تابعنا على

بنات أفكار

قراءات: الكتابة بنصل السّكّين

… أو ملامح الرّفض وتجلّياته في رواية “شقائق الشّيطان” للرّوائي التونسي نعمان الحبّاسي

نشرت

في

“شقائق الشّيطان” هو عنوان رواية للكاتب التّونسي نعمان الحبّاسي، وهي باكورة أعماله الإبداعيّة، صدرت سنة 2021، عن الدّار التونسيّة ميارة للنّشر والتّوزيع. جاءت طبعتها أنيقة الإخراج ، في 152 صفحة، من الحجم المتوسّط.

<strong>لطفي العربي البرهومي<strong>

عنوان الرواية يحيل الذّهن مباشرة على تسمية الزّهرة البريّة الجميلة شقائق النّعمان، قبل تحويل وجهة التّسمية، وما ترويه ذاكرة الأسطورة العربيّة عنها، وعن أصل حيازتها لهذا الاسم، هو أنّه أوّل ظهور لها كان على قبر النّعمان بن المنذر، ملك الحيرة، الذي مات مطحونا بأقدام الفيلة انتقاما منه، ودوسا على كبريائه العربيّ، بعد أن رفض تسليم نساء العرب كسبايا لكسرى، ملك الفرس. ما يجعلنا نستشعر، منذ البداية؛ من عتبته الأولى، أنّ الكتاب يطفح برائحة الموت، ومشاهد الخراب. لتتحوّل شقائق الحبّ والمواساة، إلى حجارة رجم، ولعبة موت؛ “شقائق الشّيطان”.

لغة الرّواية منمّقة ومنتقاة بعناية بالغة، تحيلك لحظة تطالعك، على كتّاب كبار، من ذوي السّلطة المعرفيّة، كمحمود المسعدي نثرا، وعلي أحمد سعيد، المكنّى بأدونيس، شعرا. وربما تذكّرك، أيضا، بلغة أقطاب دراويش الصوفيّة، كابن عربي وشمس الدين التّبريزي والحلّاج، وهم تحت سطوة الوجد. إلّا أنّها، في الحقيقة، ليست أيّة واحدة منها. هي لغة أخرى، عالَم لغويّ مبتكر وفريد، فالعارف ببواطن الأدب لا يتطرّق الوهم إليه، أبدا، في أصلها، وبأنّها تحمل بصمة صاحبها، وابن شرعيّ له. فهو قد سلك فيها طريقا لم يسبقه إليها أحد. إنّه طراز مستقلّ، وخصب.

ربما هي، اللغة، من تمازج عالم الكلام الرّحب ولوثة الوعي. وهنا، في رأيي، حقّق الكاتب شرطا أساسيّا، وهو من الأمور التي لا غنية عنها، كي يُضمّ ما كتب إلى عالم الإبداع. فالإبداع الأدبيّ، في النّهاية، ليس إلاّ الكتابة على غير نظام سابق. يقول الفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون، في كتابه ” حضارة العرب”؛ ( إنّ أصحاب الفنّ يتفلّتون حين يحلّقون في سماء الخواطر، من قيود السّنن، ولا يعرفون لأنفسهم سادة). جاء الخطّ الكتابيّ هائجا، مائجا ومستفزّا، يتحرّك في قفزات كبيرة عملاقة، لا يعطي أدنى اعتبار أو قيمة للمسافات، أو الزّمن، كصخور ضخمة مدبّبة تسقط من عل، من ذرى جبل شاهق.

إنّها بين تناصّ مع النّصّ القرآنيّ، وإحالات على كتّاب وفلاسفة كبار، من شرق وغرب؛ أحلام مستغانمي، في أسودها، والفيلسوف الأمريكي من أصل ياباني، فرانسيس فوكوياما، من خلال كتابه الذي أعلن فيه عن موت التاريخ، هذا على سبيل الذّكر لا حصر. لغة أقل ما يقال عنها إنّها حيّة، ضاجّة صاخبة وقويّة كهزيم الرّعد، تصرخ في وجه متلقّيها، بكلّ قوّة: استيقظ، ما بك .. إنّ النّهايات على المشارف!! إلى أن يتمثّل إليك الكاتب بوجه متكدّر غاضب، وهو يزمّ شفتيه بأسى عميق، فلا تجد لنفسك مهربا من أن تشاركه استياءه.

إنّه يقابل الواقع بمزاج رافض وعدائيّ، إلى أن يكاد يطلق عواء، بدل الكلام. فيبدو لك كمن هو على وشك أن يشنّ حربا، كي يقلب كلَّ شيء رأسا على عقب. فتاريخ الكتابة ليس إلّا تاريخ المحو، لا الإثبات والإقرار. يقول جوزيه ساراماغو؛ ” ما يحرّك الفنّان هو الممحاة، لا القلم، إنّه يمحو كلَّ شيء حيث يمرّ”. إنّه يروي تاريخ الخراب، بأدقّ تفاصيله؛ خراب الأرض، بعد أن كانت وديعة ومقراة، دون أن يحذف أيّ تفصيل. حين تستحيل مأساة رهط من البشر، مناسبة لسعادة رهط آخر، تغدو الثّورة على كلّ شيء، واجبا مقدّسا، بل وأمرا لا محيد عنه. ألم يقل الأوّلون؛ آخر الطّبّ الكيُّ.

لقد تقوّض القانون الإنسانيّ، والأخلاق الحميدة، والإيمان، إلى أن استحال الإنسان، هذا الكائن الغريب، الذي أعيى الفلسفة والفكر في فهمه وتحديد ماهيته، إلى طائر رخّ، ناهش للحوم بني جلدته من البشر. لقد أعاقه عماه الذّهني عن أن يدرك أن إفناء الآخرين هو إفناء لذاته أيضا، فهو لحظة يرتكب جريمته، لا يستحيل قاتلا فحسب، بل قاتلا ومقتولا. مجرما وضحيّة. هذا الذي يجور على الآخرين، بضمير هادئ ومرتاح. إنّه حريص على الجمع والمنع، إلى أن أغرق كوكب الأرض، في ظلام كلّيّ، دامس، وجعله، برعونة تصرّفه، مكانا ضيّقا تماما مثل قمقم، بل وسيّئ السّمعة أيضا.

إنّ منسوب الرّفض العالي للكاتب يجعل المتلقّي يقرأ الكتاب، بعينين جدّ مفتوحتين. أليست الكتابة، في النّهاية، حفرا في اللّحم الحيّ؟ غوصا في تجاويف الكلوم الدّامية، والقروح النّازفة، لغاية تطهيرها. إنّه لا غنى عن كشط اللّحم المتورّم بمدية ذات نصل معقوف، ووضع أصابع اليد فيها بكلّ عنف، من أجل إزالة القيح المتراكم فوقها كالصّدأ. هذا لو أراد المرء حقّا أن يرفع أكفان الجهل الثّقيل عن العقول. إنّه لا مهرب من مداواة الألم بالألم. بل مداواة الألم بالألم الأشدّ منه. إنّه قانون البعث؛ قتل الدّاء بالدّاء. إلى أن غدت لافتات الثّورة الجديدة، ثورة على الثّورة، ربما، مرئيّة بالوضوح كلّه، في هذا الكتاب.

اسمعوا لصاحب النّص، ماذا يقول، وهو يروي إحدى النّهايات، أو البدايات، ولا يدري المرء أيّهما أقرب إلى التّأويل الصّحيح” … فنفخ في السّحاب والبحر، وأمر ريح الزّلازل، فانطبقت القرية على نفسها بركام الحزن والفرح والبؤس والشّوق، والآخرة غامضة جليّة. فَقُضِيَ الأمر، وعمّ الصّمت”. ما يشعرك أن الكلمات ألسنة لهب. مطرقة نيتشة الحانقة، الغاضبة، وهي تطارد ذلك المتبقّي من الزّعانف الحيّة، تلك التي تمنّعت عن الموت، كائنات الخضوع والخنوع، وسبب الخَوَرِ والدّمار، لتتمّ الإجهاز عليها. كأنّه لا بدّ من الفناء، كي يكون هنالك بعث. ألم يقل المسيح، وهو يحدّث حوارييه؛ ” الحقّ أقول لكم، إن لم تمت حبّة الحنطة، التي تسقط على الأرض، فسوف تظلّ وحدها، لكنّها إن ماتت، فسوف تنتج حبوبا كثيرة”.

إنّ هذا الغضب العارم، غضب الكاتب، على كلّ ما هو قائم، أو بالأحرى على كلّ ما هو آيل للسقوط، انتصار، أيضا، لذلك الفذّ، ذلك النّملة الدّؤوب، المتطلّع إلى تشييد عالم أجمل، والذي غدا، في هذا الزّمن الرّاهن، قلّة قليلة، بل غدا مهملا ومجرّد هامش. بينما هو لا معنى للبرج من دون فارس نبيل يحميه. لا معنى لهذا العالم من دونه. إنّها الكتابة بنصل السّكّين، حيثما تمرّ، تترك خدوشا وآلاما. فتبدو لك الكلمات تشتغل كتفا لكتف، كي توقد أتونا حارقا. إنّها ثورة على الحاكم والمحكوم، والخاصّة والعامّة، والقاصي والدّاني. لم تستثن أحدا.

وتراني أميل إلى الاعتقاد أنّ الكاتب لم يستثن حتّى نفسه من النّقد والشّجب، من شدّة ما نقد وشجب. إنّه شكل من الاحتجاج الصّاخب. باختصار إنّه الإيقاظ بدقّ المطارق. إنّ صاحب هذا العمل يصوغ كلماته، كمن يرشق حجارته بمقلاع. يقول في الصفحة 76 من الرّواية؛ ” يا أبناء الحرب، يا رموز الإنسان، ألستم من دمّر الأرض، وأهلك الزّرع بقسوتكم وقبحكم، وجعلتم رسالتكم في الحياة زرع بذور الشّرّ؟ أترغبون خيرا، وتزرعون سقما؟”. وتسترسل الصّفحات على نفس هذا المنوال أشواطا كثيرة، بلا هوادة أو مهادنة، في تحدّ بيّن، صارخ، معلنة عن ميلاد نفسها، أو عن قيامتها المنتظرة، كأنّما صاحبها يعلنها صراحة، ودون أدنى مواربة: إيتوا بمثل هذا، إن كنتم صادقين.

ماذا تبقّى لي لم أقله بعد؟ مازال الكثير، فأنا لم أبحث في هذا الكتاب إلا عن جانب الرّفض فحسب، وربّما أخللت في ذلك. ربّما لم أُوَفَّق في ذلك تمام التّوفيق، فالنّصّ ملغز، ومكتنز وثريّ بالمعاني، وحمّال أوجه، ولا يمكن، بأيّ حال من الأحوال، إيفاءه حقّه، في قراءة قصيرة ومبتورة مثل هذه، ومن جانب واحد منه فقط؛ جانب الرّفض. تعجبني مثل هذه الكتابات. هذه التي تحيل على تلك المتون الكبيرة. تلك التي تسعى جادّة جاهدة إلى خلق كون جديد، بل إنسان جديد. وتؤمن أنّ الإنسان، هذا الكائن الآثم والهشّ، هو أيضا عنقاء ولود، لا تنبعث إلّا من رمادها.

تلك المتون التي شغلها الإنسان من حيث هو كنه وماهية، كرواية ” التّحوّل” لفرانز كافكا، ” وسدهارتا”، لهرمان هيسه، و”وهكذا حدّث زرادشت” لفريدريك نيتشه. وكتابات أوشو، الفيلسوف الهندي الكبير. بداية واعدة، لا تَصْدُقُ إلا بالتثنية والتّثليث … و .. و.. . وها هو صاحب النّصّ قد ورّطنا في الانتظار …

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

بنات أفكار

المعمار الشعري وفضاء الرؤيا… في ديوان “أحاديث الكباش”

نشرت

في

100 لوحة عالمية منظر لمعبد الأقصر من النيل حضارة مصر فى مشهد واحد اليوم السابع

الشعر هو فن التشكيل لنص العالم بجماليات اللغة، من خلال إبداعات القصائد التي تبحث في جوهر الوجود، وتُفصح عن كينونة الإنسان، حيث تستلهم في محبة صادقة روحه الصافية وأحلامه العذبة، وتنسج بمغزل من القلب المكلوم أوجاعة المضنية، وربما لم تعرف البشرية عبر العصور صورتها الحقيقية إلّا بفضل المبدعين من الشعراء .

<strong>صالح السيد<strong>

 يتشيّدُ المعمارُ الشعري للنصوص في ديوان “أحاديث الكباش” للشاعر حسين القُباحي  من المشاهد القادمة من وحي الأمكنة والأزمنة والشخصيات والأساطير والحكايات بكل تجاربها وأشكالها و ظلالها، وصفاتها وتعددها وتباينها، من أجل افتتاح نافذة للرؤيا في اتصالها بالعالم تكشف عن غموضه وأسراره وتشكيلاته،

كما  تفتح بوابات النصوص على نداء قادم من أقاصي الحلم يضاعف من طاقتها على الاستشراف وقراءة الآتي والغامض والماورائي.

“لم يكن غيرُ ظلي

وبقايا البيوتِ التي أرهقتْها الفتارين

تذهلُ عما يدور

بائعةُ الخبزِ لم تنتبه للرصيفِ

حين تلاشى

ولا العصافيرُ طارت حين أهالوا عليها التراب

كيف رستْ مسلّةُ على كتفي

وأنا أهرولُ

دون أن أدري

وكيف يطيرُ ظلي في الفضاء

والقدمان خائفتان من نظرِ النوافذِ للطريق

بينما  شمسُ المدينةِ ترتمي

في حِجْرِ قريتِنا العجوز “

ينتمي الشاعر إلى الأقصر – موطنه الأصلي- وهي “طيبة” عاصمة الحضارة الفرعونية، فكيف يرى الحاضر الآن؟!

 تتبدى في استهلال النص إدانة واضحة للحاضر، حيث تغتال المكان قشرة من المدنية الزائفة: تطول الفرد  فتنطمس هويته “لم يكن غير ظلي”، وتستولي على المكان فيتوغل مرغمًا في الاغتراب “بقايا البيوتِ التي أرهقتْها الفتارين” وتخضع الأرصفة لقانون السوق “بائعة الخبز”.

غير أن  الماضي لا يموت، ففي لحظة صاخبة، يستعيد المكان  ذاكرته الخالدة ومجده التليد، وينزع عنه ثالوث  الخضوع والمذلة والاستكانة فيفجّر البراكين، ويدفع بالأعاصير، فتجتاح الفضاء هالة من التغيير “البيوت تذهل، الرصيف يتلاشى، العصافير تتجمد من الخوف، الظل يطير، القدمان خائفتان”، فتنقشع المظاهر الكاذبة، ويستعيد المكان رمزه الشامخ (المسلّة) التي تصطفي الشاعر “الفنان”، و تنتصب على كتفه “كيف رست مسلة على كتفي”، فهو الابن  البار لحضارته العريقة، التي تعود تزهو بحضورها الأصيل في القرية “شمس المدينة ترتمي في حضن قريتنا العجوز”.   

“ماذا لو اقتنعت الحديقةُ

بجدوى مروري

فحوّلت أشجارها قليلًا

وباعدت بين الحشائش

ويداً بيد

قادني الحارسُ الكهلُ

للمنعطف

حيث الحصى يحبسُ الشوك

والرملُ لا يستحلُّ النُّعاس”

 يتشوق الشاعر إلى المكان الحُلم حيث ينفتح النص على تساؤل جمالي لأيقونة الخضرة والبهاء “ماذا لو اقتنعت الحديقة” يعطي للشاعر حرية الحركة “حوّلت أشجارها، باعدت الحشائش”، حيث تتشكل منظومة من السلام الأرضي“الحصى يحبس الشوك”، والطمأنينة الناعمة “الرمل لا يستحل النعاس”،

“على الأطلال

طال وقوف من حولي

ويشغلني صفائي عن توترهم

وعن سهر الرسائل

والكلام

لأبعد من هناك

ومن هنا

طارت مُخيّلتي

وأقدامي تخلت عن تواضعها

فاقتربت إليّ

وامتدت حواراتي”

يسترجع الشاعر زمن أجداده من فحول الشعراء “على الأطلال”، لكنه ينفلت من حزنهم المقيم وأوجاعهم المضنية، وتمزقهم  مع الجموع، حيث يتوحد بذاته المتصوفة “ويشغلني صفائي عن توترهم”، وتبدأ الأنا رحلة الصعود مع الفضاء الكوني “طارت مخيلتي”، وقد انسلخ الجسد من جاذبية الأرض “وأقدامي تخلت عن تواضعها”، لتمتد النجوى أو ينفسح للكلام كل المعمورة.

” والنخلُ لا يتحمل البوح المفاجئ

في الصباح

أحلى وأعلى من رجوع المبعدين

مواكبُ البسطاء

غمغمة العجائز بالعديد

قلق به السكرانُ لا يخشى فصاحته

فيحدّث الوادي

ويبتدر المسالك بالغناء”

ينغرس النخل بحضوره الأصيل فريدًا في تربة الاستهلال، وهو رهيف القلب “لا يتحمل البوح المفاجئ”،  واستطالته باذخة الحنين “أحلى وأعلى من رجوع المبعدين”، لكنه لا ينعزل في عليائه، حيث يتنزّل جماليًا على  بقعة الوادي تستظل به “مواكب البسطاء”، وتأمنه “غمغمة العجائز”، ويطمئن “قلق السكران”، ويحاور الوادي كي يشق مسارب الفرحة والطرب “يبتدر المسالك بالغناء”

” كنت أريدني صقراً خرافياً

جناح دجاجة

خالاً على خدّ

قدماً تسير إلى البعيد المختفي

نارًا بها يستدفئ الفقراء في ليل الشتاء”

يقع الشاعر في حلبة الأمنيات بين الفوز بالأنا  عبر التحليق في طبقات المُثل العليا، والهبوط الاضطراري إلى الأرض وملامسة الواقع.

ففي الحالة الأولى تتبدى الرغبة في القوة الأسطورية “صقراً خرافياً” والوداعة الحالمة “جناح دجاجة”، والجمال الناعم “خالاً على خد”، والقَدَم السحرية “تسير إلى البعيد المختفي”

أمّا في الحالة الثانية فهو يجنح  الي عالم الواقع، إذ يرغب في أن يحترق من أجل الحياة، من أجل مِلح الأرض وهم البسطاء “نار يستدفئ بها الفقراء في ليل الشتاء”  

عازفُ الليل العجوزُ

ـ مستندا إلى عبق الصبا ـ

يرتاح من أيامه الأولى

ويشدو ممعناً في بث شكواه المُطلّة من بعيد

مازال في عينيه فيضُ غواية

وصبا يخالطه الخريف

أصداءُ روح فاترة

شربتْ عصارته السنون ولم يزل

ريّان تستهويه أنفاسُ النساء إذا احترقن

ولا يبالي إن فررن إلى الجنون

متلفّعاً ألوانه الأولى وخشيته من الفرح المفاجئ

يستظل بحزنه ويسير

لا يُلقي إلى الأحداث بالاً

لا ينيخ حمولهُ

إلاّ وقد بزغ الصباح

يُطلق على الرجل المُسنّ في اللغة الفصحى لفظ الشيخ بينما يُطلق على المرأة المُسنّة لفظ العجوز، لكنّ الشاعر يستملح اللغة الدارجة (العامية) تقّرُبًا إلى البيئة الشعبية، تلك التي تساوي بين الذكر والأنثى بلفظ العجوز.

يشتغل الفعل الشعري بطاقته الدرامية والسردية وبحساسية فنية عالية التركيز على شخصية منتخبة، حيث ينفرد العجوز/الذكر بقلب الحكاية، وهو فنان أصيل لا يعترف بغير زمن وحيد، هذا المساء الذي يلّفُ العالم بغلالته السحرية، ويقع وصف الشخصية بين حالتين متناقضتين: مغامرة جسورة في معترك الحياة، ومغالبة قاسية من تيارها.

أحاديث الكباش ديوان جديد فى هيئة الكتاب
غلاف الكتاب

 ففي الحالة الأولى: تتجسد الشخصية في الاستهلال كخلود جماليّ خارج الزمن، لا يرضخ تحت وطأة الكهولة الغاربة، وإنما يتدفق بحيوية صارخة “مستندًا إلى عبق الصبا”، وفحولة راسخة “عينيه فيض غواية، ريّان تستهوية أنفاس النساء”، كما يشارك الصوت/النغم في الاستهلال وينسرب شجيًّا في شريان المتن “ويشدو ممعناً في بث شكواه المُطلّة من بعيد”

أمّا في الحالة الثانية فالجفاف يتسرب إلى كيانه “شربت عصارته السنون”، والجمال يتصدع في وجهه “صبا يخالطه الخريف”، والحزن يعرقل حركته “يستظل بحزنه ويسير”.

لكنه بشموخه الوافر وإرادته الصلبة  يقود هذا المساء الجميل إلى إشراقة جديدة “لا ينيخ حموله ، إلا وقد بزغ الصباح”.

____________________________________

الهوامش :

1 – دراسات نقدية في الأدب الحديث : عزيز السيد جاسم

2 – إشكالية التعيير الشعري وكفاءة التأويل : د. محمد صابر عبيد

 3 – ديوان أحاديث الكباش : حسين القباحي 

أكمل القراءة

بنات أفكار

“طبيب المصعد الاجتماعي” للدكتور صبري… قصة كفاح

نشرت

في

أصدر الصديق الدكتور بلقاسم صبري كتابا عنوانه “طبيب المصعد الاجتماعي” عن دار نظر للنشر وسيقام حفل توقيعه خلال يوم الخميس القادم بمعرض الكتاب.

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari
<strong>محمد الزمزاري<strong>

وقد كان الدكتور بلقاسم صبري من اوائل الأطباء الشبان الذين رسموا تحولا هاما في برامج و توجهات قطاع الصحة العمومية نحو الميدان الوقائي… ويمكن ان نعتبر انه و الفريق المرافق من أطباء خلال الثمانينات اذكر منهم واعتذر للبقية الدكتور فرزة و الدكتور عبد الكريم الزمزاري و الدكتور المرحوم على القراوي، كانوا مناضلين حقيقيين من جنود الخط الأول لمنظومتنا الصحية… وقد عمل الدكتور صبري مديرا جهويا لكامل ولايات الشمال الغربي مجتمعة (الكاف، جندوبة، باجة، سليانة) في أول الثمانينات. كما تم اختياره مسؤولا إقليميا بالمنظمة العالمية للصحة وشغل أيضا خطة كاتب دولة.

لقد سنحت لي فرصة الاطلاع على هذا الكتاب الذي فرض أهميته بفضل المواقف الإنسانية والوطنية لدى الدكتور صبري بالإضافة إلى سردية الذكريات الجميلة والنوستالجية احيانا و المصاعب و الأحداث خاصة بجامعة هارفارد الأمريكية حيث تحصل على أعلى شهائدها كذلك نلمس عبر الكتاب تمسك الدكتور بلقاسم صبري بقواعد الديونتولوجيا الطبية بدقة عالية خاصة بجانبها الإنساني.

كتاب مهمّ يعد محظوظا من يحصل على نسخة منه خاصة ان ريع مبيعات الكتاب سيتبرع به المؤلف والناشر لأشقائنا الفلسطينيين عن طريق الهلال الأحمر التونسي.

أكمل القراءة

بنات أفكار

اللغة والناقة والدبّابة (3)

نشرت

في

Mission impossible : lire au complet Don Quichotte, de Cervantès

إنّ وَصْفَةً واحدةً لمجموعة تقنيّة حديثة تتطلّبُ قرابة ستّة ملايين مرْجَع، أي مائة مرّة ما يتوفّر عليه مُعجم لغةٍ ما. وإنّ تعقيداتِ الحياة وحدَها هي ذاتُ سِعَة لا تُقارن: بين خمسة ملايين وخمسة وثلاثين مليون نوْعٍ من الكائناتِ الحيوانيّة والنباتية، حسب تقديرات (التسعينيات). فالتقنيّة تعني أننا إزاءَ لغة مُفرطة، تتخثّر داخلها أنصافُ مفرداتٍ، تمثّل بدوْرها حصُوناً لغوية. إنّ اللّغات التقليديّة الثلاثة آلاف، المُتكلّم بها على الكُرة الأرضية هي في حالة انقراضٍ، وعشراتٍ منها فقط، معترفٌ بها عالميًا، وبالتالي تراجُع الأخرى إلى المستوى الثاني. وفي هذا الوقت فإنّ اللّغة (المصطلح) التقنية تعرفُ انفجارًا هائلا، بفعلِ تعدّد الاختصاص.

<strong>عزالدين ميهوبي<strong>

يعتقدُ الباحثُ الفرنسيُّ جُورج ريُو Georges RIEU مُدير أبحاثٍ في المركز الفرنسي للبحث العلمي CNRS والمتخصص في التكنولوجيا الدقيقة وعلم الذرّة لمدّة تفوق الثلاثين عامًا، أنّه نجحَ في وضْع أساسٍ للغةِ المُستقبل، بعد سنواتٍ من التفكير والبحث، وتدخلُ ضِمن “اللغات المُخادعة” كتلك التي ابتدعَها جورج أورْويل في روايته الشهيرة “1984”. وتتمثل هذه اللغة الجديدة في ابتكار أبجديّة من 5000 حرفٍ، تمثل رُموزًا وصُورًا بسيطة قادرةً على تحقيق التّواصل بشكل أسرع، وأنّها “لغةٌ دون كلماتٍ، أو نَحْوٍ. سريعة وقويّة وخلاّقة؟”

هي اللغة الفِطرية في دماغِنا. أطلق عليها اسم “فلاشْ برين Flash Brain”، أو اللغة الذّهنيّة ذات الطّبيعة السمعيّة والبصريّة.ويقرّ ريُو أنّ تصنيفَه تعسّفيّ بعض الشيء، وأنه سيواجهُ غضبَ اللغويين واللسانيين، ومع ذلك، فإنه يشدّد على ضرُورة وجُود أداة رائعة للمنبُوذين لغويّا: “هو نظامٌ عالميٌّ يتيحُ لكل فردٍ في العالم أن يستخدِم شبكة الإنترنت على سبيل المثال. إنها ميزةُ الإبداع والخيال، إنّه يُربّي الدّماغ”. وحتّى يواجه جُورج ريُو أيّ نفُورٍ أو رفضٍ لفكرته

يقول “يمكنُ مثلاً للفرنسيين أن يضحكُوا، لكنّني على الأقلّ فعلتُ هذا من أجل الأطفالِ والصمّ والبُكم”.إن حروبًا تبدُو صامتة، لكنها أكثر ضرَاوة عندما يتعلقُ الأمر بالسيّادة اللغويّة والهُوية الثقافية، ذكرتُ بعضها في هذا المقال ليدرك النّاس أنّ التفكير السياسي يتراجع كثيرًا عندما يشعر الساسة أنّ المجتمع مهدّد في وجوده الثقافي واللغويّ. من ذلكَ أنّ الشّيء الذي لم ينتبه إليه الناسُ هو ما تشهدُهُ الولايات المتحدة من نقاشٍ حول مكانة اللغة في المُجتمع الأمريكي، إذ أنّ حربًا تدور بعيدًا عن عيُون السّاسة، يخوضُها المفكرون خاصة. فالأصواتُ ترتفع للمطالبة بدسترَة اللغة الإنكليزية، كلغةٍ رسميّة، في ظلّ الصّعود القوي للإسبانية، وحتى للغات الجاليات الأخرى.

أفرَد المُفكر الأمريكي صامُويل هانتنغتون، جزءًا كبيرا لأزمة اللغة في الولايات المتحدة، ويُبدي تشاؤمًا صريحًا بشأنها، كونها تشكّل عنصرًا حاسمّا في بناء الهُويّة “البيضاء” كما يصفُها، فيقدّم نقدا مُباشرا للهجراتِ اللاتينية الأمريكية و”السّماح بتدريس اللّغة الإسبانية واستخدامها كلغة ثانية رسميّة في العديد من المُدن في الولايات الأمريكية”، خاصّة أنهم يمثلون 12% من تعداد الشّعب الأمريكي، (والإحصاءاتُ تقول بأنهم في حدُود العام 2050 سيكونُون الأغلبيّة) فضلاً عن ارتباطِهم الوثيق بأوطانهم الأصلية القريبة من الولايات المتحدة. ولا يخفي هنتنغتون قلقَه “الذّاتي” تجاه من ينادُون بإقرار اللّغة الإسبانية لغة ثانية رسميّة، ويرَى في ذلك أحد أخطر التّهديدات الموجهة للهُوية الأمريكية لأنه ينذرُ بتحوّل أمريكا لبلد ذي هُوية لغوية ثنائية إنكليزية-إسبانية. فهو يرَى أنّ سقوط الاتحاد السوفياتي تسّببَ في عدَم تبلوُر عدوّ جديدٍ للولايات المتحدة يُسهم في التفافِ الأمريكيين حول هُويّتهم الوطنيّة، كلّ هذا أدّى إلى تراجُع مصادر الهُوية الأمريكية الرئيسَة، وهي الإثنيّة البريطانية والعِرق الأبيض والدّين المسيحي والثقافة الانكليزية – البروتستانتية.

فحسب هنتنغتون، كما جاء في مقال لعلاء بيُومي، سيكُون مستقبل أمريكا مع هُويّتها، إمّا بـ:

– فُقدان للهُويّة وتحوّل أميركا إلى مُجتمع متعدّد الثقافات والأديان مع الحفاظ على القِيم السياسية الأساسية.

تحوّل أمريكا إلى بلد ثنائيّ الهُويّة (إنكليزي-إسباني) بفعل زيادة أعدادِ ونفُوذ الهجرات اللاتينية الأمريكية.- ثورة الأمريكيين البيض لقمْع الهُويات الأخرى، وهو احتمالٌ قائم.

– إعادة تأكيد الهُويّة الأمريكية من قبل الجميع، والنظر لأمريكا كبلد مسيحيّ تعيش به أقلياتٌ أخرى تتبعُ القيم الأنكلُو-بروتستانتية والتراث الأورُوبي والعقيدة السياسية الأمريكية كأساس لوحدةِ كافة الأمريكيين.

هذه الهواجسُ، التي عبّر عنها هنتنغتون بلغة صريحة، وبطرح رُؤية لا تراعي أدنَى محاذير التنوّع العرقيّ واللغويّ والدينيّ، من ضرُورة العودة إلى سيطرة البيض على مقادير الولايات المتحدة، كحقّ استعماري (..)، فقد أصدر المعهد الملكي الإسباني (إلكانُو) تقريرًا مفصلا عن مُستقبل اللغة الاسبانية في الولايات المتحدة الأمريكية، إنْ كانَ حوارًا أم صراع ثقافات، وهل أنّ اللغتان الانكليزية والاسبانية تتنافسان على المستقبل، فيعتبر هذا التقريرُ أنّ الاسبانية هي اللغة الثانية بعد الإنكليزية. إلاّ أن هذا الوضعَ لا يعني أنّ الأمر عاديّ، فهناكَ أسئلة جريئة تُطرحُ مثل: “هل ستختَفِي اللّغة الاسبانية كلغةِ تخاطُب؟ هل ستحافظ على وجُودها كلغة مزيجَه؟ أم هل سيأتي يومٌ تكون فيه اللغة الاسبانية إلى جانب الانكليزية في مُجتمع أمريكي مُزدوج اللغة والثقافة؟”.

ويخلُص التّقرير الذي نشرتْه صحيفة الزّمان في 2004 إلى أنّه “كلّما كان الوُجود الاجتماعيُّ للشّعب الناطق بالاسبانية، في الولايات المتحدة، أقوىَ، تكون الإمكانات أفضل لصالح حُدوث المزيج بين اللغتين والثقافتين”، وقد أُطلق اسم (هيسبانغليشHespan-english) أو Spanglish. على هذا التمازُج اللغويّ. فمن يجرؤ على إيقاف غليانِ اللغة؟.

هذه بعض الأفكار، استقيتُها من كتابي “انتحار الأبجدية: من بُرج بابل إلى أبراج مانهاتن”

(من كتاب أبوليوس يهرب من ظله)

أكمل القراءة

صن نار