جور نار
ورقات يتيم … الورقة 89
نشرت
قبل 3 ساعاتفي
عبد الكريم قطاطة:
فترة التسعينات كانت حبلى بالاحداث والتغييرات في مسيرتي المهنية منها المنتظر والمبرمج له ومنها غير المنتظر بتاتا …
وانا قلت ومازلت مؤمنا بما قلته… انا راض بأقداري… بحلوها وبمرّها… ولو عادت عجلة الزمن لفعلت كلّ ما فعلته بما في ذلك حماقاتي واخطائي… لانني تعلمت في القليل الذي تعلمته، انّ الانسان من جهة هو ابن بيئته والبيئة ومهما بلغت درجة وعينا تؤثّر على سلوكياتنا… ومن جهة اخرى وحده الذي لا يعمل لا يخطئ… للتذكير… اعيد القول انّه وبعد ما فعله سحر المصدح فيّ واخذني من دنيا العمل التلفزي وهو مجال تكويني الاكاديمي، لم انس يوما انّني لابدّ ان اعود يوما ما الى اختصاصي الاصلي وهو العمل في التلفزيون سواء كمخرج او كمنتج او كلاهما معا… وحددت لذلك انقضاء عشر سنوات اولى مع المصدح ثمّ الانكباب على دنيا التلفزيون بعدها ولمدّة عشر سنوات، ثمّ اختتام ما تبقّى من عمري في ارقى احلامي وهو الاخراج السينمائي…
وعند بلوغ السنة العاشرة من حياتي كمنشط اذاعي حلّت سنة 1990 لتدفعني للولوج عمليا في عشريّة العمل التلفزي… ولانني احد ضحايا سحر المصدح لم استطع القطع مع هذا الكائن الغريب والجميل الذي سكنني بكلّ هوس… الم اقل آلاف المرات انّ للعشق جنونه الجميل ؟؟ ارتايت وقتها ان اترك حبل الوصل مع المصدح قائما ولكن بشكل مختلف تماما عما كنت عليه ..ارتايت ان يكون وجودي امام المصدح بمعدّل مرّة في الاسبوع ..بل وذهبت بنرجسيتي المعهودة الى اختيار توقيت لم اعتد عليه بتاتا ..نعم اخترت الفضاء في سهرة اسبوعية تحمل عنوان (اصدقاء الليل) من التاسعة ليلا الى منتصف الليل …هل فهمتم لماذا وصفت ذلك الاختيار بالنرجسي ؟؟ ها انا افسّر ..
قبل سنة تسعين عملت في فترتين: البداية كانت فترة الظهيرة من العاشرة صباحا حتى منتصف النهار (والتي كانت وفي الاذاعات الثلاث قبل مجيئي فترة خاصة ببرامج الاهداءات الغنائية)… عندما اقتحمت تلك الفترة كنت مدركا انيّ مقدم على حقل ترابه خصب ولكنّ محصوله بائس ومتخلّف ..لذلك اقدمت على الزرع فيه … وكان الحصاد غير متوقع تماما ..وتبعتني الاذاعة الوطنية واذاعة المنستير وقامت بتغييرات جذرية هي ايضا في برامجها في فترة الضحى .. بل واصبح التنافس عليها شديدا بين المنشطين ..كيف لا وقد اصبحت فترة الضحى فترة ذروة في الاستماع … بعد تلك الفترة عملت ايضا لمدة في فترة المساء ضمن برنامج مساء السبت … ولم يفقد انتاجي توهجه ..وعادت نفس اغنية البعض والتي قالوا فيها (طبيعي برنامجو ينجح تي حتى هو واخذ اعزّ فترة متاع بثّ) …
لذلك وعندما فكّرت في توجيه اهتمامي لدنيا التلفزيون فكرت في اختيار فترة السهرة لضرب عصفورين بحجر واحد… الاول الاهتمام بما ساحاول انتاجه تلفزيا كامل ايام الاسبوع وان اخصص يوما واحدا لسحر المصدح ..ومن جهة اخرى وبشيء مرة اخرى من النرجسية والتحدّي، اردت ان اثبت للمناوئين انّ المنشّط هو من يقدر على خلق الفترة وليست الفترة هي القادرة على خلق المنشط ..وانطلقت في تجربتي مع هذا البرنامج الاسبوعي الليلي وجاءت استفتاءات (البيان) في خاتمة 1990 لتبوئه و منشطه المكانة الاولى في برامج اذاعة صفاقس .. انا اؤكّد اني هنا اوثّق وليس افتخارا …
وفي نفس السياق تقريبا وعندما احدثت مؤسسة الاذاعة برنامج (فجر حتى مطلع الفجر) وهو الذي ينطلق يوميا من منتصف الليل حتى الخامسة صباحا، و يتداول عليه منشطون من الاذاعات الثلاث… طبعا بقسمة غير عادلة بينها يوم لاذاعة صفاقس ويوم لاذاعة المنستير وبقية الايام لمنشطي الاذاعة الوطنية (اي نعم العدل يمشي على كرعيه) لا علينا … سررت باختياري كمنشط ليوم صفاقس ..اولا لانّي ساقارع العديد من الزملاء دون خوف بل بكلّ ثقة ونرجسية وغرور… وثانيا للتاكيد مرة اخرى انّ المنشط هو من يصنع الفترة ..والحمد لله ربحت الرهان وبشهادة اقلام بعض الزملاء في الصحافة المكتوبة (لطفي العماري في جريدة الاعلان كان واحدا منهم لكنّ الشهادة الاهمّ هي التي جاءتني من الزميل الكبير سي الحبيب اللمسي رحمه الله الزميل الذي يعمل في غرفة الهاتف بمؤسسة الاذاعة والتلفزة) …
سي الحبيب كان يكلمني هاتفيا بعد كل حصة انشطها ليقول لي ما معناه (انا نعرفك مركّب افلام باهي وقت كنت تخدم في التلفزة اما ما عرفتك منشط باهي كان في فجر حتى مطلع الفجر .. اما راك اتعبتني بالتليفونات متاع المستمعين متاعك، اما مايسالش تعرفني نحبك توة زدت حبيتك ربي يعينك يا ولد) … في بداية التسعينات ايضا وبعد انهاء اشرافي على “اذاعة الشباب” باذاعة صفاقس وكما كان متفقا عليه، فكرت ايضا في اختيار بعض العناصر الشابة من اذاعة الشباب لاوليها مزيدا من العناية والتاطير حتى تاخذ المشعل يوما ما… اطلقت عليها اسم مجموعة شمس، واوليت عناصرها عناية خاصة والحمد لله انّ جلّهم نجحوا فيما بعد في هذا الاختصاص واصبحوا منشطين متميّزين… بل تالّق البعض منهم وطنيا ليتقلّد عديد المناصب الاعلامية الهامة… احد هؤلاء زميلي واخي الاصغر عماد قطاطة (رغم انه لا قرابة عائلية بيننا)…
عماد يوم بعث لي رسالة كمستمع لبرامجي تنسمت فيه من خلال صياغة الرسالة انه يمكن ان يكون منشطا …دعوته الى مكتبي فوجدته شعلة من النشاط والحيوية والروح المرحة ..كان انذاك في سنة الباكالوريا فعرضت عليه ان يقوم بتجربة بعض الريبورتاجات في برامجي .. قبل بفرح طفولي كبير لكن اشترطت عليه انو يولي الاولوية القصوى لدراسته … وعدني بذلك وسالته سؤالا يومها قائلا ماذا تريد ان تدرس بعد الباكالوريا، قال دون تفكير اريد ان ادرس بكلية الاداب مادة العربية وحلمي ان اصبح يوما استاذ عربية ..ضحكت ضحكة خبيثة وقلت له (تي هات انجح وبعد يعمل الله)… وواصلت تاطيره وتكوينه في العمل الاذاعي ونجح في الباكالوريا ويوم ان اختار دراسته العليا جاءني ليقول وبكلّ سعادة …لقد اخترت معهد الصحافة وعلوم الاخبار… اعدت نفس الضحكة الخبيثة وقلت له (حتّى تقللي يخخي؟) واجاب بحضور بديهته: (تقول انت شميتني جايها جايها ؟؟)… هنأته وقلت له انا على ذمتك متى دعتك الحاجة لي ..
وانطلق عماد في دراسته واعنته مع زملائي في الاذاعة الوطنية ليصبح منشطا فيها (طبعا ايمانا منّي بجدراته وكفاءته)… ثم استنجد هو بكلّ ما يملك من طاقات مهنية ليصبح واحدا من ابرز مقدمي شريط الانباء… ثم ليصل على مرتبة رئيس تحرير شريط الانباء بتونس 7 ..ويوما ما عندما فكّر البعض في اذاعة خاصة عُرضت على عماد رئاسة تحريرها وهو من اختار اسمها ..ولانّه لم ينس ماعاشه في مجموعة شمس التي اطرتها واشرفت عليها، لم ينس ان يسمّي هذه الاذاعة شمس اف ام … اي نعم .عماد قطاطة هو من كان وراء اسم شمس اف ام …
ثمة ناس وثمة ناس ..ثمة ناس ذهب وثمة ناس ماجاوش حتى نحاس ..ولانّي عبدالكريم ابن الكريم ..انا عاهدت نفسي ان اغفر للذهب والنحاس وحتى القصدير ..وارجو ايضا ان يغفر لي كل من اسأت اليه ..ولكن وربّ الوجود لم اقصد يوما الاساءة ..انه سوء تقدير فقط …
ـ يتبع ـ
تصفح أيضا
عبد الكريم قطاطة:
المهمة الصحفية الثانية التي كلفتني بها جريدة الاعلان في نهاية الثمانينات تمثّلت في تغطية مشاركة النادي الصفاقسي في البطولة الافريقية للكرة الطائرة بالقاهرة …
وهنا لابدّ من الاشارة انها كانت المرّة الوحيدة التي حضرت فيها تظاهرة رياضية كان فيها السي اس اس طرفا خارج تونس .. نعم وُجّهت اليّ دعوات من الهيئات المديرة للسفر مع النادي وعلى حساب النادي ..لكن موقفي كان دائما الشكر والاعتذار ..واعتذاري لمثل تلك الدعوات سببه مبدئي جدا ..هاجسي انذاك تمثّل في خوفي من (اطعم الفم تستحي العين)… خفت على قلمي ومواقفي ان تدخل تحت خانة الصنصرة الذاتية… اذ عندما تكون ضيفا على احد قد تخجل من الكتابة حول اخطائه وعثراته… لهذا السبب وطيلة حياتي الاعلامية لم اكن ضيفا على ايّة هيئة في تنقلات النادي خارج تونس ..
في رحلتي للقاهرة لتغطية فعاليات مشاركة السي اس اس في تلك المسابقة الافريقية، لم يكن النادي في افضل حالاته… لكن ارتأت ادارة الاعلان ان تكلّفني بمهمّة التغطية حتى اكتب بعدها عن ملاحظاتي وانطباعاتي حول القاهرة في شكل مقالات صحفية… وكان ذلك… وهذه عينات مما شاهدته وسمعته وعشته في القاهرة. وهو ما ساوجزه في هذه الورقة…
اوّل ما استرعى انتباهي في القاهرة انّها مدينة لا تنام… وهي مدينة الضجيج الدائم… وما شدّ انتباهي ودهشتي منذ الساعة الاولى التي نزلت فيها لشوارعها ضجيج منبهات السيارات… نعم هواية سائقي السيارات وحتى الدراجات النارية والهوائية كانت بامتياز استخدام المنبهات… ثاني الملاحظات كانت نسبة التلوّث الكثيف… كنت والزملاء نخرج صباحا بملابس انيقة وتنتهي صلوحية اناقتها ونظافتها في اخر النهار…
اهتماماتي في القاهرة في تلك السفرة لم تكن موجّهة بالاساس لمشاركة السي اس اس في البطولة الافريقية للكرة الطائرة… كنا جميعا ندرك انّ مشاركته في تلك الدورة ستكون عادية… لذلك وجهت اشرعة اهتمامي للجانب الاجتماعي والجانب الفنّي دون نسيان زيارة معالم مصر الكبيرة… اذ كيف لي ان ازور القاهرة دون زيارة خان الخليلي والسيدة زينب وسيدنا الحسين والاهرام… اثناء وجودي بالقاهرة اغتنمت الفرصة لاحاور بعض الفنانين بقديمهم وجديدهم… وكان اوّل اتصال لي بالكبير موسيقار الاجيال محمد عبد الوهاب رحمه الله… هاتفته ورجوت منه امكانية تسجيل حوار معه فاجابني بصوته الخشن والناعم في ذات الوقت معتذرا بسبب حالته الصحية التي ليست على ما يرام…
لكن في مقابل ذلك التقيت بالكبير محمد الموجي بمنزله وقمت بتسجيل حوار معه ..كان الموجي رحمه الله غاية في التواضع والبساطة… لكن ما طُبع في ذهني نظرته العميقة وهو يستمع اليك مدخّنا سيجارته بنهم كبير… نظرة اكاد اصفها بالرهيبة… رهبة الرجل مسكونا بالفنّ كما جاء في اغنية رسالة من تحت الماء التي لحنها للعندليب… نظرة المفتون بالفن من راسه حتى قدميه…
في تلك الفترة من اواخر الثمانينات كانت هنالك مجموعة من الاصوات الشابة التي بدات تشق طريقها في عالم الغناء ..ولم اترك الفرصة تمرّ دون ان انزل ضيفا عليهم واسجّل لهم حوارات… هنا اذكر بانّ كلّ التسجيلات وقع بثها في برامجي باذاعة صفاقس… من ضمن تلك الاصوات الشابة كان لي لقاءات مع محمد فؤاد، حميد الشاعري وعلاء عبدالخالق… المفاجأة السارة كانت مع لطيفة العرفاوي… في البداية وقبل سفرة القاهرة لابدّ من التذكير بانّ لطيفة كانت احدى مستمعاتي… وعند ظهورها قمت بواجبي لتشجيعها وهي تؤدّي انذاك وباناقة اغنية صليحة (يا لايمي عالزين)…
عندما سمعت لطيفة بوجودي في القاهرة تنقلت لحيّ العجوزة حيث اقطن ودعتني مع بعض الزملاء للغداء ببيتها… وكان ذلك… ولم تكتف بذلك بل سالت عن احوالنا المادية ورجتنا ان نتصل بها متى احتجنا لدعم مادي… شكرا يا بنت بلادي على هذه الحركة…
اختم بالقول قل ما شئت عن القاهرة.. لكنها تبقى من اعظم واجمل عواصم الدنيا… القاهرة تختزل عبق تاريخ كلّ الشعوب التي مرّت على اديمها… نعم انها قاهرة المعزّ…
ـ يتبع ـ
محمد الزمزاري:
انطلقت الحملة الوطنية المتعلقة هذه المرة بالتقصي حول الأمراض المزمنة وكان مرض السكري وأيضا مرض ضغط الدم هما المدرجان في هذه الحملة.
يشار إلى أن نسب مرضى السكري و ضغط الدم قد عرفت ارتفاعا ملفتا لدى المواطنين و بالتحديد لدى شريحة كبار السن مما يكسي اهمية لهذه الحملات التي تنظمها وزارة الصحة العمومية بالتعاون المباشر مع هيئة الهلال الأحمر التونسي.. وقد سنحت لنا الفرصة لحضور جزء مهم من الحملة في بهو محطة القطارات الرئيسية بساحة برشلونة، لنقف على تفاعل عديد المواطنين المصطفّين قصد الخضوع لعملية التقصي بكل انضباط وكان جل الوافدين طبعا من كبار السن، كما لوحظ تواجد عدد كبير من ممثلي الهلال الأحمر ومن الأطباء بمكتبين ويساعدهم بعض الممرضين.
الغريب انه لدى تغطيتى العارضة لهذه الحملة المتميزة التي تهدف اساسا إلى توعية المواطنين وحثهم على تقصي الأمراض بكل انواعها بصور مبكرة، بالاعتماد على كافة قنوات الاتصال وأهمها الإعلام الذي لن يكون الا داعما لهذا الهدف الإنساني لكن احد اعوان الهلال الأحمر فتح معي بحثا ان كنت من التلفزة الوطنية ملاحظا ان القناة المذكورة هي الوحيدة المسموح لها بالقيام بالتغطية ولم يكتف بهذا بل أكد ان الأطباء لا يحبون التصوير.
طبيعي اني لم اتفاعل مع هذا الجهل وضحالة المعرفة باهداف الحملة بالإضافة إلى عمليات التقصي الفعلي ..ولما تجاوز في الإلحاح طلبت منه الاستظهار بصفته هل هو منسق الحملة حتى يمكنني أن امر إلى المسؤول عنها بصفتي صحفيا ..وواصلت عملى أمام انكماش هذا العون التابع للهلال الأحمر حسبما يدل عليه زيه.
وبعيدا عن هذا، لا يفوت التنويه بالجهود الكبيرة التي يتحلى بها طاقم الاطباء و الممرضين و متطوعي الهلال الاحمر، الذين يجهدون انفسهم لانجاح هذه الحملة سواء داخل بهو محطة السكك الحديدية او عبر بعض الفرق التي تعمل على التعريف بجدوى التقصي حتى خارج البهو الكبير.
عبد الكريم قطاطة:
قبل ان اودّع فترة نهاية الثمانينات واشرع في تدوين ما عشته وعايشته في التسعينات، لابدّ من العودة الى مهمتين كُلفت بهما في الصحافة المكتوبة، ومع جريدة الاعلان بالتحديد، وتتمثلان في تغطية حدثين في بلدين شقيقين (ليبيا ومصر) كان ذلك سنة 1988 …
في ليبيا كان الحدث سياسيا بامتياز… العقيد معمّر القذافي رحمه الله قرّر في تلك السنة القيام بلقاء فكري مع الصحفيين غير المنتمين للصحافة الحكومية في الوطن العربي… والنظام الليبي هو المتكفّل بمصاريف تنقلهم وايوائهم في طرابلس ..وكنت انا موفد جريدة الاعلان صحبة زميل من جريدة البيان رغم انها شبه حكومية، واخر من جريدة الشروق … هنالك قضينا اسبوعا كاملا حيث حضرنا عديد الندوات الفكرية الخاصة بالحدث كل صباح… بينما خصصنا بقية النهار لمحاولة معرفة طبائع وسلوكيات الشعب الليبي الشقيق واختتمت الايام بلقاء صحفي مع العقيد …
انطباعات عديدة ارتسمت في ذهني بعد قضاء ذلك الاسبوع لعلّ اوّلها طيبة الشعب الليبي وحسن ضيافته وكرمه ..كنت انهض كلّ صباح لاجد عشرات باقات الورود والهدايا مهداة من مستمعيّ الاعزاء الذين علموا بوجودي في طرابلس …بل إن بعضهم انتقل الى الفندق لملاقاتي واخرين اصرّوا على دعوتي لمنزلهم (شكرا عائلة حشاد) ولكم ان تتصوروا الولائم والخرفان التي ذبحت ..الليبي الشقيق فيه كثير من خصال البداوة الأصيلة … وحتى عندما عدت الى تونس وتقدمت الى مصالح الديوانة لمعاينة ما لي وما عليّ حمدت الله ان جاءني صوت من بعيد مهلّلا “اهلا بكريّم” ..انه صديق عرفته في مبيت ميتوالفيل عندما كان طالبا وهاهو اطار عال في الديوانة ..وصل وكان العناق وحديث الذكريات ثم نظر الى الاعوان وقال لهم يخخي ما تعرفوش واحد اسمو عبدالكريم قطاطة في اذاعة صفاقس ؟؟ نظر الاعوان اليّ وكان سلاما من نوع اخر ..ولم يفتح ايّ واحد منهم حقائبي وحسنا فعلوا ..لم اكن مهرّبا لايّ شيء خارج عن منطق القانون ولكن عندما وصلت الى منزلي وفتحت الهدايا وجدت وفي العديد منها سلاسل واقراط وخواتم ذهبية ..يا فضيحتك يا عبدالكريم لو لم يات ولد بوشناق …اعني الاطار العالي في الجمارك ..وهنا اقسم لكم بشرفي اني لم افتح ايّ صندوق من الهدايا قبل الوصول الى منزلي …
الملاحظة الثانية التي سجلتها وصدقا بكلّ سعادة وفخر انّ الاذاعة المسموعة والمحبوبة رقم واحد من اخوتنا في طرابلس هي اذاعة صفاقس… بل هم يعتبرونها اذاعتهم ويسردون عليك وانت تحادثهم تفاصيل عنها ربما انت لا تعرفها … الملاحظة الثالثة وهي التي ادهشتني وارعبتني ايضا .. التقيت صدفة ذات يوم مع مجموعة من الشباب بعضهم لم يتجاوز عمره السابعة عشر ..المكان كان مقفرا الا من بعض المارة كانوا يحملون اسلحة خفيفة تحت ملابسهم… امرنا احدهم بالتوقف فامتثلنا… طلب منا هويتنا فامتثلنا وفجاة تهللت اساريره وهو يقول: الاخوة من تونس… (اي نعم) اجبنا ونحن لم نتوصل بعد الى اكتشاف هويتهم .. سألنا رئيسهم ..تحبوا ويسكي تحبوا زطلة ؟؟ شكرناه وعبرنا عن عدم رغبتنا في ايّ شيء ..ودون ايّ ازعاج تركونا في سبيل حالنا .. عندما سالت احد الاصدقاء التونسيين عمن هؤلاء ..اجابني (تسمع باللجان الشعبية ؟ هذوكا هوما) ..
لكن آتي الان الى اهم حدث واخطر حدث وقع لي في تلك الزيارة الى ليبيا… جاءنا احد المسؤولين في دائرة النظام الليبي لمقرّ اقامتنا وهو واحد من افخم النزل في طرابلس ان لم يكن افخمها… جاءنا ليذكرنا بموعد الندوة الصحفية في الغد يوم الاختتام مع العقيد، وبوجوب مدّه بثلاثة اسئلة مخوّل لنا طرحها غدا على العقيد حتى يراجعها الليلة ويدرسها قبل الاجابة عنها… لم نندهش من هذا الامر لانّه معمول به وفي عديد الدول .. سلمه كل واحد منا اسئلته الثلاثة وفي الغد كنا في الموعد للقاء القذافي… عندما ذكر اسمي اعاد طرح سؤالي على الجميع والذي كان: (حضرة العقيد وانت المعروف بحسك القومي والذي يتوق لوحدة عربية شاملة… الا ترون انّ الخطوة الاولى لتحقيق هذا الحلم يمكن ان تكون بوحدة اقتصادية بين مختلف الدول العربية، تليها خطوات اخرى تصبّ في الوحدة العربية الشاملة ؟؟)
نظر اليّ مليّا الاخ العقيد وقالي لي شوف يا اخ قطاطة انت تحدثت عن الدول العربية مافيش دول عربية فيه فقط ليبيا وشوية فلسطين والبقية (بقر)!!… اي نعم… هذا يعني انّي الان اصبحت كتونسي في نظر القذافي ثورا من قطيع البقر …لم ادعه يواصل قراءة السؤالين اللذين تبقّيا فقلت له شكرا يا سيادة العقيد اجابتك ضافية وشافية ولا ارى داعيا للاجابة عن السؤالين الآخرين .. نظر اليّ وطفّشني وراح الى صحفيين آخرين واسئلة اخرى .. للامانة لم استطع قراءة نظرته ولم يتملكني ايّ شعور بالخوف وقتها لكن كنت احسّ بمغص شديد وباهانة لي وخاصة لشعبي … وليلتها لم استطع النوم ..لاني وفي تلك الاجواء ومع ما نعرفه عن العقيد وعن ردود فعله لم استطع فعل ايّ شيء… انه الصمت القاهر وكم هو موجع ذلك الصمت القاهر ..
في الغد اعددت حقائبي استعدادا للتنقل الى المطار والعودة الى تونس ..وقفت امام مصالح النزل الادارية لاسلّم مفاتيح غرفتي ولاتسلّم جواز سفري …وماهي هنيهة حتى تقدّم مني موظف الاستقبال ليقدم لي (فاتورة) … فاتورة ؟ اي نعم فاتورة ..اخذتها منه متفحصا وبكل استغراب خاصة وانا الذي لم يتناول اي شيء باستثناء غذائي . وبعبارة أوضح: في النزل ما فماش اكسترا … وجدت فاتورة لكانّي من النازلين في الفندق على حسابي الخاص بينما انا كنت ضيفا اقامة وتنقلا على النظام الليبي … مالذي حدث ؟؟ اتصلت بصديق تونسي مقيم في طرابلس واعلمته بالامر قال كم المبلغ ؟ قلت له بضعة ملايين ..قال لي لا تناقش وسآتيك بالمبلغ .. شكرا حبيب … صديقي هذا يعرفني جيدا وهو في الاصل احد مستمعيّ ويعرفني عنيدا في حقوقي فخاف عليّ منهم ومما قد اتجرّأ على قوله تجاههم او تجاه النظام ..
قلت لصديقي انا في انتظارك فاعاد القول (خويا عبدالكريم نعاود نقلك بجاه ربي لا تقوللهم حتى كلمة)… طمانته ثمّ ذهبت الى الموظف في الاستقبال وقلت لهم اوكي سادفع المبلغ… ولكن وباعتباري اتعامل مع جريدة عليّ انا ايضا ان امدّها بفاتورة فيها كلّ مصاريفي في النزل اثناء اقامتي بليبيا حتى استرجع ما سادفعه لكم ..وبُهت الذي كفر ..تعرفوها (داخلة خارجة داخلة خارجة متاع عادل امام ؟) هاكي هي… أهم دخلو آهم خرجو ..قول عشرات المرات ..وفي الاخير جاءني موظّف كبير في النزل واعاد لي جواز سفري معتذرا عما حدث.. وهات من هاكي العبارات متاع وقع سوء تفاهم .. وانت قدرك عزيز .. واللي قاموا بالعملية متاع الفاتورة ما يعرفوكش ..بينما كنت اتحادث معهم يوميا و العديد منهم من مستمعيّ ايضا … قالك ما يعرفونيش !…
تحولت بعدها الى المطار ووجدت فريقا تلفزيا (ليبيّا) في انتظارنا لاخذ بعض الانطباعات حول ايامنا في ليبيا وحول اللقاء الفكري مع العقيد ..وطبعا راس الهم دادة عيشة .. ايّا نبداو بيك يا اخ عبدالكريم ..انت عندك مستمعين يحبوك هلبة ويسعدهم يسمعوك .. وضعت يدي امام الكاميرا وقلت لهم هذه المرة وبكلّ حزم ..انا اعتذر جدا ..ليس لي الحقّ بادلاء ايّ تصريح لايّة وسيلة اعلامية الا بموافقة جريدتي .. شكرا لكم وتحياتي الى كلّ مستمعيّ الاعزاء .. ويكسّر ساقين اللي ما يجريش ..حملت حقيبتي اليدوية واتجهت الى طائرتي التي ستقلّني الى تونس .. للامانة ومنذ ان اقلعت الطائرة عشت قلقا يتزايد كلّ مرة تمرّ فيها الطائرة بمنخفض جويّ ..نعم كنت اتوقع كلّ شيء بعد كلّ الذي حدث ..واوّل ما قمت به عند نزولي في مدرج مطار قرطاج سجدت حمدا لله وقبلت الارض التونسية ..
هنا لابدّ من الاشارة الى انّ كلّ ما حدث وحتى اكون شفافا ونزيها وصادقا لم يمسّ ولو شعرة من اهاليّ في ليبيا .. بل وهم يعرفون لحدّ الان مدى الروابط المتينة التي ربطتني بمستمعيّ في ايّ شبر من التراب الليبي ..
المهمة الصحفية الثانية التي كُلفت بها ومن جريدة الاعلان ايضا كانت هذه المرة ببلد الفراعنة .. بلد نجيب محفوظ وطه حسين والعقاد .. بلد الستّ والعندليب … بلد يوسف شاهين وصلاح ابو سيف . بلد سيدة الشاشة فاتن حمامة والكبير عمر الشريف… بلد ليالي الحلمية ورافت الهجان… بلد الفوازير وخاصة نيللي ..تتذكروها نيللي اكيد ..؟… تتذكروا كلمتها (شطّبنا) في نهاية الحلقة … استعيرها منها لانهاء هذه الورقة اذن شطّبنا …
ـ يتبع ـ
صن نار
- ثقافياقبل 3 ساعات
قريبا وفي تجربة مسرحية جديدة: “الجولة الاخيرة”في دار الثقافة “بشير خريّف”
- ثقافياقبل 13 ساعة
زغوان… الأيام الثقافية الطلابية
- جلـ ... منارقبل 24 ساعة
الصوت المضيء
- جور نارقبل يومين
ورقات يتيم ..الورقة 88
- ثقافياقبل 3 أيام
نحو آفاق جديدة للسينما التونسية
- صن نارقبل 3 أيام
الولايات المتحدة… إطلاق نار في “نيو أوليانز” وقتلى وإصابات
- صن نارقبل 3 أيام
في المفاوضات الأخيرة… هل يتخلى “حزب الله” عن جنوب لبنان؟
- صن نارقبل 3 أيام
اشتباكات في نابلس… والاحتلال يشن حملة مداهمات واعتقالات في الضفة