أقصد بالمأزق الحالة الوطنية في الظرف الراهن، وخصوصاً بعد «تأجيل» حوارات القاهرة، وبعد تناسل وتكاثر شروط تحقيق الحد المطلوب من وحدة الموقف الفلسطيني في مواجهة استحقاقات المرحلة.
<strong>عبد المجيد سويلم <strong>
البعد الأول في هذا المأزق ان نتائج الحرب الأخيرة قد تمّ توجيهها «بقدرة قادر» الى الداخل الوطني، بدلاً من ان تتجه الى إسرائيل، وهو الأمر الذي أدى حتى الآن، الى «تأجيل» حوارات القاهرة فيمؤشر واضح الى ما يمكن ان يؤدي إليه إخفاق معلن في إنهاء الانقسام، والى قطيعة فعلية ستؤدي بالضرورة، وربما بصورة موضوعية الى تعزيز اتجاه الانفصال، وصولا الى الموافقة الضمنية أولاً، ثم الصريحة ثانياً، ثم ترسيم الانفصال ثالثاً.
وإذا استمر هذا النهج – أي نهج استثمار الحرب في تحسين شروط التموقع دون ان ينتقل الى الانقلاب التام على كامل المعادلة الوطنية فوراً ـ فإن انقلاب حركة حماس على الشرعية الوطنية في العام 2007 يكون المرحلة الأولى من خطة سياسية مدروسة بعناية في حين ان التحضير لمشروع البديل هو المرحلة الثانية والذي هو مرحلة انتقالية نحو الانفصال، ونحو «إقامة» كانتون سياسي في القطاع كبديل عن مشروع إقامة الدولة الفلسطينية، وبذلك يتضح ان خطة إنهاء وتصفية المشروع الوطني، والحقوق الوطنية الفلسطينية هي خطة مزدوجة قائمة على تعاون «ما» بين المشروع الإسرائيلي في هذه التصفية او بالأحرى خطة التصفية وبين أطماع وطموحات سلطة الأمر الواقع في قطاع غزة.
لا توجد أية أهمية على الإطلاق فيما إذا كانت تقاطعات المصالح هنا هي تقاطعات «موضوعية» وليست تقاطعات منسقة او مُتفاهَما عليها، لأن النتيجة في هذه الحالة واحدة.وبهذا المعنى المحدد والدقيق والواضح اشدّ الوضوح، فإن سلطة الأمر الواقع في قطاع غزة لا تستطيع ان تتهرب من الإجابة عن سؤال واضح ومحدد أيضا وهو: هل إنهاء الانقسام ما زال هدفاً تعملون عليه أم لا؟ وهل الشروط الجديدة التي تتحدثون عنها ستؤدي الى هذا الهدف أم يمكن ان تؤدي الى إنهاء هذا الهدف بدلاً من إنهاء الانقسام؟
بصراحة، فإن أية قراءة لما بين السطور في أطروحات حركة حماس الجديدة ليست مطمْئنة على هذا الصعيد، وهناك ما يكفي من المؤشرات ان ثمة اتجاهات قوية داخل الحركة باتت تعد نفسها لمشروع بديل نحو الانفصال الفعلي.
أما البعد الثاني في هذا المأزق فهو موقف القيادة الرسمية والسياسات التي تنتهجها هذه القيادة على هذا الصعيد. فإذا كانت هذه القيادة تعرف وتعي وتدرك المخطط الإسرائيلي، ومن خلفه الموقف الأميركي، والى جانبه من هنا وهناك مواقف عربية رسمية وإقليمية أيضا بهدف الانقضاض على المشروع الوطني، وان احد المداخل الكبرى هو الوضع الداخلي الفلسطيني، وانه ثمة من سيستخدم ويستثمر ويتقاطع، او ربما سينفذ هذا المخطط، وان ترهل واقع منظمة التحرير الفلسطينية، وهشاشتها، وتهميش دورها وتحويلها الى «مؤسسة» من مؤسسات السلطة هو نقطة الضعف الأساسية على كل هذا الصعيد، فماذا تنتظر القيادة الرسمية؟ وما الذي فعلته لقطع الطريق على هذا المخطط؟ وكيف لنا ان نقتنع بأن استمرار الحال على ما هو عليه سيمنع هذا المخطط؟؟
بل ان السؤال الذي لم يعد يحتمل التأجيل هنا هو: لماذا تلوم القيادة كل الطامعين والطامحين. إذا كان الحل هو أساساً بيدها؟؟ماذا تستطيع ان تفعل سلطة الأمر الواقع في قطاع غزة لو ان المنظمة في وضع ديمقراطي وفعال، وموجودة في مكانها، وتقوم بدورها، وتتصدر المشهد، وتقود كل الفعاليات السياسية والدبلوماسية والكفاحية، وتجدد شرعية مؤسساتها وتخلق نموذجاً وطنياً كفاحياً وديمقراطياً مقابلاً لنموذج غزة والذي هو حالة من النماذج الأكثر تخلفاً وقمعية وسلطوية على مستوى كامل الإقليم؟؟؟
لا توجد أجوبة مقنعة من قبل القيادة الشرعية والرسمية على كل هذه الأسئلة، وهي لم تتمكن من بناء نموذج ديمقراطي وكفاحي يدرأ أخطار التقاطعات التي اشرنا إليها، او يحافظ على تماسك الحالة الوطنية بالشكل الذي يحمي الحقوق ويجابه المخطط الإسرائيلي نفسه.ان استمرار حالة «البيات» المؤسسي، واستنكاف القيادة عن إحداث تغيرات كبيرة وجذرية في مسار التعاطي مع الأحداث والتطورات، وفي أساليب الأداء على كل الصعد والمستويات ليس سوى الوجه الآخر من القصور الذي يسهل على الجانب الإسرائيلي المضي قدماً في مخطط التصفية، وفي «إعطاء» كل الطامعين والطامحين الفرصة تلو الأخرى، والمبرر تلو الآخر لاختراق الحالة الوطنية وبعثرة الجهود الوطنية. بل وتمكينهم من شل المشروع الوطني برمته أيضاً.
وعليه فإن القيادة الرسمية والشرعية مطالبة هي أيضاً بالإجابة عن السؤال التالي: إذا كنتم على استعداد لمواجهة مخطط تصفية المشروع الوطني والحقوق الوطنية فهل لديكم استعدادات مقابلة للمراجعة الشاملة لكامل المسار سياسياً؟ وهل انتم جادون في بناء شراكة وطنية مؤسسية وديمقراطية؟، وهل لديكم برامج وخطط عمل حقيقية لإنجاز ذلك؟؟؟ لم يعد بمقدور القيادة الفلسطينية الرسمية والشرعية الإجابة عن هذه الأسئلة واستحقاقاتها بـ«لعم»، ولم يعد مقنعاً هذا المسار البطيء للتعامل مع أحداث ومتغيرات هائلة تحدث أمامنا عالمياً، وإقليمياً، وإسرائيلياً وعلى الصعيد الوطني الشامل.
البعد الثالث في هذا المأزق هو غياب البديل الذي يمثل نقطة التوازن الارتكازية في الحالة الوطنية، والذي يرفض، وبإمكانه ان يرفض الى درجة ان يمنع الانزلاق نحو الانفصال، والعمل على فرض إنهاء الانقسام وإعادة إحياء المشروع الوطني بعد إعادة قراءته في ضوء المتغيرات … و الأهم من كل ذلك ان يكون هذا البديل هو صمام الأمان الوطني الذي يحافظ على المؤسسة الوطنية، والذي يعمل على تطويرها بصورة دائمة، والذي يدافع عنها بكل قوته وإمكاناته؟. غياب هذا البديل هو عنوان المأزق الأهم، وهو قاعدة الحل وضمانة التغيير.لا صوت لهذا البديل، والذي دونه على ما يبدو لن تكون هناك وحدة حقيقية، او ضمانات لوحدة راسخة او مرتكزات صلبة لنظام سياسي متماسك.
هل يمكن ان تبادر «فتح» لإدراك خطورة المرحلة وتبدأ بالبحث الجاد عن إيجاد البديل بالتعاون والتنسيق التام مع كل القوى الحية، بما في ذلك في إطار «حماس» و»الجهاد» للخروج من هذا المأزق الخطير..؟؟الجواب برسم حركة فتح وليس غيرها حتى الآن.
يخجل القلب من نعيك، ويضيق الحرف برثائك، تفيض المشاعر حزناً وصدمة إنّما لا يتّسع الفضاء الالكتروني لترجمتها.. تربّطت أصابعي عن النقر على لوحة الحروف واحترقت دموعي غزارة في المُقل.
غبت أيّها المتمرّد الأوّل يا من نفضت الغبار عن فكرنا لنستنير وبقينا جهالاً!
هذا المقال أوائل البدايات فيالصحافة كتبته في 2018 وكان من أجمل ما كتبت لأجمل من عنه كتبت
تأثّرت بك وانتظرت عودتك لأعاصر شيئاً من فنّك الأسطوري.
كان مقالي حلماً جميلاً لكنّك رحلت دونما وداع كما أعزّ أحبّائي.
ثقُل كأس الموت يا تمّوز، حرقته لاذعة ترفض التروّي فمهلاً على المواجع
شخصٌ بمثابة الحلم تتمنّى إدراك حقيقته و سبر عمق أغواره، إلّا أنّك إن نلت شيئاً عنه تجد أنّك لا زلتَ على البرّ المربِك، الأكثر حيرةً.
لطالما تمنيّتُ أن أفهم من هو؟وكيف يُفكّر؟ ومن أين يأتِ لنا بكلّ تلك الحقائق الصادمة؟ السّاخرة والآخذة.
لِمَ هو بهذا التعقيد وتلك السلاسة في وقتٍ واحد؟!
كلّما صعُبَ عليك فهمه هان، و كلّما هانت كلماته استصعبت.
ذلك السّهلُ الممتنع ممتلئٌ بالشغف وكثير البرود، أستمعُ إلى حواراته القليلة جدّاً فأتمنّى أن أجد لتساؤلاتي أجوبة..
زياد الرّحباني اعترافات مشاكسة عمّا يجول في خاطره، يفاجِئُكَ ببساطة مفرداته وصعوبة تقبّلها في آن، حين يقول ” أنا مائة ألف شخصيّة فايتين ببعض” ويذهلك بحقيقةٍ أمرّ.
مضيفاً “بعد 5 دقائق من ولادتك رح يقرّروا دينك، جنسيتك، مذهبك، طائفتك، ورح تقضّي عمرك عم تدافع بغباء عن إشيا ما اخترتا”!! حتّى أنّه علّق وانتقد تغيير التوقيت حيث قال ساخراً:
” كل سنة بتقدموا السّاعة وبترجعوا لورا 10 سنين”.
هل هو بهذه العبقريّة التي يبدو عليها أم نحن بتنا جهالاً، لكثرة ما خذلتنا المعرفة في هذا الوطن الكئيب.
لماذا لا نرى ما يراه و نفقه ما يقوله، ونفكّر ولو قليلاً بنهجٍ يماثله؟!!
ليس زياد الرّحباني ذلك الموهوب، المؤلّف المسرحيّ أو الكاتب والملّحن الموسيقيّ فقط.
هو مَن لا تفوته فائتة في السياسة والأدب والفن والموسيقى والمجتمع ودائماً ما يُفصّلُ اعتراضات واتّهامات للجميع دون استثناء..
إنّه المشاكس الحذر، الصامت طويلاً ولكن إن حكى، أبكى التخلّف وأحبط مفاعيل الجهل، وصبَّ لينَ الزّيت على أفواه النار.
من هنا فإنّ المسرح اللّبناني في غياب زياد ناقصٌ وعند مستوى خطِّ الفقر!!
إلّا أنّه يغيب فجأةً وينقطع عن محبّيه عمراً. ليمنَّ علينا مؤخراً بعودةٍ خجولة أطلق فيها الوعد بالبقاء.
وها نحن هنا بعد سنوات من القطيعة المجحفة تلك، لا نُريدُ رحبانيّات متفرّقة، بل تتملّكنا رغبةٌ جامحة بلوحةٍ عنوانها فيروز وزياد الرحبّاني يغنيّان معاً، ويكسران كبرياء أفقٍ مثقّلٍ بانحطاط موسيقيّ!
ها هو المجنون العبقريُّ يحطّم صومعته ويُلقي علينا بسحر التراتيل.. بذكاءٍ فطري يضبطُ التوقيت الذي يراه مناسباً. مهما انتظرنا يبدو العناء مستحقّاً أمام جنون العظمة.
حين تدرك أنّ وحدَها النّسور من تغرّد خارج السّرب، وحين تقرّر تعود إلى أحضان فيروزها لتصبح الأغنية صلاة..
في زمن تتكاثر فيه الأقلام المتطفّلة على النقد الفني، وتختبئ وراء قناع “المحبة الصامتة” لتبثّ سمًّا باردًا في جسد الإبداع، يطلّ علينا مقالٌ “غير ودّي” عن حفل السيّدة ماجدة الرومي في “أعياد بيروت”، لا يحمل من الحسّ النقدي سوى مفردات طبية سطحية ومصطلحات صوتية غير واضحة أو مبررة ومبتورة السياق.
إن الحديث عن انتقال الصوت من طبقة الـ”Soprano Lyric” إلى “Mezzo-Soprano” أو حتى إلى “Alto” هو كلام صحيح علميًا من حيث التدرج الطبيعي لأي صوت بشري، لكنه يصبح مضللاً عندمايُطرح كأداة للطعن، لا كظاهرة بيولوجية طبيعية يعرفها كل دارس حقيقي لفسيولوجيا الصوت. فحتى مغنّيات الأوبرا العالميات ينتقلن تدريجيًا في طبقاتهن مع التقدم بالعمر، دون أن يُعتبر ذلك سقوطًا فنّيًا، بل نضجًا صوتيًا وإعادة تموضع ذكي للريپرتوار.
أما مصطلح “Tremolo” الذي استخدمته الكاتبة، (وليتها شرحت لنا نحن البسطاء اللي فهماتنا على قدنا معنى المصطلح الذي زودها به أحد المطرودين من حياة الماجدة) وهي استخدمته على عماها فأساءت فهمه على ما يبدو. فالـTremolo ليس عيبًا صوتيًا بالضرورة، بل أسلوب تعبير ديناميكي مقصود في الأداء، يُستخدم في الموسيقى الكلاسيكية والشرقية، ويُضفي بعدًا دراميًا على الجملة الغنائية، لا سيما في الأعمال العاطفية أو الإنسانية. لكنه يتحوّل إلى “اهتزاز غير إرادي” فقط في حالات مرضية مُثبتة طبيًا، وهو أمر لا ينطبق على الماجدة ولم تثبته أي جهة موثوقة في حالة السيدة ماجدة، بل استنتجته الكاتبة بإذن نقدية هاوية غير مؤهلة سريريًا أو أكاديميًا.وربما بأذن مستعارة ، من شخص ما !!
إن وصف الكورال بـ”العكّاز الصوتي” يعبّر عن جهل صارخ بوظيفة الكورال في الموسيقى الكلاسيكية والحديثة وكل الأغاني على حد سواء. الكورال ليس ترميمًا لعيوب، بل جزء أساسي من البنية الهارمونية، يعمل كدعامة جمالية وتعبيرية، سواء في موسيقى “باخ” أو أغاني فيروز أو إنتاجات اليوم الحديثة. حتى أم كلثوم ختمت حياتها الفنية بأغنية فيها كورال ومسجلة في الستوديو، وهي أغنية “حكم علينا الهوى”، فهل غرام بليغ حمدي بإضافة الكورال على أغلب ألحانه كان “عكازاً” لوردة وعبد الحليم وكل من لحّن لهم؟ استخدام الكورال لا يعني ضعفًا بل انسجامًا مع شكل موسيقي راقٍ يسمّى “الهارموني الكورالي”.
أما التلميح إلى أن السيدة ماجدة الرومي “تصارع للبقاء”، فذاك تعبير درامي هابط يتنافى مع اللياقات كما مع حقيقة ما رأيناه وسمعناه: فنانة قديرة تتحكّم بمسرحها، تدير الفرقة بوعي موسيقي عالٍ، تؤدّي بجملةٍ صوتية مدروسة تحترم مساحة صوتها الحالية، وتوظّف إمكانياتها التقنية بإحساس رفيع دون أن تفرّط بكرامتها الفنّية. ذلك يسمّى في لغة الموسيقى “interpretative maturity” أي النضج التعبيري، وليس انهيارًا كما يحاول البعض التسويق له بلغة “فيسبوكية” مستهلكة.
وأخيرًا، المقارنة بين ماجدة وصباح وفيروز مضلّلة وغير دقيقة. فكل صوت حالة مستقلّة، وكل مدرسة غنائية تُقاس بمعايير مختلفة. وإن كانت فيروز قد اختارت الابتعاد، في مرحلة ما بعد السبعين ،فذاك قرار شخصي لا يُفرض كنموذج على الأخريات. لأن أم كلثوم ظلّت تغني حتى العقد الثامن من عمرها، وهي راعت كما هو معروف طبقاتها الصوتية منذ بلغت الستين من عمرها. وهذا ما ما فات كاتبة المقال ذكره.
نحن لا نصفّق من دون وعي، بل نُصغي بفهم. وما سمعناه من ماجدة في “أعياد بيروت” كان صوتًا لا يزال يُغنّي بروح تُحسن استخدام تقنيات الـVibrato Controlled، وتعرف متى تُمسك بالجملة ومتى تُسلمها للمرافقة الموسيقية، دون أن تفقد شخصيتها الأدائية.
السكوت الذي دعا إليه كاتب المقال باسم “المحبّة”، هو صمت الجاهلين. أما المحبّة الحقيقية، فهي أن نعرف الفرق بين الهبوط الصوتي، وبين إعادة توزيع القدرات وتكييف الأداء بما يليق بمقام الفنّ النبيل…
كان مثيرا ولافتا أن طرفي الحرب الإيرانية الإسرائيلية التي امتدت لـ(12) يوما، يعتبر نفسه منتصرا.
فور وقف إطلاق النار خرج الإيرانيون إلى شوارع وميادين طهران يحتفلون بالنصر، يرددون الهتافات، ويتعهدون بمواصلة القتال في جولات أخرى.
بذات التوقيت، سادت التغطيات الإعلامية والسياسية الإسرائيلية نزعة انتصارية إجماعية.
ألقى رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” كلمة أطلق عليها “خطاب النصر”.
من الذي انتصر حقا؟!
أسوأ إجابة ممكنة إصدار الأحكام بالأهواء، وتنحية الحقائق جانبا.
إنها جولة في صراع طويل وممتد، تليها جولات أخرى بعد وقت أو آخر.
القضية الفلسطينية جوهر ذلك الصراع.
لم تكن من أعمال المصادفات عودة الزخم مرة أخرى إلى ميادين القتال في غزة فور وقف إطلاق النار على الجبهة الإيرانية.
“حان وقت التركيز على غزة لإنهاء حكم حماس واستعادة الرهائن”.
كان ذلك تصريحا كاشفا للحقائق، أطلقه رئيس الأركان الإسرائيلي “إيال زامير” في ذروة دعايات النصر.
إنهما حرب واحدة.
هكذا بكل وضوح.
أكدت المقاومة الفلسطينية المعنى نفسه في عملية مركبة بخان يونس، أوقعت أعدادا كبيرة من القتلى والمصابين، وأثارت الفزع في صفوف الجيش الإسرائيلي.
لا يمكن إنكار مدى الضرر الفادح، الذي لحق بالمشروع النووي الإيراني، جراء استهدافه بغارات إسرائيلية وأمريكية مكثفة ومتتالية.
هذه حقيقة.. لكنه يستحيل تماما أي زعم إنها قوضته، أو أن أمره انقضى.
لم يتمالك الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، الذي انخرط بصورة مباشرة وغير مباشرة في الحرب على إيران، أعصابه فأخذ يكيل الشتائم المقزعة لمحطة “سي. إن. إن”، على خلفية تشكيكها في روايته.
“إنها حثالة”!
لم يكن لديه دليل قطعي أن العملية الأمريكية، التي استهدفت ثلاث منشآت نووية، “أصفهان” و”ناطنز” و”فوردو” الحصينة في أعماق الجبال، حققت أهدافها.
حسب تسريبات عديدة فإن السلطات الإيرانية نجحت في نقل اليورانيوم المخصب وأجهزة الطرد المركزية من تلك المنشآت قبل قصفها بقاذفات (B2) إلى أماكن أخرى آمنة.
التسريبات شبه مؤكدة بالنظر إلى عدم حدوث تسرب إشعاعي، أو تلوث بيئي إثر تلك الضربات، التي استخدمت فيها قنابل عملاقة لأول مرة.
يصعب التسليم بـ”الإنجازات” الإسرائيلية في ضرب المشروع النووي الإيراني دون فحص وتأكيد.
بقدر آخر فإنها لم تحقق نجاحا يذكر في تقويض المشروع الصاروخي الباليستي، الذي أثبت قوته التدميرية ودرجة تقدمه، التي ألزمت الإسرائيليين البقاء في الملاجئ لفترات طويلة.
قبل وقف إطلاق النار مباشرة بدت الضربة الصاروخية في بئر السبع، تأكيدا أخيرا على درجة عالية من الفشل الإسرائيلي في إضعاف القدرات الإيرانية.
ثم تبدى الفشل فادحا في طلب إثارة الفوضى بأنحاء البلاد، تفضي تداعياتها إلى الإطاحة بنظام الحكم.
بحقائق الجغرافيا والتاريخ والحضارة، إيران ليست دولة صغيرة أو عابرة.
إنها مع مصر وتركيا الركائز الكبرى في حسابات الإقليم، مهما جرى لها، أو طرأ عليها من متغيرات سياسية.
بقوة إرثها التاريخي تحركت الوطنية الإيرانية لرفض الاستسلام بلا شروط لـ”السلام عبر القوة” حسب تعبير “ترامب”.
تحت الخطر الوجودي توحدت إرادتها العامة، بغض النظر عن أية تحفظات على نظام الحكم.
كان المواطن الإيراني البطل الأول في التصدي لتغول القوة الأمريكية والإسرائيلية.
أبدى الإيرانيون قدرة لافتة على الإحلال في مراكز القيادة والسيطرة تحت أسوأ الظروف، بعدما نال العدوان من قيادات عسكرية وعلمية ذات وزن ثقيل في الضربة الافتتاحية.
في حرب الـ(12) يوما تبدى شيء من التعادل الاستراتيجي، الطرفان المتحاربان تبادلا الضربات الموجعة.
فرضت السلطات الإسرائيلية تكتما مشددا على حجم الأضرار التي لحقت ببنيتها التحتية والعسكرية؛ جراء الضربات الإيرانية، حتى لا يفضي النشر إلى زعزعة ثقة مواطنيها في قدرة جيشهم على المواجهة.
فاقت الخسائر الباهظة أية طاقة على الإفصاح، لا عرفنا عدد القتلى والمصابين، ولا ما هي بالضبط المواقع الاستراتيجية، التي استهدفت، ومدى الضرر الذي لحقها.
المعلومات المدققة من متطلبات إصدار الأحكام.
بصورة عامة تقارب الحقيقة فإننا أمام حالة “لا نصر ولا هزيمة”، غير أن إسرائيل يمكن أن توظف مجريات الحرب لإثارة اليأس من كسب أي معركة ولو بالنقاط.
بدا المشهد الختامي ملغما بالتساؤلات الحرجة.
وجه الإيرانيون ضربة رمزية لقاعدة “العديد” الأمريكية، لتأكيد حقهم في الرد على العمل العسكري الأمريكي داخل أراضيهم ضد ثلاث منشآت نووية.
أُبلِغت مسبقا السلطات القطرية باستهداف القاعدة القريبة من العاصمة الدوحة خشية ردات فعل سلبية.
نُقِلت إلى الأمريكيين فحوى الرسالة الإيرانية.
كان ذلك عملا احترازيا، حتى لا تفلت الحسابات، في وقت توشك فيه الحرب على الانتهاء.
وصفت الضربة الإيرانية بـ”التمثيلية”.
الأقرب للحقيقة، إنه سوء تقدير فادح، لم يكن له لزوم، أو ضرورة، أربك البيئة العربية العامة المتعاطفة مع إيران، كما لم يحدث من قبل.
أثارت الضربة الرمزية شكوكا وظلالا لا داعي لها.
بقوة الحقائق كانت الحرب على وشك أن تنتهي.
الخارجية الإيرانية تشترط وقف الهجوم الإسرائيلي قبل العودة إلى المفاوضات مرة أخرى.
والحكومة الإسرائيلية تطلب وقفا فوريا لإطلاق النار، تحت ضغط الترويع، الذي ضرب مواطنيها، إذا ما وافقت طهران.
الجانبان المتحاربان يطلبان لأسباب مختلفة وقف إطلاق نار.
هكذا توافرت أمام “ترامب” فرصة للتخلص من عبء الحرب على شعبيته.
لم تكن إسرائيل مستعدة لأي اعتراف، بأنها لم تحقق أهدافها من الحرب، لكن الحقائق وحدها تتكلم.