جلـ ... منار
عن الهجرة والاستيطان والمستقبل الغامض
نشرت
قبل 4 سنواتفي

يتأكد يوما بعد يوم أن المجتمعات الخليجية الصغيرة قد دخلت، بسبب من تعاظم الوجود الآسيوي فيها، في أتون مأزق تاريخي يصعب تصور إمكانية الخروج منه.

لم يعد الأمر يهدد الهوية الثقافية التي همشت، والثوابت الوطنية التي اهتزت، بل يشكل خطرا مستقبليا على ما تبقى من الوجود البشري العربي ذاته.
بعيداً عن المشهد الخارجي المبهر، فإن الصورة من الداخل تثير القلق، بل الريبة! الشوارع تعج بكل الجنسيات،إلا بالمواطنين، وبشكل خاص في الإمارات وقطر.
الأغلبية هندية، تليها الباكستانية، البنغالية، الأفغانية، الفيليبينية، والإيرانية، ولحقتها مؤخرا الهجرة الصينية.هناك اليوم16 مليون آسيوي تقريبا في بلدان مجلس التعاون الستة، ومن المرشح أن يصل إلى30مليونا في عام 2025
تبين الاحصائيات الرسمية وشبه الرسمية لعام 2006 ـ 2007، الخارطة الديموغرافية كالآتي:تصل نسبة العمالة الأجنبية في الكويت إلى60%.البحرين50%.السعودية 40 إلى50%.عمان30%.أما في قطر فتصل إلى85%.وتصل نسبة المهاجرين في الإمارات إلى90%.
هناك اليوم قرابة سبعة ملايين آسيوي في الإمارات وحدها!
تشكل نسبة الهنود 60% من مجموع تعداد السكان، أي قرابة أربعة ملايين، مقابل800 ألف مواطن فقط!!
ويتبين من هذه الأرقام الناطقة، إذاً، أن خلف المباني الشاهقة وبريق الثراء ثمة مأساة وطنية وقومية في طور التحقق.
إذ لم تعد المسألة، كما جرى وصفها سابقا، مسألة خلل» في التركيبة السكانية، بل تحولت، بعد ثلاثة عقود من الوجود الفاعل، النشط، إلى مسألة استيطان آسيوي واضح وطاغٍ.
لا جدال في أننا أمام مشهد مقلق جدا. يقول مجيد العلوي، وزير العمل البحريني السابق، إن الهجرة الأجنبية تهدد وجودنا… وإذا لم يتحقق هذا التهديد اليوم فسيتحقق في الجيل القادم». والجيل القادم يعيش بيننا الآن. إذاً، لم يعد التغيير السياسي إلا مسألة وقت قصير. إنه داهم على الأبواب.
تمثل الإمارات وقطر أضعف حلقتين في المنطقة، تليهما الكويت والبحرين. على الأقل توجد في الكويت جالية عربية كبيرة.
هناك استثناءان. عُمان تبدو محصنة بثقافتها وتاريخها العريق، وربما يحمي (المملكة السعودية) بلاد الحرمين، مركزها الديني المميز من المصير المجهول.
بيد أن الوجود الأجنبي ينخر في الجسم العربي الخليجي، وأي تغيير سياسي في أي بلد من بلدان المنطقة سيكون له تداعيات كبيرة على الأقطار الأخرى. لن يسلم الخليج كله من ذلك.
كانت الأسئلة المؤرقة للإنسان الخليجي، هي: كيف وصلت بلدان الخليج العربي إلى هذا المأزق التاريخي؟من هو المستفيد الأول من هذا التحول الديموغرافي الدراماتيكي؟
كيف تم كل ذلك بصمت محير؟ هل الأمر نتاج تطور طبيعي أم إن ثمة محركا خارجيا؟
لكن تلك كانت أسئلة الأمس، سؤال اليوم هو: هل ثمة مخرج؟
تُساق جملة من العوامل تسببت، في مجملها، في إيصال المجتمعات الخليجية إلى هذا المأزق التاريخي.أهمها، كما قيل،تعداد السكان الصغير، والثروة الهائلة. بيد أن هذه الادعاءات، على حقيقتها، لا يمكن ان تمثل عوامل سلبية، بل على النقيض، هي عوامل إيجابية لتحقيق التنمية الوطنية. هي عوامل تضمن، منذ البدء، نجاح التنمية.
ستكون الإشكالية حقيقية لو كان العكس صحيحا. كما ان الثروة الوطنية لا يجب، في الظروف الطبيعية، ان تتسبب في تهميش المجتمعات الصغيرة وتلغي هويتها.
لكن الإشكالية الحقيقية تكمن في التوجهات التنموية، في الفكر التنموي ذاته. إذ شكلت السياسات التنموية، التي طبقتها الحكومات الخليجية طوال العقود الثلاثة الأخيرة، وعلى نحو متفاوت، الإطار العام الذي أحدث هذا التحول الكبير.
فالتركيز الكلي على قطاع البناء والإعمار وتشجيع الاقتصاد الريعي والحداثة الزائفة، أهمل حقائق الديموغرافيا والجغرافيا والتاريخ.
لم تأخذ هذه التنمية» في حساباتها حاجات المجتمعات المحدودة في المنطقة. فتنمية هذه المجتمعات الصغيرة لا تحتاج إلى هذه الملايين من العمالة الأجنبية!
فضلا عن ذلك، لم ترافق هذه السياسات التنموية» رؤية تنموية اجتماعية وثقافية. لم تراعَ مسألة الهوية الوطنية والثقافية. لم تأخذ في الحسبان مسألة الأمن الوطني والاستراتيجي للمنطقة ككل.
والنتيجة، اليوم، نرى هذا التراجع في الحضور العربي والتهديد الجاد والماثل للمستقبل العربي في المنطقة بأكملها.
ـ يتبع ـ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* باحث و كاتب وأكاديمي و دبلوماسي إماراتي (1951 ـ 2020)
تصفح أيضا
جلـ ... منار
فرنسا “الساحل العلوي”: نوستالجيا الانتداب وابتذال الاستشراق
نشرت
قبل يوم واحدفي
27 مارس 2025من قبل
التحرير La Rédaction
صبحي حديدي:
خلال مشاركته في مؤتمر المانحين حول سوريا، الذي احتضنته بروكسيل مؤخراً؛ ولكن، أيضاً، على صفحته الشخصية في منصة X ؛ كرّر وزير الخارجية الفرنسي جان ــ نويل بارو استخدام تعبير “الساحل العلوي” في إشارة إلى أعمال العنف والاشتباكات المسلحة والمجازر ضدّ أبناء الطائفة العلوية خصوصاً، التي شهدتها منطقة الساحل السوري مؤخراً.

ومن حيث المبدأ، أو التذرّع بحسن النوايا، في وسع المرء الافتراض بأنّ مساعدي الوزير الفرنسي (كي لا يُشار إلى واجب اطلاعه شخصياً على معطيات الحدّ الأدنى الديمغرافية حول المنطقة) قد أعلموه مسبقاً أنّ سكان ذلك الشطر من سوريا ليسوا علويين فقط، بل ثمة أطياف دينية ومذهبية وإثنية شتى، من سنّة ومسيحيين وتركمان وأكراد…مصيبةٌ إذا كان بارو لا يعلم، أو لم يُعلمه مستشارون في وزارة ذات سجلّ حافل بفصولٍ عن سوريا البلد والشعب والجغرافيا، لا تعود بجذورها إلى إرث استعماري مُثقل بعقود من إراقة دماء السوريين وارتكاب الجيش الفرنسي مجازر وفظائع وانتهاكات فظة وجرائم حرب، فحسب؛ بل ينطوي تاريخها الحديث والمعاصر على ملفات شتى من التواطؤ مع نظام “الحركة التصحيحية” الأسد الأب ووريثه الابن معاً، والتغطية على منظومات الاستبداد والفساد، ومحاولات تجميل قبائح النظام وإعادة تأهيله.
المصيبة أعظم إذا كان يعلم، أو أعلموه، لكنه فضّل التغافل عن العلم والمعلومة واختار استسهال هذا الطراز الفاضح من مسخ الصفة الفعلية الوطنية والديمغرافية التعددية لمنطقة الساحل السوري، إلى هوية طائفية ضيّقة من جهة أولى؛ ولا يغيب عنها، من جهة ثانية، مزيج من نوستالجيا استعادة مصطلحات الانتداب الفرنسي وتفاهة التشخيص الاستشراقي في آن معاً.
هذا، كما يقتضي إنصاف سجلات الخارجية الفرنسية (أو الـ”كاي دورساي” كما في التوصيف الاستعماري الأشدّ رسوخاً) وزير غرّ نصف جاهل/ نصف هاوٍ، أتى إلى الوزارة من بوابة حماقة كبرى ارتكبها رئيسه إيمانويل ماكرون، حين حلّ الجمعية الوطنية ووضع فرنسا في مأزق حكومي لا يكفّ عن التفاقم. فإذا كانت تفوهاته حول “الساحل العلوي” زلّة لسان حمقاء في بروكسيل، فإنّ إصراره على استخدام التعبير ذاته على منصة X لن يفلح في منح عقله السياسي والدبلوماسي والمهني (سبق أن ترأس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الفرنسي، كما شغل سابقاً وزارتَيْ التحويل الرقمي والاتصالات، وأوروبا) أدنى درجة من فضيلة الشك.
لكنه، من جهة ثالثة لا تقلّ مغزى، ليس غرّاً إلى درجة التغافل عن أضرار استخدام تعبير، خاطئ وحمّال إشكاليات عديدة وتحريضي واستفزازي، مثل “الساحل العلوي”.
وبالتالي فإنّ من السذاجة الجنوح إلى تفسير الجهل أو انحطاط المعرفة أو زلّة اللسان، في قراءة إصرار بارو على استخدام التعبير تصريحاً في بروكسيل أمام محفل أوروبي ودولي، وتدويناً على منصّة يتابعها مئات الملايين في طول العالم وعرضه. وإذا عزّت مبررات الوزير في الحنين إلى أمثال جدّه الجنرال هنري غورو (المندوب السامي الفرنسي على سوريا ولبنان، الذي تقصد زيارة قبر صلاح الدين الأيوبي، وخاطبه هكذا: «استيقظ يا صلاح الدين. لقد عدنا. وجودي هنا يكرّس انتصار الصليب على الهلالـ«)؛ فلعلّه يحنّ إلى دور الانتداب الفرنسي في تأسيس ما أسمته باريس «دولة جبل العلويين» بين سنوات 1920 وحتى 1936، وشجعت تضافره على تقسيم سوريا مع دويلات دمشق وحلب وجبل العرب، وسلخ لواء الإسكندرون وضمّه إلى تركيا.
أم لعلّ بارو هذه الأيام تناهبه حنين إلى سَلَف له في أيام ماضية يدعى لوران فابيوس، سنة 2012؛ الذي اشتبك، في قاعة مجلس الأمن الدولي، مع بشار الجعفري مندوب النظام السوري آنذاك، حول علاقة بعض «وجهاء» العلويين بالانتداب الفرنسي. وهكذا أشار فابيوس إلى واقعة صحيحة تاريخياً: “بما أنك تحدثت عن فترة الاحتلال الفرنسي، فمن واجبي تذكيرك بأن جدّ رئيسكم الأسد طالب فرنسا بعدم الرحيل عن سوريا وعدم منحها الاستقلال، وذلك بموجب وثيقة رسمية وقّع عليها ومحفوظة في وزارة الخارجية الفرنسية، وإن أحببت أعطيك نسخة عنه”».
ولأنه ينتمي إلى الـ”موديم” الحزب اليميني الذي يتلفع بأردية ليبرالية كاذبة، فلعلّ بارو اتكأ على تراث شاع في قصر الإليزيه، خلال عهود جاك شيراك ونيكولا ساركوزي، وتولى مراراً سلسلة عمليات تجميلية أعادت تأهيل صورة الأسد الابن؛ بل بادر شيراك إلى منح قَتَلة صديقه رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري المغفرةَ والترحيب معاً، مستأنفاً خطّ تعاطف مع نظام “الحركة التصحيحية” شمل الأب مثل الابن. ذاك عكس مزاجاً، سياسياً ولكن شخصياً أيضاً، جسدته حقائق أنّ شيراك كان الرئيس الغربي الوحيد الذي سار في جنازة الأسد الأب؛ كما كان المبادر إلى كسر عزلة الأخير الدولية، حين دعاه إلى زيارة باريس رسمياً في صيف 1998؛ وإلى إضفاء شرعية سياسية وأمنية على وجود قوّات النظام السوري في لبنان، خلال افتتاح القمّة الفرنكفونية في بيروت، سنة 2002.
من جانبه كان ساركوزي يواصل سياسةً في مراقصة طغاة الشرق الأوسط اعتمدها رؤساء فرنسا، سواء في العقود الأخيرة من عمر الجمهورية الخامسة في فرنسا، أم في عقودها الوسطى (أوّل زيارة للأسد الأب تمّت في عهد فاليري جيسكار ــ ديستان، 1976، بعد أشهر قليلة على دخول القوّات السورية إلى لبنان). فإذا كانت الأنشطة الدبلوماسية في العقود الأولى بمثابة تمرينات مبكّرة على ما ستطلق عليه التنظيرات الديغولية صفة «السياسة العربية لفرنسا» فإنّ خيار ساركوزي في الانفتاح على النظام السوري كان مدانياً لسلوك طبيعي، منتظَر وغير مستغرب البتة، من ذلك الرجل بالذات. الابتذال الاستشراقي تبدى أولاً في الزعم بأنّ العلاقة مع الأسد الابن هي امتداد «جغرافي» لوقوع سوريا على شواطئ المتوسط؛ الأمر الذي يلمّع انتداباً فرنسياً استعمارياً خضعت له سوريا، قبل أن يطوي صفحاته العنفية التي أراقت دماء السوريين في موقعة ميسلون صيف 1920، وقمع الثورة السورية الكبرى لعام 1925، ومذبحة حامية البرلمان السوري سنة 1945…
وظلّ حبراً على ورق ذلك النداء الذي وجهته إلى ساركوزي ثماني منظمات حقوق إنسان دولية (بينها “العفو الدولية” و”ميدل إيست واتش” و”الاتحاد الدولي لروابط حقوق الإنسان” و”الشبكة الأورو ـ متوسطية” و”المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب”…)؛ وناشدته إيلاء اهتمام لوضع حقوق الإنسان في سوريا. أحد أسلاف بارو في الخارجية (برنار كوشنر، صاحب نظرية التدخّل الإنساني في الشؤون السيادية للدول) اكتفى بدسّ قصاصة في جيب وزير خارجية النظام وليد المعلّم، تضمنت لائحة بأسماء معتقلين سياسيين سوريين، سوف ستبتهج فرنسا بإطلاق سراحهم!
ولا عجب أن يصمت بارو عن انتقادات طالت تعبيره المغلوط الفاضح، فالقادم من الرجل قد لا يكون مماثلاً فقط، بل أعظم!
ـ عن “القدس العربي” ـ


في الكتاب الرائع (قوة الخرافة) The power of Myth يسأل المحاور بيل مويرز الفيلسوف الأمريكي جوزيف كامبيل: هل الخرافة كذبة؟ يرد الفيلسوف: لا لا أبدا… إنها الطريقة الأسهل استيعابا للتعبير عن الحقيقة؟

قد تكون ممن يؤمنون أن فكرة التجسد خرافة، ولكن ليس لدي شك لو حاولت أن تستوعبها لساهمت فلسفتها في توسيع مداركك، كما ساهمت في توسيع مداركي. كنت ـ ولم أزل ـ أعتبر قصة بلع الحوت ليونس وبقائه في بطنه اسابيع خرافة لا تمت إلى الحقيقة بصلة ولكن بعد أن قرأت كيف اعطاها الفيلسوف كامبيل بعدا فلسفيا، صرت أكثر تقبلا لها، وليس أكثر ايمانا بها. فليس شرطا أن تؤمن بما اؤمن، ولكنك ملزم كونيّا وأخلاقيا أن تقبلني كما اؤمن، طالما لا اُسيء بايماني إلى أحد.
……..
من أجمل الذكريات وأكثرها شفافية وروحانية هي حياتي مع ستي أم علي. كنا نجلس على شرفة منزلنا ونمعن النظر في القمر، وهو يرش ليراته الفضية على عروس البحر بينما تتماوج ليلا بدلال وغنج. كانت تقول لي ببراءة لا يشوبها خبث: انظري إلى القمر…امعني النظر…ماذا ترين؟؟؟ ألا ترين وجها بشريا؟؟؟ إنه وجه الإمام علي كرم الله وجهه.
هل مجنون فيكم يظن أن وفاء سلطان اليوم تؤمن بأن القمر هو الإمام علي؟؟؟ طبعا لا أتصور وجود هذا المجنون. ولكن أين الخلل في ايمان جدتي بأن مثلها الروحاني الأعلى متجسد في القمر؟؟؟
كانت جدتي أكثر بساطة من عشبة الجرجير، وكانت تظن أن العالم كله ينتهي عند حدود قريتها. لأنها ابنة ريف تعلقت بالمظاهر الطبيعية وراحت تربط رمزها الروحاني بأجمل تلك المظاهر، ألا وهو القمر.
لا أحد يعرف سرّ هذا الربط، هل هو حبها للإمام علي أم حبها للقمر أم لكليهما معا؟؟؟؟
……..
وفاء سلطان لا تقيّم اليوم أية فكرة إلا من خلال حقلها الطاقوي الذي يحدثه المعنى الكامن في الفكرة.
ماذا تختلف فكرة جدتي عن فكرة أن المسيح ولد بلا دنس وجاء ليخلص الجنس البشري من آلامه؟؟؟
لا شيء!
إذا اردنا أن نقيس الفكرتين وفقا لمقايس صارمة كجدول الضرب لا بد أن نرفض كليهما!
لكن الحياة لغز، ولا نستطيع أن نقرأها فقط كما نقرأ جداول الضرب.
لا بد أن نحترم حق العقل في أي يجنح للخيال، وحقه في أن يؤمن بما هو خارج تلك الجداول.
كلا الفكرتين جميلتان، وجمالهما يكمن في الطاقة الإيجابية التي يفرزها المعنى الكامن في كل منهما.
تستطيع أن ترى وجه هيفاء وهبي في القمر لو أردت أن تراه، وليس من حق أحد أن يكذبك، فالخرافة ليست كذبة، بل هي طريقة سلسلة للتعبير عن لغزية الحياة.
منذ أن علمتني جدتي أن أرى وجها بشريا في القمر وأنا أراه، ولكن تعددت الوجوه التي بت أراها، ولم تعد تقتصر على وجه واحد، وأبرز تلك الوجوه وجه ابنتي أنجيلا
……..
منذ أن علمتني جدتي فن التحديق وانا أحدق في كل مظهر من مظاهر الطبيعة وارى فيه جزءا من القوة السحرية التي تتجسد في كوننا العظيم…
لذلك، خرجت إلى الحياة أعشق القمر وأعشق التحديق فيه بحثا عن وجه أحبه، ولم أخرج ملكة يمين
……..
دُعيت مرّة إلى عرس ربما كان من أفخم الأعراس التي رأيتها في حياتي أو ربما سمعت عنها.
كان العرس لطبيب وطبيبة من أصول هندية هندوسية، واُقيم في منتجع في مدينة نيويورك.
المائدة كانت ساحرة، ولم تحوِ طبقا واحدا مصنوعا من منتجات حيوانية، حتى قالب الكيك كان كقلعة كبيرة وكان مصنوعا بلا بيض وبلا زبدة.
المهم، بعد أن انتهت مراسم العرس وزع المشرفون على العرس على كل ضيف موزة، وطلبوا منهم الخروج من إحدى بوابات القاعة إلى إحدى حدائق المنتجع، حيث كانت تجثم ثلاث بقرات على العشب الأخضر.
قام كل ضيف بناء على طلب المشرفين بالانحناء أثناء المرور أمام البقرات والقاء الموز لهن.
أستطيع أن أجزم أن الحفل ضم أشخاصا من كل طائفة ودين على سطح الأرض، ولم يرفض أحد منهمفكرة المرور من أمام البقرات والإنحناء
ليس هذا وحسب، بل لم أرَ شخصا واحدا يتصرف بطريقة غير لائقة، بل بكل احترام.
أين الخلل في ذلك؟؟؟
هم يرون أن عظمة الخالق تتجسد في البقرة،
والمسيحيون يؤمنون أنها تتجسد في المسيح
وستي أم علي تؤمن أن عليا يتجسد في القمر!
أين الخلل؟؟
كلها أفكار مسرفة في جمالها طالما لا تنتقص من أحد
ولا تُسيء إلى أحد.
كلها أفكار تفرز طاقة ايجابية، طاقة تساهم في رفد الدفق الكوني الذي يسيّر دفة الحياة.
ولكن؟؟؟
هل يمكن أن أقبل فكرة شريرة تفرز طاقة سلبية تعرقل انسيابية الدفق الكوني باتجاه مساره؟
……..
أقسم لكم بأعز ما أملك عاشت ستي حتى قاربت المائة، وماتت لا تعرف شيئا عن العلوية، ناهيك عن الإسلام،
إلا أن عليا متجسد في القمر
هل هناك دين على سطح الأرض أبرأ وأجمل
من دين ستي؟؟؟
حاولت مرة ولأسابيع أن اعلمها الفاتحة.
هي أمية ولا تجيد نطق اللغة الفصحى،
لو سمعتها أم ثكلى فقدت طفلها لتوها وهي تردد الفاتحة لأغمي عليها من كثرة الضحك
ماتت جدتي لا تعرف الفاتحة، وهذا سرّ قدسيتها في نظري.
يبدو أن روحها الطاهرة كانت ترفض أن تؤمن بوجود المغضوب عليهم والضالين، فالانسان يخسر قدسيته عندما يوصم شعبا بالمغضوب عليه والضالين، وكذلك عندما يوصمني بـ “بنصيريّتي”
ويوصم نصيريتي بالالحاد والشرمطة!!!
……..
كانت تعجن كل صباح وكنت ارافقها إلى الفرن كل يوم،
ومرة كل فترة كنت أرافقها مع عجينها إلى بيت ريفي يقع على مشارف مدينة بانياس حيث ولدت وترعرعت.
كان لصاحبة البيت تنور، وكانت ستي تحن إلى خبز التنور من حين لآخر
وبينما هي تغني موالها المحبب إلى قلبها “سكابا يادموع العين سكابا” وتلصق أرغفتها في بطن التنور، كنت أراقب لغة جسدها وأمتص طاقتها.
كانت تتوقف بين الحين والآخر عن زخ مواويلها لتقول لاحد المارة: (تفضل ياخي، خدلك رغيف خبز مشان الله)
وكنا نعود وفي حوزتنا نصف الأرغفة.
اشتعلت مرة غضبا وصحت بها:
لماذا تعطين نصف خبزنا للمارة؟
فشهقت وردت: (يا عين ستك الحياة رايحة، والانسان ما بياخد معو إلا الأرغفة التي أعطاها للناس)
……..
(لا تأخذ معك إلى قبرك إلا ماتعطيه)
ها أنا اليوم أعيش فلسفة ستي ام علي بحذافيرها، أعيشها بنفس الحرفية التي يطبّق بها داعشي تعليماته.
نعم، كلنا متطرفون، ولكن كل بطريقته…
لا يبقى في بيتي إلا نصف ما أعجنه، هذا إذا بقي النصف، وعندما أضع جداول التوزيع لا أرى فرقا بين إنسان وآخر، لأنني نسيت سورة الفاتحة!
ماتت جدتي ولم تصلّ يوما
لم تحج في حياتها، ولم تدخل معبدا
ولكنها أعطت في مرات كثيرة نصف خبزنا للمارة،
وهذا وحده كفيل أن يكون جواز سفرها إلى ملكوت الله،
……..
لم تمارس جدتي طقسا دينيا واحدا باستثناء اشعال البخور صباح كل جمعة،
لا لسبب سوى رغبتها في أن تملأ البيت رائحة طيّبة تنعش الروح.
سقطت تلك العادة من ذاكرتي عندما رحلت إلى أمريكا، لأكتشف لاحقا أن عادة اشعال البخور من أهم الطقوس الدينية لدى السكان الأصليين لأمريكا، الهنود الحمر، واكتشفت أن بالاسواق عشرات الأنواع التي تختلف باختلاف رائحتهأ، والتي لا يخلو بيتي منها يوما.
كانت جدتي تشعل بخورا، وكان هنديّ أمريكيّ يشعله ايضا في الطرف الآخر للكرة الأرضية.
لا أحد فيهما يعرف عن الآخر شيئا، لكنهما يمارسان نفس الطقس، ويطرح السؤال نفسه؟
ألسنا موصولين كونيا بشكل أو بآخر؟؟
ألسنا موصولين جميعا بنفس المركز الطاقوي الكوني؟؟
نعم، لقد كانت جدتي موصولة بصديقها الهندي الأحمر
وكانا يتبادلان لغة غير محكية،
ليس لدي شك!
……..
لكن هذا المسلم الذي يشتمني بـ “نصيريتي” ويقرنها بالإلحاد والشرمطة لابد أنه فقد تواصله مع ذلك المركز، وضل الطريق المقدس
……..
ضل الطريق المقدس
ذلك الطريق الذي تشير إليه صلاة يتلوها الهنود الحمر، صلاة مشهورة يطلقون عليها
Ojibway Prayer
دعوني اصليها لكم بعد أن عرّبتها:
(ياجدنا الأكبر
اشفق على انكساراتنا
فنحن وحدنا من بين جميع المخلوقات
ضللنا الطريق المقدس
ونعرف حقا أننا منقسمون
ليس هذا وحسب، بل علينا وحدنا كبشر
أن نعود إلى وحدتنا
كي نمشي في الطريق المقدس
يا جدنا الأكبر
ياوحدك المقدس
علمنا الحب والشفقة ومعنى الشرف
كي نلأم جراح الأرض
وجراح بعضنا البعض)
* المقصود بالجد الأكبر “الكون العظيم”
……..
ذاك السنّي الذي يشتمني بنصيريتي، كم هو اليوم بحاجة لأن يشعل بخوره كي يتوحد مع ذلك البعيد المختلف عنه،
وكم هو بحاجة أن يصلي تلك الصلاة كي يدرك معنى الحب والشفقة ومعنى الشرف، فيصبح قادرا على أن يلئم جرحه، ويلئم الجرح الذي فتحه في قلبي…


أحمد خالد توفيق:
أشهر قصة تُحكى عن شرود الذهن هي قصة إديسون العالم الأمريكي العبقري الذي لم يحضر حفل زفافه. السبب هو أنه انشغل في المختبر بتجربة مهمة، وقد بحثوا عنه كثيراً فاتضح أنه كتب موعد الزفاف في مفكرته لكنه نسي!

لا أعرف ما قاله لعروسه في تلك الليلة السوداء لكن التاريخ لا يذكر أن فسخ الخطبة قد تم على كل حال.
وهناك نيوتن عالم الرياضيات الذي كان جالساً قرب المدفأة لكنه لا يشعر بالدفء. فطلب من خادمه أن ينزع المدفأة من الجدار ويقربها منه، فقال له الخادم في أدب:
ـ لماذا لا يقوم سيدي بتقريب مقعده من النار؟
هنا شهق نيوتن، وأعلن أن خادمه عبقري حاضر الذهن فعلاً!
القصة الأغرب هي (تشسترتون) الكاتب المسرحي البريطاني الشهير الذي وقف في طابور مكتب البريد ليحصل على حوالة مالية، فلما بلغ الشباك اكتشف أنه نسي اسمه!، وكان أول ما قاله للموظف المذهول:
ـ معذرة يا سيدي… لكن هل تعرف اسمي؟!!
يمكننا بسهولة أن نتصور ما قاله الموظف وما فعله.
شرود ذهن العباقرة أمر معروف للجميع، وإن كان يسبب الدهشة أولاً.
وكثيراً ما يدفع الناس إلى اعتبار العبقري على شيء من ”الخبال” أو الجنون… لكنهم بعد ذلك يقبلونه باحترام.
لكني أعترف أن شرود الذهن لا يدل على العبقرية في كل الظروف، بل قد يدل على عقل خاو تماماً. وباعتباري من الذين اشتهروا بشرود الذهن، فإنني أقر وأعترف أن أغلب الأوقات التي شوهدت فيها شارداً لم يكن في رأسي أي شيء مفيد، لكن الناس تنظر لي في احترام، وتتصور أني أنظم قصيدة عصماء أو قصة عبقرية.
أشهر من عرف بشرود الذهن في عالم الأدب هو الأديب المصري (توفيق الحكيم)، لكن المخرج (محمد كريم) جلس معه طويلاً أثناء كتابة سيناريو فيلم (رصاصة في القلب) ولاحظ أن جزءاً من هذا الشرود إرادي تماماً. مثلاً، لاحظ أن توفيق الحكيم يجلس شارد الذهن وذقنه مستندة على مقبض عصاه، فيقول له محمد كريم: هناك فتاة حسناء سألت عنك أمس.
عندها يفيق الفيلسوف الشارد على الفور، ويستفسر عن كل التفاصيل. هذا إذن شرود إرادي يفيق منه متى أراد.
الموسيقار عبد الوهاب اشتهر بالشرود الحقيقي، ويقول كل من اقتربوا منه إنه كان يزوم كالقطط طيلة الوقت لأن الألحان لا تكف عن زيارة عقله.
أحمد شوقي الشاعر كان شارد الذهن كذلك، وكان يخرج علبة السجائر كل بضع دقائق ليدون على هامشها بضعة أبيات قبل أن تضيع.
على كل حال، يمكنك أن تنجو بشرودك فلا يسخر منك أحد إذا أقنعت الناس أنك فنان. وهو حل لا بد أن تلجأ إليه إذا أردت أن تنجو من مواقف محرجة جداً.
مثلاً، ذات مرة كنت شارد الذهن وقابلت امرأة ذات وجه مألوف على سلم بيتي فهززت رأسي وقلت في وقار متحفظ: مساء الخير.
وواصلت النزول، فقط بعد ربع ساعة تذكرت أن التي قابلتها هي أختي! والله العظيم حدث هذا وليس من تأليفي.
في مرة أخرى كانت زميلة عمل مملة تكلمني بصوت رتيب عن أشياء كثيرة، فلجأت إلى الحل الأمثل وهو صوت (ام م م!) كل ثلاثين ثانية بما يوحي بأنني أتابعها.
وفجأة فطنت إلى أنها تنظر لي في لوم وقد كفت عن الكلام الرتيب، ولما نظرت إليها قالت:
ـ أنا أسألك!!، وكالعادة لا إجابة عندك إلا (ام م م).
هذه مواقف محرجة جداً لهذا عليك أن تقنع الناس على سبيل الاعتذار أنك عبقري وأنك تفكر في عظائم الأمور. عليك أن تعتذر ثم تخرج ورقة مطوية وتدون فيها بعض الكلمات بلهفة ويد ترتجف، ثم تتنهد في ارتياح كمن فرغ من آخر بيتين في ملحمة الإلياذة.
غرابة أطوار؟ ربما… لكنها ليست أغرب من أن تقابل أختك فلا تعرفها، أو تكتشف زميلتك انك لا تسمع حرفًا مما تقول.
وكمــــا هي العــــــادة، شرود الذهن سوف يجعلني أفرغ من كتابة هذا المقال ثم أرسله لزوج خالتي كما أفعـل في كل مرة، بدلاً من إرساله لهذه الجريدة الغراء، وسأزعم أنني كنت أفكر في المقال التالي!


اليوم… افتتاح جسر رادس المروج

“حماس” تردّ على المظاهرات والتهدئة المنسوبة لمشعل… لن نتخلّى عن حكم غزة

بوتين… هذا موقف روسيا من مشكلة غروينلاند

رئيس حكومة كندا الجديد: علاقتنا القديمة المميزة مع الأمريكان… انتهت!

الدين في جوهره ليس مادة للتندر، ولا منصة للتعالي… بل رسالة هدي ومواساة
استطلاع
صن نار
- اقتصادياقبل 5 ساعات
اليوم… افتتاح جسر رادس المروج
- صن نارقبل 5 ساعات
“حماس” تردّ على المظاهرات والتهدئة المنسوبة لمشعل… لن نتخلّى عن حكم غزة
- صن نارقبل 5 ساعات
بوتين… هذا موقف روسيا من مشكلة غروينلاند
- صن نارقبل 5 ساعات
رئيس حكومة كندا الجديد: علاقتنا القديمة المميزة مع الأمريكان… انتهت!
- منبـ ... نارقبل 12 ساعة
الدين في جوهره ليس مادة للتندر، ولا منصة للتعالي… بل رسالة هدي ومواساة
- اقتصادياقبل يوم واحد
أكودة: أين المراقبة الاقتصادية لمكافحة ارتفاع الأسعار؟
- جور نارقبل يوم واحد
ورقات يتيم… الورقة 112
- صن نارقبل يوم واحد
مستوطنون يعنّفون مخرجا فلسطينيا… لحصوله على جائزة أوسكار!