تعيش تونس هذه الأيام، وخلال كامل الفترة من 15 إلى 27 أفريل 2024، على وقع ما يُسمّى بالباك سبور، ونغتنم فرصة الاهتمام العام بهذا الموضوع ومواكبته من قبل العائلات التونسية ووسائل الإعلام المختلفة، لنقدم ملاحظاتنا ومقترحنا حوله، لعلنا نساهم بذلك، في فتح النقاش العام حول الإشكاليات المطروحة، يحدونا الأمل في التعجيل باتخاذ القرار الرسمي الملائم، الذي طال انتظاره وهو إلغاء “اختبار آخر السنة في التربية البدنية والاقتصار على نتائج التقييم المستمر أثناء السنة الدراسية”.
<strong>د مصطفى الشيخ الزوّالي<strong>
ويتضمن هذا المقال تذكيرا بنماذج من الآراء والمعطيات الموضوعية المتداولة في الدراسات التربوية والتقارير الرسمية، والتي من المفروض أو تُقنع الرأي العام والمسؤولين بضرورة التعجيل بالقرار المقترح وبغيره من القرارات، ولكن، وفي سياق “انحلال الروابط الصلبة”، كإحدى السمات المميزة لحياتنا المعاصرة في “زمن السيولة”، كما يعرفه عالم الاجتماع الشهير زيغموند باومن، يتواصل التأجيل لهذا الأمر، كما يتواصل الـتأجيل لقرارات أخرى، لا تقل أهمية، قد تناولنا بعضها في دراسات علمية وتقارير رسمية أو مقالات رأي حول “مفارقات تونسية” أخرى.[1]
أولا: نبدأ بالتذكير بما حصل سنة 2010 ،( في زمن “الصلابة” الرسمية التونسية)، فقد صدر قرار إلغاء اختبار التربية البدنيّة لآخر السّنة وجاء ذلك بناء على تقرير من وزارة التربية والجهات الأمنيّة، حيث اتّخذ مجلس الوزراء يوم 20 أوت 2010 قرار إلغاء اختبار آخر السّنة في التربية البدنيّة: “حفاظا على سلامة التلاميذ والتوقّي من السلوك غير الحضاريّ، داخل المؤسّسات التربويّة وخارجها. وقد برّرت الوزارة هذا القرار-كما جاء على لسان وزير التربية آنذاك- بثلاثة أسباب، هي:
ارتفاع تكلفة الامتحان (3 ملايين دينار): ويحسن تخصيصُ هذه الأموال لتهيئة الملاعب واقتناء التجهيزات الرياضيّة.
سبب بيداغوجيّ يتمثل في كون الأعداد المتحصّل عليها في اختبار آخر السّنة هي دون معدّلات المراقبة المستمرّة،
سبب وقائيّ وأمنيّ، بعد تفاقم ظاهرة السّلوك المخلّ داخل المؤسّسات التربويّة وخارجها، بمناسبة تنظيم اختبار آخر السّنة في التربية البدنيّة.
ولئن استبشر عدد كبير من الأولياء ومديري المؤسّسات التربويّة بهذا القرار، فقد لاقى نقدا ورفضا من قبل نقابات التعليم ومدرّسي التربية البدنيّة الذين رأوا في القرار تهميشا لمادة التربية البدنيّة.
لاحقا، وفي سياق ما يمكن تسميته بالنتائج المنحرفة” أو “غير المأمولة” لثورة 17 ديسمبر 2010/14 جانفي 2011، صدر سنة 2012، “قرار عودة اختبار التربية البدنيّة لآخر السّنة” دون معالجة الإشكاليات التي أدّت إلى إلغاء هذا الاختبار.
للتذكير أيضا، فقد تم خلال دورتي 2020 و2021، إلغاء الباك السبور واحتساب المعدل السنوي للتربية البدنية كعدد نهائي في امتحان الباكالوريا في كافة المعاهد العمومية والخاصة، وذلك بسبب الحجر الصحي وأزمة الكوفيد19.
توقف دروس التربية البدنيّة منذ منتصف شهر أفريل ، بسبب تجنيد جميع مدرّسي المادّة في لجان الامتحان .
تعدد التجاوزات ومظاهر الإخلال أثناء سير الامتحان والسّعي إلى التحيّل على التراتيب، فترى عددا من المترشّحين الذين ضمنوا معدّلات سنويّة في التربية البدنيّة مرتفعة يقومون بتقديم وثائق تعفيهم من اختبار آخر السنة، وصنفا آخر اختار الإعفاء من دروس التربية البدنية طيلة السّنة الدّراسيّة ولكنّه يريد المشاركة في اختبار آخر السّنة لجني بعض النقاط التي قد تكون ثمينة عند احتساب العدد النّهائي.
ثالثا: حول العادات والطقوس التي انتشرت قبل إجراء الاختبار وبعده:
ويتمثل ذلك في إقامة نوع من الحفلات والاستعراضات أمام المعاهد وفي الشّوارع، تعطل حركة المرور وتتحوّل في عديد المرات إلى مآس وحوادث مرور خطرة. وفي ما يلي فقرات واردة في وسائل إعلام مختلفة وبمواقع الكترونية تناولت هذا الموضوع ، وهي تؤكد وجود شبه إجماع على خطورة الظاهرة في المجتمع التونسي:
” احتفالات بها بكثير من الصخب وتتوجّس منه إدارات المؤسّسات والسّلط الجهويّة والمحليّة لما يرافق احتفالات التلاميذ به من تجاوزات خطرة…”
” أسوأ هذه العادات هي (الكُورتيج) :“استعراض السيارات”حيث يخرج التلاميذ في استعراض بالسيارات يجوبون وسط المدينة و شوارعها إضافة إلى الألعاب النارية و الشماريخ، عادتان تأتيان في المرتبة الثانية للائحة العادات السيئة حيث يعمد عديد التلاميذ إلى الاحتفال بالـ”فلام”و الألعاب النارية …”
“دخلة الباك سبور …وفاة تلميذ باكالوريا بعد سقوطه من نافذة السيارة خلال احتفاله مع أصدقائه…”
“الآن وقد تمّ تسجيل وفاة التلميذ ( والتلميذة)… على إثر حادثي مرور خلال احتفاليات (الدخلة) الملعونة في الباك سبور…متى يتمّ التدخّل ومنع هذه الظاهرة الخطيرة.”
رابعا:انتشار الدروس الخصوصية في “الباك سبور” وتحوّلها إلى “عنوان فساد”
لاحظنا في السنوات الأخيرة، استفحال ظاهرة الدروس الخصوصية في “الباك سبور”، وذلك رغم غلاء أسعارها، فقد صرّح وزير التربية بتاريخ 16 أفريل 2019 ، أنّ”5 أيام دروسا خصوصية في (الباك سبور) بـ700 دينار” [3]. كما صرّح الوزير نفسه، بتاريخ 21 ماي 2019، أن : “باكالوريا الرياضة في شكلها الحالي هي عنوان الفساد وهي لا تحمل أي معنى …. من موقعي كوزير للتربية …. لا أسمح لنفسي بمباركة أشياء أعرف جيدا أنها غير مقبولة وغير معقولة . فهل يعقل مثلا أن يتحصل 99 بالمائة من التلاميذ في الباكالوريا رياضة على أعداد فوق 18 من عشرين، هناك تضخيم غير مقبول للأعداد التي تسند للتلاميذ على خلفية الدروس الخصوصية في الرياضة، ولو كانت هذه الأعداد تسند لها ميداليات ذهبية لكانت تونس بطلة العالم في الرياضة…”[4]
يبدو جليا من خلال هذين التصريحين، أن الوزير قد كان يؤسس لحملة إعلامية، تمهيدا لاتخاذ قرار إلغاء “الباك سبور”، ولكن بعد أقل من سنة، تغيرت الحكومة وتغير وزير التربية، وتأجل اتخاذ القرار المذكور . ويبدو أن السبب الأساسي وراء التأجيل المستمر لاتخاذ هذا القرار وعديد القرارات التي يحتاجها قطاع التربية في تونس منذ أكثر من عقد من الزمن، هو عدم الاستقرار الحكومي وتعاقب أكثر من 10 وزراء على قطاع التربية منذ 2011.
خامسا: “دخلة الباك سبور”
لا يفوتنا، في خاتمة هذا المقال، أن نُذكّر بنقطة إيجابية في “الباك سبور”، قد تدفع البعض إلى الدفاع عن استمرار هذا النوع من الامتحانات ونعني بذلك ما يمكن تسميته بـ”قصص النجاح في دخلة الباك سبور” والتي أكد من خلالها التلاميذ في عديد الحالات، قدراتهم الإبداعية وتميزهم في التعبير عن حاجياتهم الأساسية وقيمهم الإنسانية أو احتجاجاتهم ومطالبتهم بحقوقهم. ومن المواضيع التي لاقت استحسان التونسيين وراجت في الاعلام: “تكريم الأساتذة والأولياء“، “التحسيس ضد كورونا”، وآخرها الحضور البارز للقضية الفلسطينية في “باك سبور” 2024.
لضمان المحافظة على هذه النقطة الإيجابية، يمكن التفكير في تطوير فكرة “دخلة الباك سبور”، دون إجراء اختبار التربية البدنيّة لآخر السّنة، وذلكعبر اعتماد صيغة مشاريع عروض فنية ورياضية وثقافية، تُطبّق فيها بيداغوجيا المشروع، حيثيمكن الاستفادة من دروس فشل تجارب سابقة للوزارة في هذا المجال. نعني بذلك تجربة “التعلمات الاختيارية” (2003- 2006) أو “”مادة إنجاز مشروع” (2006-2015) [5]. واستنادا للوثيقة الرسمية للتجديدين المذكورين، يمكن أن تتكون مجموعات من التلاميذ، تنطلق في تصور مشروع “دخلة الباك” وإعداده وتنفيذه، بداية من السنة الدراسية للسنة الرابعة ثانوي، أو انطلاقا من السنة الثالثة ثانوي . يؤطر المشاريع مجموعة من المربين من اختصاصات مختلفة كالتربية البدنية والموسيقى والمسرح وغيرها، وبالتعاون والدعم من أطراف أخرى من العائلات والمحيط الاجتماعي والاقتصادي والثقافي للمؤسسة التربوية كدُور الشباب أو الثقافة أو مؤسسات أخرى ( طبعا في سياق مشروع المؤسسة التربوية وتطبيق القانون المنظم له منذ 2004، وهو الأمر المنظم للحياة المدرسية، أو ربما القانون الذي ننتظر أن يعوّضه) يمكن كذلك أن تُرصد جوائز جهوية ووطنية لأحسن العروض التي يتم تقديمها في الاحتفالات المدرسية لآخر السنة إلخ إلخ…
هوامش:
[1] مثال ذلك دفاعنا عن قرار إلغاء الاعداديات والمعاهد النموذجية ، في مقالين منشورين بجلنار وهي “مفارقات تونسية ( 2)(28 أفريل 2022) و”مفارقات تونسية” (3) بتاريخ 22 جوان 2022
[2]معطيات هذا العنصر والعنصر السابق مستخلصة، أساسا، من دراسة حول “الباك سبور” منشورة بموقع “المدونة البيداغوجية” بتاريخ 26 أفريل2015.
[5] تناولنا هذا الموضوع في كتابنا ” المدرسون والتجديد” ويمكن الاطلاع على تقديم الكتاب من الصديق منصف الخميري بالمدونة البيداغوجية بتاريخ 6 مارس 2022 وكذلك على الفصل الأول من الكتاب بنفس المدونة في 4 تواريخ متتالية بداية من 29 جانفي 2023
قدم لي الصديق والزميل مصطفى الشيخ الزوالي إهداءً لكتابه “بن علي والنخبة التونسية، دراسة في الثقافة السياسية وخطاب المثقفين”، وهو عملٌ قدّمه الحقوقي التونسي أحمد كرعود وصدر عن المؤلّف نفسه عن المغاربية لطباعة وإشهار الكتاب سنة 2024، في خمس،وسبعين ومائتي صفحة.
أعرف سلفا أنني لن أفيه حقه من التمحيص لغزارة ما تضمنه من معطيات أولا ولأنه يضرب عميقا في المفاهيم السوسيولوجية الحديثة ومقولات علم الاجتماع ثانيا، ولجلالة نهجه القائم أساسا على الدقة والحذر من المطبات في موضوع مطروق، وهذا يضاعف صعوبته إذ المطلوب في التأليف هو الطرافة والجدة، ولذلك نراه يستهل المبحث باستعراض الدراسات السابقة موضحا مرجعيته النظرية والمنهجية (ص17) باعتماد مؤلفات لشخصيات وازنة معرفيا وسياسيا .فقد استند المؤلف على الدكتور عبدالسلام المسدي وكتابه “تونس وجراح الذاكرة” ، والدكتور الهادي التيمومي في كتب عديدة، أهمها “خدعة الاستبداد الناعم: 23 سنة من حكم بن علي”، إضافة إلى دراسة الأستاذ الجامعي عادل بن يوسف بعنوان “المثقفون والسلطة زمن حكم بن علي: الجامعيون نموذجًا 1987-2011”. كما اعتمد على كتاب “حقائق عن شخصية بن علي وأسلوبه في الحكم” الذي اشترك في تأليفه كل من صلاح الدين الشريف، الكاتب العام لرئاسة الجمهورية بين 1999 و2011، ومحمد المنصف القصيبي، الموظف السامي بالوزارة الأولى سابقًا.
وقد جمع المؤلف بين زبدة القول في هذه المؤلفات وبين بيان خصالها أو هناتها، مستفيدًا من المراجع المعرفية والنقدية في تحليل مسار النخبة التونسية. ومن الواضح منذ البدء أن المؤلف محكوم بهاجس “وضع المعلومات والمعطيات في سياقها التاريخي حتى يكون لها معنى” (ص70و 105) وأنه تنقل بين كم هائل من المصادر والمؤلفات التي وضعها أصحابها مدحا أو قدحا وما بينهما من تغيير الموقف من “رجل التغيير” وهؤلاء إما نخبة وإما نخبة النخبة من خيرة أكاديميي الجامعة التونسية، دون ان يجامل ولا يتحامل بل مستندا إلى مفاهيم ومقولات دقيقة في المجال (ص74 و85) مثلا : نخبة النخبة، أو خبراء الشرعنة عند غرامشي…).
وتتواتر قبل ذلك وبعده مفاهيم توظف في سياقها على سبيل الأجرأة مثل مفهوم الانزلاق (ص 68و71) النخبة والتصنيف الى Intelligentsia و Intellectuels مما استدعى تدقيقات كثيرة خاصة ان الامر يتعلق بالحديث عن أساتذة/مراجع في اختصاصاتهم الأكاديمية يترفع الكاتب عن ذكر أسمائهم مكتفيا بمواقفهم من مواقعهم الجديدة، ولذلك نجد جهازا مفاهيميا مبثوثا في ثنايا الكتاب لا يفتأ الكاتب يعود إليه كلما رام توضيح رؤية أو شرح طرح أو بيان موقف أو حتى إبداء رأي في مسار بعض من كان يراهم نماذج ورموزا للفكر والبحث الأكاديمي خاصة.
ولا يخفى هنا شعور الخيبة والإحباط نستشفه خاصة في اعتماد السرد وبعض مقاطع السيرة الذاتية، كاللقاءات والاجتماعات مع وزراء وشخصيات نافذة وللتجربة المهنية حضورها الوظيفي في كشف ما قد يخفى على العموم (ص 94 و 105 مثلا). فجاء القول كاشفا بعض الزوايا المعتمة وحوله إلى شاهد على العصر في مجالات متنوعة نذكر منها الإعلام والفن والتعليم لكن بعين عالم الاجتماع ووسائله ومنهجه لا رجل السياسة بتكتيكاته ومصالحه وأهدافه.. ولعل ذلك أتاح له مثلا محاصرة شخصية رمز إليها بحرفي ص.ش بحكم دورها البارز في إخضاع النخبة للسلطة القائمة وأكاد أقول إنه التاريخ يحاكم كلا بما كان ليديه من أفعال ولسانه من أقوال وتلك لعمري محاكمة ” معرفية” مُثلى باعتبارها منظارا دقيقا يكشف الفاصل القيمي بين ما تروج له النخبة نظريا وما تمارسه عمليا. وفي ذلك برأيي استحضار للوضع المفارق تاريخيا la Situation historiquement paradoxale لسلم القيم بين المنشود والموجود.
ومن جهة أخرى لم يخل الكتاب من طرائف في تسابق أعلام في ما سماه ” التجويق” في مجالات الثقافة والفن والإعلام ، مستعرضا أمثلة على فقر المشهد الثقافي والإعلامي وظفه الساسة وذراعهم الإعلام في ترذيل الفن بالترويج لنماذج توغل في البذاءة وتزيد الطين بلة .. على انه لم ينس الإشادة الضمنية بموقف استثنائي خارج عن السرب في هدوء واختزال لا يقدر عليه الا العظيم الراحل توفيق بكار في خطابه لزميله المسدي عن بن علي :”لا تنتظر منه خيرا كبيرا يا عبد السلام” (ص179) ممهدا بذلك ربما لبيان أسباب التصحر السياسي بعد 2011 (ص189) إذ رده إلى هيمنة مقولات الاستبداد على النخب السياسية ” الجديدة” نفسها في مختلف الاقطاب (ص195) .. ليخلص إلى خاتمة عامة عنوانها تساؤلات واستنتاجات من أجل المستقبل متبوعة بقائمة طويلة من المصادر والمراجع يحيلنا في بقية الكتاب على مقاطع منها تراوح بين الجد والهزل إذ جعلها تنطق عن ذاتها فتثير سخريتنا نحن القراء من أصحابها حينا واشمئزازنا حينا آخر دون أن ينفي عنا إمكان التقدير والإجلال لبعضها الآخر.
يقدّم كتاب “بن علي والنخبة التونسية” قراءة دقيقة للمسافة بين القول والفعل في النخبة التونسية، كاشفًا التناقضات في علاقات المثقفين بالسلطة، ويشكل، كما أشار أحمد كرعود في تقديمه، إضافة قيّمة بتحليل معمّق لتواطئهم مع السلطة، ويفتح نوافذ للتأمل في حاضر الثقافة السياسية واستشراف مستقبلها.
المأساة تكمن في مشهد الأزمة الأخلاقية التي يعيشها الخطاب الديني حين تحول إلى استعراض لا يحمل من الدين إلا مظهره.
وحين نجد ظاهرة تغليف الخطاب الديني بالدراما والإثارة، وتختلط في حضوره الدعوة بالنكتة، والوعظ بالسخرية، والفتوى بالتجريح، نتساءل هل أصبح الداعية نجمًا ينافس نجوم الكوميديا؟ وحين نفقد الفرق بين الواعظ والمهرج، بين الحضور الروحي والعرض الدرامي وعندما تُقاس فاعلية الخطاب بعدد المشاهدات لا بعمق الأثر، فإننا لا نلوم الرمز وحده، بل نُدين ذائقة جماعية تسهم في خلقه وتغذي غروره.
لقد شكّل برنامج الداعية المثير للجدل الأخير، لحظة فاصلة في وعي الكثيرين، لما مثّله من انحدار في الذوق، والاحترام، والرسالة المفترضة . ان الرجل لا يفتقر إلى العلم، ولا إلى الشعبية. لكن المعضلة ليست في قدرته على جذب الانتباه، بل في طريقة تقديمه للدين كعرض سريع مختلط بالنقد اللاذع والتعالي أحيانًا.
حين يصبح الداعية محور الخطاب، لا الدين ذاته. فيتحدث من علٍ، ويصنف الناس بتعليقات تحمل في طياتها تهكمًا مبطنًا، وأحيانًا ازدراءً واضحًا، دون إدراك لوقع كلماته أو مدى تاثيرها علي الذوق العام وإيذائها له. تتحول فتاواه إلى مادة للسخرية،
هذا الأسلوب الذي يخطف الاهتمام، يخفي داخله أزمة عميقة: تغليب الشكل على الجوهر، والصوت المرتفع على العقل الهادئ. هذا التضخم لا يأتي من فراغ، بل من شعور داخلي بأن الجمهور سيظل في حالة تصفيق، حتى مع الانزلاق في الأسلوب، هنا نرى كيف تتحول الدعوة إلى عرض جماهيري، لا حوار روحاني.
السوشيال ميديا ضاعفت من حضور هذه النماذج ، لأنها تستهلك المحتوى المثير بسرعة، وتعيد نشره آلاف المرات، مما يغذي “شهوة الظهور” عند البعض ولم يكن في الحسبان السؤال هل هذا الخطاب يخدم الدين؟” بل : “هل يجذب الأرقام؟” وهنا تكمن الكارثة.
فالمعايير أصبحت ترند، مشاهدات، تفاعلا، لا محتوى أو تأثيرا حقيقيا. لكنها في الوقت نفسه، سرعان ما تنقلب عليهم. الجمهور الذي يرفعك في فيديو، قد يسحبك إلى القاع في هاشتاغ. ولأننا أدمنّا الترفيه باسم الدين، وتركنا الحكمة خلف الشاشات. تم تهميش القيم ، وإعلاء صوت من يجيدون “اللعب على الشاشة”، حتى لو كان الثمن تهشيم قيم أساسية.
لكن من الظلم تحميل الشخص وحده مسؤولية السقوط دون الحديث عن البيئة التي صنعته، مسرح التهليل و المنصات التي فتحت له الأبواب، رغم تكرار انزلاقاته اللفظية والسلوكية. ما حدث مع هذا الداعية هو مرآة لما يحدث في المجال العام . قلة في التفكير النقدي، وفائض في رد الفعل. لم يسقط الرجل لأن خصومه أسقطوه، بل لأن الحقيقة أسقطته. لأنه استهلك رصيده الأخلاقي على مدى سنوات، حتى جاء الانفجار.
إن الجمهور الذي لطالما ضحك أو صفّق، بدأ يرفض. وهنا يكمن الأمل. فهذا بحد ذاته بداية نهوض جماعي من سبات تقديس الشخصيات، واستعادة سلطة العقل.
لا يكفي أن نغضب بعد السقوط. الأهم هو أن نراجع المعايير التي تُبنى بها الرموز في حياتنا: من نمنحهم المنابر؟ وبأي خطاب نقبل؟ وما الذي نصمت عنه؟ وأن تكون القاعدة: من لا يقدر على تمثيل القيم، لا يحق له الحديث باسمها.
للمهرجانات الصيفية دور هام في المشهد الثقافي والسياحي الوطني والدولي، ومساهمة كبيرة في الحراك الاقتصادي كقاطرة للتنمية المستدامة بالجهات خاصة وعلى المستوى الوطني عامة.
ومن هنا بات الرهان عليها ضروريا بإرساء الحوكمة الرشيدة وحسن تسيير هذه المهرجانات إداريا وماليا ومن حيث برمجة ترتفع بالذوق العام وانطلاقا من أهداف تنظيم هذه المهرجانات ذات الصلة بترقية وتطوير الفنون وتشجيع الإبداع الفني والأدبي وتشجيع العمل الثقافي وتطويره وإثراء المنتج الفني وتنويعه والمحافظة على التراثالثقافي الوطني وتثمينه معالصبغة الخصوصية المميّزة لها في البرمجة حسب خصوصيات الجهات ذات الطابع الفلاحي، الحدودي، السياحي، الأثري والايكولوجي مع الاشتغال على استغلال خصوصياتها ومميزاتها والعمل على استثمارها في إطار منهجية تهدف لخلق الثروة ومواطن الشغل كالتشجيع على ابتكار منتجات مستوحاة من هذه الخصوصيات أو التخصص في التراث الغذائي والترويج له أو استغلال المواد الغابية للترويج الثقافي للجهة أو العمل على تشجيع المنتجات الخصوصية والتعريف بها وتشجيع الزوار من خارج الجهة لزيارتها لارتباطها بهذه الخصوصيات ولتفردها بها خصوصا ان عديد المهرجانات متجاورة ومتزامنة دون ان تحتوي على أية خصوصية كانت.
فتكتفي هذه المهرجانات ببرمجة عروض فنية روتينية ذات طابع تجاري بناء على ما يطلبه الجمهور دون أي عمق او تفكير أو مضمون ثقافي فني يهدف للرقي بالذائقة الفنية وفقدان أي توجه نحو اٌستثمار خصوصيات المنطقة الثقافية والحضارية ودون توظيف للمهرجانات في ترويج الإنتاجات الفنية الناجحة الخاصة بالمؤسسات الثقافية بالجهات لتشجيعها على مواصلة العمل المتميز.
ولذا بات من الضروري والمؤكّد اليوم تحديد المهرجانات الممكن المحافظة عليها ودعمها بناء على معاينة شاملة تحدد احتياجات الجهات وأخذ قرارات جريئة قصد تغيير الواقع الثقافي نحو الأفضل كما ان الدعوة ملحّة إلى برمجة مبدعي الجهات من مختلف الفنون في هذه المهرجانات وإعطائهم الأولوية في البرامج على أن تكون هذه البرامج نموذجية نوعية وذات جودة وبعيدة على استنساخ نفسها بمهرجانات مماثلة مع عدم اقتصار البرمجة هذه على العروض الفنية وذلك من خلال إضفاء الصبغة الثقافية على برنامجها العام بتنظيم ندوات فكرية،أمسيات شعرية،عروض سينمائية،ورشات ومسابقات ثقافية وفكرية وأدبية…
ومن الضروري بلورة هذه المبادئ من خلال منشور من قبل وزارة الشؤون الثقافية وضمن دليل توجيهي حول تنظيم المهرجانات الصيفية يكون مرجعا للمشرفين على تنظيمها ولنجاح هذه التوجّهات وإسنادها وبحثا عن سبل تجاوز الصعوبات لا بدّ من تضافر الجهود بين مختلف الأطراف المعنية للنهوض بالمهرجانات الصيفية وتثمينها انطلاقا من أهمية دور الثقافة في بناء عقول سليمة وفكر مستنير.
وفي هذا الإطار من الضروري أن يكون العمل الثقافي عموما أفقيا لا عموديا بهدف إنصاف الجهات ودعم حقها في الفعل الثقافي باعتبار أن”اللامركزية الثقافية”هي توجه من أؤكّد توجهات وزارة الشؤون الثقافية التي من دورها لفائدة هيكلة المهرجانات الصيفية بعث نقطة قارّة ومخاطب وحيد للمؤسسة الوطنية لتنمية المهرجانات والتظاهرات الفنية بالمندوبيات الجهوية للشؤون الثقافية توكل لها مهمّة تنسيق تنظيم المهرجانات الثقافية الكبرى وتمويلها على مدار السنة وبما يحقق مرونة التصرّف في العمل الثقافي تماشيا مع خصوصيّة القطاع وحينية عدد من الأنشطة والتّظاهرات على ان يسهر فريق عمل من إطارات المندوبيات الجهوية للشؤون الثقافية على تنظيم المهرجانات المرجعية على مدار السنة مع التركيز خاصة على مهرجان أو اثنين تبرز خيارات وزارة الشؤون الثقافية وتوجهاتها لخدمة الذوق العام.
ومن واجب هذه المهرجانات كذلك العمل على تطبيق توجّهات الدولة في خصوص الرقي بالذوق العام وذلك من خلال حرص الهياكل الادارية المشرفة على متابعة سير تنظيم المهرجانات الصيفية على التثبت مما يبرمج في هذه المهرجانات التي تدعمها وزارة الشؤون الثقافية بالحرص على أن لا تقدّم برامج ذات مضامين تسيء لسمعة الوزارة ومؤسساتها وبما يتنافى مع روح المهمة الثقافية المطلوب آداؤها مع أخذ كافة التدابير والقرارات اللازمة لمنع التجاوزات وممارسة صلاحيات إبداء الرأي في البرامج المنظمة واتخاذ كل الإجراءات الكفيلة برفع مستوى المضامين الثقافية التي يتم عرضها على الجماهير مع اقتراح رسم خطة لاستمرارية هذه التظاهرات الهامة بالاشتغال على مبدأ المشروع الثقافي الذي يستهدف جميع الفئات والمناطق الداخلية ويركّز على البرامج التي تربي النشئ على مقومات حضارتنا وعمقها التاريخي واتاحة الفرص لهم لمتابعة أبرز الإنتاجات الفنية الكلاسيكية من موسيقى سنفونية وأفلام سينمائية…الى جانب تجذير السلوكيات الثقافية لديهم بتعويدهم على زيارة المتاحف والمواقع الأثرية وتطوير ملكة القراءة لديهم ضمن برامج هذه المهرجانات.
تحويل مسرح البحر بطبرقة الى مركز ثقافي دولي:
بالنسبة الى المهرجانات الصيفية بولاية جندوبة كمثال من الضروري الاقرار ان هذه الولاية ذات طابع ريفي بامتياز حيث تتجاوز نسبة سكّانها بهذا الوسط 75./. وهي جهة حدودية في حاجة أكيدة إلى تفعيل المقاربة التشاركية الثقافية على مستوى الشريط الحدودي التونسي الجزائري وخاصة من خلال اضفاء البعد المغاربي على عدد من المهرجانات والتظاهرات الثقافية النموذجية بالجهة وبعث مسالك ثقافية مشتركة تخلق قطبا ثقافيا حدوديا و تثمّن العمق التاريخي والأثري والتراثي المشترك وبما يدعم البرامج الوطنية للسياحة الثقافية والسياحة البديلة ويشجّع على الاستثمار في الثقافة بالمراهنة على الصناعات الثقافية والاهتمام أكثر بالتراث الثقافي المادي وغير المادي.
وللغرض لا بدّ من اعادة هيكلة النشاط الثقافي عموما بهذه الجهة وخاصة مهرجاناتها الصيفية وفق خيارات وزارة الشؤون الثقافية ووفقا لمقتضيات الدستور ومبادئه وهو ما يحتاج إلى مزيد الهيكلة من خلال خاصة تعزيز البنية التحتية الثقافية والبرامج التنشيطية التي تتوجّه إلى الوسط الريفي مع حسن توظيف المكتسبات الثقافية بالجهة وخاصة مسرح البحر بطبرقة الذي آن الآوان برمجة تحويله وضمن مخططات التنمية الجهوية والوطنية إلى مركز ثقافي دولي ومن خلال بعث اقامات فنية ويمكن الانطلاق مبدئيا في بعث وحدة تصرّف حسب الأهداف من الآنم توكل لها هذه المهمة خصوصا ان الجهة تعاني نقصا في الفضاءات الثقافية ومسارح هواء الطلق وضعفا في الإقبال على الاستثمار الثقافي من قبل القطاع الخاص ذلك ان الاستشهار غير مفعّل بالجهة بسبب ضعف مبادرات أصحاب رؤوس الأموال والمستثمرين لدعم الأنشطة الثقافية