تابعنا على

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 76

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

من المتعارف عليه عندما يتقدّم الواحد منّا لطلب شغل ان يُقدّم مجموعة من الوثائق ومن ضمنها السيرة الذاتية … وهذه تعني فيما تعني الشهائد المتحصّل عليها وجردا للوظائف والمسؤوليات التي تقلّدها صاحبها وكذلك _ ان وُجدت _ شهادات التميّز والاوسمة …

عبد الكريم قطاطة

ولئن عجّت مسيرتي الذاتية بوابل من هذه الاشياء فانّني كنت دوما من اولئك الذين ينظرون للاوسمة بشكل مختلف … فأنا اعتبر انّ وساما من نوع (يرحم والديك) يقولها سائق سيارة اجرة او بائع سمك او نادل مقهى ليُعبّر الواحد منهم عن سعادته بي … هو من اغلى الاوسمة … اذ هو تعبير صادق عن مدى توفيقي في ان اكون صوته عبر المصدح او قلمه عبر الصحيفة…

بعض الاوسمة في حياتي كانت من نوع الاسترضاء … وسام الاستحقاق الثقافي سنة 2006 لأنه كان ردّا على رسالة شديدة اللهجة وجهتها للرئيس بن علي شخصيا سنة 2002 اعبّر فيها عن سخطي من قرار تحويل اذاعة صفاقس من اذاعة يلعلع صوتها داخل تونس وخارجها بعد 41 سنة من الوجود الى اذاعة محلية ينطفئ صوتها في حدود مسافة قطر بثها 60 كلم … بدعوى او بتعلّة اذاعة القرب …وجاءني ردّه على رسالتي النارية بتوسيمي بوسام الصنف الثالث من الاستحقاق الثقافي …وذهبت يومها للتوسيم وقلت امام الجميع بما في ذلك الوزير المكلّف بالتوسيم _ بلّغ سيادة الرئيس اني ممتنّ له في شخصي ولكن مازلت مصرّا على انّ ما وقع لاذاعتي هو جريمة اعلامية في حقّ تونس … اندهش الوزير يومها ووجد نفسه في موقف محرج ولا يُحسد عليه … وكان عليه ان يدافع عن رئيسه ليُحاول اقناعي والجميع انّ وسام الرئيس يعني تقديره لمسيرتي ومكافأة لي عما بذلته … وعندا شرع بوضع الوسام على صدري همس هذه المرة في اذني بالقول: زايد معاك ديما راجل …

اردت بهذه التوطئة ان اقدّم المقال الذي وعدتكم به في الورقة الماضية والذي نقش كلماته ورصّفها زميلي وصديقي عبدالقادر المقري _ لا خوفا ولا طمعا _ والذي اعتبرته وما زلت وساما يشرفني ويسعدني سعادة حتى الغرق …وان اضيفه كورقة من اهمّ الاوراق في ملفّ سيرتي الذاتية … المقال كان بعنوان “يكرهون الجمال” وصدر بجريدة الايام بتاريخ 13 جوان 1985 كردّ على ادارة اذاعة صفاقس، بعد ايقاف برنامجي انذاك، كوكتيل من البريد الى الاثير… وهاكم المقال كاملا:

{ الذي وقع للزميل عبدالكريم قطاطة منذ ايام ادهش الكثير من الناس الذين استغربوا وتعجبوا وضربوا كفا على كفّ .. اما انا فلم اندهش ولم استغرب من هذا الاجراء الذي مارسته اذاعة صفاقس على عبدالكريم .. لم استغرب لاننا اولا نعيش في بلد يقطع رؤوس الموهوبين ويحقد حقدا قاتلا على النجباء ويكره الحديث عن اليد العاملة المختصّة … عندنا عباد مهمتهم في هذه الدنيا الفانية هي امساك الرشاشات وقنص الناجحين حتى لا يبقى سوى الفشل، وإرداء المثقفين حتى لا يسود هذه الارض سوى الظلام، واعدام العادلين حتى يُفرّخ الجور ويتناسل الاضطهاد، وصَلب الاذكياء حتى تخلو المدينة للسكارى والمدكّات والمتواكلين، فيسلموها كالخبزة لاوّل اجنبي يجدونه نائما امام باب المدينة… كما جاء في الاساطير …

عندنا بلد يا ويح فيه من يرفع صوتا جميلا حماميّ الهديل، فالمشارط الطويلة الحادة تقص الرقبة وتستأصل منها حبال الصوت .. يا ويح من يكتب عبارة انيقة او كلاما اصيلا فالفؤوس ترتفع في الهواء والقبضات في الهواء والمكانس والمساطر الحديدية … قُل ذات مرة فكرة جديدة وسترى الحواجب تعلو استهزاء والقهقهات تنفجر سخرية وفي افضل الظروف تهبط عليك النصائح والتحذيرات وتجارب من اكبر منك بليلة ووصايا النبي موسى وحكمة الاولين و… من خاف نجا .. وكلمة لا ما تجيب بلاء .. وعيشة تحت جناح ذبّانة خير من رقدة الجبانة ..وهكذا وهكذا وهكذا …

قد نكون ايضا بلدا غير محظوظ بالمرّة لأنّ الاقدار نفسها عاكستنا كما احبّت …فالجميع اليوم يتساءلون ماذا يكون مصير المسرح التونسي لو بقي علي بن عياد حيا ..؟؟ …والجواب البديهي عندي انه لو بقي علي بن عياد حيّا لكان مسرحنا الان سيّد المسارح العربية … فالرجل فلتة نادرة من تاريخنا الثقافي والفترة القصيرة جدا التي ظهر فيها اشعل النار تحت اقدام الجميع… ولكن جاء يوم وجاء خبر من باريس يقول انّ ابن عياد مات وهو شاب انداده مايزالون يتعلمون في اقلّ مشهد يمثّلونه … قبل علي بن عياد كان عندنا الشابي .. تناثرت اشعاره هنا وهناك وكلمات كلّما وجدت واحدة منها قلت كيف يكون شعر عام 35 افضل مليار مرة من شعر 85 …ومات الشابي وخسرناه وكان بامكانه البقاء اكثر والكتابة اكثر … عام 71 خسرنا (عبد العزيز) العروي … كان الرجل يشدّنا باسماره وحكاياته وكلامه المتعة ونقده الصراحة وماضيه الصحفي العظيم … يموت العروي وهو ايضا مازلنا نحتاجه و”الان ديكو” لم يكن اقلّ منه سنّا …

عام 78 كان عندنا عام الكوارث فقد خسرنا أرواحا كثيرة ومؤسسات كثيرة ومواطن شغل كثيرة وحريات كثيرة واموالا وسلعا كثيرة .. لكنّ اكثر شيء قتلتني خسارته كان محمد قلبي …لم يكن في تصوّر احد انّ هذا القلم المشتعل الجارح سوف يبرد ويحفى في يوم من الايام… ولم يكن في خيالنا انّ الحربوشة يأتي يوم ويبلعونها بلا ماء ..ولم يكن في احلامنا ان صحافيا تصل عنده تلك الشعبية التي تنافس رجال السياسة والتلفزة ويصبح عنده نفس الخطر الذي لدى قادة الاتحاد الكبار… ولم يكن احد يدري انّ ذلك الاسلوب الدوعاجي القاتل سيزحف على البلاد بجامعاتها ومدارسها ومزارعها زحفا لم يفعله ايّ كاتب او صحفي تونسي آخر الى اليوم… ومع ذلك جاء يوم وسكت محمد قلبي وارسل برقية اعتذار الى رؤوف يعيش وفرّ هاربا… واخيرا عاد ليُعوّض زملاءه المطرودين من جريدة يومية …ومن لم يمُت بالسيف مات بغيره …

وبما انّ عبدالكريم قطاطة _ مرجوع حديثنا _ لم يبع صوته بحفنة من الدينارات والامتيازات… وبما انّهم لم يأسفوا على شبابه وبما انّه مازال واقفا مثل مبنى اذاعة صفاقس، وربّما اعلى… فلا بدّ من الحلّ الثالث والاخير وهو التخلّي عنه مباشرة ودون تفاصيل زائدة .. وهنا ننتقل من اتهام مجتمعنا الى اتّهام مؤسسة من داخل مجتمعنا… الاذاعة والتلفزة التونسية… هذه المؤسسة مثل مدينة النحاس … طلاسم وسحر وتهويمات .. جنّ وعفاريت وعبابث …يحيط بها سور معدني ثقيل لا ينفذ منه الواحد ولو بأمّ عينيه … ومن قلعة الاسرار هذه ورغم قلعة الاسرار هذه تحدّث الناس وسرّبوا حكايات من واء الستار الحديدي … تحدثوا عن البرامج التي يفرضها المسؤول الفلاني والمذيع الذي تفرضه القرابة الفلانية والمنشط الذي يتفوّق بالعلاقة الفلانية …والاخر الذي تتكلم عنه تليفونات موجودة في الليستة الحمراء والآخر الذي .. والأخرى التي…

المشكلة في عبدالكريم قطاطة انه لم يسقط على الاذاعة بالباراشوت بل درس وتعلّم وتدرّب ولطالما نصحوه بأقصر الطرق والابتعاد عن التعب ووجائع الراس … فلم يسمع الكلام .. ولطالما نصحوه بالتقرّب من رؤسائه وحمل قفّة لهذا وهدية لهذا ووديدة لهذا ..الاّ انه لم يسمع الكلام … ولطالما نصحوه بالتنقيص من اغاني مارسيل خليفة واميمة الخليل واولاد المناجم وفيروز وزياد الرحباني والشيخ امام، وان يزيد قليلا من هشام النقاطي ومحسن الرايس وراغب علامة وجورج وصوف … الاّ انه لم يسمع الكلام …ولطالما نصحوه بمزاحمة جماعة (لقاء في ساعة) ومنافستهم الا انّه لم يسمع الكلام… ولطالما نصحوه بممارسة الاشهار لـ”ميّ يزبك” .. وجورج يزبك .. وبسام يزبك .. ومازن يزبك …وحديقة الازبكية … فاذا به لا يسمع الكلام …

وبما انه لا يريد ان يسمع الكلام فقد ارادوا ان يخاطبوه باسلوب تغيب فيه الكلمة .. باسلوب القرار المكتوب اسود على ابيض .. والممضى من تحت والمختوم من فوق … وهذا لعمري اسلوب يخاف من تلاحم الاجسام او تلاحم الرجال … انّه اسلوب جبان يختبئ وراء طاولة وكرسي وباب مقفل بدورتين .. ولا ادري والله لماذا يخافون عبدالكريم … فالولد ليس ملاكما سابقا ولا شلاّطا شهيرا ولا عربيدا شريرا وهو ليس مسلّحا ولا عنده عصابة ولا عنده عرش من بني عمّه … لا والله لا …لذلك فانا وانت وهو وهي وهما وهم وهنّ وكل الناس لا نخاف عبدالكريم لأنّنا لم نفعل له شيئا … اما الاخرون فانهم يعرفون ايّ ذنب يقترفون لمّا جاؤوا اباهم عشاء يبكون… تماما مثل اخوة يوسف…

سألني عبدالكريم ذات يوم ان كنت سمعت الكوكتيل ..فقلت لا لأنّ البرنامج يُبثّ في اوقات عملي فتأسّف كثيرا وبعد اسابيع اعطاني شريطين مسجّل عليهما شيء من الكوكتيل وقال اسمع واعطني رايك… فلمّا سمعت التساجيل وصعقني مستواها، قلت هذا يتواضع ويقول اعطني رايك … بل الاحرى ان اطلب انا رايه لا العكس والاحرى ان يتملّح من مستمع جاهل مثلي وعنده ملايين المستمعين والمعجبين وكلّهم على حقّ …تذكّرت هذه الفازة وانا اقرأ في النومرو الاخير من جريدة الايام ما كتبه عبدالكريم قطاطة من حقائق عرضها (“بكلّ غرور” كما قال) وانا هنا لاقول لكم ان عبدالكريم قطاطة يكذب عليكم وربّما هي الكذبة الاولى …فعبد الكريم قطاطة ليس مغرورا وليته كان مغرورا …

لو كان مغرورا لاحترموه وقدّسوه وارتعشوا منه ولعاملوه معاملة نجوم الكرة وباسوا صبّاطه والتراب الذي تعفسه قدماه …ولاعطوه دارا وسيارة وبونوات ايسانس وخدمة في بانكة لا يذهب اليها الا يوم قبض المرتّب … لو كان عبدالكريم داهية شرّاطا دلّولا مدلّلا لكان مصيره مثل ميشال دروكير … وجاك مارتان …وفيليب بوفار ….وغي لوكس …وساشا ديستال …وستيفان كولارو ..وبيبو باودو …وبيبو فرانكو …ورافا … ولوريتا … وغيرهم من نجوم الاذاعة والتلفزة الذين كسبوا الملايين من مواهبهم وصارت صورهم تظهر حتى على اعلانات الدنتيفريس ومايوهات السباحة …

يا عبدالكريم… اناس مثل هؤلاء وتلفزة مثل هذه واذاعة مثل هذه لا ينفع معها الا الغرور وقد اغترّ قبلك الصعاليك واولاد البارح فكيف لا تغتر وانت الاصيل الكادح الذي يُنبت الزهر في الصخر … والله ليس هذا بنديرا ولا سلامية وانا لست طامعا في عبدالكريم ولا خائفا منه .. فقط انا صرت واحدا من جمهوره العريض الطويل الذي الى الان لم يفعل شيئا من اجل المذيع الكبير… ولم يقدّم شيئا من اجل تعب عبدالكريم وسهر وارق ومرض عبدالكريم… ولم يقل شيئا في هذه المأساة التي تضرّ بنا جميعا وهاهي الان تصيب عبد الكريم …

واحرّ قلباه عليك يا ابن بلدي الكريم }

هكذا كتب عبدالقادر بمداد روحه وقلبه وفكره… واعود لاقول انا فعلا لم اكسب ممّا كسبه الاخرون ولكن كسبت ما اهمّ… كسبت رضاء نفسي و كسبت عزّة نفسي التي لم تُمرّغ يوما في التراب… وكسبت حبّ الناس وهذا لا يقدّر بكلّ كنوز الدنيا … وكسبت خاصة (يرحم والديك)…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 79

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

الشجاعة عندي ان نواجه الخصم وجها لوجه لا ان نكيل له كلّ التّهم في ظهره ونواجهه بابتسامة خادعة، هي النفاق وهي الجبن والخزي والعار …

عبد الكريم قطاطة

لذلك لمّا انهى السيّد عبدالرزاق الكافي مكالمته مع السيّد منصف بن محمود الرئيس المدير العام لمؤسسة الاذاعة والتلفزة التونسية انذاك ليُشعره بقراره المتمثّل في عودتي لبيتي لاذاعة صفاقس… طلبت منه بكلّ لطف ورجاء ان كان لا يُزعجه، ان يُعلم عبر مكالمة هاتفية مديري السيّد محمد عبدالكافي بقراره، حتّى لا اعود اليه بمنطق المنتصر من خلال قرار فوقي ياتيه من اعرافه … اذ انّ في ذلك اهانة لشخصه ..وانا يعزّ عليّ ان يُهان الانسان مهما كانت نوعية الخلاف الذي بيننا …الكرامة كانت عندي وستبقى خطّا احمر ومثلما دافعت عنها عندما يتعلّق الامر بكرامتي، فمن باب المنطقي جدا ان ادافع عن غيري في هذا الباب مهما حدث …

للامانة فوجئ السيّد الوزير بموقفي … سكت لثوان ثمّ وبابتسامة رضا قال لي: (هذا موقف رجولي …وتقديرا لك سافعل) … رفع سمّاعة الهاتف وباختصار شديد وبصوت هادئ قال: (سي محمد مرحبا بيك معاك عبدالرزاق الكافي .. انا توة بحذايا توة سي عبدالكريم قطاطة حكيت انا وياه في الاشكال اللي وقع بيناتكم ويبدو انو موش كبير… واعتقد انو حان الوقت لانهاؤو ولعودة المذيع للمصدح … مازلت كيف كلمت سي المنصف وعلمتو بقرار عودة سي عبدالكريم وبطلب من هذا الاخير انا كلمتك باش تكون على علم … نطويو الصفحة اللي خذات برشة وقت ونعوّل عليك وعليه باش تخدمو في كنف التأخي بما فيه مصلحة الاعلام …ايّا في لمان)… علّق السيّد الوزير سمّاعة الهاتف ثمّ مدّ يده لي بكلّ حرارة وقال … تشرّفت بمعرفتك ونعرفك تهنّيني …اجبت: (شكرا انّك سمعتني وان شاء الله نكون في مستوى ثيقتك) …

خرجت من الوزارة بفخر واعتزاز وسعادة لا تُوصف … للامانة لم تكن سعادة مشوبة بالخيلاء والانتصار على الخصوم بقدر ما كانت سعادة العودة الى المصدح والى اصدقائي المستمعين… كنت دوما اقول لكلّ متدرب عندي في ميدان التنشيط الاذاعي …. المصدح امّا ان يكون حبّا كبيرا غامرا عارما لحدّ الغرق الجميل او لا يكون… بعضهم لم يكن في بدايته يستوعب مثل هذه الكلمات بل كان يستغرب منها … وكثير منهم من غرق في لجج حبّ المصدح لحدّ الهوس …لكن يبقى الاشكال الاكبر في توظيف هذا الهوس بشكل ايجابي ومن زاويتين … الاولى الايمان بالرسالة الكبيرة التي على المنشّط ان يعتنقها من اجل اعلام يرتقي بالذات وبالوطن وبالانسان والا اصبح المصدح والاعلام من صنف هشتكنا بشتكنا …

الزاوية الثانية الايمان وبشكل دائم انّ حبّ المصدح وتحقيق بعض النجاح ستكون عاقبته الفشل متى اصبح المنشّط يعتقد انه اصبح نجما لمجرّد ان ينهال عليه مجموعة من المستمعين بعبارات النفخ والشكر والمديح وعبارات من نوع انت مبدع وانت رائع ..وهو لم يفهم بعد انّه سلك بضع خطوات في سلّم الطريق الصعب والشائك والطويل… ولم يتفطّن انّ عملية النفخ هذه هي تماما كالنفخ في الرماد …كنت دائما اردّد: شرعيّ جدا ان يتوق ايّ منشّط للنجومية …ولكن بداية النهاية ان تصبح لدى المنشّط قناعة كاملة بأنّه نجم لا يُشقّ له غُبار منذ بداياته وهو غير قادر احيانا حتى على صياغة فقرة دون الوقوع في اخطاء لغوية ونحوية بدائية … درب التنشيط ينتهي فقط عندما ننتهي …علاقتنا بالمصدح هي علاقة التلميذ بالدراسة ومدى الحياة …لذلك كنت كثير الانزعاج بالنسبة لي ولمن ادرُسهم فنون التنشيط من كلمات الاعجاب على شاكلة (انت مبدع) …. عن ايّ ابداع تتحدثون ؟؟ هذا هو الفخّ الكبير الذي ينساق اليه العديد من المنشطين وخاصة المبتدئين منهم …

عندما غادرت مبنى الوزارة اتجهت مباشرة الى محطة اللواجات …كنت لا الوي على شيء وكان كلّ همّي ان ازفّ البشرى لعائلتي واصدقائي … بعد اربع ساعات وجدتني بمنزلي… زوجتي كانت اذاك تُقيم بالمستشفى الجامعي قسم الولادات نظرا لاشكال صحّي حتّم عليها الاقامة والعناية الدائمة بها، ووالديّ رحمهما الله كانا في استقبالي … توجّست الوالدة خوفا وهي تعلمني بأنّ سيارة الاذاعة جاءت لتسأل عنّي، وكعادتها بادرتني بالسؤال (لاباس يا وليدي ؟؟ كرهبة الاذاعة اربع مرات تجي وترجع تسأل عليك جيتشي من تونس ؟؟)… طمأنتها بالقول (وراسك لاباس يا عيادة الحمد لله عن قريب ترجع تسمعني في الاذاعة) … (ايّا الحمد لله ما تخافش في جرّتك دعاء الخير مادامنا راضيين عليك) …

وماكادت تُنهي كلامها حتى رنّ صوت منبّه السيارة … خرجت لأجد الزميل السائق …سلّمت عليه وسألت لاباس ؟؟ اجاب زميلي … لاباس سي محمد حاجتو بيك وقلّك دوب ما توصل ايجاني … تبسّمت وقلت … اوكي هيّا نمشيو …كنت قد فهمت قصد سي محمد عبدالكافي … لمّا وصلت وتطلّعت الى نظرات عينيه … سلّمت عليه وقبل ان ينبس ببنت شفة قلت له: صاحبك راجل اقسم لك بكلّ المقدّسات اني لم اقل فيك كلمة سوء … كلّ ما في الامر وبالحرف الواحد قلت للسيّد الوزير وقعنا في سوء تفاهم انا ومديري استغلّه اصحاب السوء ليُعكّروا الاجواء بيننا، وطلبت منه بعد مكالمته مع الرئيس المدير العام ان يبلغك مباشرة بقراره حفاظا على كرامتك وعزّة نفسك …

كان متجمّدا في كرسيّه ينظر اليّ بكلّ تركيز … نهض من الكرسيّ وجاءني معانقا والدمع مترقرق في مقلتيه وقال …الله يهلك اصحاب الشرّ واكاهو … ومدّ يده وقال … )هذا وعد من عند خوك من هنا فصاعدا ما ترى منّي كان الخير) … وللامانة كانت بداية عهد جديد مع الزميل والعرف سي محمد … اصبحنا صديقين جدا لدرجة انه كان يستشيرني عند ايّ تغيير او مع بداية ايّة شبكة، مما جعل البعض يعلّقون على ذلك بالقول وبشكل مازح (الشبكة ما تخرج اللي ما يشوفها عبدالكريم) … كانت فرحة للعائلة والاصدقاء والزملاء في الاذاعة وفي الصحافة المكتوبة كبيرة… وطبعا الصدقة ما تخرج كان ما يشبعو امّاليها وباعتبار انتمائي لجريدة الاعلان لعدد الثلاثاء، ظهر اوّل خبر عن عودة الكوكتيل بهذه الجريدة وبتاريخ 6 جانفي 1987:

“رسمي… كوكتيل عبدالكريم يعود يوم الاثنين القادم

في ظرف اقلّ من شهر نسجّل للاستاذ عبدالرزاق الكافي مبادرة ثانية في اعادة المياه لمجاريها وتحقيق رغبة الجماهير الواسعة… فبعد ان استجاب لطلب الزملاء الذين اتصلوا به في صفاقس لاعادة الزميل مختار بكور للنقل الرياضي (هنا لابدّ من الاشارة الى انّ الزميل الهادي السنوسي هو الذي وقع تكليفه منّا جميعا كي يكون المحاور في قضية الزميل مختار بكور وفعلا نجح في مهمته وعاد الينا بوعد من الوزير باعادة زميلنا مختار)، علمنا انّ السيّد الوزير تدخّل شخصيا في الايام الاخيرة لاعادة شيطان الميكروفون الزميل عبدالكريم قطاطة الى التنشيط الاذاعي …اذن سيعود في الايام القليلة القادمة الكوكتيل الى شبكة اذاعة صفاقس بعد غياب تواصل حوالي السنة وثمانية اشهر، ليزيد في تدعيم البرامج المباشرة … وقد اتصلنا بالسيّد محمد عبدالكافي مدير اذاعة صفاقس الذي افادنا انّ سيادة الوزير قد قرّر اعادة الزميل عبد الكريم الى حظيرة العمل الاذاعي بداية من 2 جانفي، وعلمنا انّ توقيت البرنامج قد تغيّر ليصبح يوميّا من الاثنين الى الخميس من الثانية والنصف بعد الظهر الى الرابعة وذلك لضغوط الشبكة الحالية”

قد يتبادر لذهن البعض مجموعة من التساؤلات حول توقيت البرنامج ومدّته ويوم عودته الذي تأخّر إلى 12 جانفي عوضا عن 2 جانفي …اوّلا وبكلّ موضوعية عندما قرر الوزير اعادتي لاذاعة صفاقس كانت الشبكة جاهزة تقريبا .. لذلك عندما تحاورت مع السيّد محمد عبدالكافي عبّر لي عن انشغاله لعدم وجود مساحة كافية للكوكتيل واستحالة عودته في مكانه المعتاد (العاشرة صباحا)… وطلب رايي في الامر وبكل صدق ونزاهة عبّرت له عن يقيني بأنّه ليس التوقيت ما يخلق نجاح ايّ برنامج بل المحتوى وسترون اني في ما بعد عملت بكل المساحات توقيتا … الاصيل ما بين الثانية والنصف الى الرابعة … المساء من الرابعة الى السادسة … الليل من التاسعة الى منتصف الليل… وصولا الى فجر حتى مطلع الفجر من منتصف الليل الى الخامسة صباحا ….

وللامانة ايضا كان ذلك نوعا من التحدّي من جانبي للذين يقولون (طبيعي انو عبدالكريم نجح في الكوكتيل لانو واخذ احسن توقيت من العاشرة الى منتصف النهار … متجاهلين اني عندما اخذت على عاتقي الكوكتيل في ذلك التوقيت كانت تلك الفترة اذاعيا فترة ميّتة وليس بها سوى برامج اهداءات … لذلك قبلت التحدّي واضفت متحدثا الى الزميل محمد عبدالكافي… ما رايك بما انّ توقيت البرنامج يأتي في الاصيل ان نبدّل اسمه إلى “كوكتال الاصيل” ؟… وللامانة مرة اخرى كان تفكيري ليس مأتاه التوقيت فقط بل صفة الاصالة تعنيني ايضا …لست ادري هل فهم سي محمد الامر كما فهمته ولكنّه وافق دون نقاش….امّا تاجيله ليوم 12 فذلك كان حرصا منّي على استنباط محاور جديدة للكوكتيل بعد ان وقعت سرقة جلّ اركانه القديمة إلى برامج اخرى… وهذا ايمان منّي ايضا بأنّ المنتج والمنشّط غير القادر على الابتكار والخلق مآله الموت الاذاعي السريري …

وجاء يوم 12 وقسمت الكوكتيل الى محورين… نصف الساعة الاولى يحتوي على المقدمة الشخصية اي (الموقف) باعتباري كنت ومازلت اؤمن بالاعلامي صاحب المواقف لكن دون غرور وبكل تواضع… ولا قيمة عندي لذلك الاعلامي عموما الذي يكون (صباب الماء على اليدين او القفاف والانتهازي والذي تشتريه بكسكروت) وهذا وقع …. نعم هنالك من وقع شراؤه بشاطر ومشطور وبينهما كامخ (وهو اسم الكسكروت باللغة العربية القحّة… ما ارزنو وقداش فيه تجوعيب على لغتنا الجميلة) …امّا النصف الثاني للكوكتيل وبمعدّل ساعة فادرجت فيه ركنا جديدا تحت عنوان بكلّ احراج …وفيه اقوم بدعوة ضيف لاطرح عليه بعض الاسئلة الخالية من المجاملة ولكن بكل لياقة وبعيدا عن الاساليب الوقحة التي انتشرت بشكل مقذع بعد 14 جانفي (وقيّد على حريّة التعبير والتي هي في الحقيقة حريّة التبعير)…

وللعدد الاوّل اخترت ضيفا من الوزن الثقيل… ومن يكون غير ساحر الاجيال حمادي العقربي …دعوني احك لكم عن علاقتي بحمادي … انا اعرفه منذ كان يكوّر في البطاحي …حمّادي من ميزاته انّك وانت تشاهده في ايّة تكويرة يستحيل ان تتكهّن بايّة حركة كروية سيقوم بها …ومن عيوبه انّه لا يُجيد الكلام الا برجليه …اتذكّر جيّدا انّي وفي اوّل لقاء طويل معه وانا اقترح عليه لقاء صحفيا مطوّلا بجريدة الايام، وجدته معجبا بي وببرامجي… فاجأني بذلك وفاجأني اكثر عندما قال انه لم يسبق له ان ادلى بحوار مطوّل لايّة جريدة وانّ العديد من الحوارات التي صدرت ببعض العناوين الصحفية كانت وهمية … وبكلّ صدق كان يومها يفضّل ان لا يكون الحوار … لكن لم استسلم واقنعته بأنّه من حقّ الناس عليه ان يعرفوا العديد من التفاصيل واكّدت له انّني لن اقدّم الحوار للنشر الاّ بعد ان يطّلع عليه كاملا …الاّ انّ اجابته اخجلتني واسعدتني … قال حمادي … نعرفك معلّم وعندي ثيقة فيك … وكان الحوار صفحة كاملة في جريدة الايام …

عندما دعوته ليكون ضيفي الاوّل في كوكتيل الاصيل …كان سعيدا بعودة الكوكتيل وكان مراوغا كعادته وبابتسامته الخجولة المعهودة قال … تي اشنوة يا سي عبدالكريم موش لو كان نخليوها مرة اخرى خير؟ …قلت له لا يا حمادي، الحلقة الاولى نحبّها مع معلّم … ومرة اخرى يرواغ ويقول … يخخي انت موش معلّم ؟؟….ودون تطويل مشاور قلتلو يا حمّادي قُضي الامر انت ضيفي في الحلقة الاولى … وبكلّ حبّ وحياء يُجيب حمادي … وانا عندي حكم معاك؟ …. وكان ذلك …وكان يوم 12 جانفي وكان يوم 13 جانفي ايضا …حاصيلو كيف تمشي تقطّع السلاسل وكيف تجي تجيبها سبيبة …اقداااااااااااااااااااار

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم… الورقة 78

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

الثلاثية الاخيرة لسنة 86 شهدت مجموعة من الاحداث الهامة … لنبدأ بسبتمبرها حيث انتقلت مجموعة “الايام” الصحفية بجلّ عناصرها وبعد الاستقالة من الجريدة الى خانة صحفية اخرى .. جريدة الاعلان …

عبد الكريم قطاطة

هذه الجريدة كانت، اسما على مُسمّى، عنوانا صحفيا جلّ صفحاته اعلانات … كانت تصدر يوم الجمعة وبرئاسة تحرير للمتميّز جدا الزميل جمال الدين الكرماوي، ربي يشفيه*… جمال هو فنان بكل موازين الكلمة فهو لاعب ممتاز في كرة القدم لعب بالملعب التونسي … وهو عازف غيتار وهو ايضا قلم فينو ومن افضل من عرفت الساحة الصحفية فيانة ونقشا… اشتهر في جريدة الاعلان بمقاله الاسبوعي الو الاعلان …مقال كان ينتظره عشاق الكلمة الرشيقة والاسلوب السمح …

السيّد نجيب عزوز مدير الجريدة اغتنم فرصة انسحاب فيلق الايام من الايام ليضرب عصفورين بحجر واحد… العصفور الاول تمثّل في استغلال تألّق مجموعة الاقلام في تجربتها مع الايام وانتدابها … والعصفور الثاني توسيع دائرة انتشار جريدة الاعلان لتصبح جريدة نصف اسبوعية وذلك بالصدور مرتين في الاسبوع … يوم الجمعة لفريق جمال الكرماوي و يوم الثلاثاء لفريق نجيب الخويلدي … كان ذكيّا جدّا في ادراكه لما قد تخلقه روح المنافسة بين الفريقين واستغلالها ايجابيا … وفعلا نجح في الرهان رغم كلّ عوائق ومشاكل الغرور التي عاشها الفريقان …وفعلا انطلقت التجربة الثانية لاسرة الايام داخل اروقة الاعلان في 30 سبتمبر 1986…

شهر ديسمبر من نفس السنة شهد حدثين اوّلهما عيد ميلاد اذاعة صفاقس (8 ديسمبر) والذي كان بالنسبة للمستمع المتعلّق بالكوكتيل مناسبة اخرى لاحياء مأتم … هاكم ما كتب عبداللطيف الحداد مرة اخرى بجريدة النهار يوم 3 ديسمبر 86 حول الحدث وتحت عنوان “خطاب عاجل الى مدير اذاعة صفاقس .. عيدا سعيدا في غيابنا”:

(سيّدي .. تحتفلون بعيد ميلاد اذاعة صفاقس الـ 25 وكلّكم فرح وترح واشياء اخرى وذلك من حقّكم طبعا ..اعرف انّ ربع قرن من الحياة والجهد والدأب له وزنه وثقله المُعتبر ولونه الخاص جدا .. اعرف وثانية انّها فرصتكم كاملة لتقولوا هكذا فليذهب المتنطعون الى الجحيم … انّنا نفهمهم وبكلّ تاكيد ونحتفظ ـ مازلنا ـ بأدقّ تفاصيل ذبحة ذلك المطرود منذ عشرين شهرا عبدالكريم قطاطة … انّها 8 ديسمبر اخرى لن يكون فيها فتى اذاعة صفاقس الاوّل هناك ..وانّه امر يُثير فينا كثيرا من الحزن والبكاء … اتُصدّق سيّدي انّ كلّ التقارير التي تصلك عنّا كاذبة ..؟ فنحن لم نعد نُننصت اليكم منذ ماي 85 والسبب بسيط جدا جدا ..وهو انّ اذاعتكم امست بدون الكوكتيل كأيّة قلعة خاوية … ونحن اصدقاؤه ما كنّا عصابة مافيا ولا جماعة كوكايين .. بل انّنا لم نقتل قطّة ولم نحرق قمحة ولم نطالب برأس احد .. فقط نادينا ومازلنا باعادة الكوكتيل وصاحبه الى ساحة الاذاعة…

ونحن ثالثة يا حضرة المدير مازلنا على عهدنا مع صاحب الكوكتيل حبّا وارادة واملا الى ان ينام القمر .. هكذا ذاكرة الناس الطيبين في هذا الوطن العزيز وهذا الجنوب الطيّب لا تنقطع بتلك السهولة المزعومة وتعوّدت ان تخبّئ الحب لمن حفر ويحفر فيها بالمثل فهل تُجبر الكسر وتضع امرا ؟؟… لقد كان لك ومازال كلّ الوقت لتطرح وتجمع وتضرب وتقسم وتكسر وترتّب الاوراق وتُمعن في تجميد تلك الامبراطورية الهائلة في التنشيط، وبث الفرح في البيوت الحزينة والمدن الباردة ولكن عبدالكريم قطاطة عائد الينا غبّا وكفّه مضرّجة بالحبّ والفرح لجما ودما … ذلك حدسنا ورهاننا … لاننا تعلمنا معا انّه حيث البكاء والبكاء والبكاء نتقمّص الكلمة ونحفر المدى حتّى ينبجس الحلم غدا وتمطر السماء .. وحتى يأتي ذلك اليوم الاكيد فهو سيظلّ منّا في العمق وفي تجاويف الذاكرة امّا انتم يا سيّدي فطاب عيدكم في غيابنا… عبداللطيف حداد ـ قصر الحدادة غمراسن)

هنا لابدّ لي من توضيح امر هام … نشري لمثل هذه المقالات يأتي فقط من زاوية التوثيق ولم ولن يكون قصدي التفاخر بما كّتب حولي والله على ما اقول شهيد… ثم هو حرص منّي ايضا على العرفان بالجميل للمستمع وهو يُدلي بشهادته في كلّ ما حدث وذلك اراه واجبا تجاه هذا المستمع وتجاه ما دوّنه من اوجاع وجراح …شهر ديسمبر ايضا شهد سابقة اعلامية هامة … اثر مباراة في كرة القدم بين النادي الصفاقسي وضيفه الترجّي والتي تمّ فيها طرد اللاعب منصف الطرابلسي ثم شطبه مدى الحياة وقع ما وقع … ومن ضمن تلك الوقائع ايقاف الزميل مختار بكّور عن التعليق الرياضي للاذاعة الوطنية … نعم … اذ ارتأت في تعليقه انحيازا للنادي الصفاقسي … وهو امر يصل الى درجة الكفر والردّة في نظر المسؤولين الكبار والذي مازال مثل هذا التصرّف العمودي لحدّ الان يتمرّغ على مسامّ جلودنا رغم انّ 99 في ال 100 من الاعلام العاصمي ولحدّ الان هو مكشّخ وبامتياز …اعني وبنذالة …مع احترامي للاقلّية النزيهة والشريفة … لا علينا سآتي حتما يوما ما وفي الورقات القادمة لهذا الملّف … اذن وقع ايقاف الزميل مختار بكور عن النقل الاذاعي الرياضي رغم انه من اكثر المتعاونين هدوءا ورزانة في اذاعة صفاقس …

امام هذا الوضع ارتأيت ان اغتنم فرصة زيارة وزير الاعلام انذاك السيد عبد الرزاق الكافي لاذاعة صفاقس التي ستحتفل بعيد ميلادها الخامس والعشرين، كي انظّم مباراة في كرة القدم بين اعلاميي الجهة وزملائهم من العاصمة… والحرص بعدها على اللقاء بالوزير ومطالبته فضلا لا امرا بارجاع الزميل مختار بكور لسالف نشاطه… تحادثت في الامر مع السيد عبدالعزيز بن عبدالله رئيس النادي الصفاقسي انذاك وعبّر لي عن مساندته المطلقة ماديا وادبيا لحدّ التكفّل بمصاريف اقامة ضيوفنا الزملاء من تونس… وكان الامر كذلك… مباراة ودية بالملعب الفرعي للطيب المهيري… سهرة رائقة شائقة بكلّ المفاهيم …لحدّ الثمالة وبكلّ المفاهيم لاحفاد ابي نواس… ثمّ لقاء مع الوزير واستجابة لرجاء الجميع واعادة مختار بكور الى سالف نشاطه…

اعود بكم الان الى خاتمة الورقة 77 والتي همس لي انذاك وزير الاعلام وهو يسلّمني الكأس … (انت هو سي فلان ؟؟ طلّ عليّ في مكتبي بالوزارة يوم الاثنين المقبل) … عندما ختم كلامه نظرت مليّا في عينيه بعد ان قلت له: حاضر … فقرأت فيهما وداعة ولطفا … ثمّ كان لزاما عليّ ان البّي الدعوة مهما كان الامر …بوزيد مكسي بوزيد عريان …ما الذي سيحصل اكثر ممّا حصل ؟؟… ربّما هي (صحّة راس) … غرور … تنطّع … _ قولوا ما شئتم …فأنا كنت ومازلت هكذا …ثوابتي لن يمسّها احد وقناعاتي ومهما خلقت لي من مشاكل وخصوما لن اتزحزح عنها …والروح ما يهزّها كان اللي خلقها …

يوم الاثنين كنت بمكتب الوزير … استقبلني ببشاشة وابتسامة عرفت مغزاها خاصة بعد انا قال: (مرحبا بيك سي عبدالكريم …تي العريضة متاع 20 الف امضاء امضاء اطول منّك) … ابتسمت بدوري ولم اردّ عليه …ولج للحوار بشكل فوري وسألني: (اشنوة اللي بينك وبين سي محمد عبدالكافي؟؟)… لم اتردّد لحظة واحدة في القول: (سي محمد عبدالكافي عرفي امس واليوم وغدا، والذي وقع سوء تفاهم بيننا استغله اصحاب النفوس المريضة) .. لم يكن موقفي مبنيا على الخوف او هزان القفة لعرفي، ولكن كنت مدركا اوّلا بل متيقّنا بمعرفة والمام الوزير بتفاصيل ما حدث… وثانيا ما كنت ولن اكون من تلك الشريحة التي تغتنم مثل هذه الفرص لتطعن في الظهر الخصوم … لو كان السيد محمد عبد الكافي رحمه الله حاضرا لقلت كلّ ما لديّ في صدري …. امّا اغتنام فرصة غي والتشهير به فذلك الجبن والنذالة بعينها…

نظر اليّ مرّة اخرى السيد عبدالرزاق الكافي بنفس الابتسامة الوديعة … وحمل سمّاعة الهاتف وطفق في تركيب رقم … وماهي الا لحظات حتى سمعته يقول: (عالسلامة سي المنصف بحذايا سي عبدالكريم قطاطة وحكيت معاه ونحبو يرجع لبرنامجو في اقرب فرصة) … فهمت انّ “سي المنصف” هو السيد منصف بن محمود رئيس الاذاعة والتلفزة انذاك … نظر اليّ السيّد الوزير وقال: (انتهى الاشكال سي عبدالكريم؟)… اجبته: (شكرا سيّدي الوزير على الثقة، ولكن لي رجاء لو تسمح) .. (تفضّل سي عبدالكريم) …وانتم لو تسمحون انتظروا معي الرجاء في الورقة القادمة … يخخي موش يقولوا ذوّق وشوّق ..؟؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*كتب المقال قبل وفاة الزميل الكرماوي رحمه الله

أكمل القراءة

جور نار

ماذا ينتظر التونسيون خلال العهدة الجديدة من رئاسة قيس سعيد؟ (2)

نشرت

في

محمد الزمزاري:

ذكرنا في الحلقة الماضية بجريدة جلنار الجزء الأول من انتظارات الشعب خلال طرح تحليلي مختصر يشير خاصة إلى أن الانتخابات الرئاسية التي تمت يوم 6 اكتوبر تعد اول انتخابات نزيهة وشفافة لم تشبها عمليات تدليس مثلما وقع في مرحلة بورقيبة، او تهافتا ومباريات بين الولاة للترفيع في نسب التصويت زمن بن على…

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari

كما كانت هذه الانتخابات نقية من المال الفاسد والتدخلات الداعمة الخارجية (القطرية و التركية) عبر الجمعيات الاخوانية المشبوهة التي توزع حقق الطماطم وارطال المكرونة و الأوراق النقدية لاستغلال أصوات البؤساء وضعاف الارادة من المواطنين، وكذلك تكفير من لا يصوت للنهضة من خلال المساجد وابواقها والتهديد بالسحل وغير ذلك من صفحة تلك الفترة الظلامية المظلمة…

الانتخابات التي شهدتها تونس هذه المرة أعطت الصورة الحقيقية لما يستوجب ان تكون عليه الانتخابات بالعالم الثالث والبلدان العربية جمعاء… كما عبر خلالها الشعب التونسي على رغبته الجامحة والحاسمة لكنس منظومة فاشلة وخطيرة لوثت وطنا جميلا… عبّر الشعب عن ثقته بقيس سعيد متمنيا و معتقدا انه الكفيل بتحسين أوضاع البلاد التي دمرتها عشرية ما بعد 2011.

لقد تناولنا باختصار عددا من انتظارات وتطلعات الشعب خلال السنوات القادمة وذكرنا اهم القطاعات ذات الاولوية مثل الفلاحة و الصحة و التعليم وعلى المستوى الاجتماعي تطرقنا إلى التشغيل و القدرة الشرائية للأسر التونسية والغلاء الفاحش للأسعار كما عرجنا على قطاع الخدمات و عصرنة الإدارة التونسية وفرض قدسية العمل وتنقية القطاعات من كل مخلفات الارتخاء والفساد (انظر عدد جلنار ليوم 8 أكتوبر 2024)…

في هذا الجزء الثاني نبدأ بضرورة تأهيل العمل الدبلوماسي والقنصلي بالخارج و الرفع من الدور المناط بمهامه الكلاسيكية وحسن اختيار التمثيليات حسب الأهداف السياسية والامنية وخاصة الاقتصادية، ودعوة القناصل إلى تحسين العناية بمواطنينا بالخارج ونبذ روح الارتخاء و عقلية اللامبالاة التي تطغى من حين لآخر.. كما على السفراء تأكيد لهتمامهم خارج الوطن بالمعطيات الأمنية نعم ولكن الاقتصادية أيضا، عن طريق رسم منهجية لجلب الاستثمارات لتونس و متابعة التطورات التي من شانها دعم تصديرنا وتنمية مدخراتنا من العملة الصعبة… كذلك حث مواطنينا بالخارج على المشاركة في عمليات ومشاريع التنمية.

بخصوص المتطلبات الأمنية.يبدو أنه من البديهي دعم مؤسسة الأمن ومواكبة كل التحولات الفنية وتحديث التجهيزات ومزيد ضمان اكثر رفاهة لاطارات واعوان الأمن، و تعزيز الاجراءات التشريعية لمحاربة الإرهاب والجريمة المنظمة…

قطاع الثقافة يعد من القطاعات المظلومة منذ حكم بن علي وسعت منظومة ما بعد الثورة إلى كنس حضور الفعل الثقافي و تقزيم الإبداع والمبدعين… ويكفي الإشارة إلى هرسلة المسرحيين و الاعتداءات على الأساتذة والقناة الوطنية… ولحدود السنوات الأخيرة فإن ميزانية وزارة الشؤون الثقافية (أقل من 1 بالمائة من ميزانية الدولة) تبعث على الاستغراب … فلا إمكانيات لدعم الإنتاج الثقافي من مسرح او سينما او فنون أخرى لتبقى القنوات تلوك مسلسلات السبعينات و الثمانينات…

كذلك هناك احساس تبعا لما ذكرنا بكبح الإبداع والإنتاج الأدبي… وكل ما تفعله وزارة الثقافة اليوم لا يتجاوز “التكرّم” بإقتناء بعض الكتب يخصم جزء من ثمنها لفائدة الضرائب … أين دعم الروايات؟ والسيناريوهات؟ والإنتاج السينمائي؟ وكيف يتم اسناد الدعم على أيدي اللجان او القبول من قبل القناة الوطنية؟؟ كلها اسئلة و مسائل تنتظر مزيدا من التنظيم او الدعم او المراجعة او عدالة الاختيار.

لعل قطاع الطاقة يحتل مكانة أثيرة في أولويات تونس ويفرض تدخلا عاجلا ضمن مخطط واضح المعالم… إذ نحن نستمر في تجاهل الطاقة الشمسية التي حبى بها الله بلادنا والتي يمكن أن تكون أكبر رافد للتشغيل و تصدير الطاقة عوض الترفيع المستمر في اسعار استهلاك الكهرباء و استيراد التجهيزات او المنصات…

كذلك وإثر تحرر قطاع الفوسفات من عبث و تجميد عانى منهما طيلة اكثر من عشر سنوات، يتطلب اليوم هذا المجال مزيدا من الرفع في طاقة إنتاجه و اقتناص مزيد من الأسواق العالمية وتنويعها ..

نمر إلى قطاع السياحة الذي بقي لسنوات طويلة يعزف على وتر واحد، موسيقي كلاسيكية وجب تجاوزها… ذلك أنه اصبح اليوم من الضروري المرور إلى تنويع الوجهات والمواد السياحية. لتشمل الشمال الغربي ومزيد دعم السياحة الثقافية، كالآثار التاريخية المتعددة بجهات جندوبة و القصرين، وقفصة (الحضارة القفصية) ويعين بريمبة بقرية المنصورة قبلي و كذلك توريس… كلها في مجملها وخصوصياتها تمثل ركائز لتنويع المنتج السياحي.

وفي حقيقة الأمر لا يمكننا تناول كل الملفات الوطنية الهامة التي تتطلب الدعم خلال السنوات القادمة مثل القطاع الصناعي والبيئة والعدالة الجبائية والخدمات البلدية ومراقبة انجاز المشاريع المعطلة اصلا منذ العشرية، وكذلك أهمية دعم قطاع العدلية لتسريع التقاضي وتحسين ظروف عمل الفاعلين في المرفق القضائي.

لن انهي هذا الطرح دون أن أشير إلى ضرورة ترسيخ اكثر ما يمكن من مكتسبات الثورة عبر ضمان ديمقراطية حقيقية لكل التونسيين دون استثناء، بالتوازي مع التزام الجميع بمصلحة الوطن ووضوح الرؤيا السياسية ومزيد دعم الحريات الفردية و العامة وحرية الرأي و الصحافة دون أي احتراز ..

الوطن للجميع لكن جميعنا مطالب أيضا بوضع أولوياتها و مصالح شعبها قبل كل الأولويات الأخرى فردية او حزبية، فتونس تستحق دوما الأحسن.

أكمل القراءة

صن نار