوص في ديوان “أحاديث الكباش” للشاعر حسين القُباحي  من المشاهد القادمة من وحي الأمكنة والأزمنة والشخصيات والأساطير والحكايات بكل تجاربها وأشكالها و ظلالها، وصفاتها وتعددها وتباينها، من أجل افتتاح نافذة للرؤيا في اتصالها بالعالم تكشف عن غموضه وأسراره وتشكيلاته،

    كما  تفتح بوابات النصوص على نداء قادم من أقاصي الحلم يضاعف من طاقتها على الاستشراف وقراءة الآتي والغامض والماورائي.

    “لم يكن غيرُ ظلي

    وبقايا البيوتِ التي أرهقتْها الفتارين

    تذهلُ عما يدور

    بائعةُ الخبزِ لم تنتبه للرصيفِ

    حين تلاشى

    ولا العصافيرُ طارت حين أهالوا عليها التراب

    كيف رستْ مسلّةُ على كتفي

    وأنا أهرولُ

    دون أن أدري

    وكيف يطيرُ ظلي في الفضاء

    والقدمان خائفتان من نظرِ النوافذِ للطريق

    بينما  شمسُ المدينةِ ترتمي

    في حِجْرِ قريتِنا العجوز “

    ينتمي الشاعر إلى الأقصر – موطنه الأصلي- وهي “طيبة” عاصمة الحضارة الفرعونية، فكيف يرى الحاضر الآن؟!

     تتبدى في استهلال النص إدانة واضحة للحاضر، حيث تغتال المكان قشرة من المدنية الزائفة: تطول الفرد  فتنطمس هويته “لم يكن غير ظلي”، وتستولي على المكان فيتوغل مرغمًا في الاغتراب “بقايا البيوتِ التي أرهقتْها الفتارين” وتخضع الأرصفة لقانون السوق “بائعة الخبز”.

    غير أن  الماضي لا يموت، ففي لحظة صاخبة، يستعيد المكان  ذاكرته الخالدة ومجده التليد، وينزع عنه ثالوث  الخضوع والمذلة والاستكانة فيفجّر البراكين، ويدفع بالأعاصير، فتجتاح الفضاء هالة من التغيير “البيوت تذهل، الرصيف يتلاشى، العصافير تتجمد من الخوف، الظل يطير، القدمان خائفتان”، فتنقشع المظاهر الكاذبة، ويستعيد المكان رمزه الشامخ (المسلّة) التي تصطفي الشاعر “الفنان”، و تنتصب على كتفه “كيف رست مسلة على كتفي”، فهو الابن  البار لحضارته العريقة، التي تعود تزهو بحضورها الأصيل في القرية “شمس المدينة ترتمي في حضن قريتنا العجوز”.   

    “ماذا لو اقتنعت الحديقةُ

    بجدوى مروري

    فحوّلت أشجارها قليلًا

    وباعدت بين الحشائش

    ويداً بيد

    قادني الحارسُ الكهلُ

    للمنعطف

    حيث الحصى يحبسُ الشوك

    والرملُ لا يستحلُّ النُّعاس”

     يتشوق الشاعر إلى المكان الحُلم حيث ينفتح النص على تساؤل جمالي لأيقونة الخضرة والبهاء “ماذا لو اقتنعت الحديقة” يعطي للشاعر حرية الحركة “حوّلت أشجارها، باعدت الحشائش”، حيث تتشكل منظومة من السلام الأرضي“الحصى يحبس الشوك”، والطمأنينة الناعمة “الرمل لا يستحل النعاس”،

    “على الأطلال

    طال وقوف من حولي

    ويشغلني صفائي عن توترهم

    وعن سهر الرسائل

    والكلام

    لأبعد من هناك

    ومن هنا

    طارت مُخيّلتي

    وأقدامي تخلت عن تواضعها

    فاقتربت إليّ

    وامتدت حواراتي”

    يسترجع الشاعر زمن أجداده من فحول الشعراء “على الأطلال”، لكنه ينفلت من حزنهم المقيم وأوجاعهم المضنية، وتمزقهم  مع الجموع، حيث يتوحد بذاته المتصوفة “ويشغلني صفائي عن توترهم”، وتبدأ الأنا رحلة الصعود مع الفضاء الكوني “طارت مخيلتي”، وقد انسلخ الجسد من جاذبية الأرض “وأقدامي تخلت عن تواضعها”، لتمتد النجوى أو ينفسح للكلام كل المعمورة.

    ” والنخلُ لا يتحمل البوح المفاجئ

    في الصباح

    أحلى وأعلى من رجوع المبعدين

    مواكبُ البسطاء

    غمغمة العجائز بالعديد

    قلق به السكرانُ لا يخشى فصاحته

    فيحدّث الوادي

    ويبتدر المسالك بالغناء”

    ينغرس النخل بحضوره الأصيل فريدًا في تربة الاستهلال، وهو رهيف القلب “لا يتحمل البوح المفاجئ”،  واستطالته باذخة الحنين “أحلى وأعلى من رجوع المبعدين”، لكنه لا ينعزل في عليائه، حيث يتنزّل جماليًا على  بقعة الوادي تستظل به “مواكب البسطاء”، وتأمنه “غمغمة العجائز”، ويطمئن “قلق السكران”، ويحاور الوادي كي يشق مسارب الفرحة والطرب “يبتدر المسالك بالغناء”

    ” كنت أريدني صقراً خرافياً

    جناح دجاجة

    خالاً على خدّ

    قدماً تسير إلى البعيد المختفي

    نارًا بها يستدفئ الفقراء في ليل الشتاء”

    يقع الشاعر في حلبة الأمنيات بين الفوز بالأنا  عبر التحليق في طبقات المُثل العليا، والهبوط الاضطراري إلى الأرض وملامسة الواقع.

    ففي الحالة الأولى تتبدى الرغبة في القوة الأسطورية “صقراً خرافياً” والوداعة الحالمة “جناح دجاجة”، والجمال الناعم “خالاً على خد”، والقَدَم السحرية “تسير إلى البعيد المختفي”

    أمّا في الحالة الثانية فهو يجنح  الي عالم الواقع، إذ يرغب في أن يحترق من أجل الحياة، من أجل مِلح الأرض وهم البسطاء “نار يستدفئ بها الفقراء في ليل الشتاء”  

    عازفُ الليل العجوزُ

    ـ مستندا إلى عبق الصبا ـ

    يرتاح من أيامه الأولى

    ويشدو ممعناً في بث شكواه المُطلّة من بعيد

    مازال في عينيه فيضُ غواية

    وصبا يخالطه الخريف

    أصداءُ روح فاترة

    شربتْ عصارته السنون ولم يزل

    ريّان تستهويه أنفاسُ النساء إذا احترقن

    ولا يبالي إن فررن إلى الجنون

    متلفّعاً ألوانه الأولى وخشيته من الفرح المفاجئ

    يستظل بحزنه ويسير

    لا يُلقي إلى الأحداث بالاً

    لا ينيخ حمولهُ

    إلاّ وقد بزغ الصباح

    يُطلق على الرجل المُسنّ في اللغة الفصحى لفظ الشيخ بينما يُطلق على المرأة المُسنّة لفظ العجوز، لكنّ الشاعر يستملح اللغة الدارجة (العامية) تقّرُبًا إلى البيئة الشعبية، تلك التي تساوي بين الذكر والأنثى بلفظ العجوز.

    يشتغل الفعل الشعري بطاقته الدرامية والسردية وبحساسية فنية عالية التركيز على شخصية منتخبة، حيث ينفرد العجوز/الذكر بقلب الحكاية، وهو فنان أصيل لا يعترف بغير زمن وحيد، هذا المساء الذي يلّفُ العالم بغلالته السحرية، ويقع وصف الشخصية بين حالتين متناقضتين: مغامرة جسورة في معترك الحياة، ومغالبة قاسية من تيارها.

    أحاديث الكباش ديوان جديد فى هيئة الكتاب
    غلاف الكتاب

     ففي الحالة الأولى: تتجسد الشخصية في الاستهلال كخلود جماليّ خارج الزمن، لا يرضخ تحت وطأة الكهولة الغاربة، وإنما يتدفق بحيوية صارخة “مستندًا إلى عبق الصبا”، وفحولة راسخة “عينيه فيض غواية، ريّان تستهوية أنفاس النساء”، كما يشارك الصوت/النغم في الاستهلال وينسرب شجيًّا في شريان المتن “ويشدو ممعناً في بث شكواه المُطلّة من بعيد”

    أمّا في الحالة الثانية فالجفاف يتسرب إلى كيانه “شربت عصارته السنون”، والجمال يتصدع في وجهه “صبا يخالطه الخريف”، والحزن يعرقل حركته “يستظل بحزنه ويسير”.

    لكنه بشموخه الوافر وإرادته الصلبة  يقود هذا المساء الجميل إلى إشراقة جديدة “لا ينيخ حموله ، إلا وقد بزغ الصباح”.

    ____________________________________

    الهوامش :

    1 – دراسات نقدية في الأدب الحديث : عزيز السيد جاسم

    2 – إشكالية التعيير الشعري وكفاءة التأويل : د. محمد صابر عبيد

     3 – ديوان أحاديث الكباش : حسين القباحي 

    أكمل القراءة

    بنات أفكار

    “طبيب المصعد الاجتماعي” للدكتور صبري… قصة كفاح

    نشرت

    في

    أصدر الصديق الدكتور بلقاسم صبري كتابا عنوانه “طبيب المصعد الاجتماعي” عن دار نظر للنشر وسيقام حفل توقيعه خلال يوم الخميس القادم بمعرض الكتاب.

    محمد الزمزاري Mohamed Zemzari
    <strong>محمد الزمزاري<strong>

    وقد كان الدكتور بلقاسم صبري من اوائل الأطباء الشبان الذين رسموا تحولا هاما في برامج و توجهات قطاع الصحة العمومية نحو الميدان الوقائي… ويمكن ان نعتبر انه و الفريق المرافق من أطباء خلال الثمانينات اذكر منهم واعتذر للبقية الدكتور فرزة و الدكتور عبد الكريم الزمزاري و الدكتور المرحوم على القراوي، كانوا مناضلين حقيقيين من جنود الخط الأول لمنظومتنا الصحية… وقد عمل الدكتور صبري مديرا جهويا لكامل ولايات الشمال الغربي مجتمعة (الكاف، جندوبة، باجة، سليانة) في أول الثمانينات. كما تم اختياره مسؤولا إقليميا بالمنظمة العالمية للصحة وشغل أيضا خطة كاتب دولة.

    لقد سنحت لي فرصة الاطلاع على هذا الكتاب الذي فرض أهميته بفضل المواقف الإنسانية والوطنية لدى الدكتور صبري بالإضافة إلى سردية الذكريات الجميلة والنوستالجية احيانا و المصاعب و الأحداث خاصة بجامعة هارفارد الأمريكية حيث تحصل على أعلى شهائدها كذلك نلمس عبر الكتاب تمسك الدكتور بلقاسم صبري بقواعد الديونتولوجيا الطبية بدقة عالية خاصة بجانبها الإنساني.

    كتاب مهمّ يعد محظوظا من يحصل على نسخة منه خاصة ان ريع مبيعات الكتاب سيتبرع به المؤلف والناشر لأشقائنا الفلسطينيين عن طريق الهلال الأحمر التونسي.

    أكمل القراءة

    بنات أفكار

    اللغة والناقة والدبّابة (3)

    نشرت

    في

    Mission impossible : lire au complet Don Quichotte, de Cervantès

    إنّ وَصْفَةً واحدةً لمجموعة تقنيّة حديثة تتطلّبُ قرابة ستّة ملايين مرْجَع، أي مائة مرّة ما يتوفّر عليه مُعجم لغةٍ ما. وإنّ تعقيداتِ الحياة وحدَها هي ذاتُ سِعَة لا تُقارن: بين خمسة ملايين وخمسة وثلاثين مليون نوْعٍ من الكائناتِ الحيوانيّة والنباتية، حسب تقديرات (التسعينيات). فالتقنيّة تعني أننا إزاءَ لغة مُفرطة، تتخثّر داخلها أنصافُ مفرداتٍ، تمثّل بدوْرها حصُوناً لغوية. إنّ اللّغات التقليديّة الثلاثة آلاف، المُتكلّم بها على الكُرة الأرضية هي في حالة انقراضٍ، وعشراتٍ منها فقط، معترفٌ بها عالميًا، وبالتالي تراجُع الأخرى إلى المستوى الثاني. وفي هذا الوقت فإنّ اللّغة (المصطلح) التقنية تعرفُ انفجارًا هائلا، بفعلِ تعدّد الاختصاص.

    <strong>عزالدين ميهوبي<strong>

    يعتقدُ الباحثُ الفرنسيُّ جُورج ريُو Georges RIEU مُدير أبحاثٍ في المركز الفرنسي للبحث العلمي CNRS والمتخصص في التكنولوجيا الدقيقة وعلم الذرّة لمدّة تفوق الثلاثين عامًا، أنّه نجحَ في وضْع أساسٍ للغةِ المُستقبل، بعد سنواتٍ من التفكير والبحث، وتدخلُ ضِمن “اللغات المُخادعة” كتلك التي ابتدعَها جورج أورْويل في روايته الشهيرة “1984”. وتتمثل هذه اللغة الجديدة في ابتكار أبجديّة من 5000 حرفٍ، تمثل رُموزًا وصُورًا بسيطة قادرةً على تحقيق التّواصل بشكل أسرع، وأنّها “لغةٌ دون كلماتٍ، أو نَحْوٍ. سريعة وقويّة وخلاّقة؟”

    هي اللغة الفِطرية في دماغِنا. أطلق عليها اسم “فلاشْ برين Flash Brain”، أو اللغة الذّهنيّة ذات الطّبيعة السمعيّة والبصريّة.ويقرّ ريُو أنّ تصنيفَه تعسّفيّ بعض الشيء، وأنه سيواجهُ غضبَ اللغويين واللسانيين، ومع ذلك، فإنه يشدّد على ضرُورة وجُود أداة رائعة للمنبُوذين لغويّا: “هو نظامٌ عالميٌّ يتيحُ لكل فردٍ في العالم أن يستخدِم شبكة الإنترنت على سبيل المثال. إنها ميزةُ الإبداع والخيال، إنّه يُربّي الدّماغ”. وحتّى يواجه جُورج ريُو أيّ نفُورٍ أو رفضٍ لفكرته

    يقول “يمكنُ مثلاً للفرنسيين أن يضحكُوا، لكنّني على الأقلّ فعلتُ هذا من أجل الأطفالِ والصمّ والبُكم”.إن حروبًا تبدُو صامتة، لكنها أكثر ضرَاوة عندما يتعلقُ الأمر بالسيّادة اللغويّة والهُوية الثقافية، ذكرتُ بعضها في هذا المقال ليدرك النّاس أنّ التفكير السياسي يتراجع كثيرًا عندما يشعر الساسة أنّ المجتمع مهدّد في وجوده الثقافي واللغويّ. من ذلكَ أنّ الشّيء الذي لم ينتبه إليه الناسُ هو ما تشهدُهُ الولايات المتحدة من نقاشٍ حول مكانة اللغة في المُجتمع الأمريكي، إذ أنّ حربًا تدور بعيدًا عن عيُون السّاسة، يخوضُها المفكرون خاصة. فالأصواتُ ترتفع للمطالبة بدسترَة اللغة الإنكليزية، كلغةٍ رسميّة، في ظلّ الصّعود القوي للإسبانية، وحتى للغات الجاليات الأخرى.

    أفرَد المُفكر الأمريكي صامُويل هانتنغتون، جزءًا كبيرا لأزمة اللغة في الولايات المتحدة، ويُبدي تشاؤمًا صريحًا بشأنها، كونها تشكّل عنصرًا حاسمّا في بناء الهُويّة “البيضاء” كما يصفُها، فيقدّم نقدا مُباشرا للهجراتِ اللاتينية الأمريكية و”السّماح بتدريس اللّغة الإسبانية واستخدامها كلغة ثانية رسميّة في العديد من المُدن في الولايات الأمريكية”، خاصّة أنهم يمثلون 12% من تعداد الشّعب الأمريكي، (والإحصاءاتُ تقول بأنهم في حدُود العام 2050 سيكونُون الأغلبيّة) فضلاً عن ارتباطِهم الوثيق بأوطانهم الأصلية القريبة من الولايات المتحدة. ولا يخفي هنتنغتون قلقَه “الذّاتي” تجاه من ينادُون بإقرار اللّغة الإسبانية لغة ثانية رسميّة، ويرَى في ذلك أحد أخطر التّهديدات الموجهة للهُوية الأمريكية لأنه ينذرُ بتحوّل أمريكا لبلد ذي هُوية لغوية ثنائية إنكليزية-إسبانية. فهو يرَى أنّ سقوط الاتحاد السوفياتي تسّببَ في عدَم تبلوُر عدوّ جديدٍ للولايات المتحدة يُسهم في التفافِ الأمريكيين حول هُويّتهم الوطنيّة، كلّ هذا أدّى إلى تراجُع مصادر الهُوية الأمريكية الرئيسَة، وهي الإثنيّة البريطانية والعِرق الأبيض والدّين المسيحي والثقافة الانكليزية – البروتستانتية.

    فحسب هنتنغتون، كما جاء في مقال لعلاء بيُومي، سيكُون مستقبل أمريكا مع هُويّتها، إمّا بـ:

    – فُقدان للهُويّة وتحوّل أميركا إلى مُجتمع متعدّد الثقافات والأديان مع الحفاظ على القِيم السياسية الأساسية.

    تحوّل أمريكا إلى بلد ثنائيّ الهُويّة (إنكليزي-إسباني) بفعل زيادة أعدادِ ونفُوذ الهجرات اللاتينية الأمريكية.- ثورة الأمريكيين البيض لقمْع الهُويات الأخرى، وهو احتمالٌ قائم.

    – إعادة تأكيد الهُويّة الأمريكية من قبل الجميع، والنظر لأمريكا كبلد مسيحيّ تعيش به أقلياتٌ أخرى تتبعُ القيم الأنكلُو-بروتستانتية والتراث الأورُوبي والعقيدة السياسية الأمريكية كأساس لوحدةِ كافة الأمريكيين.

    هذه الهواجسُ، التي عبّر عنها هنتنغتون بلغة صريحة، وبطرح رُؤية لا تراعي أدنَى محاذير التنوّع العرقيّ واللغويّ والدينيّ، من ضرُورة العودة إلى سيطرة البيض على مقادير الولايات المتحدة، كحقّ استعماري (..)، فقد أصدر المعهد الملكي الإسباني (إلكانُو) تقريرًا مفصلا عن مُستقبل اللغة الاسبانية في الولايات المتحدة الأمريكية، إنْ كانَ حوارًا أم صراع ثقافات، وهل أنّ اللغتان الانكليزية والاسبانية تتنافسان على المستقبل، فيعتبر هذا التقريرُ أنّ الاسبانية هي اللغة الثانية بعد الإنكليزية. إلاّ أن هذا الوضعَ لا يعني أنّ الأمر عاديّ، فهناكَ أسئلة جريئة تُطرحُ مثل: “هل ستختَفِي اللّغة الاسبانية كلغةِ تخاطُب؟ هل ستحافظ على وجُودها كلغة مزيجَه؟ أم هل سيأتي يومٌ تكون فيه اللغة الاسبانية إلى جانب الانكليزية في مُجتمع أمريكي مُزدوج اللغة والثقافة؟”.

    ويخلُص التّقرير الذي نشرتْه صحيفة الزّمان في 2004 إلى أنّه “كلّما كان الوُجود الاجتماعيُّ للشّعب الناطق بالاسبانية، في الولايات المتحدة، أقوىَ، تكون الإمكانات أفضل لصالح حُدوث المزيج بين اللغتين والثقافتين”، وقد أُطلق اسم (هيسبانغليشHespan-english) أو Spanglish. على هذا التمازُج اللغويّ. فمن يجرؤ على إيقاف غليانِ اللغة؟.

    هذه بعض الأفكار، استقيتُها من كتابي “انتحار الأبجدية: من بُرج بابل إلى أبراج مانهاتن”

    (من كتاب أبوليوس يهرب من ظله)

    أكمل القراءة

    صن نار