جلـ ... منار
وجه الإمام… وستّي أم علي
نشرت
قبل شهرينفي
من قبل
التحرير La Rédaction
في الكتاب الرائع (قوة الخرافة) The power of Myth يسأل المحاور بيل مويرز الفيلسوف الأمريكي جوزيف كامبيل: هل الخرافة كذبة؟ يرد الفيلسوف: لا لا أبدا… إنها الطريقة الأسهل استيعابا للتعبير عن الحقيقة؟

قد تكون ممن يؤمنون أن فكرة التجسد خرافة، ولكن ليس لدي شك لو حاولت أن تستوعبها لساهمت فلسفتها في توسيع مداركك، كما ساهمت في توسيع مداركي. كنت ـ ولم أزل ـ أعتبر قصة بلع الحوت ليونس وبقائه في بطنه اسابيع خرافة لا تمت إلى الحقيقة بصلة ولكن بعد أن قرأت كيف اعطاها الفيلسوف كامبيل بعدا فلسفيا، صرت أكثر تقبلا لها، وليس أكثر ايمانا بها. فليس شرطا أن تؤمن بما اؤمن، ولكنك ملزم كونيّا وأخلاقيا أن تقبلني كما اؤمن، طالما لا اُسيء بايماني إلى أحد.
……..
من أجمل الذكريات وأكثرها شفافية وروحانية هي حياتي مع ستي أم علي. كنا نجلس على شرفة منزلنا ونمعن النظر في القمر، وهو يرش ليراته الفضية على عروس البحر بينما تتماوج ليلا بدلال وغنج. كانت تقول لي ببراءة لا يشوبها خبث: انظري إلى القمر…امعني النظر…ماذا ترين؟؟؟ ألا ترين وجها بشريا؟؟؟ إنه وجه الإمام علي كرم الله وجهه.
هل مجنون فيكم يظن أن وفاء سلطان اليوم تؤمن بأن القمر هو الإمام علي؟؟؟ طبعا لا أتصور وجود هذا المجنون. ولكن أين الخلل في ايمان جدتي بأن مثلها الروحاني الأعلى متجسد في القمر؟؟؟
كانت جدتي أكثر بساطة من عشبة الجرجير، وكانت تظن أن العالم كله ينتهي عند حدود قريتها. لأنها ابنة ريف تعلقت بالمظاهر الطبيعية وراحت تربط رمزها الروحاني بأجمل تلك المظاهر، ألا وهو القمر.
لا أحد يعرف سرّ هذا الربط، هل هو حبها للإمام علي أم حبها للقمر أم لكليهما معا؟؟؟؟
……..
وفاء سلطان لا تقيّم اليوم أية فكرة إلا من خلال حقلها الطاقوي الذي يحدثه المعنى الكامن في الفكرة.
ماذا تختلف فكرة جدتي عن فكرة أن المسيح ولد بلا دنس وجاء ليخلص الجنس البشري من آلامه؟؟؟
لا شيء!
إذا اردنا أن نقيس الفكرتين وفقا لمقايس صارمة كجدول الضرب لا بد أن نرفض كليهما!
لكن الحياة لغز، ولا نستطيع أن نقرأها فقط كما نقرأ جداول الضرب.
لا بد أن نحترم حق العقل في أي يجنح للخيال، وحقه في أن يؤمن بما هو خارج تلك الجداول.
كلا الفكرتين جميلتان، وجمالهما يكمن في الطاقة الإيجابية التي يفرزها المعنى الكامن في كل منهما.
تستطيع أن ترى وجه هيفاء وهبي في القمر لو أردت أن تراه، وليس من حق أحد أن يكذبك، فالخرافة ليست كذبة، بل هي طريقة سلسلة للتعبير عن لغزية الحياة.
منذ أن علمتني جدتي أن أرى وجها بشريا في القمر وأنا أراه، ولكن تعددت الوجوه التي بت أراها، ولم تعد تقتصر على وجه واحد، وأبرز تلك الوجوه وجه ابنتي أنجيلا
……..
منذ أن علمتني جدتي فن التحديق وانا أحدق في كل مظهر من مظاهر الطبيعة وارى فيه جزءا من القوة السحرية التي تتجسد في كوننا العظيم…
لذلك، خرجت إلى الحياة أعشق القمر وأعشق التحديق فيه بحثا عن وجه أحبه، ولم أخرج ملكة يمين
……..
دُعيت مرّة إلى عرس ربما كان من أفخم الأعراس التي رأيتها في حياتي أو ربما سمعت عنها.
كان العرس لطبيب وطبيبة من أصول هندية هندوسية، واُقيم في منتجع في مدينة نيويورك.
المائدة كانت ساحرة، ولم تحوِ طبقا واحدا مصنوعا من منتجات حيوانية، حتى قالب الكيك كان كقلعة كبيرة وكان مصنوعا بلا بيض وبلا زبدة.
المهم، بعد أن انتهت مراسم العرس وزع المشرفون على العرس على كل ضيف موزة، وطلبوا منهم الخروج من إحدى بوابات القاعة إلى إحدى حدائق المنتجع، حيث كانت تجثم ثلاث بقرات على العشب الأخضر.
قام كل ضيف بناء على طلب المشرفين بالانحناء أثناء المرور أمام البقرات والقاء الموز لهن.
أستطيع أن أجزم أن الحفل ضم أشخاصا من كل طائفة ودين على سطح الأرض، ولم يرفض أحد منهمفكرة المرور من أمام البقرات والإنحناء
ليس هذا وحسب، بل لم أرَ شخصا واحدا يتصرف بطريقة غير لائقة، بل بكل احترام.
أين الخلل في ذلك؟؟؟
هم يرون أن عظمة الخالق تتجسد في البقرة،
والمسيحيون يؤمنون أنها تتجسد في المسيح
وستي أم علي تؤمن أن عليا يتجسد في القمر!
أين الخلل؟؟
كلها أفكار مسرفة في جمالها طالما لا تنتقص من أحد
ولا تُسيء إلى أحد.
كلها أفكار تفرز طاقة ايجابية، طاقة تساهم في رفد الدفق الكوني الذي يسيّر دفة الحياة.
ولكن؟؟؟
هل يمكن أن أقبل فكرة شريرة تفرز طاقة سلبية تعرقل انسيابية الدفق الكوني باتجاه مساره؟
……..
أقسم لكم بأعز ما أملك عاشت ستي حتى قاربت المائة، وماتت لا تعرف شيئا عن العلوية، ناهيك عن الإسلام،
إلا أن عليا متجسد في القمر
هل هناك دين على سطح الأرض أبرأ وأجمل
من دين ستي؟؟؟
حاولت مرة ولأسابيع أن اعلمها الفاتحة.
هي أمية ولا تجيد نطق اللغة الفصحى،
لو سمعتها أم ثكلى فقدت طفلها لتوها وهي تردد الفاتحة لأغمي عليها من كثرة الضحك
ماتت جدتي لا تعرف الفاتحة، وهذا سرّ قدسيتها في نظري.
يبدو أن روحها الطاهرة كانت ترفض أن تؤمن بوجود المغضوب عليهم والضالين، فالانسان يخسر قدسيته عندما يوصم شعبا بالمغضوب عليه والضالين، وكذلك عندما يوصمني بـ “بنصيريّتي”
ويوصم نصيريتي بالالحاد والشرمطة!!!
……..
كانت تعجن كل صباح وكنت ارافقها إلى الفرن كل يوم،
ومرة كل فترة كنت أرافقها مع عجينها إلى بيت ريفي يقع على مشارف مدينة بانياس حيث ولدت وترعرعت.
كان لصاحبة البيت تنور، وكانت ستي تحن إلى خبز التنور من حين لآخر
وبينما هي تغني موالها المحبب إلى قلبها “سكابا يادموع العين سكابا” وتلصق أرغفتها في بطن التنور، كنت أراقب لغة جسدها وأمتص طاقتها.
كانت تتوقف بين الحين والآخر عن زخ مواويلها لتقول لاحد المارة: (تفضل ياخي، خدلك رغيف خبز مشان الله)
وكنا نعود وفي حوزتنا نصف الأرغفة.
اشتعلت مرة غضبا وصحت بها:
لماذا تعطين نصف خبزنا للمارة؟
فشهقت وردت: (يا عين ستك الحياة رايحة، والانسان ما بياخد معو إلا الأرغفة التي أعطاها للناس)
……..
(لا تأخذ معك إلى قبرك إلا ماتعطيه)
ها أنا اليوم أعيش فلسفة ستي ام علي بحذافيرها، أعيشها بنفس الحرفية التي يطبّق بها داعشي تعليماته.
نعم، كلنا متطرفون، ولكن كل بطريقته…
لا يبقى في بيتي إلا نصف ما أعجنه، هذا إذا بقي النصف، وعندما أضع جداول التوزيع لا أرى فرقا بين إنسان وآخر، لأنني نسيت سورة الفاتحة!
ماتت جدتي ولم تصلّ يوما
لم تحج في حياتها، ولم تدخل معبدا
ولكنها أعطت في مرات كثيرة نصف خبزنا للمارة،
وهذا وحده كفيل أن يكون جواز سفرها إلى ملكوت الله،
……..
لم تمارس جدتي طقسا دينيا واحدا باستثناء اشعال البخور صباح كل جمعة،
لا لسبب سوى رغبتها في أن تملأ البيت رائحة طيّبة تنعش الروح.
سقطت تلك العادة من ذاكرتي عندما رحلت إلى أمريكا، لأكتشف لاحقا أن عادة اشعال البخور من أهم الطقوس الدينية لدى السكان الأصليين لأمريكا، الهنود الحمر، واكتشفت أن بالاسواق عشرات الأنواع التي تختلف باختلاف رائحتهأ، والتي لا يخلو بيتي منها يوما.
كانت جدتي تشعل بخورا، وكان هنديّ أمريكيّ يشعله ايضا في الطرف الآخر للكرة الأرضية.
لا أحد فيهما يعرف عن الآخر شيئا، لكنهما يمارسان نفس الطقس، ويطرح السؤال نفسه؟
ألسنا موصولين كونيا بشكل أو بآخر؟؟
ألسنا موصولين جميعا بنفس المركز الطاقوي الكوني؟؟
نعم، لقد كانت جدتي موصولة بصديقها الهندي الأحمر
وكانا يتبادلان لغة غير محكية،
ليس لدي شك!
……..
لكن هذا المسلم الذي يشتمني بـ “نصيريتي” ويقرنها بالإلحاد والشرمطة لابد أنه فقد تواصله مع ذلك المركز، وضل الطريق المقدس
……..
ضل الطريق المقدس
ذلك الطريق الذي تشير إليه صلاة يتلوها الهنود الحمر، صلاة مشهورة يطلقون عليها
Ojibway Prayer
دعوني اصليها لكم بعد أن عرّبتها:
(ياجدنا الأكبر
اشفق على انكساراتنا
فنحن وحدنا من بين جميع المخلوقات
ضللنا الطريق المقدس
ونعرف حقا أننا منقسمون
ليس هذا وحسب، بل علينا وحدنا كبشر
أن نعود إلى وحدتنا
كي نمشي في الطريق المقدس
يا جدنا الأكبر
ياوحدك المقدس
علمنا الحب والشفقة ومعنى الشرف
كي نلأم جراح الأرض
وجراح بعضنا البعض)
* المقصود بالجد الأكبر “الكون العظيم”
……..
ذاك السنّي الذي يشتمني بنصيريتي، كم هو اليوم بحاجة لأن يشعل بخوره كي يتوحد مع ذلك البعيد المختلف عنه،
وكم هو بحاجة أن يصلي تلك الصلاة كي يدرك معنى الحب والشفقة ومعنى الشرف، فيصبح قادرا على أن يلئم جرحه، ويلئم الجرح الذي فتحه في قلبي…

تصفح أيضا
جلـ ... منار
صلوات فيروز… أو درب من مروا إلى السماء
نشرت
قبل يومينفي
7 مايو 2025من قبل
التحرير La Rédaction

أكرم الريّس*
نشأت نهاد وديع حداد (فيروز) في بيت متدين ومحافظ. وكان لهذه النشأة أثرها في حياتها في ما بعد. منذ صغرها والغناء لا يفارقها: في البيت، في المدرسة، في حقول الطفولة في قرية الدبية (الشوف) خلال عطلة الصيف التي كانت تمضيها مع جدتها.
سنبحر في هذه المقالة صوب هذه المرأة المكتنزة روحيا في صلواتها وغنائها، وسنحاول ان نقارب هذا “الصوت الداخلي” (انسي الحاج) الذي يتجدد ويحفر عميقا، عميقا فينا مع تفتح كل ربيع وتبسّم شجر اللوز.

تعلمت فيروز على الاخوين محمد واحمد فليفل اصول الانشاد والتجويد القرآني، وكانت لا تزال طالبة في مدرسة حوض الولاية في منطقة زقاق البلاط. يقول الحاج محمد فليفل (1899 – 1985) في مقابلة تعود الى العام 1980: “قدمتها في دار الايتام الاسلامية (المقاصد) لتنشد “يا محمد ارفع اللواء” في ذكرى تأسيس الدار. كما اني علمتها قراءة القرآن الكريم ومن خلاله ضبطت مخارج الكلمات عندها. لماذا يتمتع صوتها بهذا الجمال؟ لأنني درستها فن الالقاء عبر قراءة القرآن الكريم. لم اكن اعلمها فقط الموسيقى، بل كنت ادرّبها على النطق السليم. فيروز اداؤها اسلامي مائة في المائة”.
كان دور محمد فليفل مركزيا ليس فقط في اقناع والد نهاد بالتحاقها بالكونسرفاتوار لمدة اربع سنوات وفي تكوينها الفني كما سلف ذكره، بل وكذلك من خلال تقديمها في الاذاعة اللبنانية حيث سمع صوتها للمرة الاولى حليم الرومي، مدير القسم الموسيقي آنذاك.
ويروي من عاصروا تلك المرحلة عن ملامح الخجل في طباعها وانضباطها اللافت في الغناء وتنفيذ تعليمات استاذها محمد فليفل. كما كانوا يجدونها مرارا تصلي في الاذاعة بانتظار دورها في الغناء قرب غرفة التسجيل. وقد تطور هذا المسلك ولازمها في مراحل الشهرة اللاحقة واصبح الصمت والصلاة دربها قبل الظهور على المسرح. وتقول فيروز عن نفسها في حديث صحافي من العام 1994 انها “راهبة في معبد الفن”. اذن الفن عندها رسالة مقدسة والصوت نعمة.
وتابعت فيروز رحلة الصوت بلقائها التاريخي مع الاخوين عاصي ومنصور الرحباني خلال فترة عملها كمرددة ومغنية في الاذاعة اللبنانية ووضعت صوتها بتصرفهم متنقلة بين انواع الغناء وما اكتسبوه من خبرة ومعارف موسيقية من برتراند روبيار والاب بولس الاشقر (1882 – 1952) اللذين التقياه في كنيسة مار الياس في انطلياس… “ندهنا من طفولتنا التائهة”، يقول عاصي الرحباني (1923 – 1986) عن الاب الاشقر في حفل احياء ذكراه عام 1963، “وعلمنا الموسيقى وكنا يومها نجهل ما الموسيقى. اخبرنا عن الفن وكنا نجهله، ولقننا الدخول الى وديان النفس والاماكن العميقة في الضمير… علمنا ان الفرحة الكبرى هي فرحة الانسان بولادة الجمال”.
ومن بواكير اعمال هذه الفترة من الخمسينات ترانيم مثل “تلج تلج”، “أؤمن”، “المجد لله في الاعالي” واذا شهدت كنيسة مار الياس وساحتها في انطلياس بدايات الاخوين رحباني، كانت ايضا انطلاقة مسيرة الترتيل في مناسبة الجمعة العظيمة وتوهج “وعد الصوت والغنية” – فيروز – بلقاء روحي شبه سنوي استمر الى اواخر السبعينات من القرن الماضي الى ان اصبح والصوت “صرخة في الضمائر” والاغنية “عواصف وهدير”.
شهدت مرحلة الستينات اعمالا غنائية ومسرحية لفيروز والاخوين رحباني حملت الكثير من معاني واعمال الصلاة: الصلاة للاطفال (يارا، اقول لطفلتي، بدي خبركن، بكوخنا يبني…)، الصلاة للحبيب (لا انت حبيبي، شايف البحر شو كبير…) الصلاة للناس، لكل الناس وين ما كان (ايام العيد، حصاد ورماح…) الصلاة للأرض والوطن (وعدي الك، زهرة المدائن، بعلبك…)، التضرع لله وذكر رموزه (ساعدني، ضوي يا هالقنديل، يا ساكن العالي، بيتي انا بيتك…). ومن المحطات الاساسية كانت اغنية “خذني” من مهرجان البعلبكية عام 1961 حيث ركعت فيروز على “ادراج بعلبك” امام اكثر من خمسة آلاف مشاهد ورفعت يداها للصلاة منشدة “إركع تحت احلى سما وصلي”. قد تكون هذه الاغنية من اكثر الاغاني التي ادتها فيروز في مراحل متلاحقة في حياتها ورحلاتها الفنية في مختلف الدول. نذكر منها الولايات المتحدة (1971، 1981، 1987 1999)، انكلترا (1961، 1978، 1986 حينما قدمت بصيغة معدلة وعلى البيانو)، فرنسا (1979، 1988)، استراليا (1984)، البرازيل (1962)، الامارات (1979، 1985) البحرين (1987)، مصر (1976) كما في بعلبك (1973) الخ… ونذكر من هذه المرحلة ايضا زيارة فيروز والاخوين رحباني عام 1964 الى القدس “مدينة الصلاة ودرب من مروا الى السماء”، وهي المرة الوحيدة التي رتلت فيها فيروز هناك وقد تلازمت هذه الزيارة مع قدوم البابا الى المدينة. واهداها الناس مزهرية، فكانت اغنية “القدس العتيقة”.
توالت الاعمال مع اصدار اسطوانتي الميلاد وترانيم الجمعة العظيمة، ومع حلقات تلفزيونية خصصت لتلك المناسبات مثل “هدايا العيد” و”القدس في البال” وحفلات غنائية حيث قدمت فيروز عام 1966 في الكويت قصيدة “غنيت مكة” من شعر سعيد عقل.
الناظر الى فيروز يرى فيها ابعد من مطربة، واكثر من صوت، يرى روحا شفافة مشتعلة كبيرة. كل هذا وجده عاصي الرحباني فيها وفي صوتها فكانت اعمالها معه لها مضمون مختلف ومغاير، وحضور هو حضور صوتها وشخصيتها اللذين فرضا اعمالا تشبه فيروز وصورتها. فيروز صلت على المسرح، حملت قضايا كبيرة وناصرت الحق. هكذا رآها عاصي “الفضاء الصوتي الذي غمره بشعره ولحنه وبأعماله المسرحية” (بول شاوول)، ولذلك “المسرح الرحباني هو مسرح فيروز بالدرجة الاولى. بدونها كانت هذه الاعمال ستفقد الكثير من وهجها ورهبتها. بدونها يلبس المسرح الرحباني وجها مختلفا عما هو عليه. وفرادة المدرسة الرحبانية هي وصل الحب بالايمان، وهذا ينتج منه حكما العدل والخير والجمال” (نبيل ابو مراد).
درب الحلم الجميل ما لبث ان اصطدم بعدة احداث شخصية وعامة تلاحقت منذ بداية السبعينات وما كان مرض عاصي المفاجىء في 26 ايلول 1972 الا بداية مرحلة اخرى من الجراحات والتخطي لا يقوى عليها الا من سلك درب الروح والايمان. وما يروى عن فيروز ردة فعلها العفوية عندما دخل عليها الشاعر سعيد عقل ليخبرها بمرض عاصي في ذاك اليوم وكانت في غرفتها بالمستشفى بسبب الارهاق من العمل المضني المتواصل. في تلك اللحظة، التفتت الى السماء وهي تقول: “يا ربي اذا شاءت عنايتك ان يعود عاصي للحياة مرة ثانية، فانني سأنذر نفسي للصلاة حتى آخر لحظة من حياتي”. هي التي لم تفارقها الصلاة منذ كانت طفلة تشترك في فرقة الاخوين فليفل كمرددة، لم تعلم انها ستوصف يوما بالام الحزينة، وهي ترتل آلامها في الجمعة العظيمة بعد وفاة ابنتها ليال عام 1988.
واذا سرقت الحرب أحلام الوطن وتركت الخيبة والفراغ، واذا ابتعدت فيروز عن مسرح الغناء في لبنان خلال هذه المرحلة، بقي صوتها ملجأ، بل وازداد حضوره في الوجدان العام. أضحى “تراثاً روحياً” و”صوت قيامة لبنان” يحمل معاني الرجاء والخلاص للناس ويجمعهم رغم العوائق. غريب توهج هذه الانسانة، وفريد تعلق الناس بفنها واعمالها التي توحدت مع سيرتها رغم غيابها القسري. اصبحت رمزاً “بقوة الحب وبإجماع المتصارعين المتضادين”. واذا غنّت النذر في العام 1966 “أنا حمّلوني هموم كتار… بندُر صوتي حياتي وموتي لمجد لبنان”، فإنها هي التي حققته “بفضل مواقف عديدة اتخذتها بصمت وبلا اعلان. بفضل تضحيات وضبط للنفس وترفّع ووفاء لكل ما بدا لها جوهرياً” (خالدة السعيد).
في هذه الفترة الممتدة من أوائل الثمانينات الى النصف الاول من التسعينات، اقتصرت اطلالات فيروز في لبنان على احياء احتفالات الجمعة العظيمة. وان كان مركز تلك الاطلالات قبل الحرب كنيسة مار الياس في انطلياس، تميزت هذه المرحلة باختيار فيروز عدة كنائس في مناطق متعددة من لبنان تتبع تارة الطقس البيزنطي وتارة أخرى الطقس الماروني. وهكذا ابتدأت رحلتها الثانية من بازليك حريصا عام 1982 الى كنيسة مار الياس انطلياس (الجديدة) عام 1988، كنيسة الوردية في الحمراء في بيروت الحزينة عام 1990 (وقد رافقها على الارغن زياد الرحباني الذي قام لاحقاً في عام 2001 بإعداد موسيقي جديد لترتيلة “يا مريم البكر”) ومنها الى دير البلمند عام 1992. وكانت هذه المحطة من المحطات المهمة، وذلك لانها المرة الاولى التي ترتل فيها فيروز في دير ارثوذكسي جامعة بتآلف الطقسين البيزنطي والماروني. كما نذكر محطة أخرى من هذه المرحلة عام 1986 حين انشدت فيروز في كنيسة سانت مارغريت في لندن مع أوركسترا انكليزية ترانيم ميلادية سريانية، بالاضافة الى مجموعة مختارة من الترانيم والاغاني الميلادية باللغات العربية واللاتينية والانكليزية .
وانتهت الحرب. واختارت فيروز في رحلتها الثالثة أن ترتل في كنائس كانت قد تضررت في زمن الحرب وهي قيد الترميم. كأنها مثل الشعراء التموزيين تنشد انبعاث الكنائس وعودة الحياة اليها مثل قيامة المسيح بعد الموت. ها هي كاتدرائية مار جرجس في اللعازارية (1995) المليئة بالثقوب والفجوات وذات السقف المهدم تحتضن صلوات فيروز الصاعدة من ركام النفس والحرب مباشرة الى السماء… “يا رب القوات كن معنا، فإنه ليس لنا في الاحزان معين سواك، يا رب ارحمنا”… “اسمع صوتي، لا تحجب أذنك عن استغاثني”. كذلك في كنيسة مار نقولا في الاشرفية (1997)، كنيسة مار لويس للآباء الكبوشيين (2000)، كنيسة مار جاورجيوس للروم الارثوذكس (2001) حيث تم تصوير ترانيم القيامة التي تقدمها للمرة الاولى بعد الحرب.
واذا كان عاصي الحلم الاول والوطن الاول، جاء لقاء فيروز وزياد الرحباني ليطرح اسئلة الحداثة الثانية وليدخل في حميمات وتفاصيل الحياة اليومية والمباشرة، وليقدم لنا “فيروز الثانية” (الياس خوري)، تلك المرأة الغارقة في عبثية العلاقات. وما بين الحلم الاول والحداثة الثانية، بقيت “الأم الحزينة” تتلألأ بالفرح العظيم وبقي صوتها “يتموج صاعداً نحو أبراج الروح”. كيف لا وفيه “يتداخل ويتحاور ملاك يرتل وطفل عفريت يلعب ومراهقة تتفتح للحب وعاشقة للمجهول الذي لا ينجلي ولا يحضر وشاعر يحلم بالسفر البعيد” (خالدة السعيد)
فيروز قالت كلمة وأية كلمة! جعلت الصلاة تقليداً وموعداً ينتظر. هي “قصة الموعودين”، تحمل الايام في راحتيها وتحمل دروب الحلم والروح في صوتها.
طقس فيروز هو طقسنا وصلاتها صلاتنا وغناؤها غناؤنا. ونحن وراءها في كنيسة ومعبد. في مسرح وإذاعة.
يا سيد العطايا، يا رب، إحمها.
ـ عن “النهار” ـ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*باحث من لبنان

محمد شريف*
لم تكن من عاداتي يومًا ما أنْ أُهرول ناحية أي فنان لأصافحه وأُعبِّر عن إعجابي به أو ألتقط معه صورةً تذكاريةً، رغم أنَّ الظروف سنحتْ لي – بحكم اهتمامي بالسينما ودراستي لها – برؤية نجوم كبار مِمَّن أُحبهم، مثل نور الشريف وغيره.

إلاّ أنَّ الوضع تغيَّر تمامًا عندما رأيتُ النجم المصري العالمي عمر الشريف وهو في طريقه لأحد الأستوديوهات لتصوير بعض المشاهد من مسلسل “حنين وحنان” الذي عُرِضَ على شاشة التلفاز في عام 2007. كنتُ قد نزلتُ للتَّوّ من مبنى المركز القومي للسينما وسلكتُ طريقي يسارًا لتمرَّ بجانبي سيارة فرنسية، موديلها قديم من نوع بيجو، خطف نظري شخص بداخلها لم أتعرَّفْ عليه من النظرة الأولى، ولكنني توقفتُ فجأة والتفتُّ إلى الخلف لأرى السيارة وهي تتوقف وينزل منها سائق يفتح الباب الخلفي لذلك الشخص الذي لم يكن سوى النجم المصري العالمي عمر الشريف.
نظرتُ ناحيته مشدوهًا محملقًا وأنا أكاد لا أُصدِّق نفسي، وتمنيتُ لو ركضتُ ناحيته وصافحته وشكرته على الأوقات الممتعة التي قضيتها وأنا أشاهد أفلامه، ولكنني لم أفعل! فقد منعني خجلي من التوجه إليه، واكتفيتُ فقط بمتابعته بنظري حتى دخل الأستوديو واختفى تاركًا إياي خلفه، أقف حائرًا وأنا ألوم نفسي وأُفكِّر في انتظاره حتى يخرج بعد ساعات التصوير الطويلة لأصافحه، ولكنني لم أفعل! انصرفتُ وأنا أتلفَّتُ خلفي من حين لآخر على أملٍ أن أراه مرةً أخرى.
وصلتُ إلى منزلي وصورته تأبى مغادرة رأسي، وأخذتُ أتساءل عن سبب انجذابي ناحيته قبل أنْ أعرف أنه عمر الشريف، ومع مرور الوقت أدركتُ ذلك التأثير الذي يُحْدِثه ذلك النجم الكبير الذي- ولا شك – وُلد نجمًا كما قال عنه بعض الفنانين.
لا شك في أنَّ السينما أنجبتْ لنا ممثلين أكثر وسامة من عمر الشريف، ومنهم مَن حقَّقَ نجاحًا جماهيريًّا كاسحًا، ولكن لم يمتلك أي منهم تلك الجاذبية؛ فإذا ما أردنا أن نَصِفَ عمر الشريف بصفة واحدة، أعتقد أننا سنقول إنه جذاب وليس وسيمًا؛ فهو مثل نجم لامع في السماء نتجه إليه بأبصارنا ونعرف أنَّ الوصول إليه أمر بالغ الصعوبة.
مرَّتِ السنوات وتزايد اهتمامي بالسينما، وبدأتُ أُشاهد الأفلام بتمعُّن وأتتبَّع مسيرة بعض الفنانين في محاولةٍ للفهم والتعلُّمِ من تجاربهم، من نجاحاتهم وإخفاقاتهم، وما زال عمر الشريف هو نجمي المفضل رغم رؤيتي لفنانين أكثر.
وبسبب حبي لهذا النجم الكبير كنتُ أَعُدُّ أي فنان يشاركه أي عمل فني محظوظًا، ولكن بدأتْ نظرتي تتغيَّر عندما أخذ الممثل خالد النبوي خطوة في طريق العالمية بتقديمه لدورٍ صغيرٍ في الفيلم الأمريكي “مملكة الجنة” عام 2005، وهو الذي بدأ مشواره السينمائي بدورٍ صغيرٍ مع عمر الشريف في فيلم “المواطن مصري” عام 1991.
شاهدتُ خالد النبوي في برنامج تلفزيوني وهو يحكي عن فيلم “المواطن مصري”، وكيف تمَّ اختياره بسبب الشبه بينه وبين عمر الشريف، ويبدو أنَّ خالد النبوي وقع في فخ جاذبية عمر الشريف وانبهر به أكثر من اللازم وتمنَّى أنْ يكون مثله؛ فبعد أنْ جاءت له الفرصة العالمية اعتقد أنها بداية الطريق لهوليوود؛ فظهر مع الإعلامي محمود سعد في برنامجه، وبعدما سأله سعد عن اسم حبيبة عطيل، قال النبوي: “اسمها ديذديمونة، اللي هي انتو بتقولوا عليها ديدمونة!”.
ليُفاجأ محمود سعد ويقول له: “إحنا مين؟!”.
يبدو أنَّ خالد النبوي كان يُودِّع الجمهور المصري ويؤهِّب نفسه للتعامل مع جمهوره الجديد في السينما العالمية، ولكنه لم يُحقِّقْ نجاحًا يُذكر؛ فلم يَصل لجمهوره الجديد، ولم ينجح في كسب الجمهور المصري الذي تعامل معه بطريقة أنا وأنتم، وليس بطريقة “نحن”.
في اعتقادي أنَّ تلك الأزمة لم تواجه خالد النبوي فقط، بل تكرَّر الأمر مع عمرو دياب الذي قدَّمَ مع عمر الشريف فيلم “ضحك ولعب وجد وحب” عام 1993، ومن بعدها حاول أنْ يأخذ طريق العالمية؛ فحاول تقديم أغانٍ مع نجوم عالميين لتحقيق شهرة واسعة على مستوى العالم، وتمَّ الترويج له في وسائل الإعلام بوصفه بالنجم العالمي، وهو بالطبع أمرٌ بعيدٌ عن الحقيقة؛ فعلاقة عمرو دياب بالعالمية قد لا تتجاوز تشغيل بعض أغانيه في كازينو بمدينة لاس فيجاس الأمريكية، وهو أمرٌ يحدُث مع مَن هم أقل منه نجومية سواءً من مصر أو لبنان.
مقومات عمر الشريف التي جعلتْ منه نجمًا عالميًّا لم تتوافر حتى الآن لأي فنان آخر، وأعتقد أنها لن تتوافر، وإذا توافرتْ فسيظل هذا الفنان يعيش في ظل النجم المصري العالمي عمر الشريف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*صحفي ومخرج مصري


د. أحمد خالد توفيق
إننا نحمل في خلايانا الدروس التي تلقيناها في طفولتنا، ولا نستطيع منها فكاكا. نحن سجناء بيئتنا وطريقة تربيتنا الأولى. والقصة التي سأحكيها الان هي تجربة حقيقية مرت بكاتب المقال الأمريكي في طفولته..

كان المؤلف في السابعة من عمره وكان يهيم غراما بمتجر المستر جونز الموجود على قارعة الطريق.. السبب طبعا هو أنه متجر لبيع الحلوى.. هناك عبر النافذة المطلة على الشارع كان يقف ليرمق العالم السحري بالداخل، قطع الجاتوه المغلفة بالشيكولاته والكريم وقد غرست فيها أعلام صغيرة أو أعواد ثبتت عليها الفواكه المسكّرة. التفاح المكسوّ بالسكّر.. تماثيل مختلفة من الشيكولاته، وقلعة شيدت منها تقف فوق جبل من الكريمة. عشرات الأنواع من حلوى النعناع التي تذوب في الفم تاركة نارا لها نشوة..
لم يكن يملك قط المال اللازم لشراء ما يريد، فهو من أسرة فقيرة، وهو يعرف أن أسعار هذه الأنواع من الحلوى تفوق قدراته..
إلى أن جاء اليوم الذي ادخر فيه ما يكفي..
اقتحم المحل فدق الجرس الصغير المعلق بالباب يخبر مستر (جونز) أن هناك زبونا. خرج العجوز الطيب الذي يضع نظارات تنزلق علي قصبة أنفه، وتأمله وهو يجفف يده في منشفة، وسأله:
ـ “ماذا تريد أيها الرجل الصغير؟”
اتجه المؤلف الصغير إلى قطع الجاتوه وأشار لها بثقة:
ـ أريد خمس قطع من هذه..”
ابتسم العجوز ودس يده في قفازين وانتقى للفتى بعض القطع التي طلبها، وهو يتلقى التعليمات: “لا أريد التي عليها قشدة كثيرة.. لتكن الشيكولاته”
في النهاية أغلق العجوز علبة صغيرة ونظر للصبي متسائلا، فأشار إلى التماثيل المصنوعة من الشيكولاته:
ـ “أريد هذا القط وهذا الحصان.. أريد هذا القصر الصغير.. هل هذه عربة؟.. ضعها لي”
قال مستر (جونز) في شيء من الحذر:
ـ هل معك نقود تكفي هذا كله؟”
ـ “نعم.. نعم”
الآن انتقي بعض حلوى النعناع، وكان هناك الكثير من غزل البنات الذي مازال ساخنا فأنتقي منه كيسين، واختار بعض الكعك..
في النهاية صارت هناك علبة كبيرة معها كيس عملاق امتلأ بالأحلام، وسأله مستر جونز:
ـ “هل هذا كل شيء؟.. سأحسب..”
هنا مد المؤلف الصغير يده في جيبه وأخرج ما به.. أخرج قبضة من الكجّات الملونة التي يلعب بها الأطفال ووضعه بحذر في يد العجوز، وقال في براءة:
ـ “هل هذا كاف؟؟”
لا يذكر المؤلف التعبير الذي ارتسم علي وجه مستر (جونز).. ما يذكره هو أنه صمت قليلا، ثم قال بصوت مبحوح وهو يأخذ الكجّات:
ـ “بل هو زائد قليلا.. لك نقود باقية”
ثم دس بعض قطع العملة في قبضة الصبي، ومن دون كلمة حمل الصغير كنزه وغادر المتجر.. لقد نسي هذا الحادث تماما ومن الواضح أن أمه لم تكن فضولية، كما يبدو أنه لم يجرب ذلك مرة ثانية.. في ما بعد غادرت الأسرة المنطقة وانتقلت إلى نيويورك..
الآن صار كاتب المقال شابا في بداية العمر، وقد تزوج بفتاة رقيقة اتفق معها أن يكافحا ليشقا طريقهما.. كان كلاهما يعشق أسماك الزينة لذا اتفقا على افتتاح متجر لهذه الأسماك..
في اليوم الأول انتثرت الأحواض الجميلة في المكان، وقد ابتاعا بعض الأسماك غالية الثمن.. وكما هو متوقع لم يدخل المتجر أحد..
عند العصر فوجئا بطفل في الخامسة من عمره يقف خارج الواجهة وإلى جواره طفلة في الثامنة.
كانا يرمقان الأسماك في انبهار..
وفجأة انفتح الباب وتقدمت الطفلة وهي تتصرف كسيدة ناضجة تفهم العالم، أو كأنها أم الصبي.. وحيّت المؤلف هو وزوجته وقالت:
ـ “أخي الصغير معجب بالأسماك لذا أريد أن أختار له بعضها..”
قال لها إن هذا بوسعها بالتأكيد، لكنه شعر بأن هناك شيئا مألوفا في هذا الموقف. متى مر به من قبل؟.. لعله واهم؟..
اتجهت الفتاة إلى حوض أسماك المقاتل السيامي وهي باهظة الثمن رائعة الجمال، واختارت اثنتين فأحضر المؤلف دلوا صغيرا والشبكة وبدأ ينقل ما تريد.. ثم اتجهت إلي حوض أسماك استوائية نادرة واختارت ثلاث سمكات… وكانت تصغي لاختيارات أخيها الذي يهتم بالأسماك الكبيرة زاهية اللون طبعا..
في النهاية امتلأ الدلو ووجد نفسه يقول لها:
ـ “أرجو أن تعودي للبيت سريعا قبل أن ينفد ما في الماء من هواء، كما أرجو أن يكون ما معك من مال كافيا فهذه ثروة صغيرة”
قالت الطفلة في ثقة:
ـ “لا تقلق.. فقط ضع لي هذه وهذه”
بدأ يجمع ثمن ما وضعه في الدلو، وذكر الرقم المخيف للطفلة، لكنها لم تبد مدركة لمعنى الرقم أصلا.. مدت يديها ‘إلى جيبها وأخرجت قبضتيها مليئتين بحلوى النعناع وبعثرتها على المنضدة أمامه وسألته في براءة:
ـ “هل هذا كاف؟”
هنا شعر بالرجفة.. لقد تذكر كل شيء.. تذكر صبيا في السابعة يجمع كل ما في محل المستر (جونز) من حلوى منذ خمسة وعشرين عاما أو أكثر.. تذكر الكجّات.. ترى بم شعر المستر جونز وقتها؟..
لن تسأل كيف تصرف فقد تصرف فعلا.. رباه!.. ما أثقل الميراث الذي تركته لي يامستر جونز وما أقساه..!
كان مستر جونز قد وجد نفسه في موقف حساس، ولم يستطع أن يجازف ببراءة الصبي أو أن يشعره بالحرمان.. لم يتردد كثيرا.. وبالمثل لم يتردد المؤلف..
قال بصوت مبحوح للطفلة وهو يجمع حلوى النعناع ويضعها في الدرج:
ـ “بل هو زائد قليلا.. لك نقود باقية”
ودس في يدها الصغيرة بعض قطع العملة، فقالت في رضى:
ـ شكرا ياسيدي.. سأخبر كل صديقاتي عنك!”
وغادرت المحل مع أخيها.. هنا وثبت زوجته من حيث جلست تتابع هذا الموقف وصاحت في توحش:
ـ “هل تعرف ثمن السمك الذي أخذته هذه الطفلة؟.. إنه يقترب من خُمس رأس مالنا!”
قال لها وهو يرمق الصغيرين يهرعان تحت شمس الطريق:
ـ “أرجو أن تصمتي.. لقد كان هناك دين يثقل كاهلي علي مدى خمسة وعشرين عاما نحو عجوز يدعي مستر جونز، وقد سددته الآن!!”


أوكرانيا تطلب هدنة بـ 30 يوما… وروسيا تردّ: ثلاثة أيام فقط!

رغم التعتيم أمريكيّا وإسرائيليّا… الكشف عن هوية قاتل شيرين أبو عاقلة

صلوات فيروز… أو درب من مروا إلى السماء

ندوة حرية الصحافة على ضوء التطورات الجيوسياسية والتكنولوجية

لأول مرة منذ سنوات… صيف دون قطع مياه؟
استطلاع
صن نار
- صن نارقبل 20 ساعة
أوكرانيا تطلب هدنة بـ 30 يوما… وروسيا تردّ: ثلاثة أيام فقط!
- صن نارقبل 21 ساعة
رغم التعتيم أمريكيّا وإسرائيليّا… الكشف عن هوية قاتل شيرين أبو عاقلة
- جلـ ... منارقبل يومين
صلوات فيروز… أو درب من مروا إلى السماء
- تونسيّاقبل يومين
ندوة حرية الصحافة على ضوء التطورات الجيوسياسية والتكنولوجية
- صن نارقبل يومين
لأول مرة منذ سنوات… صيف دون قطع مياه؟
- صن نارقبل يومين
رغم “الحظر” المعلن… بريطانيا مستمرة في تسليح إسرائيل
- صن نارقبل يومين
ترامب ينوي اعتماد اسم “الخليج العربي” بدل “الخليج الفارسي”
- صن نارقبل يومين
بين الهند وباكستان: قتلى بالعشرات، مصابون بالمئات، إسقاط طائرات… حرب على الإرهاب، أم معركة مياه؟