تابعنا على

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 87

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

قبل ان اودّع فترة نهاية الثمانينات واشرع في تدوين ما عشته وعايشته في التسعينات، لابدّ من العودة الى مهمتين كُلفت بهما في الصحافة المكتوبة، ومع جريدة الاعلان بالتحديد، وتتمثلان في تغطية حدثين في بلدين شقيقين (ليبيا ومصر) كان ذلك سنة 1988 …

عبد الكريم قطاطة

في ليبيا كان الحدث سياسيا بامتياز… العقيد معمّر القذافي رحمه الله قرّر في تلك السنة القيام بلقاء فكري مع الصحفيين غير المنتمين للصحافة الحكومية في الوطن العربي… والنظام الليبي هو المتكفّل بمصاريف تنقلهم وايوائهم في طرابلس ..وكنت انا موفد جريدة الاعلان صحبة زميل من جريدة البيان رغم انها شبه حكومية، واخر من جريدة الشروق … هنالك قضينا اسبوعا كاملا حيث حضرنا عديد الندوات الفكرية الخاصة بالحدث كل صباح… بينما خصصنا بقية النهار لمحاولة معرفة طبائع وسلوكيات الشعب الليبي الشقيق واختتمت الايام بلقاء صحفي مع العقيد …

انطباعات عديدة ارتسمت في ذهني بعد قضاء ذلك الاسبوع لعلّ اوّلها طيبة الشعب الليبي وحسن ضيافته وكرمه ..كنت انهض كلّ صباح لاجد عشرات باقات الورود والهدايا مهداة من مستمعيّ الاعزاء الذين علموا بوجودي في طرابلس …بل إن بعضهم انتقل الى الفندق لملاقاتي واخرين اصرّوا على دعوتي لمنزلهم (شكرا عائلة حشاد) ولكم ان تتصوروا الولائم والخرفان التي ذبحت ..الليبي الشقيق فيه كثير من خصال البداوة الأصيلة … وحتى عندما عدت الى تونس وتقدمت الى مصالح الديوانة لمعاينة ما لي وما عليّ حمدت الله ان جاءني صوت من بعيد مهلّلا “اهلا بكريّم” ..انه صديق عرفته في مبيت ميتوالفيل عندما كان طالبا وهاهو اطار عال في الديوانة ..وصل وكان العناق وحديث الذكريات ثم نظر الى الاعوان وقال لهم يخخي ما تعرفوش واحد اسمو عبدالكريم قطاطة في اذاعة صفاقس ؟؟ نظر الاعوان اليّ وكان سلاما من نوع اخر ..ولم يفتح ايّ واحد منهم حقائبي وحسنا فعلوا ..لم اكن مهرّبا لايّ شيء خارج عن منطق القانون ولكن عندما وصلت الى منزلي وفتحت الهدايا وجدت وفي العديد منها سلاسل واقراط وخواتم ذهبية ..يا فضيحتك يا عبدالكريم لو لم يات ولد بوشناق …اعني الاطار العالي في الجمارك ..وهنا اقسم لكم بشرفي اني لم افتح ايّ صندوق من الهدايا قبل الوصول الى منزلي …

الملاحظة الثانية التي سجلتها وصدقا بكلّ سعادة وفخر انّ الاذاعة المسموعة والمحبوبة رقم واحد من اخوتنا في طرابلس هي اذاعة صفاقس… بل هم يعتبرونها اذاعتهم ويسردون عليك وانت تحادثهم تفاصيل عنها ربما انت لا تعرفها … الملاحظة الثالثة وهي التي ادهشتني وارعبتني ايضا .. التقيت صدفة ذات يوم مع مجموعة من الشباب بعضهم لم يتجاوز عمره السابعة عشر ..المكان كان مقفرا الا من بعض المارة كانوا يحملون اسلحة خفيفة تحت ملابسهم… امرنا احدهم بالتوقف فامتثلنا… طلب منا هويتنا فامتثلنا وفجاة تهللت اساريره وهو يقول: الاخوة من تونس… (اي نعم) اجبنا ونحن لم نتوصل بعد الى اكتشاف هويتهم .. سألنا رئيسهم ..تحبوا ويسكي تحبوا زطلة ؟؟ شكرناه وعبرنا عن عدم رغبتنا في ايّ شيء ..ودون ايّ ازعاج تركونا في سبيل حالنا .. عندما سالت احد الاصدقاء التونسيين عمن هؤلاء ..اجابني (تسمع باللجان الشعبية ؟ هذوكا هوما) ..

لكن آتي الان الى اهم حدث واخطر حدث وقع لي في تلك الزيارة الى ليبيا… جاءنا احد المسؤولين في دائرة النظام الليبي لمقرّ اقامتنا وهو واحد من افخم النزل في طرابلس ان لم يكن افخمها… جاءنا ليذكرنا بموعد الندوة الصحفية في الغد يوم الاختتام مع العقيد، وبوجوب مدّه بثلاثة اسئلة مخوّل لنا طرحها غدا على العقيد حتى يراجعها الليلة ويدرسها قبل الاجابة عنها… لم نندهش من هذا الامر لانّه معمول به وفي عديد الدول .. سلمه كل واحد منا اسئلته الثلاثة وفي الغد كنا في الموعد للقاء القذافي… عندما ذكر اسمي اعاد طرح سؤالي على الجميع والذي كان: (حضرة العقيد وانت المعروف بحسك القومي والذي يتوق لوحدة عربية شاملة… الا ترون انّ الخطوة الاولى لتحقيق هذا الحلم يمكن ان تكون بوحدة اقتصادية بين مختلف الدول العربية، تليها خطوات اخرى تصبّ في الوحدة العربية الشاملة ؟؟)

نظر اليّ مليّا الاخ العقيد وقالي لي شوف يا اخ قطاطة انت تحدثت عن الدول العربية مافيش دول عربية فيه فقط ليبيا وشوية فلسطين والبقية (بقر)!!… اي نعم… هذا يعني انّي الان اصبحت كتونسي في نظر القذافي ثورا من قطيع البقر …لم ادعه يواصل قراءة السؤالين اللذين تبقّيا فقلت له شكرا يا سيادة العقيد اجابتك ضافية وشافية ولا ارى داعيا للاجابة عن السؤالين الآخرين .. نظر اليّ وطفّشني وراح الى صحفيين آخرين واسئلة اخرى .. للامانة لم استطع قراءة نظرته ولم يتملكني ايّ شعور بالخوف وقتها لكن كنت احسّ بمغص شديد وباهانة لي وخاصة لشعبي … وليلتها لم استطع النوم ..لاني وفي تلك الاجواء ومع ما نعرفه عن العقيد وعن ردود فعله لم استطع فعل ايّ شيء… انه الصمت القاهر وكم هو موجع ذلك الصمت القاهر ..

في الغد اعددت حقائبي استعدادا للتنقل الى المطار والعودة الى تونس ..وقفت امام مصالح النزل الادارية لاسلّم مفاتيح غرفتي ولاتسلّم جواز سفري …وماهي هنيهة حتى تقدّم مني موظف الاستقبال ليقدم لي (فاتورة) … فاتورة ؟ اي نعم فاتورة ..اخذتها منه متفحصا وبكل استغراب خاصة وانا الذي لم يتناول اي شيء باستثناء غذائي . وبعبارة أوضح: في النزل ما فماش اكسترا … وجدت فاتورة لكانّي من النازلين في الفندق على حسابي الخاص بينما انا كنت ضيفا اقامة وتنقلا على النظام الليبي … مالذي حدث ؟؟ اتصلت بصديق تونسي مقيم في طرابلس واعلمته بالامر قال كم المبلغ ؟ قلت له بضعة ملايين ..قال لي لا تناقش وسآتيك بالمبلغ .. شكرا حبيب … صديقي هذا يعرفني جيدا وهو في الاصل احد مستمعيّ ويعرفني عنيدا في حقوقي فخاف عليّ منهم ومما قد اتجرّأ على قوله تجاههم او تجاه النظام ..

قلت لصديقي انا في انتظارك فاعاد القول (خويا عبدالكريم نعاود نقلك بجاه ربي لا تقوللهم حتى كلمة)… طمانته ثمّ ذهبت الى الموظف في الاستقبال وقلت لهم اوكي سادفع المبلغ… ولكن وباعتباري اتعامل مع جريدة عليّ انا ايضا ان امدّها بفاتورة فيها كلّ مصاريفي في النزل اثناء اقامتي بليبيا حتى استرجع ما سادفعه لكم ..وبُهت الذي كفر ..تعرفوها (داخلة خارجة داخلة خارجة متاع عادل امام ؟) هاكي هي… أهم دخلو آهم خرجو ..قول عشرات المرات ..وفي الاخير جاءني موظّف كبير في النزل واعاد لي جواز سفري معتذرا عما حدث.. وهات من هاكي العبارات متاع وقع سوء تفاهم .. وانت قدرك عزيز .. واللي قاموا بالعملية متاع الفاتورة ما يعرفوكش ..بينما كنت اتحادث معهم يوميا و العديد منهم من مستمعيّ ايضا … قالك ما يعرفونيش !…

تحولت بعدها الى المطار ووجدت فريقا تلفزيا (ليبيّا) في انتظارنا لاخذ بعض الانطباعات حول ايامنا في ليبيا وحول اللقاء الفكري مع العقيد ..وطبعا راس الهم دادة عيشة .. ايّا نبداو بيك يا اخ عبدالكريم ..انت عندك مستمعين يحبوك هلبة ويسعدهم يسمعوك .. وضعت يدي امام الكاميرا وقلت لهم هذه المرة وبكلّ حزم ..انا اعتذر جدا ..ليس لي الحقّ بادلاء ايّ تصريح لايّة وسيلة اعلامية الا بموافقة جريدتي .. شكرا لكم وتحياتي الى كلّ مستمعيّ الاعزاء .. ويكسّر ساقين اللي ما يجريش ..حملت حقيبتي اليدوية واتجهت الى طائرتي التي ستقلّني الى تونس .. للامانة ومنذ ان اقلعت الطائرة عشت قلقا يتزايد كلّ مرة تمرّ فيها الطائرة بمنخفض جويّ ..نعم كنت اتوقع كلّ شيء بعد كلّ الذي حدث ..واوّل ما قمت به عند نزولي في مدرج مطار قرطاج سجدت حمدا لله وقبلت الارض التونسية ..

هنا لابدّ من الاشارة الى انّ كلّ ما حدث وحتى اكون شفافا ونزيها وصادقا لم يمسّ ولو شعرة من اهاليّ في ليبيا .. بل وهم يعرفون لحدّ الان مدى الروابط المتينة التي ربطتني بمستمعيّ في ايّ شبر من التراب الليبي ..

المهمة الصحفية الثانية التي كُلفت بها ومن جريدة الاعلان ايضا كانت هذه المرة ببلد الفراعنة .. بلد نجيب محفوظ وطه حسين والعقاد .. بلد الستّ والعندليب … بلد يوسف شاهين وصلاح ابو سيف . بلد سيدة الشاشة فاتن حمامة والكبير عمر الشريف… بلد ليالي الحلمية ورافت الهجان… بلد الفوازير وخاصة نيللي ..تتذكروها نيللي اكيد ..؟… تتذكروا كلمتها (شطّبنا) في نهاية الحلقة … استعيرها منها لانهاء هذه الورقة اذن شطّبنا …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 86

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

لم انس ما فعله معي المرحوم صلاح الدين معاوي في حلحلة المظلمة التي تعرضت لها بعد عودتي من فرنسا وانا احمل معي ديبلوم الدرجة الثالثة للعلوم السمعية البصرية سنة 1979 دون أن يشفع لي نجاحي اوّل في تلك الدفعة …

عبد الكريم قطاطة

لم اجاز على ذلك الا بتلكؤ كلّ الادارت التي تعاقبت والتي وبخطأ منها رسمتني في قائمة المهندسين… وهذه كانت بالنسبة لي جناية في حقّ كل من ينتمي لذلك الاطار في الوظيفة العمومية لانّي لم ادرس يوما لاتخرّج مهندسا ..وامام رفضي لهذه الوضعية رغم اغراءاتها المادية وقع تجميد ملفّي 9 سنوات كاملة… حتى اقدم السيّد صلاح الدين معاوي على فتح ملفي من جديد وفي ظرف وجيز قام بالتسوية… لذلك وامام اقتراحه بتكليفي بمهمة الاشراف على اذاعة الشباب من اجل ادخال تطويرات عليها، خجلت من نفسي ان انا رفضت… ولكن وللشفافية المطلقة قلت له طلبك على عيني سي صلاح لكن بشرط ..ابتسم لي وقال (ايّا اعطينا شروطك يا كريّم .. اما ما تصعبهاش عليّ) ..

قلت له (اعترافا منّي بالجميل لك ولن انسى جميلك ساقبل الاشراف على اذاعة الشباب ولكن ضمن رؤيتي الخاصة لكيف يجب ان تكون اذاعة الشباب) .. لم يتركني اكمل واجاب على الفور ..انا اعرفك منذ سنوات ..واعرف ثوابتك ..ومن اجلها اخترتك لتكون مشرفا عليها وبنفس تلك الثوابت ولك منّي الضوء الاخضر والدعم الكلّي ..شكرته واردفت (سافعل كلّ ما في وسعي لارضاء ضميري ولاكون في مستوى ثقتك ..لكنّي لم اتمّ حديثي) .. ودائما بوجهه الباسم قال: (هات ما عندك) ..قلت اوّلا اشرافي على اذاعة الشباب يجب الاّ يبعدني عن المصدح ..المصدح هو عشق وانا لا استطيع التنفس لا تحت الماء ولا فوقه دون ذلك العشق…

ودون انتظار منّي قال سي صلاح ..واشكون قلك ابعد عن المصدح ؟؟ مازالشي حاجة اخرى يا كريّم ؟ … قلت له نعم هي حاجة اخيرة ..ساقبل على هذه المسؤولية بكلّ ما اوتيت من معرفة وجدّية وحبّا في بلدي لكن ساتخلّى عن هذا الدور بعد سنة للشروع في التوجّه الى الاعمال التلفزية كمنتج وكمخرج ..ضحك هذه المرّة سي صلاح وقال لي (يقولولي عليك راسك كاسح وما تعمل كان اللي يقلك عليه مخّك ..ويبدو انهم عندهم حقّ… المهمّ الان توكّل على الله ثمّ لكلّ حادث حديث) …

وفعلا شرعت بداية في الاستماع لبرامج اذاعة الشباب والتي تبثّ يوميا من الساعة السابعة الى التاسعة ليلا باستثناء يوم الاحد حيث تبدأ من الثانية ظهرا حتى السادسة مساء .. لآخذ فكرة عن واقعها ولاصلح ما يمكن اصلاحه… ولعلّ ابرز ما لاحظته في استماعي شهرا كاملا انّ عديد الاصوات التي كانت تعمّر اذاعة الشباب لا علاقة لها البتّة بالعمل الاذاعي ..ثم حرصت في نفس تلك الفترة على التعرّف على هويّة منشطيها فادركت انّهم في جلّهم من المنتمين الى التجمّع …وهنا عليّ ان اشير الى احترامي دوما لتوجّهات الفرد في اختياراته لكن شريطة ان لا يتحوّل المصدح الاذاعي لخدمات مصالحه الحزبية الضيقة ..المصدح كان وسيبقى في خدمة البلد لا في خدمة الاشخاص والاحزاب …

وامام هذه الحالة قررت ابعاد العديد من المنتمين لاذاعة الشباب انذاك امّا لاسباب مهنيّة بحتة (اي هم لا يصلحون للعمل الاذاعي لا صوتا ولا حضورا) او لوضوح مطامح البعض منهم وبشكل انتهازي لاجندة الحزب الحاكم ..وفي الاثناء كان عليّ ان اجد البديل ..اتجهت رأسا لبرامج الاطفال التي كانت تبث باذاعة صفاقس لدرايتي بالخبرة التي اكتسبها عديد براعمها مع منتجي تلك البرامج وعلى راسهم الكبير سي عبدالرحمان اللحياني حفظه الله ..وفعلا وجدت في تلك البرامج اسماء في بداية سنّ الشباب …وقمت ايضا بكاستينغ اخترت فيه اسماء جديدة قادرة على ان تكون ضمن اذاعة الشباب ..ووزّعت هذه الاسماء على فرق وكلّفت بعض الزملاء ذوي التجربة والكفاءة برئاسة تلك الفرق … وانطلقت مع الجميع في برمجة جديدة هدفها الاهتمام اليومي بمشاغل الشباب دون استعمال آلات الايقاع وعلى رأسها البنادر .. كان الشعار الذي اتبعناه انذاك (نحن معا نبحث عن الحقيقة كلّ الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة) ..ونجحت اذاعة الشباب في استقطاب جمهور عريض ..ونجح العديد من براعمها في نحت اسماء مازالت لحدّ الان تعمل بنجاح ..لانّها تعوّدت على الجدّية وعشق المصدح ..والالتزام بان لا شيء يعلو فوق الوطن ..

وبعد سنة يوما بيوم قدّمت استقالتي امام دهشة الجميع ..كان الجميع على علم بشرطي المتمثّل في مغادرة اذاعة الشباب بعد سنة ..لكنّ العديد منهم كان يتصوّر ذلك مجرّد تسويق كلام ..حتى حصل ما كان في الحسبان ..وكُلّف الزميل عبدالقادر السلامي رحمه الله بالاشراف عليها بعد مغادرتي حتى وقع حلّها عندما فُتح المجال لاذاعة الشباب بتونس لتصبح الضرّة التي قتلت ضرّتها ..وما اكثر ضرائرنا عندما يتعلّق الامر بصفاقس ..

قبل ان اصل الى التسعينات لابدّ من العودة الى نهاية الثمانينات لاشياء عشتها سواء اذاعيا او صحفيا ..في بداية جانفي 1988 كنت استعدّ للدخول الى الاستوديو لتقديم الكوكتيل في الاصيل… توقيتا كانت الساعة تشير الى الثالثة والربع ليتّصل بي موزّع الهاتف قائلا هنالك مستمعة اتصلت بك عشرات المرات لحاجة شخصيّة ملحّة ..هي معي على الخطّ هل امررها لك .قلت مرحبا ..جاءني صوت شابة يقطر حزنا وخذلانا ..لم تتأخّر عن الكلام وقالت بصوت متهدّج ..انا اسمي مروى من الساحل ..مشاكلي لا تُحصى ولا تُعدّ ولذلك قررت وضع حدّ لحياتي وسيكون برنامجك اخر شيء استمع اليه ..وانقطع الخطّ ..

للامانة انا كنت ومازلت اعوّل على احساسي بصدق الاخرين ..احسستها صادقة وكان عليّ ان افعل شيئا ما… قلبت البرنامج في محتواه المقرّر له… الغيت كلّ الاغاني المبرمجة مسبقا وعوضتها باغان تدعو للامل والتشبث بالحياة … كان سباقا ضدّ الساعة ..دخلت الاستوديو وبسطت الامر على المستمعين في سؤال للجميع ..هل باماكننا انقاذ مروى وثنيها عن قرارها ..وتهاطلت مكالمات المستمعين بكلّ حرقة وروح انسانية عالية… وقبل ان اغادر الاستوديو خاطبت صديقتنا مروى بقولي (انا ساغادر الاستوديو الان ولكن لن اغادر مقرّ الاذاعة حتى ياتيني هاتفك ليقول لي ولكلّ المستمعين انّك عدلت عن قرارك) …

نعم وكان ذلك…وبقيت متسمّرا في الاذاعة حتى منتصف الليل ليرنّ الهاتف بمكتبي وياتيني صوت مروى الباكي والمبشّر بشكرها وامتنانها للبرنامج وللمستمعين الذين اعادوا لها الامل في الحياة..ورجوتها ان تطمئننا من حين لاخر عن حياتها وفعلا فعلت… بل وهو الامر الذي اسعدني وأسعد المستمعين، حياتها استقرّت وتزوجت وانجبت اطفالا وهي تنعم بالسعادة والامان ..ما ذكرته لا يعني بالمرة استعراضا لبطولة ما وافتخارا بها، بل كنت ومازلت اؤمن انّ المنشط ان مات اوتجمّد في داخله الانسان لا يستحقّ وجوده امام المصدح .. ما قيمة الانسان ان مات في داخله الانسان .. انه اشبه بالدمية التي لا روح فيها ولا عطر ولا حياة…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

آفة المخدرات بتونس: التاريخ… والتوسع… والحلول (2)

نشرت

في

محمد الزمزاري:

من ذلك رأينا آلاف الاكشاك المنتصبة على الطرقات بصور مشبوهة و نشاطات هي أيضا خارجة على الذوق والصحة والقانون…

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari

وفي هذا الإطار نجحت عمليات توسيع الترويج بكامل البلاد عن طريق عصابات جهوية ومحلية لم تتورع حتى عن مراودة تلاميذ المدارس الابتدائية. كما دخلت للسوق انواع جديدة من المخدرات زيادة عن القنب والتكروري والماريخوانا وشتى مستحضرات الهلوسة… ونظمت العصابات المافيوزية صفوفها بدعم متواطئ من أطراف فاسدة وتوسعت عمليات الترويج والاستهلاك تبعا لتوسع شبكات التهريب التي كانت مستقوية كما ذكرنا بسياسات لم تكن تعنيها مخاطر التهريب او الترويج او انتشار الاستهلاك في كل الأماكن مدنية او ريفية او مدرسية وربما جل الشرائح بنسب متفاوتة ومنها شريحة كبار السن…

جدير بالتذكير لإعطاء كل ذي حق حقه، ان والي اريانة الأسبق كان اول من تفطن إلى “خيوط العنكبوت” القذرة التي تحاول مد شبكات التهريب و تدمير الشباب و حتى أطفال تونس… وكانت له الشجاعة والوطنية لكنس جل الاكشاك المدرجة ضمن منهجية واضحة المعالم… فما كان من الانتشار الاجرامي المتمثل في ترويج عدد من أصناف المخدرات إلا أن انكمش في جحوره ..

اليوم هناك شعور جدي بأن الحرب على المخدرات قد انطلقت بفضل قرارات لا تقل صرامة عن مواجهة الإرهاب… لكن هل ان ايقاف بعض المروجين وحشرهم بالسجن سيقضي على الآفة بالبلاد؟؟ ان من يعرف بدقة عقلية المهربين و السلسلة الممتدة من الاباطرة المروجين إلى باعة التفصيل بالأحياء الشعبية والمرفهة وحتى الريفية كما ذكرنا، يدرك حجم الجهد الذي ينتظر الإطارات الأمنية و الجمركية و المصالح الاستخباراتية للانتصار على آفة هي الأشد خطورة بين كل الآفات… لذا، صار لزاما لإنجاح هذه المقاومة الباسلة التي تشنها أجهزتنا:.

اولا، ضرورة مراجعة التشريعات المتعلقة بالتهريب لا سيما في ما يتعلق بتهريب المخدرات والاسلحة والأموال، وهذه المراجعة المطلوبة يجب أن تستبعد منها اية صيغة صلحية.

ثانيا، تحديد عتبة دنيا للخطايا لا يقل عن 30 الف دينار ولو كانت الكمية صغيرة.

ثالثا، مصادرة كل أملاك المروّج او المهرب للمخدرات واملاك اصوله وفروعه وقرينه الا ما ثبت عن طريق قانوني.

رابعا، ترفيع الأحكام السجنية إلى اقصى ما في القانون الجنائي للأفراد، أما بالنسبة لمحلات بيع التفصيل فإنه يستوجب الغلق حال إثبات التهمة، زيادة على الخطايا الباهظة والعقاب البدني،

خامسا، تكثيف المراقبة على الحدود وتفتيش نقط العبور الرسمية وغير الرسمية وجمع أكثر ما يمكن من المعلومات حول شبكات إدخال المخدرات وترويجها ووضع المعنيين تحت المتابعة الأمنية مهما كانت صفتهم أو صفة من يحتمي بهم أو من يدافع عن “حقوقهم” تحت أي عنوان.

سادسا، إجراء رقابة صارمة على الأعمال الفنية التي تمجّد ترويج أو زراعة أو صناعة أو استهلاك المواد المخدرة، أو تطبّع مع هذه الظواهر أو تطنب في عرض مشاهدها أو سيرتها مهما كانت الذريعة التي يتم الاستناد إليها، وإجبار هذه الأعمال على اختصار تلك المشاهد أكثر ما يمكن والاقتصار غالبا على الإيحاء، مع إدانة ذلك بجلاء في الحوار والسيناريو، والحرص على عدم تحويل المروّجين والمدمنين إلى أبطال ونجوم يقتدي بهم الشباب.

سابعا، اي تخاذل من جهة رسمية أو توفير غطاء او تمرير للمخدرات يجب أن يقود إلى حبس الأعوان أو الإطارات المتورطة و قبله الطرد من الخدمة، مع تحديد خطايا موجعة ومتناسبة مع خطورة الجرم

وفي صورة توفر هذه العناصر واكتمالها، يمكن للبلاد أن تتخلص يصفة كبيرة من داء معشش بين ثناياها، وبذرة شيطانية تعاقبت على زرعها أجيال من أفسد الحكام وأبغض المحتلين… وكانت ذروة هؤلاء، المؤامرة العظمى التي فتكت بشعبنا بين سنتي 2011 و2022.

أكمل القراءة

جور نار

آفة المخدرات بتونس: التاريخ… التوسع… الحلول

نشرت

في

محمد الزمزاري:

التاريخ:

ترسخ وجود المخدرات منذ القرن السابع عشر وربما قبل ذلك بقليل وسجل مزيدا من التطور أيام الدولة الحسينية بأماكن عديدة من تونس والمغرب العربي في ظل تخلف حكم البايات الذي كان اهتمامه الأكبر بالجباية و محق كل قرية او قبيلة ترفض دفع الضريبة السنوية.

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari

وقد جند البايات لذلك فرقا وقيادات دموية متوحشة. من ذلك تم تدمير بلدتين كاملتين بالجنوب التونسي رفض أو عجز أهلها عن دفع الضرائب المسلطة (طرة و جمنة من ولاية قبلي التي كانت تابعة إلى عمالة توزر)… في نفس الفترة ازدهر المجون لدى الطبقات الأرستوقراطية بالبلاد كما انتشرت زراعة “التكروري” في عديد الجهات وسط مزارع الطماطم والفلفل والتبغ… ولم يكن ذلك ممنوعا بل انه بداية من احتلال تونس سنة 1881 شجع المستعمر تداول واستهلاك التكروري في جميع الجهات بالبلاد وربما اهمها مناطق الوطن القبلي وبنزرت والجنوب التونسي، لكن الإدمان على”الزطلة” او الحبوب المخدرة او الماريخوانا او غيرها لم تصل إلى تونس وقتها …

موقف بورقيبة من المخدرات:

خلال سنة 1957 اي في بدايات الاستقلال اقترح بورقيبة وضع او تغيير تشريعات بخصوص استهلاك المخدرات وخاصة “التكروري” وهدد بالسجن لمدة خمس سنوات كاملة كل مروّج او مستهلك للتكروري إيمانا منه باضرار المخدرات على الاجيال التي ستصنع تونس. وقام بورقيبة بمبادرة ناجعة للقضاء او على الاقل للتقليص من زراعة التكروري او ترويجه او استهلاكه، عبر تكوين فرق جهوية ومركزية تجمع اطارات ومتفقدين من وزارة المالية و الداخلية (حرس وطني خاصة) وتقوم هذه الفرق بتفقدات وأبحاث فجئية للبساتين وحقول الزراعات الكبرى لاصطياد المخالفين ورغم ان آفة التكروري عندها لم تنقطع، فإن الخوف من العقاب المتعلق باستهلاك او زراعة التكروري قد عم البلاد رغم التجاء البعض الي زراعة المخدرات المذكورة بالابار والسطوح والجبال.

ماذا عن عهد بن علي؟

عرفت فترة حكم بن على عودة قوية لانتشار المخدرات و شهدت البلاد نقلة نوعية متمثلة في ولادة عصابات منظمة داخليا و خارجيا بالتعاون الوثيق مع المافيا الإيطالية. ولعل مقتل منصف شقيق بن علي كان في إطار ما نسب لصراع العصابات العالمية لدى البعض فيما يعتبره آخرون تصفية داخل هذه المافيات. ازدهرت المخدرات وتفاقم انتشارها و برزت عصابات منظمة للتهريب و الترويج و توسعت بؤر البيع عبر أنحاء البلاد الا انها تبقى محدودة مقارنة مع الوضع الذي وصلت فيه بعد ثورة 2011.

بعد بن علي:

خلال أيام الانتفاضة سنة 2011 سادت حالة الفوضى العارمة التي عمت البلاد و فتحت الحدود البرية والبحرية على مصراعيها أمام المهربين من كل الأصناف من استجلاب المخدرات إلى ترويجها بكل المدن و دخول كميات كبيرة من الأسلحة التركية من بندقيات الصيد التي تباع بصور شبه علنية بمئات الدنانير وبعض انواع المسدسات (بيريتا) رغم الجهود اللاحقة من المصالح الأمنية و الديوانية…. وشهدت أشهر ما بعد الانتفاضة عمليات ممنهجة لترويج السموم في كل مكان من البلاد في ظل ضعف السلطة التنفيذية و السياسية خاصة…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار