دفءُ نار
تونس “سياقها عالي”
نشرت
قبل 3 سنواتفي
من قبل
منصف الخميري Moncef Khemiriبعد نشر ورقة سابقة خصّصتها للحديث عن أهمية الضّمني وغير المباشر وأنصاف المعاني في سلوكاتنا اليومية، تذكّرت أن هذا الواقع مؤسّس له نظريا وتناولته مدارس الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع بالتحليل والدرس منذ منتصف القرن الماضي.
وتنقسم ورقة اليوم إلى قسمين : بعض العناصر النظرية التي من المهم الاطلاع عليها أولا ثم محاولة تحديد إلى أي صنف ينتمي السياق التونسي وكيف ؟
أولا : نظريا – الثقافات نوعان كبيران
كان إدوارد تويتشل هول (1914 -2009) عالم الأنتروبولوجيا الأمريكي هو أوّل من روّج لمفهوم المثاقفة واهتم بصورة خاصة بالأبعاد الخفيّة التي تتحكّم بسلوكاتنا بشكل غير واع في مجالات التواصل التي لا تتكوّن فقط من محتوى الرسائل، بل إن شكلها يكون أهم أحيانا من المضمون نفسه بما سيجعل إدوارد هول يميز كونيّا بين سياقيْن تواصليّين مخصوصين : السياقات المرتفعة والسياقات المنخفضة.
ففي الثقافات عالية السياق (مثل آسيا والبلدان العربية والإفريقية، بالرغم من أن عديد البلدان الأسيوية مثل اليابان بلغت اليوم درجة كبيرة من التأثر بعقلانية بعض النماذج الأخرى) يكون للكلام أهميّة اقل من السّياق، والفرد ليس بحاجة الى معلومة صريحة من اجل رد الفعل والانخراط في التواصل الذي يعتمد بالنسبة إليه على العلاقات البينيّة القوية. لكنّه عادة ما يكون غائما وغير لفظي ويُدرِج أشكالا أخرى من التعبير مثل الحركات والنظرات والإيماءات أو كذلك الفضاء البين شخصي (المسافة الجسدية بين الأفراد) ولا يقتصر على نقل المعلومات فحسب. هذا السياق العالي يهم الثقافات التي تزخر بعلاقات اجتماعية قوية ومبنيّة على دور محدد قبليا من طرف المجتمع ومؤسّساته.
الوافد على هذه الثقافات من خارجها مُطالب بأن يتحلّى بصبر كبير أثناء الحوار والمفاوضة لأن الزّمن لدى حامليها متحوّل ومرن وسائل. والسياق العالي فيه نوع من الثراء العلائقي والتواصلي (كثافة التلميحات والايحاءات والدلالات الحافّة ومساحات الصمت وسُمك المسكوت عنه) لكنه قد يتسبّب في خلق أجواء من عدم التفاهم والغموض والالتباس خاصة مع الثقافات ذات السياق المتدنّي.
أما في الثقافات ذات السياق التواصلي المنخفض (مثل ألمانيا والولايات المتحدة و اسكندينافيا بصورة خاصة) تكون المعلومة موضوعية وواضحة بشكل حدّي وباتّ. تتمّ صياغتها من خلال اجراءات محددة وتواصل دقيق ومكتوب يحدد لنفسه أهدافا معلومة. التواصل هنا صريح ومباشر (أولوية التحليل والتفكير الاستدلالي العقلاني) ويتبادل فيه الأفراد كمّا كبيرا من المعلومات على حساب ثراء السياق. تكون المعلومات كثيفة ومنتقاة ومنظمة ويتم تقديمها بدون غموض أو إلغاز.
هذا المزاج الثقافي يُنتج في أغلب الأحيان تواصلا “باردا” من نوع علائقي- قانوني مبنيّ على أهداف مُفصّلة وقابلة للتحويل إلى أرقام في أفق زمن محدد (تخطيط ومواعيد وآجال) قابل للمراقبة. في هذا السياق يكون كل شيء مرتّبا بشكل يجعل منه شيئا مفهوما من خلال رسائل واضحة ومختصرة ولا يؤخذ بعين الاعتبار الا الاشياء المتعارف عليها والمعطيات المُرقّمة والحقائق الملموسة الخالية من التداخل، والمسكوت عنه كما الروابط العاطفية لا قيمة لهما.
الأسياويون و العرب والأفارقة ينتمون في المقابل الى ثقافة ذات سياق عال لأن الأفراد يعيشون بشكل جماعي حول روابط قوية من التبعية المتبادلة والانتماء الجمعي أهم من أي اعتبار آخر.
وت حضرني في هذا السياق الطُّرفة المتّصلة بالحديث الذي دار بين صديقين الأول تونسي والثاني ألماني حيث كانا على وشك إنهاء المكالمة الهاتفية التي جمعتهما وأرادا الاتفاق على موعد خلال مساء اليوم الموالي. قال التونسي للألماني “مالة نتقابلوا غدوة ان شاء الله الأربعة الخمسة هكاكة”، فردّ الألماني مباشرة “نتقابلو بالطبيعة لكن أعلاش مرّتين في الأربعة والخمسة ؟ “
ثانيا : أين نحن من هذين السياقين الكونيّين ؟
وهذه بعض الأمثلة التواصلية الدالّة على هذا البُعد العالي في ثقافتنا التونسية (للتدليل مرة أخرى على أنّ مستوانا ماهوش ديما واطي في كل شيء) :
نحن شعب يُلمّح ولا يُصرّح، وذلك حتى في المعاملات الرسمية والرسائل المتصلة بسلامة المواطنين كأن تقرأ على قسيمة الدواء “يُخلط في كميات كافية من الماء ؟؟؟ فهل هذه الكمية الكافية تعني10 سل، 20 سل أو أكثر ؟ أو كأن تقرأ في بلاغات الدولة “النقل مضمون الا بالنسبة الى رحلات العودة مساءً والمقصود هو أنه ليس هناك نقل أصلا. أو كذلك التأكيد أن “الشركة تمر بصعوبات مالية” والمقصود أن يتهيّأ العمّال لتقبّل موجة واسعة من الطرد.
التونسي يُراهن على ما يتوجّب عليك أن تفهمه ضمنيّا عندما يتحدث إليك، فعندما تعرض عليه مثلا (حتى وإن كانت والدتك) أن يأكل ويقول لك “لا ما عينيش الحمد الله” فذلك لا يعني بالضرورة أنه لا يرغب في الأكل بل عليك أن تلحّ مرارا وتكرارا للتأكّد من صدق نواياك وأن دعوتك لا تنتابها أية مجاملة. والتونسي أيضا يُفاخر بأنه مسؤول فقط عمّا يقوله لك ولا يتحمّل أية مسؤولية عن المعاني الحافّة التي قد يشي بها كلامه ذاك. بمعنى أنه يمنح نفسه حرية تفخيخ خطابه كما يشاء ولا يجد حرجا في عدم بذل أي جهد لجعل رسالته واضحة ودقيقة.
في تونس، باعتبارها ذات ثقافة تنتمي إلى السياق العالي أيضا، يتكثف الكلام المُبطّن ومحاولة الإيذاء دون اللجوء إلى الكلام وتفضيل استعمال الأمثلة العامية أو جزء منها فقط دون استكمالها لترك المغزى مُعلّقا وإمكانية التراجع تظل واردة، كأن يقول التونسي :
شافت الضّيف… (دون استكمال طلقت مولى البيت) في إشارة لمن يرتمون بسرعة في أحضان الأجنبي بإغراءاته ومَكره على حساب الوطن الأم.
أو الباب المحلول… (دون استكمال يدخّل الغولة والغول) في وصف عدم حزم الدولة في صَوْن سيادتها وحدودها.
أو تعارك سعد و سعداالله… (هزوا مبارك للحبس) عندما يتحدث التونسيون عن خصومات السياسيين التي يدفع ثمنها الشعب الكريم.
أو القط لمّا شرف حج وزمزم… للحديث عن الذين يُؤدّون مناسك الحجّ لكنهم يستمرون في ارتكاب نفس الآثام والمعاصي أو الذين يتجلببون بالتقوى لاقتراف الأخطاء بأنواعها.
وأخيرا، التونسي يسنّ دستورا قضى عديد السنوات في صياغته لكنه يُبدع في ترك مساحات شاسعة من الغموض والالتباس داخله لأنه يُراهن على السياق وحرية التأويل اللاحق. كالقول إن “الحق في الحياة مقدس لا يجوز المساس به إلا في الحالات القصوى (الفصل 22) أو الصحة حق لكل إنسان (الفصل 38) أو الحق في الماء مضمون (الفصل 44) أو الثروات الطبيعية ملك للشعب التونسي (الفصل 13) الخ… أما عن الإجراءات والصيغ ووفق أية شروط وآجال التمتيع بالحقوق …فذلك أمر متروك للسياق.
تصفح أيضا
دفءُ نار
هل هناك أطفال موهوبون ؟ العِلم يجيبكم
ترجمة لحوار صحفي مع عالم الوراثة ألبير جاكار*
نشرت
قبل 3 سنواتفي
1 نوفمبر 2021من قبل
منصف الخميري Moncef Khemiriما يُبهرني شخصيا في رؤية ألبير جاكار لما يسمّى بالموهبة هو جُرأته العلمية وتفرّده برؤى تحليلية تخرج عن المألوف لتترك مجالا واسعا للتّنسيب وموقعا يليق بالأطفال المختلفين وكل أولئك الذين تضعهم التصنيفات العلمية المزعومة (كما يقول هو) على هامش الذّكاء والنّبوغ وتُعطيهم فرصة للتميّز مهما كان ملمحهم ومستوى نتائجهم المدرسية وترتيبهم في المناظرات والاختبارات.
كثيرة هي الأدبيات التربوية والعلمية التي تحدّثت عن هذا الصنف من الأطفال، فيطلقون عليهم تسمية الأطفال الموهوبين تارة أو الأطفال ذوي الإمكانيات العالية enfants à haut potentiel تارة أخرى أو كذلك الأطفال ذوو الذكاء المُبكّرprécoces . لكن عالم نفس النمو وأستاذ علوم التربية الأمريكي هوارد غاردنر شكّك في نهاية سبعينات القرن الماضي في إمكانية وجود الذكاء الواحد والكوني لأنه لا يعدو كونه “اقتدارا خصوصيا يتمثل في فهم الأشياء” وبالتالي لا مناص من تصريف الذكاء في الجمع في إطار ما أسماه بنظرية الذكاءات المتعدّدة … وذلك في 8 مجالات أساسية متنوّعة (الذكاء اللغوي والذكاء المنطقي الرياضي والذكاء الموسيقي والذكاء البصري الفضائي والذكاء البدني الحركي والذكاء العلائقي والذكاء البيئي والذكاء العاطفي).
وهذا نصّ الحوار الذي أجرته مجلة نوفيل أوبسرفاتور مع ألبير جاكار (أوت 2013).
الأطفال الموهوبون، هل تؤمنون بوجودهم، نعم أم لا ؟
لا طبعا، أنا لا اومن بذلك مُطلقا، وسبق لي أن تصادمت في هذا الخصوص مع عالم السلوكيات ريمي شوفان الذي نشر سنة 1975 مؤلفا أطلق عليه “النوابغ”. لا يمكن حسب نظري أن يوجد نوابغ وذلك لسببين : أولا في كلمة نوابغ surdoués هناك “أعلى” بمعنى متفوق وما يتبع ذلك من تصنيف و تراتبية، لكن النابغة هو أعلى من ماذا أو مِن مَن ؟ عندما نفكر بأن هذه التراتبية هي مبنية على مقياس وحيد وهو قيس حاصل الذكاء QI المزعوم، ندرك سريعا أن الأمر متعلق بفكرة مجنونة. قيس الذكاء ؟ ادعاء تحويل هذا الواقع متعدد الأشكال إلى رقم حزين ؟ هذا غباء. ثم لماذا مثلا لا نؤسس حاصلا للجمال QB ؟ عندما أقترح هذا، الناس يبتسمون هازئين. لكن على الناس الذين يردّون الفعل على هذا النحو أن يهزؤوا بنفس الطريقة من حاصل الذكاء.
والسبب الثاني ؟
آه نعم. في كلمة موهوب أيضا هناك “النبوغ” doué. أي المتمتع بموهبة. من وهبه هذا النبوغ ؟ الطبيعة بالتأكيد. الكنديون ابتدعوا كلمة douance بمعنى القدرة على النبوغ (قليلا أو كثيرا). وبما أن كل ما تمنحنا إياه الطبيعة يكون مسجلا في جيناتنا، فيجب الاعتقاد بأن هناك جينات مسؤولة عن الذكاء (جينات للذكاء). بينما ليس هناك إلا جينات للغباء تدمر العقل. لكن الغباء ليس نقيض الذكاء لأن الغباء مرض. بنفس المنطق هناك قنابل “شريرة” أو كريهة باستطاعتها على سبيل المثال تدمير قصر فرساي ولكن لا وجود لقنابل “طيبة” تكون قادرة على إعادة بنائه بواسطة جينات الذكاء فقط. الجينات ليس لها أي علاقة بترابطية توصيل الخلايا العصبية.
هناك على كل حال – وهذا شيء بارز في المدرسة مثلا- تلاميذ لامعون أكثر من غيرهم ؟
نعم لقد قلتها بنفسك : لامعون. لكن هل يعني ذلك أنهم أذكياء ؟ الذكاء هو مَلَكة الفهم. بينما أن تفهم شيئا ما بشكل حقيقي هو دائما مسار طويل. الذكاء الحقيقي هو أن تفهم كونك لم تفهم. و المثال النموذجي هو إنشتاين عندما كان تلميذا بنتائج مدرسية هزيلة لم يكن بالتأكيد طفلا موهوبا ولكن أتصور أنه لا أحد باستطاعته الادعاء أنه لم يكن ذكيا. لكن أن نفهم كوننا، “لم نفهم بعدُ” هو شيء أكثر ذكاء من الاعتقاد بأننا فهمنا. وهي خاصية الطفل الذي يزعم أنه موهوب. هذا الأخير يتميز خصوصا بالثقة في النفس وبالتعوّد على فرض نفسه أو القدرة على الظهور. هي ببساطة مسألة مغامرة اجتماعية.
حدث ذات مرة أن ألقى عليّ شاب عمره 14 سنة في إعدادية “ذات منسوب عال من المشاكل” بالضواحي الباريسية السؤال التالي “سيدي، هل يستطيع المرء أن يصبح عالم جينات إذا كانت لديه سوابق عدلية ؟“
سؤال أربكني جدا. هذا الشاب لم تكن لديه سوابق عدلية… لكنه كان يدرك أن ذلك آت لا محالة. لم يكن تلميذا متفوقا أو لامعا لكنه توصل إلى فهم العديد من الأشياء. الذكاء هو دائما تتويج لمغامرة فردية، مضمّخة بمؤثرات خارجية، وهو أمر لا علاقة له بعلم الجينات أو علم الوراثة.
لكن كيف نحدد الذكاء وما هي طريقة تشكّله ؟
يمكن أن نربط الذكاء بعدد التشابكات العصبية ؟ أو الترابطات بين الخلايا العصبية ؟ بينما هناك حوالي 100 مليار من الخلايا العصبية مترابطة من خلال حوالي 10 ملايين من مليارات التشابكات العصبية. يتضح إذن للحين أن علم الجينات يعجز تماما عن التدخل في كل هذا. 30 مليونا من التشابكات تنشأ في كل ثانية، فكيف تريدون من البرنامج الجيني أن يراقب ظاهرة على هذا النحو من التعقيد؟ وبالضرورة فإن تشكل هذه التشابكات العصبية محكوم بالمعلومات والمؤثرات المتأتية من الخارج. و بالتالي فإني أعتقد مثلا في هذا الخصوص أن المداعبات المتأتية (أو لا) من الأم تلعب دورا هاما في بناء الذكاء وتشكله.
هل تقصدون أن الأطفال الموهوبين هم الذين تمتعوا بملاطفات من أوليائهم بشكل أكبر أو أفضل من نظرائهم ؟
ذلك مجرد وجه من وجوه المسألة. بشكل أعمق، أعتبر أن الأطفال الذين يتم وسمهم بالموهبة هم أطفال أسرع من الآخرين في علاقة ببعض المواضيع. و لكن السرعة هي مجرد مكون من مكونات ما نسميه بالذكاء. ليس ثمة أي داع للاعتقاد أنها المكون الأكبر. ما الفائدة من فهم شيء ما وتمثّله في سن الـ13 قبل سن الـ 15 أو الـ 18 ؟ المهم هو أن ننتهي إلى الفهم، وبصفة عامة عندما تقول “سريعا” قد يعني ذلك “سطحيا”، الموهوبون هم أناس سطحيون.
للأسف، هنا كما في مناطق أخرى من العالم، نحن نستسلم لهذه الموضة العبثية : تثمين السرعة، المسيطرة على المجتمع الحالي. لنتوقف عن الخلط بين السرعة والتتويج أو المنتهى لأننا نعرف منذ زمن بعيد أنه لا فائدة من الجري… أنا الذي أدرّس علم الجينات لطلبة السنة الأولى طب، أكتشف على سبيل المثال أن الفتيات (في المعدّل) أفضل من الذكور. هل يعني ذلك أن الذكور أقل ذكاء ؟ أعتقد أن هنالك تفسير منطقي أكثر : في هذه السنّ بينما تكون الإناث بصدد التفكير بدراستهن يكون الذكور بصدد التفكير بالفتيات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*ولد ألبير جاكار في ديسمبر 1925 وتوفي يوم 11 سبتمبر 2013 بباريس.
من مؤلّفاته : الله؟ تربية بدون سلطة ـ صحراء ـ سعيد مثل طفل يرسم ـ أتهم الاقتصاد المنتصر ـ إليك أنت ايها الذي لم تولد بعد ـ محاولات في صفاء الذهن ـ أنا من أين أتيت ؟ أنا والآخرون ـ طوباويتي ـ بعض الفلسفة لغير الفلاسفة ـ في تمجيد الاختلاف…
دفءُ نار
خمسُ جرائم تُقترف اليوم في حق تونس
نشرت
قبل 3 سنواتفي
25 أكتوبر 2021من قبل
منصف الخميري Moncef Khemiriسياسيّا :
“عادة ما يَختزل رجل السياسة حياته ونظرته للحياة في بعض الجمل التبسيطية التي يتكئ عليها ليفهمه العامة ويتعاطفوا معه، بحيث لا يجلب الجمهور بواسطة البراهين بل يُغريه بواسطة المقولات الجاهزة” (الروائي البلجيكي فرانك أندريات)
أعتقد أننا بحاجة أكثر من ماسّة اليوم إلى الحسم والبتّ نهائيا وبسرعة في كل المُتخلّدات بذمّة العشرية الضالة والآسنة وكل ما اعتراها من شبهات تواطؤ مع أعتى المخابرات وما ضلعت فيه من رصد لأفضل الأسطح لممارسة القنص المهيّج واستيلاء على أراض ومبان واقعة في مناطق الغموض العقاري والتحضير العسكري الجدي لبناء مجتمع جديد يكون فيه الحديث عن “قُصّوا الشوارب واعفوا اللحي” أكثر استراتيجية من “علّموا أطفالكم الثقة بالنفس وقبول الآخرين باختلافاتهم”…وتعقّب كل من ساهم في إلحاق نسيجنا الاقتصادي بالعواصم التي أغدقت عليه ريعا بلا حساب… والمرور بعد ذلك فورا إلى “تطبيع” الحياة السياسية والانطلاق في العمل دون هوادة على كل الجبهات وكأننا خرجنا لتوّنا من حرب مُدمّرة.
ثقافيا :
لدينا في تونس مواقع أثرية وحضارية نادرة جدا على المستوى العالمي تُضاهي أبو سنبل مصر وبيترا الأردن وماتشو بيتشو البيرو … فقرطاج التي تؤثّث كتب التاريخ في أغلب بلدان العالم باستطاعتها أن تكون وجهة الانسانية بأسرها، وينسحب هذا على مسرح الجم وقصور تطاوين وعين الذهب بجبل السرج ومتحف باردو (ثاني أشهر متحف افريقيّا بعد المتحف المصري) … ولكن أضواءها مُطفأة والترويج لها منكدة.
من ناحية أخرى، عندما تشاهد وضع المنازل التي سكنها أو المواقع التي مرّ بها كبار شعرائنا وأدبائنا ومُبدعينا والحالة الرثّة التي باتت عليها تلك البيوت والأماكن المُهملة، ينهال عليك شعور بأنك تعيش في بلد يقتات من أكل أجداده والتنكيل بهم واصطياد بؤر الضوء في تاريخه ليخنقها ويخمدها.
تربويا :
بدلا من التفكير بالأسوإ في منظومتنا التربوية (تفاقم ظاهرة الانقطاع واستشراء ترويج “الأقراص” غير المزيّفة في الوسط المدرسي وتدني المكتسبات المعرفية وتراجع أداء المدرّسين…)، دعونا للحظة نُفكّر بالأنصع والأمتع حيث أن المدرسة التونسية التي أنجبت مهندسين أكفاء يجوبون العالم وأطباء مقتدرين تعترف بمهارتهم مستشفيات الكون والعديد من الأكاديميين المتألّقين في جامعات ومخابر البحث عبر عواصم المعمورة… نفس هذه المدرسة تظل قادرة على الاستمرار في تأدية وظيفتها تلك لو تتوفر نفس الإرادات الفولاذية التي أرست دعائمها عبر التاريخ. هذه جريمة في حدّ ذاتها أن ندع سقف مدرستنا يتهدّم أمام أعيننا خاصة على رؤوس الفقراء ومتوسّطي الحال لأن هنالك آلاف العائلات التي بمقدورها إيواء منظوريها تحت أسقف أخرى.
اجتماعيا :
طفل يبلغ سن السادسة عشر ولا يعرف الفرمبواز والجينواز وشابّة مزهوّة بقدّها لا تفرق بين الدودون والبومبرز والباركا واللاغينغ وشاب لم يفكر يوما باستخراج جواز سفر لأنه لا يحلم بعبور المتوسط إلا حارقا أو محترقا وتونسيون ينامون بنفس الملابس التي اشتغلوا بها نهارا وعاملات فلاحيات تنام الديكة أكثر منهنّ وتلميذ في مدرسة نائية يستخدم كل ذكائه ليفلت من حصة الفحص الطبي الجماعي لكي لا يكشف عن بطنه التي علق بها بعض الحشن لغياب الماء في منزل والديه وتلميذة يُفرض عليها أن تُفتّق لغتها الغضّة حتى تقول “عْملنا soupe في العشاء” وليس حساءً حافيا غير متبوع بأي شيء، و”أبي يجلب السلع من الخارج حتى لا تقول مُهرّب”… كلها عناوين لدولة بغلة ارتقت سياساتها المتتابعة بحفنة من الناس وتركت أغلبيتنا العظمى نسفّ التراب والسراب. (سفّ الدقيق أي تناوله يابسا غير معجون).
ديبلوماسيا :
من المؤكد أن الموقف المؤيّد لوضع العشرية الكبيسة بين مُعقّفين أقرب بكثير إلى الوجاهة من الموقف المنادي بالرجوع إلى حلبة الصياح والنباح والتراشق بالرماح، وبالتالي فإن مهمة إقناع العالم بأن لا أحد أبكاه غلق البرلمان من التونسيين سوى بعض الذين ساءهم “عدم استكمال إجراءات الحصول على رخصة صيد أو ما يعادلها”…لم تعد بالمهمة الصّعبة. يكفي إذن أن تُكلّف نخبة صادقة من الفنانين والرياضيين الدوليين وقدماء الديبلوماسيين وكبار الجامعيين المعروفين عالميا بنقل ما أصبح عليه مزاج التونسيين غداة 25 جويلية وحالة الارتفاع المهول في عدد المترددين على عيادات الطب النفسي في القطاعين الخاص والعام جرّاء مشاهدة فطريّات الديمقراطية وعطن المسار الديمقراطي طوال النهار على امتداد سنوات طويلة…حتى يقتنع العالم بأسره بأننا لا نبحث عن أكثر من استرداد بلدنا الذي خفتت ألوانه واختلّت أوزانه واستقصروا حيطانه خلال العشرية الماضية. (تذكروا في هذا الخصوص ما فعله بورقيبة الإبن وصديقه فرانك سيناترا لفائدة تونس أيام اعتداء حمام الشط أو ما فعله السفير الوسيم الشريف قلال مع عائلة كيندي لفائدة جبهة التحرير الوطني الجزائرية إبان الاستقلال).
دفءُ نار
نحو مُدوّنة سلوك غير كرمانيّة* … لمُتساكني الفايسبوك
نشرت
قبل 3 سنواتفي
18 أكتوبر 2021من قبل
منصف الخميري Moncef Khemiriأقدّر شخصيا أن القرف لعب دورا أكثر من السياسة والاشمئزاز أكثر من غياب المشاريع الجادّة والتقزّز أكثر من المناورة السياسية في جعل الأغلبية الساحقة من التونسيين تحقد على البرلمان والبرلمانيين والتشريع والمُشرّعين والمُحصّنين المُضمَّنين. قرف تجاه السبّ والشتيمة والعنف والقذف والبذاءة والرداءة والإساءة إلى صورتنا جميعا أمام أنفسنا.
أصبحت شخصيا “برلمانوفوب” و “ديموقراطوفوب” بمعنى أنني أصبحت أعاني من رُهاب دائم لمجرد تذكّر حصص التعذيب التي أُخضعنا لها إخضاعا رغم أنوفنا والتي تمّ بموجبها انتهاك ما تبقّى لدينا من جَلَد ووسع بال.
وباعتبار أن الفضاء الفايسبُوكي هو أيضا مشهد عام يتعامل فيه الجميع مع الجميع ويُحذّر عديد الأخصائيين في علم النفس والطب النفساني أن هذا الفضاء مرشّح لأن يتحوّل مثله مثل التلفزيون والبرلمان المُتلفز إلى مصدر إزعاج وتوتّر واضطراب إذا أنت أصبحت أسيرا لهذه الأداة الاتصالية الفتّاكة من ناحية وإذا أنت أصبح لا يعترض سبيلك وأنت تتجوّل في تجاويفه إلا المنشورات النكديّة والتعليقات العنيفة والكتابات المبتذلة من ناحية أخرى.
وطالما نحن نتقاسم هذا الفضاء الذي أضحى حميميّا بمعنى ما، كان لزاما علينا أن نتقيد بجملة من الضوابط والاخلاقيات التي تضمن حدّا مقبولا من التعايش والفرح الأدنى المشترك.
هذه إذن محاولة في رسم بعض قواعد السلوك التي تساعد على التقليص من أسباب التوتر والنّكد المتأتّيان من بعض اللّطش هنا والفُحش هناك :
- تذكّر أن الذين صادقتهم أو رافقتهم أو جمعتك بهم خيمة الوطن والماء والملح في يوم ما ثم تفرّقت سُبُلكم، لا يليق بك أن تنعتهم بالتفّه والبُلّه والسفّه… فهذا النوع من الشتائم لا يزيدك إشعاعا ولا جاها أو قدرة على إقناع الناس من حولك.
- واعلم أن للأموات حُرمة لا يليق وضع صور لهم في الفضاء العام وأن للمرضى والمحتضِرين حُرمة كذلك لا يجوز إشهار لحظات ضعفهم ووهنهم في الحوش الكوْني.
- ولا يجب أن يفوتك أن لحظات الأسى والحزن العميقيْن والصّادقين هي لحظات حميميّة بامتياز لا تُعاش بشكل مسرحي أو سينمائي أمام الناس، بل بخشوع وسكون وتَوْقير.
- وتيقّن أن مُتعك الصغيرة وتفاصيل حياتك الخاصة لا تعنيك سوى أنت… فالعالم بحروبه وزوابعه لا يهتمّ إطلاقا بشهرك السّادس (ربي يوصّل بالسّالم) أو السُّنينات الأولى لأطفالك (ربّي يفضلهم) أو مع من تناولتِ فطور الغداء البارحة في أحد مطاعم البحيرة (لإقناع صديقاتك بأن خبر طلاقك منه مجرد إشاعة وموتوا بغيظكم).
- وتحقّق أنك غير مطالب بطلب الإذن في تقاسم منشور ما (عديدنا يسأل صاحب المنشور “هل بإمكاني تقاسمه؟”) لأن مجرد وضعه في الطريق الفايسبوكي العام هو إتاحة للمشاركة والتعليق… شرط التنصيص على مصدره أو صاحبه.
- وتأكّد أن مارك نفسه (صاحب الباتيندة) لا يجلس إليك أو يتناول عشاءه مع عائلته وأصدقائه دون أن يتخلى عن هاتفه ومتابعة ما ينشر وما يصله من رسائل… وأنه من العيب أن تردّ على كل المكالمات التي ترد عليك وصديقك في حضرتك يتلوّى ليُعبّر عن فكرة تنهشه أو موقف يؤلمهُ (إلا إذا تعلق الأمر بمكالمة استعجالية فتعتذر وتُجيب).
- ومن البديهي أنك غير مجبر أن “تُتاغي” أصدقاء لا تربطهم أي علاقة بما تنشره أو تريد الترويج لهُ.
- ويتوجّب عليك أن تُبطل تنبيهات التطبيقات والألعاب وإشعاراتها على هاتفك الذكي. فقد يُبهجنا أنك تسعى إلى الترفيه عن نفسك فنطمئنّ عليك ولكن في نفس الوقت قد تعطينا بذلك الحق في تأويل إقبالك وشرهك بفارمفيل أو كاندي كراش طوال اليوم على أنه ضجر شخصي خانق يستدعي العناية الطبية المستعجلة.
- ويبدو أن الثقافة كما يقول بعضهم مثل مربّى (معجون) الغلال، بقدر ما تكون الكمية محدودة بقدر ما نبالغ في نشرها على قطعة الخبز (فأنت لست بيل غايتس أو ستيف جوبس أو جاك مَا لتُمطرنا يوميا بحِكم ومقولات ونصائح لا تُسندها تجارب حياتية أو مهنية خارقة).
- ولا تحسب أنك في حاجة دائمة للحصول على اعتراف اجتماعي حتى وان كان افتراضيا من خلال البحث المحموم عن مؤشرات الإعجاب والإطراب. فقيمتك، أنت الوحيد المؤهّل لتقديرها مهما اختلفت التقييمات المجاورة.
- وانتبه إلى أن عرض صورتك الشخصية بملامح يعلوها تعب الحياة و مشاق ركوب قطارات الضواحي وسيارات النقل الجماعي (خاصة عندما يكون “السّلفي” من مسافة قريبة إلى الوجه) لا يغيّر شيئا من حالتنا النفسية المُكفهرّة أصلا. ثم إن دي كابريو نفسه أو الصاعقة مارغو روبي ذاتها لا أعتقد أنهما يُسلفيان يوميا لإبهار العالم من حولهما.
- وأيقنْ أن تمكين ابنك أو حفيدك من هاتفك المُطلّ على سراديب العالم وكهوفه المُظلمة وما يسمّيه الخبراء بالواب السحيق أو الواب الأسود وغير المرئي في محاولة لإسكاته أو كسب محبّته…هو مؤشر لامسؤولية وعجز عن شدّ انتباهه من خلال أشياء تُشبه مهارات جدّاتنا في الحَكْي والقصّ وسلب العقول.
- وتواضع قليلا حتى لا تُنهي مواقفك بــ “إن الأمر يكون هكذا أو لا يكون، قف انتهى” وهي لحظة إشباع تعكس في أغلب الأحيان نوعا من الاستعلاء والاستقواء بالأنا المتورّم الذي لا يرى الحقيقة خارج دائرة ما يعتقده هو وما يتصوّره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نسبة إلى كرمان المتوكّلة علينا بأمر من “بالو آلتو” في كاليفورنيا.
حدث في رزق البيليك… المرجان الأحمر ينزف دما
سليانة: غدا… أدب الطفل في ملتقى عبد القادر الهاني
اختتام الدورة الثامنة لمنتدى المؤسسات Enicarthage
تونس: مؤتمر وطني حول ريادة الأعمال النسائية
بعد 61 عاما… هل يكشف ترامب عن معطيات جديدة حول مقتل “جون كينيدي”؟
استطلاع
صن نار
- منبـ ... نارقبل يوم واحد
حدث في رزق البيليك… المرجان الأحمر ينزف دما
- ثقافياقبل يوم واحد
سليانة: غدا… أدب الطفل في ملتقى عبد القادر الهاني
- اقتصادياقبل يوم واحد
اختتام الدورة الثامنة لمنتدى المؤسسات Enicarthage
- اقتصادياقبل يومين
تونس: مؤتمر وطني حول ريادة الأعمال النسائية
- صن نارقبل يومين
بعد 61 عاما… هل يكشف ترامب عن معطيات جديدة حول مقتل “جون كينيدي”؟
- داخلياقبل يومين
النفيضة: وقفة احتجاجية لأهالي “دار بالواعر”… على خلفية سقوط تلميذ من حافلة
- صن نارقبل يومين
حرب أوكرانيا… رسالة روسية في شكل صاروخ قادر على الدمار الشامل
- صن نارقبل يومين
لندن.. “طرد مشبوه” يتم تفجيره قرب السفارة الأمريكية