جور نار
ورقات يتيم … الورقة 76
نشرت
قبل شهر واحدفي
عبد الكريم قطاطة:
من المتعارف عليه عندما يتقدّم الواحد منّا لطلب شغل ان يُقدّم مجموعة من الوثائق ومن ضمنها السيرة الذاتية … وهذه تعني فيما تعني الشهائد المتحصّل عليها وجردا للوظائف والمسؤوليات التي تقلّدها صاحبها وكذلك _ ان وُجدت _ شهادات التميّز والاوسمة …
ولئن عجّت مسيرتي الذاتية بوابل من هذه الاشياء فانّني كنت دوما من اولئك الذين ينظرون للاوسمة بشكل مختلف … فأنا اعتبر انّ وساما من نوع (يرحم والديك) يقولها سائق سيارة اجرة او بائع سمك او نادل مقهى ليُعبّر الواحد منهم عن سعادته بي … هو من اغلى الاوسمة … اذ هو تعبير صادق عن مدى توفيقي في ان اكون صوته عبر المصدح او قلمه عبر الصحيفة…
بعض الاوسمة في حياتي كانت من نوع الاسترضاء … وسام الاستحقاق الثقافي سنة 2006 لأنه كان ردّا على رسالة شديدة اللهجة وجهتها للرئيس بن علي شخصيا سنة 2002 اعبّر فيها عن سخطي من قرار تحويل اذاعة صفاقس من اذاعة يلعلع صوتها داخل تونس وخارجها بعد 41 سنة من الوجود الى اذاعة محلية ينطفئ صوتها في حدود مسافة قطر بثها 60 كلم … بدعوى او بتعلّة اذاعة القرب …وجاءني ردّه على رسالتي النارية بتوسيمي بوسام الصنف الثالث من الاستحقاق الثقافي …وذهبت يومها للتوسيم وقلت امام الجميع بما في ذلك الوزير المكلّف بالتوسيم _ بلّغ سيادة الرئيس اني ممتنّ له في شخصي ولكن مازلت مصرّا على انّ ما وقع لاذاعتي هو جريمة اعلامية في حقّ تونس … اندهش الوزير يومها ووجد نفسه في موقف محرج ولا يُحسد عليه … وكان عليه ان يدافع عن رئيسه ليُحاول اقناعي والجميع انّ وسام الرئيس يعني تقديره لمسيرتي ومكافأة لي عما بذلته … وعندا شرع بوضع الوسام على صدري همس هذه المرة في اذني بالقول: زايد معاك ديما راجل …
اردت بهذه التوطئة ان اقدّم المقال الذي وعدتكم به في الورقة الماضية والذي نقش كلماته ورصّفها زميلي وصديقي عبدالقادر المقري _ لا خوفا ولا طمعا _ والذي اعتبرته وما زلت وساما يشرفني ويسعدني سعادة حتى الغرق …وان اضيفه كورقة من اهمّ الاوراق في ملفّ سيرتي الذاتية … المقال كان بعنوان “يكرهون الجمال” وصدر بجريدة الايام بتاريخ 13 جوان 1985 كردّ على ادارة اذاعة صفاقس، بعد ايقاف برنامجي انذاك، كوكتيل من البريد الى الاثير… وهاكم المقال كاملا:
{ الذي وقع للزميل عبدالكريم قطاطة منذ ايام ادهش الكثير من الناس الذين استغربوا وتعجبوا وضربوا كفا على كفّ .. اما انا فلم اندهش ولم استغرب من هذا الاجراء الذي مارسته اذاعة صفاقس على عبدالكريم .. لم استغرب لاننا اولا نعيش في بلد يقطع رؤوس الموهوبين ويحقد حقدا قاتلا على النجباء ويكره الحديث عن اليد العاملة المختصّة … عندنا عباد مهمتهم في هذه الدنيا الفانية هي امساك الرشاشات وقنص الناجحين حتى لا يبقى سوى الفشل، وإرداء المثقفين حتى لا يسود هذه الارض سوى الظلام، واعدام العادلين حتى يُفرّخ الجور ويتناسل الاضطهاد، وصَلب الاذكياء حتى تخلو المدينة للسكارى والمدكّات والمتواكلين، فيسلموها كالخبزة لاوّل اجنبي يجدونه نائما امام باب المدينة… كما جاء في الاساطير …
عندنا بلد يا ويح فيه من يرفع صوتا جميلا حماميّ الهديل، فالمشارط الطويلة الحادة تقص الرقبة وتستأصل منها حبال الصوت .. يا ويح من يكتب عبارة انيقة او كلاما اصيلا فالفؤوس ترتفع في الهواء والقبضات في الهواء والمكانس والمساطر الحديدية … قُل ذات مرة فكرة جديدة وسترى الحواجب تعلو استهزاء والقهقهات تنفجر سخرية وفي افضل الظروف تهبط عليك النصائح والتحذيرات وتجارب من اكبر منك بليلة ووصايا النبي موسى وحكمة الاولين و… من خاف نجا .. وكلمة لا ما تجيب بلاء .. وعيشة تحت جناح ذبّانة خير من رقدة الجبانة ..وهكذا وهكذا وهكذا …
قد نكون ايضا بلدا غير محظوظ بالمرّة لأنّ الاقدار نفسها عاكستنا كما احبّت …فالجميع اليوم يتساءلون ماذا يكون مصير المسرح التونسي لو بقي علي بن عياد حيا ..؟؟ …والجواب البديهي عندي انه لو بقي علي بن عياد حيّا لكان مسرحنا الان سيّد المسارح العربية … فالرجل فلتة نادرة من تاريخنا الثقافي والفترة القصيرة جدا التي ظهر فيها اشعل النار تحت اقدام الجميع… ولكن جاء يوم وجاء خبر من باريس يقول انّ ابن عياد مات وهو شاب انداده مايزالون يتعلمون في اقلّ مشهد يمثّلونه … قبل علي بن عياد كان عندنا الشابي .. تناثرت اشعاره هنا وهناك وكلمات كلّما وجدت واحدة منها قلت كيف يكون شعر عام 35 افضل مليار مرة من شعر 85 …ومات الشابي وخسرناه وكان بامكانه البقاء اكثر والكتابة اكثر … عام 71 خسرنا (عبد العزيز) العروي … كان الرجل يشدّنا باسماره وحكاياته وكلامه المتعة ونقده الصراحة وماضيه الصحفي العظيم … يموت العروي وهو ايضا مازلنا نحتاجه و”الان ديكو” لم يكن اقلّ منه سنّا …
عام 78 كان عندنا عام الكوارث فقد خسرنا أرواحا كثيرة ومؤسسات كثيرة ومواطن شغل كثيرة وحريات كثيرة واموالا وسلعا كثيرة .. لكنّ اكثر شيء قتلتني خسارته كان محمد قلبي …لم يكن في تصوّر احد انّ هذا القلم المشتعل الجارح سوف يبرد ويحفى في يوم من الايام… ولم يكن في خيالنا انّ الحربوشة يأتي يوم ويبلعونها بلا ماء ..ولم يكن في احلامنا ان صحافيا تصل عنده تلك الشعبية التي تنافس رجال السياسة والتلفزة ويصبح عنده نفس الخطر الذي لدى قادة الاتحاد الكبار… ولم يكن احد يدري انّ ذلك الاسلوب الدوعاجي القاتل سيزحف على البلاد بجامعاتها ومدارسها ومزارعها زحفا لم يفعله ايّ كاتب او صحفي تونسي آخر الى اليوم… ومع ذلك جاء يوم وسكت محمد قلبي وارسل برقية اعتذار الى رؤوف يعيش وفرّ هاربا… واخيرا عاد ليُعوّض زملاءه المطرودين من جريدة يومية …ومن لم يمُت بالسيف مات بغيره …
وبما انّ عبدالكريم قطاطة _ مرجوع حديثنا _ لم يبع صوته بحفنة من الدينارات والامتيازات… وبما انّهم لم يأسفوا على شبابه وبما انّه مازال واقفا مثل مبنى اذاعة صفاقس، وربّما اعلى… فلا بدّ من الحلّ الثالث والاخير وهو التخلّي عنه مباشرة ودون تفاصيل زائدة .. وهنا ننتقل من اتهام مجتمعنا الى اتّهام مؤسسة من داخل مجتمعنا… الاذاعة والتلفزة التونسية… هذه المؤسسة مثل مدينة النحاس … طلاسم وسحر وتهويمات .. جنّ وعفاريت وعبابث …يحيط بها سور معدني ثقيل لا ينفذ منه الواحد ولو بأمّ عينيه … ومن قلعة الاسرار هذه ورغم قلعة الاسرار هذه تحدّث الناس وسرّبوا حكايات من واء الستار الحديدي … تحدثوا عن البرامج التي يفرضها المسؤول الفلاني والمذيع الذي تفرضه القرابة الفلانية والمنشط الذي يتفوّق بالعلاقة الفلانية …والاخر الذي تتكلم عنه تليفونات موجودة في الليستة الحمراء والآخر الذي .. والأخرى التي…
المشكلة في عبدالكريم قطاطة انه لم يسقط على الاذاعة بالباراشوت بل درس وتعلّم وتدرّب ولطالما نصحوه بأقصر الطرق والابتعاد عن التعب ووجائع الراس … فلم يسمع الكلام .. ولطالما نصحوه بالتقرّب من رؤسائه وحمل قفّة لهذا وهدية لهذا ووديدة لهذا ..الاّ انه لم يسمع الكلام … ولطالما نصحوه بالتنقيص من اغاني مارسيل خليفة واميمة الخليل واولاد المناجم وفيروز وزياد الرحباني والشيخ امام، وان يزيد قليلا من هشام النقاطي ومحسن الرايس وراغب علامة وجورج وصوف … الاّ انه لم يسمع الكلام …ولطالما نصحوه بمزاحمة جماعة (لقاء في ساعة) ومنافستهم الا انّه لم يسمع الكلام… ولطالما نصحوه بممارسة الاشهار لـ”ميّ يزبك” .. وجورج يزبك .. وبسام يزبك .. ومازن يزبك …وحديقة الازبكية … فاذا به لا يسمع الكلام …
وبما انه لا يريد ان يسمع الكلام فقد ارادوا ان يخاطبوه باسلوب تغيب فيه الكلمة .. باسلوب القرار المكتوب اسود على ابيض .. والممضى من تحت والمختوم من فوق … وهذا لعمري اسلوب يخاف من تلاحم الاجسام او تلاحم الرجال … انّه اسلوب جبان يختبئ وراء طاولة وكرسي وباب مقفل بدورتين .. ولا ادري والله لماذا يخافون عبدالكريم … فالولد ليس ملاكما سابقا ولا شلاّطا شهيرا ولا عربيدا شريرا وهو ليس مسلّحا ولا عنده عصابة ولا عنده عرش من بني عمّه … لا والله لا …لذلك فانا وانت وهو وهي وهما وهم وهنّ وكل الناس لا نخاف عبدالكريم لأنّنا لم نفعل له شيئا … اما الاخرون فانهم يعرفون ايّ ذنب يقترفون لمّا جاؤوا اباهم عشاء يبكون… تماما مثل اخوة يوسف…
سألني عبدالكريم ذات يوم ان كنت سمعت الكوكتيل ..فقلت لا لأنّ البرنامج يُبثّ في اوقات عملي فتأسّف كثيرا وبعد اسابيع اعطاني شريطين مسجّل عليهما شيء من الكوكتيل وقال اسمع واعطني رايك… فلمّا سمعت التساجيل وصعقني مستواها، قلت هذا يتواضع ويقول اعطني رايك … بل الاحرى ان اطلب انا رايه لا العكس والاحرى ان يتملّح من مستمع جاهل مثلي وعنده ملايين المستمعين والمعجبين وكلّهم على حقّ …تذكّرت هذه الفازة وانا اقرأ في النومرو الاخير من جريدة الايام ما كتبه عبدالكريم قطاطة من حقائق عرضها (“بكلّ غرور” كما قال) وانا هنا لاقول لكم ان عبدالكريم قطاطة يكذب عليكم وربّما هي الكذبة الاولى …فعبد الكريم قطاطة ليس مغرورا وليته كان مغرورا …
لو كان مغرورا لاحترموه وقدّسوه وارتعشوا منه ولعاملوه معاملة نجوم الكرة وباسوا صبّاطه والتراب الذي تعفسه قدماه …ولاعطوه دارا وسيارة وبونوات ايسانس وخدمة في بانكة لا يذهب اليها الا يوم قبض المرتّب … لو كان عبدالكريم داهية شرّاطا دلّولا مدلّلا لكان مصيره مثل ميشال دروكير … وجاك مارتان …وفيليب بوفار ….وغي لوكس …وساشا ديستال …وستيفان كولارو ..وبيبو باودو …وبيبو فرانكو …ورافا … ولوريتا … وغيرهم من نجوم الاذاعة والتلفزة الذين كسبوا الملايين من مواهبهم وصارت صورهم تظهر حتى على اعلانات الدنتيفريس ومايوهات السباحة …
يا عبدالكريم… اناس مثل هؤلاء وتلفزة مثل هذه واذاعة مثل هذه لا ينفع معها الا الغرور وقد اغترّ قبلك الصعاليك واولاد البارح فكيف لا تغتر وانت الاصيل الكادح الذي يُنبت الزهر في الصخر … والله ليس هذا بنديرا ولا سلامية وانا لست طامعا في عبدالكريم ولا خائفا منه .. فقط انا صرت واحدا من جمهوره العريض الطويل الذي الى الان لم يفعل شيئا من اجل المذيع الكبير… ولم يقدّم شيئا من اجل تعب عبدالكريم وسهر وارق ومرض عبدالكريم… ولم يقل شيئا في هذه المأساة التي تضرّ بنا جميعا وهاهي الان تصيب عبد الكريم …
واحرّ قلباه عليك يا ابن بلدي الكريم }
هكذا كتب عبدالقادر بمداد روحه وقلبه وفكره… واعود لاقول انا فعلا لم اكسب ممّا كسبه الاخرون ولكن كسبت ما اهمّ… كسبت رضاء نفسي و كسبت عزّة نفسي التي لم تُمرّغ يوما في التراب… وكسبت حبّ الناس وهذا لا يقدّر بكلّ كنوز الدنيا … وكسبت خاصة (يرحم والديك)…
ـ يتبع ـ
تصفح أيضا
عبد الكريم قطاطة:
فترة التسعينات كانت حبلى بالاحداث والتغييرات في مسيرتي المهنية منها المنتظر والمبرمج له ومنها غير المنتظر بتاتا …
وانا قلت ومازلت مؤمنا بما قلته… انا راض بأقداري… بحلوها وبمرّها… ولو عادت عجلة الزمن لفعلت كلّ ما فعلته بما في ذلك حماقاتي واخطائي… لانني تعلمت في القليل الذي تعلمته، انّ الانسان من جهة هو ابن بيئته والبيئة ومهما بلغت درجة وعينا تؤثّر على سلوكياتنا… ومن جهة اخرى وحده الذي لا يعمل لا يخطئ… للتذكير… اعيد القول انّه وبعد ما فعله سحر المصدح فيّ واخذني من دنيا العمل التلفزي وهو مجال تكويني الاكاديمي، لم انس يوما انّني لابدّ ان اعود يوما ما الى اختصاصي الاصلي وهو العمل في التلفزيون سواء كمخرج او كمنتج او كلاهما معا… وحددت لذلك انقضاء عشر سنوات اولى مع المصدح ثمّ الانكباب على دنيا التلفزيون بعدها ولمدّة عشر سنوات، ثمّ اختتام ما تبقّى من عمري في ارقى احلامي وهو الاخراج السينمائي…
وعند بلوغ السنة العاشرة من حياتي كمنشط اذاعي حلّت سنة 1990 لتدفعني للولوج عمليا في عشريّة العمل التلفزي… ولانني احد ضحايا سحر المصدح لم استطع القطع مع هذا الكائن الغريب والجميل الذي سكنني بكلّ هوس… الم اقل آلاف المرات انّ للعشق جنونه الجميل ؟؟ ارتايت وقتها ان اترك حبل الوصل مع المصدح قائما ولكن بشكل مختلف تماما عما كنت عليه ..ارتايت ان يكون وجودي امام المصدح بمعدّل مرّة في الاسبوع ..بل وذهبت بنرجسيتي المعهودة الى اختيار توقيت لم اعتد عليه بتاتا ..نعم اخترت الفضاء في سهرة اسبوعية تحمل عنوان (اصدقاء الليل) من التاسعة ليلا الى منتصف الليل …هل فهمتم لماذا وصفت ذلك الاختيار بالنرجسي ؟؟ ها انا افسّر ..
قبل سنة تسعين عملت في فترتين: البداية كانت فترة الظهيرة من العاشرة صباحا حتى منتصف النهار (والتي كانت وفي الاذاعات الثلاث قبل مجيئي فترة خاصة ببرامج الاهداءات الغنائية)… عندما اقتحمت تلك الفترة كنت مدركا انيّ مقدم على حقل ترابه خصب ولكنّ محصوله بائس ومتخلّف ..لذلك اقدمت على الزرع فيه … وكان الحصاد غير متوقع تماما ..وتبعتني الاذاعة الوطنية واذاعة المنستير وقامت بتغييرات جذرية هي ايضا في برامجها في فترة الضحى .. بل واصبح التنافس عليها شديدا بين المنشطين ..كيف لا وقد اصبحت فترة الضحى فترة ذروة في الاستماع … بعد تلك الفترة عملت ايضا لمدة في فترة المساء ضمن برنامج مساء السبت … ولم يفقد انتاجي توهجه ..وعادت نفس اغنية البعض والتي قالوا فيها (طبيعي برنامجو ينجح تي حتى هو واخذ اعزّ فترة متاع بثّ) …
لذلك وعندما فكّرت في توجيه اهتمامي لدنيا التلفزيون فكرت في اختيار فترة السهرة لضرب عصفورين بحجر واحد… الاول الاهتمام بما ساحاول انتاجه تلفزيا كامل ايام الاسبوع وان اخصص يوما واحدا لسحر المصدح ..ومن جهة اخرى وبشيء مرة اخرى من النرجسية والتحدّي، اردت ان اثبت للمناوئين انّ المنشّط هو من يقدر على خلق الفترة وليست الفترة هي القادرة على خلق المنشط ..وانطلقت في تجربتي مع هذا البرنامج الاسبوعي الليلي وجاءت استفتاءات (البيان) في خاتمة 1990 لتبوئه و منشطه المكانة الاولى في برامج اذاعة صفاقس .. انا اؤكّد اني هنا اوثّق وليس افتخارا …
وفي نفس السياق تقريبا وعندما احدثت مؤسسة الاذاعة برنامج (فجر حتى مطلع الفجر) وهو الذي ينطلق يوميا من منتصف الليل حتى الخامسة صباحا، و يتداول عليه منشطون من الاذاعات الثلاث… طبعا بقسمة غير عادلة بينها يوم لاذاعة صفاقس ويوم لاذاعة المنستير وبقية الايام لمنشطي الاذاعة الوطنية (اي نعم العدل يمشي على كرعيه) لا علينا … سررت باختياري كمنشط ليوم صفاقس ..اولا لانّي ساقارع العديد من الزملاء دون خوف بل بكلّ ثقة ونرجسية وغرور… وثانيا للتاكيد مرة اخرى انّ المنشط هو من يصنع الفترة ..والحمد لله ربحت الرهان وبشهادة اقلام بعض الزملاء في الصحافة المكتوبة (لطفي العماري في جريدة الاعلان كان واحدا منهم لكنّ الشهادة الاهمّ هي التي جاءتني من الزميل الكبير سي الحبيب اللمسي رحمه الله الزميل الذي يعمل في غرفة الهاتف بمؤسسة الاذاعة والتلفزة) …
سي الحبيب كان يكلمني هاتفيا بعد كل حصة انشطها ليقول لي ما معناه (انا نعرفك مركّب افلام باهي وقت كنت تخدم في التلفزة اما ما عرفتك منشط باهي كان في فجر حتى مطلع الفجر .. اما راك اتعبتني بالتليفونات متاع المستمعين متاعك، اما مايسالش تعرفني نحبك توة زدت حبيتك ربي يعينك يا ولد) … في بداية التسعينات ايضا وبعد انهاء اشرافي على “اذاعة الشباب” باذاعة صفاقس وكما كان متفقا عليه، فكرت ايضا في اختيار بعض العناصر الشابة من اذاعة الشباب لاوليها مزيدا من العناية والتاطير حتى تاخذ المشعل يوما ما… اطلقت عليها اسم مجموعة شمس، واوليت عناصرها عناية خاصة والحمد لله انّ جلّهم نجحوا فيما بعد في هذا الاختصاص واصبحوا منشطين متميّزين… بل تالّق البعض منهم وطنيا ليتقلّد عديد المناصب الاعلامية الهامة… احد هؤلاء زميلي واخي الاصغر عماد قطاطة (رغم انه لا قرابة عائلية بيننا)…
عماد يوم بعث لي رسالة كمستمع لبرامجي تنسمت فيه من خلال صياغة الرسالة انه يمكن ان يكون منشطا …دعوته الى مكتبي فوجدته شعلة من النشاط والحيوية والروح المرحة ..كان انذاك في سنة الباكالوريا فعرضت عليه ان يقوم بتجربة بعض الريبورتاجات في برامجي .. قبل بفرح طفولي كبير لكن اشترطت عليه انو يولي الاولوية القصوى لدراسته … وعدني بذلك وسالته سؤالا يومها قائلا ماذا تريد ان تدرس بعد الباكالوريا، قال دون تفكير اريد ان ادرس بكلية الاداب مادة العربية وحلمي ان اصبح يوما استاذ عربية ..ضحكت ضحكة خبيثة وقلت له (تي هات انجح وبعد يعمل الله)… وواصلت تاطيره وتكوينه في العمل الاذاعي ونجح في الباكالوريا ويوم ان اختار دراسته العليا جاءني ليقول وبكلّ سعادة …لقد اخترت معهد الصحافة وعلوم الاخبار… اعدت نفس الضحكة الخبيثة وقلت له (حتّى تقللي يخخي؟) واجاب بحضور بديهته: (تقول انت شميتني جايها جايها ؟؟)… هنأته وقلت له انا على ذمتك متى دعتك الحاجة لي ..
وانطلق عماد في دراسته واعنته مع زملائي في الاذاعة الوطنية ليصبح منشطا فيها (طبعا ايمانا منّي بجدراته وكفاءته)… ثم استنجد هو بكلّ ما يملك من طاقات مهنية ليصبح واحدا من ابرز مقدمي شريط الانباء… ثم ليصل على مرتبة رئيس تحرير شريط الانباء بتونس 7 ..ويوما ما عندما فكّر البعض في اذاعة خاصة عُرضت على عماد رئاسة تحريرها وهو من اختار اسمها ..ولانّه لم ينس ماعاشه في مجموعة شمس التي اطرتها واشرفت عليها، لم ينس ان يسمّي هذه الاذاعة شمس اف ام … اي نعم .عماد قطاطة هو من كان وراء اسم شمس اف ام …
ثمة ناس وثمة ناس ..ثمة ناس ذهب وثمة ناس ماجاوش حتى نحاس ..ولانّي عبدالكريم ابن الكريم ..انا عاهدت نفسي ان اغفر للذهب والنحاس وحتى القصدير ..وارجو ايضا ان يغفر لي كل من اسأت اليه ..ولكن وربّ الوجود لم اقصد يوما الاساءة ..انه سوء تقدير فقط …
ـ يتبع ـ
عبد الكريم قطاطة:
المهمة الصحفية الثانية التي كلفتني بها جريدة الاعلان في نهاية الثمانينات تمثّلت في تغطية مشاركة النادي الصفاقسي في البطولة الافريقية للكرة الطائرة بالقاهرة …
وهنا لابدّ من الاشارة انها كانت المرّة الوحيدة التي حضرت فيها تظاهرة رياضية كان فيها السي اس اس طرفا خارج تونس .. نعم وُجّهت اليّ دعوات من الهيئات المديرة للسفر مع النادي وعلى حساب النادي ..لكن موقفي كان دائما الشكر والاعتذار ..واعتذاري لمثل تلك الدعوات سببه مبدئي جدا ..هاجسي انذاك تمثّل في خوفي من (اطعم الفم تستحي العين)… خفت على قلمي ومواقفي ان تدخل تحت خانة الصنصرة الذاتية… اذ عندما تكون ضيفا على احد قد تخجل من الكتابة حول اخطائه وعثراته… لهذا السبب وطيلة حياتي الاعلامية لم اكن ضيفا على ايّة هيئة في تنقلات النادي خارج تونس ..
في رحلتي للقاهرة لتغطية فعاليات مشاركة السي اس اس في تلك المسابقة الافريقية، لم يكن النادي في افضل حالاته… لكن ارتأت ادارة الاعلان ان تكلّفني بمهمّة التغطية حتى اكتب بعدها عن ملاحظاتي وانطباعاتي حول القاهرة في شكل مقالات صحفية… وكان ذلك… وهذه عينات مما شاهدته وسمعته وعشته في القاهرة. وهو ما ساوجزه في هذه الورقة…
اوّل ما استرعى انتباهي في القاهرة انّها مدينة لا تنام… وهي مدينة الضجيج الدائم… وما شدّ انتباهي ودهشتي منذ الساعة الاولى التي نزلت فيها لشوارعها ضجيج منبهات السيارات… نعم هواية سائقي السيارات وحتى الدراجات النارية والهوائية كانت بامتياز استخدام المنبهات… ثاني الملاحظات كانت نسبة التلوّث الكثيف… كنت والزملاء نخرج صباحا بملابس انيقة وتنتهي صلوحية اناقتها ونظافتها في اخر النهار…
اهتماماتي في القاهرة في تلك السفرة لم تكن موجّهة بالاساس لمشاركة السي اس اس في البطولة الافريقية للكرة الطائرة… كنا جميعا ندرك انّ مشاركته في تلك الدورة ستكون عادية… لذلك وجهت اشرعة اهتمامي للجانب الاجتماعي والجانب الفنّي دون نسيان زيارة معالم مصر الكبيرة… اذ كيف لي ان ازور القاهرة دون زيارة خان الخليلي والسيدة زينب وسيدنا الحسين والاهرام… اثناء وجودي بالقاهرة اغتنمت الفرصة لاحاور بعض الفنانين بقديمهم وجديدهم… وكان اوّل اتصال لي بالكبير موسيقار الاجيال محمد عبد الوهاب رحمه الله… هاتفته ورجوت منه امكانية تسجيل حوار معه فاجابني بصوته الخشن والناعم في ذات الوقت معتذرا بسبب حالته الصحية التي ليست على ما يرام…
لكن في مقابل ذلك التقيت بالكبير محمد الموجي بمنزله وقمت بتسجيل حوار معه ..كان الموجي رحمه الله غاية في التواضع والبساطة… لكن ما طُبع في ذهني نظرته العميقة وهو يستمع اليك مدخّنا سيجارته بنهم كبير… نظرة اكاد اصفها بالرهيبة… رهبة الرجل مسكونا بالفنّ كما جاء في اغنية رسالة من تحت الماء التي لحنها للعندليب… نظرة المفتون بالفن من راسه حتى قدميه…
في تلك الفترة من اواخر الثمانينات كانت هنالك مجموعة من الاصوات الشابة التي بدات تشق طريقها في عالم الغناء ..ولم اترك الفرصة تمرّ دون ان انزل ضيفا عليهم واسجّل لهم حوارات… هنا اذكر بانّ كلّ التسجيلات وقع بثها في برامجي باذاعة صفاقس… من ضمن تلك الاصوات الشابة كان لي لقاءات مع محمد فؤاد، حميد الشاعري وعلاء عبدالخالق… المفاجأة السارة كانت مع لطيفة العرفاوي… في البداية وقبل سفرة القاهرة لابدّ من التذكير بانّ لطيفة كانت احدى مستمعاتي… وعند ظهورها قمت بواجبي لتشجيعها وهي تؤدّي انذاك وباناقة اغنية صليحة (يا لايمي عالزين)…
عندما سمعت لطيفة بوجودي في القاهرة تنقلت لحيّ العجوزة حيث اقطن ودعتني مع بعض الزملاء للغداء ببيتها… وكان ذلك… ولم تكتف بذلك بل سالت عن احوالنا المادية ورجتنا ان نتصل بها متى احتجنا لدعم مادي… شكرا يا بنت بلادي على هذه الحركة…
اختم بالقول قل ما شئت عن القاهرة.. لكنها تبقى من اعظم واجمل عواصم الدنيا… القاهرة تختزل عبق تاريخ كلّ الشعوب التي مرّت على اديمها… نعم انها قاهرة المعزّ…
ـ يتبع ـ
محمد الزمزاري:
انطلقت الحملة الوطنية المتعلقة هذه المرة بالتقصي حول الأمراض المزمنة وكان مرض السكري وأيضا مرض ضغط الدم هما المدرجان في هذه الحملة.
يشار إلى أن نسب مرضى السكري و ضغط الدم قد عرفت ارتفاعا ملفتا لدى المواطنين و بالتحديد لدى شريحة كبار السن مما يكسي اهمية لهذه الحملات التي تنظمها وزارة الصحة العمومية بالتعاون المباشر مع هيئة الهلال الأحمر التونسي.. وقد سنحت لنا الفرصة لحضور جزء مهم من الحملة في بهو محطة القطارات الرئيسية بساحة برشلونة، لنقف على تفاعل عديد المواطنين المصطفّين قصد الخضوع لعملية التقصي بكل انضباط وكان جل الوافدين طبعا من كبار السن، كما لوحظ تواجد عدد كبير من ممثلي الهلال الأحمر ومن الأطباء بمكتبين ويساعدهم بعض الممرضين.
الغريب انه لدى تغطيتى العارضة لهذه الحملة المتميزة التي تهدف اساسا إلى توعية المواطنين وحثهم على تقصي الأمراض بكل انواعها بصور مبكرة، بالاعتماد على كافة قنوات الاتصال وأهمها الإعلام الذي لن يكون الا داعما لهذا الهدف الإنساني لكن احد اعوان الهلال الأحمر فتح معي بحثا ان كنت من التلفزة الوطنية ملاحظا ان القناة المذكورة هي الوحيدة المسموح لها بالقيام بالتغطية ولم يكتف بهذا بل أكد ان الأطباء لا يحبون التصوير.
طبيعي اني لم اتفاعل مع هذا الجهل وضحالة المعرفة باهداف الحملة بالإضافة إلى عمليات التقصي الفعلي ..ولما تجاوز في الإلحاح طلبت منه الاستظهار بصفته هل هو منسق الحملة حتى يمكنني أن امر إلى المسؤول عنها بصفتي صحفيا ..وواصلت عملى أمام انكماش هذا العون التابع للهلال الأحمر حسبما يدل عليه زيه.
وبعيدا عن هذا، لا يفوت التنويه بالجهود الكبيرة التي يتحلى بها طاقم الاطباء و الممرضين و متطوعي الهلال الاحمر، الذين يجهدون انفسهم لانجاح هذه الحملة سواء داخل بهو محطة السكك الحديدية او عبر بعض الفرق التي تعمل على التعريف بجدوى التقصي حتى خارج البهو الكبير.
صن نار
- ثقافياقبل 25 دقيقة
قريبا وفي تجربة مسرحية جديدة: “الجولة الاخيرة”في دار الثقافة “بشير خريّف”
- جور نارقبل 34 دقيقة
ورقات يتيم … الورقة 89
- ثقافياقبل 11 ساعة
زغوان… الأيام الثقافية الطلابية
- جلـ ... منارقبل 22 ساعة
الصوت المضيء
- جور نارقبل يومين
ورقات يتيم ..الورقة 88
- ثقافياقبل 3 أيام
نحو آفاق جديدة للسينما التونسية
- صن نارقبل 3 أيام
الولايات المتحدة… إطلاق نار في “نيو أوليانز” وقتلى وإصابات
- صن نارقبل 3 أيام
في المفاوضات الأخيرة… هل يتخلى “حزب الله” عن جنوب لبنان؟