نشأت نهاد وديع حداد (فيروز) في بيت متدين ومحافظ. وكان لهذه النشأة أثرها في حياتها في ما بعد. منذ صغرها والغناء لا يفارقها: في البيت، في المدرسة، في حقول الطفولة في قرية الدبية (الشوف) خلال عطلة الصيف التي كانت تمضيها مع جدتها.
سنبحر في هذه المقالة صوب هذه المرأة المكتنزة روحيا في صلواتها وغنائها، وسنحاول ان نقارب هذا “الصوت الداخلي” (انسي الحاج) الذي يتجدد ويحفر عميقا، عميقا فينا مع تفتح كل ربيع وتبسّم شجر اللوز.
تعلمت فيروز على الاخوين محمد واحمد فليفل اصول الانشاد والتجويد القرآني، وكانت لا تزال طالبة في مدرسة حوض الولاية في منطقة زقاق البلاط. يقول الحاج محمد فليفل (1899 – 1985) في مقابلة تعود الى العام 1980: “قدمتها في دار الايتام الاسلامية (المقاصد) لتنشد “يا محمد ارفع اللواء” في ذكرى تأسيس الدار. كما اني علمتها قراءة القرآن الكريم ومن خلاله ضبطت مخارج الكلمات عندها. لماذا يتمتع صوتها بهذا الجمال؟ لأنني درستها فن الالقاء عبر قراءة القرآن الكريم. لم اكن اعلمها فقط الموسيقى، بل كنت ادرّبها على النطق السليم. فيروز اداؤها اسلامي مائة في المائة”.
كان دور محمد فليفل مركزيا ليس فقط في اقناع والد نهاد بالتحاقها بالكونسرفاتوار لمدة اربع سنوات وفي تكوينها الفني كما سلف ذكره، بل وكذلك من خلال تقديمها في الاذاعة اللبنانية حيث سمع صوتها للمرة الاولى حليم الرومي، مدير القسم الموسيقي آنذاك.
ويروي من عاصروا تلك المرحلة عن ملامح الخجل في طباعها وانضباطها اللافت في الغناء وتنفيذ تعليمات استاذها محمد فليفل. كما كانوا يجدونها مرارا تصلي في الاذاعة بانتظار دورها في الغناء قرب غرفة التسجيل. وقد تطور هذا المسلك ولازمها في مراحل الشهرة اللاحقة واصبح الصمت والصلاة دربها قبل الظهور على المسرح. وتقول فيروز عن نفسها في حديث صحافي من العام 1994 انها “راهبة في معبد الفن”. اذن الفن عندها رسالة مقدسة والصوت نعمة.
وتابعت فيروز رحلة الصوت بلقائها التاريخي مع الاخوين عاصي ومنصور الرحباني خلال فترة عملها كمرددة ومغنية في الاذاعة اللبنانية ووضعت صوتها بتصرفهم متنقلة بين انواع الغناء وما اكتسبوه من خبرة ومعارف موسيقية من برتراند روبيار والاب بولس الاشقر (1882 – 1952) اللذين التقياه في كنيسة مار الياس في انطلياس… “ندهنا من طفولتنا التائهة”، يقول عاصي الرحباني (1923 – 1986) عن الاب الاشقر في حفل احياء ذكراه عام 1963، “وعلمنا الموسيقى وكنا يومها نجهل ما الموسيقى. اخبرنا عن الفن وكنا نجهله، ولقننا الدخول الى وديان النفس والاماكن العميقة في الضمير… علمنا ان الفرحة الكبرى هي فرحة الانسان بولادة الجمال”.
ومن بواكير اعمال هذه الفترة من الخمسينات ترانيم مثل “تلج تلج”، “أؤمن”، “المجد لله في الاعالي” واذا شهدت كنيسة مار الياس وساحتها في انطلياس بدايات الاخوين رحباني، كانت ايضا انطلاقة مسيرة الترتيل في مناسبة الجمعة العظيمة وتوهج “وعد الصوت والغنية” – فيروز – بلقاء روحي شبه سنوي استمر الى اواخر السبعينات من القرن الماضي الى ان اصبح والصوت “صرخة في الضمائر” والاغنية “عواصف وهدير”.
شهدت مرحلة الستينات اعمالا غنائية ومسرحية لفيروز والاخوين رحباني حملت الكثير من معاني واعمال الصلاة: الصلاة للاطفال (يارا، اقول لطفلتي، بدي خبركن، بكوخنا يبني…)، الصلاة للحبيب (لا انت حبيبي، شايف البحر شو كبير…) الصلاة للناس، لكل الناس وين ما كان (ايام العيد، حصاد ورماح…) الصلاة للأرض والوطن (وعدي الك، زهرة المدائن، بعلبك…)، التضرع لله وذكر رموزه (ساعدني، ضوي يا هالقنديل، يا ساكن العالي، بيتي انا بيتك…). ومن المحطات الاساسية كانت اغنية “خذني” من مهرجان البعلبكية عام 1961 حيث ركعت فيروز على “ادراج بعلبك” امام اكثر من خمسة آلاف مشاهد ورفعت يداها للصلاة منشدة “إركع تحت احلى سما وصلي”. قد تكون هذه الاغنية من اكثر الاغاني التي ادتها فيروز في مراحل متلاحقة في حياتها ورحلاتها الفنية في مختلف الدول. نذكر منها الولايات المتحدة (1971، 1981، 1987 1999)، انكلترا (1961، 1978، 1986 حينما قدمت بصيغة معدلة وعلى البيانو)، فرنسا (1979، 1988)، استراليا (1984)، البرازيل (1962)، الامارات (1979، 1985) البحرين (1987)، مصر (1976) كما في بعلبك (1973) الخ… ونذكر من هذه المرحلة ايضا زيارة فيروز والاخوين رحباني عام 1964 الى القدس “مدينة الصلاة ودرب من مروا الى السماء”، وهي المرة الوحيدة التي رتلت فيها فيروز هناك وقد تلازمت هذه الزيارة مع قدوم البابا الى المدينة. واهداها الناس مزهرية، فكانت اغنية “القدس العتيقة”.
توالت الاعمال مع اصدار اسطوانتي الميلاد وترانيم الجمعة العظيمة، ومع حلقات تلفزيونية خصصت لتلك المناسبات مثل “هدايا العيد” و”القدس في البال” وحفلات غنائية حيث قدمت فيروز عام 1966 في الكويت قصيدة “غنيت مكة” من شعر سعيد عقل.
الناظر الى فيروز يرى فيها ابعد من مطربة، واكثر من صوت، يرى روحا شفافة مشتعلة كبيرة. كل هذا وجده عاصي الرحباني فيها وفي صوتها فكانت اعمالها معه لها مضمون مختلف ومغاير، وحضور هو حضور صوتها وشخصيتها اللذين فرضا اعمالا تشبه فيروز وصورتها. فيروز صلت على المسرح، حملت قضايا كبيرة وناصرت الحق. هكذا رآها عاصي “الفضاء الصوتي الذي غمره بشعره ولحنه وبأعماله المسرحية” (بول شاوول)، ولذلك “المسرح الرحباني هو مسرح فيروز بالدرجة الاولى. بدونها كانت هذه الاعمال ستفقد الكثير من وهجها ورهبتها. بدونها يلبس المسرح الرحباني وجها مختلفا عما هو عليه. وفرادة المدرسة الرحبانية هي وصل الحب بالايمان، وهذا ينتج منه حكما العدل والخير والجمال” (نبيل ابو مراد).
درب الحلم الجميل ما لبث ان اصطدم بعدة احداث شخصية وعامة تلاحقت منذ بداية السبعينات وما كان مرض عاصي المفاجىء في 26 ايلول 1972 الا بداية مرحلة اخرى من الجراحات والتخطي لا يقوى عليها الا من سلك درب الروح والايمان. وما يروى عن فيروز ردة فعلها العفوية عندما دخل عليها الشاعر سعيد عقل ليخبرها بمرض عاصي في ذاك اليوم وكانت في غرفتها بالمستشفى بسبب الارهاق من العمل المضني المتواصل. في تلك اللحظة، التفتت الى السماء وهي تقول: “يا ربي اذا شاءت عنايتك ان يعود عاصي للحياة مرة ثانية، فانني سأنذر نفسي للصلاة حتى آخر لحظة من حياتي”. هي التي لم تفارقها الصلاة منذ كانت طفلة تشترك في فرقة الاخوين فليفل كمرددة، لم تعلم انها ستوصف يوما بالام الحزينة، وهي ترتل آلامها في الجمعة العظيمة بعد وفاة ابنتها ليال عام 1988.
واذا سرقت الحرب أحلام الوطن وتركت الخيبة والفراغ، واذا ابتعدت فيروز عن مسرح الغناء في لبنان خلال هذه المرحلة، بقي صوتها ملجأ، بل وازداد حضوره في الوجدان العام. أضحى “تراثاً روحياً” و”صوت قيامة لبنان” يحمل معاني الرجاء والخلاص للناس ويجمعهم رغم العوائق. غريب توهج هذه الانسانة، وفريد تعلق الناس بفنها واعمالها التي توحدت مع سيرتها رغم غيابها القسري. اصبحت رمزاً “بقوة الحب وبإجماع المتصارعين المتضادين”. واذا غنّت النذر في العام 1966 “أنا حمّلوني هموم كتار… بندُر صوتي حياتي وموتي لمجد لبنان”، فإنها هي التي حققته “بفضل مواقف عديدة اتخذتها بصمت وبلا اعلان. بفضل تضحيات وضبط للنفس وترفّع ووفاء لكل ما بدا لها جوهرياً” (خالدة السعيد).
في هذه الفترة الممتدة من أوائل الثمانينات الى النصف الاول من التسعينات، اقتصرت اطلالات فيروز في لبنان على احياء احتفالات الجمعة العظيمة. وان كان مركز تلك الاطلالات قبل الحرب كنيسة مار الياس في انطلياس، تميزت هذه المرحلة باختيار فيروز عدة كنائس في مناطق متعددة من لبنان تتبع تارة الطقس البيزنطي وتارة أخرى الطقس الماروني. وهكذا ابتدأت رحلتها الثانية من بازليك حريصا عام 1982 الى كنيسة مار الياس انطلياس (الجديدة) عام 1988، كنيسة الوردية في الحمراء في بيروت الحزينة عام 1990 (وقد رافقها على الارغن زياد الرحباني الذي قام لاحقاً في عام 2001 بإعداد موسيقي جديد لترتيلة “يا مريم البكر”) ومنها الى دير البلمند عام 1992. وكانت هذه المحطة من المحطات المهمة، وذلك لانها المرة الاولى التي ترتل فيها فيروز في دير ارثوذكسي جامعة بتآلف الطقسين البيزنطي والماروني. كما نذكر محطة أخرى من هذه المرحلة عام 1986 حين انشدت فيروز في كنيسة سانت مارغريت في لندن مع أوركسترا انكليزية ترانيم ميلادية سريانية، بالاضافة الى مجموعة مختارة من الترانيم والاغاني الميلادية باللغات العربية واللاتينية والانكليزية .
وانتهت الحرب. واختارت فيروز في رحلتها الثالثة أن ترتل في كنائس كانت قد تضررت في زمن الحرب وهي قيد الترميم. كأنها مثل الشعراء التموزيين تنشد انبعاث الكنائس وعودة الحياة اليها مثل قيامة المسيح بعد الموت. ها هي كاتدرائية مار جرجس في اللعازارية (1995) المليئة بالثقوب والفجوات وذات السقف المهدم تحتضن صلوات فيروز الصاعدة من ركام النفس والحرب مباشرة الى السماء… “يا رب القوات كن معنا، فإنه ليس لنا في الاحزان معين سواك، يا رب ارحمنا”… “اسمع صوتي، لا تحجب أذنك عن استغاثني”. كذلك في كنيسة مار نقولا في الاشرفية (1997)، كنيسة مار لويس للآباء الكبوشيين (2000)، كنيسة مار جاورجيوس للروم الارثوذكس (2001) حيث تم تصوير ترانيم القيامة التي تقدمها للمرة الاولى بعد الحرب.
واذا كان عاصي الحلم الاول والوطن الاول، جاء لقاء فيروز وزياد الرحباني ليطرح اسئلة الحداثة الثانية وليدخل في حميمات وتفاصيل الحياة اليومية والمباشرة، وليقدم لنا “فيروز الثانية” (الياس خوري)، تلك المرأة الغارقة في عبثية العلاقات. وما بين الحلم الاول والحداثة الثانية، بقيت “الأم الحزينة” تتلألأ بالفرح العظيم وبقي صوتها “يتموج صاعداً نحو أبراج الروح”. كيف لا وفيه “يتداخل ويتحاور ملاك يرتل وطفل عفريت يلعب ومراهقة تتفتح للحب وعاشقة للمجهول الذي لا ينجلي ولا يحضر وشاعر يحلم بالسفر البعيد” (خالدة السعيد)
فيروز قالت كلمة وأية كلمة! جعلت الصلاة تقليداً وموعداً ينتظر. هي “قصة الموعودين”، تحمل الايام في راحتيها وتحمل دروب الحلم والروح في صوتها.
طقس فيروز هو طقسنا وصلاتها صلاتنا وغناؤها غناؤنا. ونحن وراءها في كنيسة ومعبد. في مسرح وإذاعة.
يخجل القلب من نعيك، ويضيق الحرف برثائك، تفيض المشاعر حزناً وصدمة إنّما لا يتّسع الفضاء الالكتروني لترجمتها.. تربّطت أصابعي عن النقر على لوحة الحروف واحترقت دموعي غزارة في المُقل.
غبت أيّها المتمرّد الأوّل يا من نفضت الغبار عن فكرنا لنستنير وبقينا جهالاً!
هذا المقال أوائل البدايات فيالصحافة كتبته في 2018 وكان من أجمل ما كتبت لأجمل من عنه كتبت
تأثّرت بك وانتظرت عودتك لأعاصر شيئاً من فنّك الأسطوري.
كان مقالي حلماً جميلاً لكنّك رحلت دونما وداع كما أعزّ أحبّائي.
ثقُل كأس الموت يا تمّوز، حرقته لاذعة ترفض التروّي فمهلاً على المواجع
شخصٌ بمثابة الحلم تتمنّى إدراك حقيقته و سبر عمق أغواره، إلّا أنّك إن نلت شيئاً عنه تجد أنّك لا زلتَ على البرّ المربِك، الأكثر حيرةً.
لطالما تمنيّتُ أن أفهم من هو؟وكيف يُفكّر؟ ومن أين يأتِ لنا بكلّ تلك الحقائق الصادمة؟ السّاخرة والآخذة.
لِمَ هو بهذا التعقيد وتلك السلاسة في وقتٍ واحد؟!
كلّما صعُبَ عليك فهمه هان، و كلّما هانت كلماته استصعبت.
ذلك السّهلُ الممتنع ممتلئٌ بالشغف وكثير البرود، أستمعُ إلى حواراته القليلة جدّاً فأتمنّى أن أجد لتساؤلاتي أجوبة..
زياد الرّحباني اعترافات مشاكسة عمّا يجول في خاطره، يفاجِئُكَ ببساطة مفرداته وصعوبة تقبّلها في آن، حين يقول ” أنا مائة ألف شخصيّة فايتين ببعض” ويذهلك بحقيقةٍ أمرّ.
مضيفاً “بعد 5 دقائق من ولادتك رح يقرّروا دينك، جنسيتك، مذهبك، طائفتك، ورح تقضّي عمرك عم تدافع بغباء عن إشيا ما اخترتا”!! حتّى أنّه علّق وانتقد تغيير التوقيت حيث قال ساخراً:
” كل سنة بتقدموا السّاعة وبترجعوا لورا 10 سنين”.
هل هو بهذه العبقريّة التي يبدو عليها أم نحن بتنا جهالاً، لكثرة ما خذلتنا المعرفة في هذا الوطن الكئيب.
لماذا لا نرى ما يراه و نفقه ما يقوله، ونفكّر ولو قليلاً بنهجٍ يماثله؟!!
ليس زياد الرّحباني ذلك الموهوب، المؤلّف المسرحيّ أو الكاتب والملّحن الموسيقيّ فقط.
هو مَن لا تفوته فائتة في السياسة والأدب والفن والموسيقى والمجتمع ودائماً ما يُفصّلُ اعتراضات واتّهامات للجميع دون استثناء..
إنّه المشاكس الحذر، الصامت طويلاً ولكن إن حكى، أبكى التخلّف وأحبط مفاعيل الجهل، وصبَّ لينَ الزّيت على أفواه النار.
من هنا فإنّ المسرح اللّبناني في غياب زياد ناقصٌ وعند مستوى خطِّ الفقر!!
إلّا أنّه يغيب فجأةً وينقطع عن محبّيه عمراً. ليمنَّ علينا مؤخراً بعودةٍ خجولة أطلق فيها الوعد بالبقاء.
وها نحن هنا بعد سنوات من القطيعة المجحفة تلك، لا نُريدُ رحبانيّات متفرّقة، بل تتملّكنا رغبةٌ جامحة بلوحةٍ عنوانها فيروز وزياد الرحبّاني يغنيّان معاً، ويكسران كبرياء أفقٍ مثقّلٍ بانحطاط موسيقيّ!
ها هو المجنون العبقريُّ يحطّم صومعته ويُلقي علينا بسحر التراتيل.. بذكاءٍ فطري يضبطُ التوقيت الذي يراه مناسباً. مهما انتظرنا يبدو العناء مستحقّاً أمام جنون العظمة.
حين تدرك أنّ وحدَها النّسور من تغرّد خارج السّرب، وحين تقرّر تعود إلى أحضان فيروزها لتصبح الأغنية صلاة..
في زمن تتكاثر فيه الأقلام المتطفّلة على النقد الفني، وتختبئ وراء قناع “المحبة الصامتة” لتبثّ سمًّا باردًا في جسد الإبداع، يطلّ علينا مقالٌ “غير ودّي” عن حفل السيّدة ماجدة الرومي في “أعياد بيروت”، لا يحمل من الحسّ النقدي سوى مفردات طبية سطحية ومصطلحات صوتية غير واضحة أو مبررة ومبتورة السياق.
إن الحديث عن انتقال الصوت من طبقة الـ”Soprano Lyric” إلى “Mezzo-Soprano” أو حتى إلى “Alto” هو كلام صحيح علميًا من حيث التدرج الطبيعي لأي صوت بشري، لكنه يصبح مضللاً عندمايُطرح كأداة للطعن، لا كظاهرة بيولوجية طبيعية يعرفها كل دارس حقيقي لفسيولوجيا الصوت. فحتى مغنّيات الأوبرا العالميات ينتقلن تدريجيًا في طبقاتهن مع التقدم بالعمر، دون أن يُعتبر ذلك سقوطًا فنّيًا، بل نضجًا صوتيًا وإعادة تموضع ذكي للريپرتوار.
أما مصطلح “Tremolo” الذي استخدمته الكاتبة، (وليتها شرحت لنا نحن البسطاء اللي فهماتنا على قدنا معنى المصطلح الذي زودها به أحد المطرودين من حياة الماجدة) وهي استخدمته على عماها فأساءت فهمه على ما يبدو. فالـTremolo ليس عيبًا صوتيًا بالضرورة، بل أسلوب تعبير ديناميكي مقصود في الأداء، يُستخدم في الموسيقى الكلاسيكية والشرقية، ويُضفي بعدًا دراميًا على الجملة الغنائية، لا سيما في الأعمال العاطفية أو الإنسانية. لكنه يتحوّل إلى “اهتزاز غير إرادي” فقط في حالات مرضية مُثبتة طبيًا، وهو أمر لا ينطبق على الماجدة ولم تثبته أي جهة موثوقة في حالة السيدة ماجدة، بل استنتجته الكاتبة بإذن نقدية هاوية غير مؤهلة سريريًا أو أكاديميًا.وربما بأذن مستعارة ، من شخص ما !!
إن وصف الكورال بـ”العكّاز الصوتي” يعبّر عن جهل صارخ بوظيفة الكورال في الموسيقى الكلاسيكية والحديثة وكل الأغاني على حد سواء. الكورال ليس ترميمًا لعيوب، بل جزء أساسي من البنية الهارمونية، يعمل كدعامة جمالية وتعبيرية، سواء في موسيقى “باخ” أو أغاني فيروز أو إنتاجات اليوم الحديثة. حتى أم كلثوم ختمت حياتها الفنية بأغنية فيها كورال ومسجلة في الستوديو، وهي أغنية “حكم علينا الهوى”، فهل غرام بليغ حمدي بإضافة الكورال على أغلب ألحانه كان “عكازاً” لوردة وعبد الحليم وكل من لحّن لهم؟ استخدام الكورال لا يعني ضعفًا بل انسجامًا مع شكل موسيقي راقٍ يسمّى “الهارموني الكورالي”.
أما التلميح إلى أن السيدة ماجدة الرومي “تصارع للبقاء”، فذاك تعبير درامي هابط يتنافى مع اللياقات كما مع حقيقة ما رأيناه وسمعناه: فنانة قديرة تتحكّم بمسرحها، تدير الفرقة بوعي موسيقي عالٍ، تؤدّي بجملةٍ صوتية مدروسة تحترم مساحة صوتها الحالية، وتوظّف إمكانياتها التقنية بإحساس رفيع دون أن تفرّط بكرامتها الفنّية. ذلك يسمّى في لغة الموسيقى “interpretative maturity” أي النضج التعبيري، وليس انهيارًا كما يحاول البعض التسويق له بلغة “فيسبوكية” مستهلكة.
وأخيرًا، المقارنة بين ماجدة وصباح وفيروز مضلّلة وغير دقيقة. فكل صوت حالة مستقلّة، وكل مدرسة غنائية تُقاس بمعايير مختلفة. وإن كانت فيروز قد اختارت الابتعاد، في مرحلة ما بعد السبعين ،فذاك قرار شخصي لا يُفرض كنموذج على الأخريات. لأن أم كلثوم ظلّت تغني حتى العقد الثامن من عمرها، وهي راعت كما هو معروف طبقاتها الصوتية منذ بلغت الستين من عمرها. وهذا ما ما فات كاتبة المقال ذكره.
نحن لا نصفّق من دون وعي، بل نُصغي بفهم. وما سمعناه من ماجدة في “أعياد بيروت” كان صوتًا لا يزال يُغنّي بروح تُحسن استخدام تقنيات الـVibrato Controlled، وتعرف متى تُمسك بالجملة ومتى تُسلمها للمرافقة الموسيقية، دون أن تفقد شخصيتها الأدائية.
السكوت الذي دعا إليه كاتب المقال باسم “المحبّة”، هو صمت الجاهلين. أما المحبّة الحقيقية، فهي أن نعرف الفرق بين الهبوط الصوتي، وبين إعادة توزيع القدرات وتكييف الأداء بما يليق بمقام الفنّ النبيل…
كان مثيرا ولافتا أن طرفي الحرب الإيرانية الإسرائيلية التي امتدت لـ(12) يوما، يعتبر نفسه منتصرا.
فور وقف إطلاق النار خرج الإيرانيون إلى شوارع وميادين طهران يحتفلون بالنصر، يرددون الهتافات، ويتعهدون بمواصلة القتال في جولات أخرى.
بذات التوقيت، سادت التغطيات الإعلامية والسياسية الإسرائيلية نزعة انتصارية إجماعية.
ألقى رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” كلمة أطلق عليها “خطاب النصر”.
من الذي انتصر حقا؟!
أسوأ إجابة ممكنة إصدار الأحكام بالأهواء، وتنحية الحقائق جانبا.
إنها جولة في صراع طويل وممتد، تليها جولات أخرى بعد وقت أو آخر.
القضية الفلسطينية جوهر ذلك الصراع.
لم تكن من أعمال المصادفات عودة الزخم مرة أخرى إلى ميادين القتال في غزة فور وقف إطلاق النار على الجبهة الإيرانية.
“حان وقت التركيز على غزة لإنهاء حكم حماس واستعادة الرهائن”.
كان ذلك تصريحا كاشفا للحقائق، أطلقه رئيس الأركان الإسرائيلي “إيال زامير” في ذروة دعايات النصر.
إنهما حرب واحدة.
هكذا بكل وضوح.
أكدت المقاومة الفلسطينية المعنى نفسه في عملية مركبة بخان يونس، أوقعت أعدادا كبيرة من القتلى والمصابين، وأثارت الفزع في صفوف الجيش الإسرائيلي.
لا يمكن إنكار مدى الضرر الفادح، الذي لحق بالمشروع النووي الإيراني، جراء استهدافه بغارات إسرائيلية وأمريكية مكثفة ومتتالية.
هذه حقيقة.. لكنه يستحيل تماما أي زعم إنها قوضته، أو أن أمره انقضى.
لم يتمالك الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، الذي انخرط بصورة مباشرة وغير مباشرة في الحرب على إيران، أعصابه فأخذ يكيل الشتائم المقزعة لمحطة “سي. إن. إن”، على خلفية تشكيكها في روايته.
“إنها حثالة”!
لم يكن لديه دليل قطعي أن العملية الأمريكية، التي استهدفت ثلاث منشآت نووية، “أصفهان” و”ناطنز” و”فوردو” الحصينة في أعماق الجبال، حققت أهدافها.
حسب تسريبات عديدة فإن السلطات الإيرانية نجحت في نقل اليورانيوم المخصب وأجهزة الطرد المركزية من تلك المنشآت قبل قصفها بقاذفات (B2) إلى أماكن أخرى آمنة.
التسريبات شبه مؤكدة بالنظر إلى عدم حدوث تسرب إشعاعي، أو تلوث بيئي إثر تلك الضربات، التي استخدمت فيها قنابل عملاقة لأول مرة.
يصعب التسليم بـ”الإنجازات” الإسرائيلية في ضرب المشروع النووي الإيراني دون فحص وتأكيد.
بقدر آخر فإنها لم تحقق نجاحا يذكر في تقويض المشروع الصاروخي الباليستي، الذي أثبت قوته التدميرية ودرجة تقدمه، التي ألزمت الإسرائيليين البقاء في الملاجئ لفترات طويلة.
قبل وقف إطلاق النار مباشرة بدت الضربة الصاروخية في بئر السبع، تأكيدا أخيرا على درجة عالية من الفشل الإسرائيلي في إضعاف القدرات الإيرانية.
ثم تبدى الفشل فادحا في طلب إثارة الفوضى بأنحاء البلاد، تفضي تداعياتها إلى الإطاحة بنظام الحكم.
بحقائق الجغرافيا والتاريخ والحضارة، إيران ليست دولة صغيرة أو عابرة.
إنها مع مصر وتركيا الركائز الكبرى في حسابات الإقليم، مهما جرى لها، أو طرأ عليها من متغيرات سياسية.
بقوة إرثها التاريخي تحركت الوطنية الإيرانية لرفض الاستسلام بلا شروط لـ”السلام عبر القوة” حسب تعبير “ترامب”.
تحت الخطر الوجودي توحدت إرادتها العامة، بغض النظر عن أية تحفظات على نظام الحكم.
كان المواطن الإيراني البطل الأول في التصدي لتغول القوة الأمريكية والإسرائيلية.
أبدى الإيرانيون قدرة لافتة على الإحلال في مراكز القيادة والسيطرة تحت أسوأ الظروف، بعدما نال العدوان من قيادات عسكرية وعلمية ذات وزن ثقيل في الضربة الافتتاحية.
في حرب الـ(12) يوما تبدى شيء من التعادل الاستراتيجي، الطرفان المتحاربان تبادلا الضربات الموجعة.
فرضت السلطات الإسرائيلية تكتما مشددا على حجم الأضرار التي لحقت ببنيتها التحتية والعسكرية؛ جراء الضربات الإيرانية، حتى لا يفضي النشر إلى زعزعة ثقة مواطنيها في قدرة جيشهم على المواجهة.
فاقت الخسائر الباهظة أية طاقة على الإفصاح، لا عرفنا عدد القتلى والمصابين، ولا ما هي بالضبط المواقع الاستراتيجية، التي استهدفت، ومدى الضرر الذي لحقها.
المعلومات المدققة من متطلبات إصدار الأحكام.
بصورة عامة تقارب الحقيقة فإننا أمام حالة “لا نصر ولا هزيمة”، غير أن إسرائيل يمكن أن توظف مجريات الحرب لإثارة اليأس من كسب أي معركة ولو بالنقاط.
بدا المشهد الختامي ملغما بالتساؤلات الحرجة.
وجه الإيرانيون ضربة رمزية لقاعدة “العديد” الأمريكية، لتأكيد حقهم في الرد على العمل العسكري الأمريكي داخل أراضيهم ضد ثلاث منشآت نووية.
أُبلِغت مسبقا السلطات القطرية باستهداف القاعدة القريبة من العاصمة الدوحة خشية ردات فعل سلبية.
نُقِلت إلى الأمريكيين فحوى الرسالة الإيرانية.
كان ذلك عملا احترازيا، حتى لا تفلت الحسابات، في وقت توشك فيه الحرب على الانتهاء.
وصفت الضربة الإيرانية بـ”التمثيلية”.
الأقرب للحقيقة، إنه سوء تقدير فادح، لم يكن له لزوم، أو ضرورة، أربك البيئة العربية العامة المتعاطفة مع إيران، كما لم يحدث من قبل.
أثارت الضربة الرمزية شكوكا وظلالا لا داعي لها.
بقوة الحقائق كانت الحرب على وشك أن تنتهي.
الخارجية الإيرانية تشترط وقف الهجوم الإسرائيلي قبل العودة إلى المفاوضات مرة أخرى.
والحكومة الإسرائيلية تطلب وقفا فوريا لإطلاق النار، تحت ضغط الترويع، الذي ضرب مواطنيها، إذا ما وافقت طهران.
الجانبان المتحاربان يطلبان لأسباب مختلفة وقف إطلاق نار.
هكذا توافرت أمام “ترامب” فرصة للتخلص من عبء الحرب على شعبيته.
لم تكن إسرائيل مستعدة لأي اعتراف، بأنها لم تحقق أهدافها من الحرب، لكن الحقائق وحدها تتكلم.