تابعنا على

منبـ ... نار

ويل لتونس من التونسيين !

نشرت

في

لا أريد أن أكتب نصا حزينا ولكن بلادي تصر أن تبث فينا الحزن في كل مرة. في العام الماضي والوضع الوبائي والاقتصادي شبيه بما هو عليه الان. كان الأمل في اللقاح والمرور بسلام من فترة وبائية صعبة تدهورت خلالها حال التونسيين غير الموظفين والذين لا يتقاضون رواتبهم من الدولة، منهم العمال والفاتحون لمشاريع واعمال حرة وأصيب عدد كبير بالوباء وأغلبية موتى الكورونا كانت من نصيب من تقدموا في السن.

وأذكر جيدا كيف كنت بصدد التحضير لأطروحتي كمثل هذا اليوم واسترجعت المثل التونسي الجميل الذي يستدعي الأمل في الأزمات قلت يومها:”لعل فيها خير” هاني في الدار باش نزيد نركز في الخدمة…

<strong>د أمل الهاني<strong>

كان الوضع حينها في انخفاض نسبي لعدد الإصابات كما عدد الوفيات، و كانت تباشير الأمل تفوح في أرجاء الوطن. كتبت آنذاك نصا عن أهمية التقدم العلمي وضرورة تشغيل الكفاءات العلمية سيما وأننا من المتميزين والناجحين في المجال الطبي، شهادة يعترف بها الداخل والخارج التونسي. كان نصي نقدا لسياسة هذا البلد الذي يهمش الطلبة والدكاترة والباحثين ويدفعهم للهجرة والرحيل بحثا عن كرامة معنوية ومادية لأن العالم والباحث لا يجد هنا قيمة ولا عمل فكأنما منّ عليه الله بحب البحث والاجتهاد ليجازى بصفعة مدوية تنذر بتعاسة هذا المحيط المدمّر للواقع وللحلم.

لا أريد أن أكتب نصا حزينا ولكن الوضع فعلا حزين. وأنا أستذكر كل ذلك وجدت أن الوضع لم يتحسن بل ازداد كارثية وازداد ألما… اليوم نحن البلد الأول عربيا وإفريقيّا في نسب الأموات بسبب الكورونا، والدولة،,نفضت يديها من كل شي,، في السنة الماضية أعلنت الحجر العام ووزعت منح بـ200د للعائلات المعوزة فحصل البعض عليها والبعض لم يحصل على مليم واحد فيما تحصل بعض الميسورين على مبلغ المسعدة هذه!

عمت الفوضى وانفلتت زمام الأمور وتذمر الناس من هذه المنح الضئيلة التي لا تسدد ثمن إيجار بيت، برغم الاقتطاعات الآلية المجحفة من أجور الموظفين والمتقاعدين والمساعدات الدولية والتبرعات الاتية من شخصيات ثرية ومشهورة. مليارات الدولارات التي عبأت خزينة الدولة، ولغرابة الأمر لم يتغير شيء!، فبالكاد جهزت المستشفيات باللوازم الطبية والوقائية وهي الأخرى على حافة الفقر والحاجة، ولعل وسائل التواصل الاجتماعي كانت خير وسيط اخباري بما يجري في أصقاع البلاد، فبغض النظر عن هذا الجهاز “الجاسوسي” العالمي الضخم، الذي يعرف عنا كل كبيرة وصغيرة، إلا أنه كان ذا فائدة في زمن الثورات وحرية التعبير عن الرأي، فأشرطة الفيديو التي يصورها عامة الناس في المستشفيات والمنازل والشوارع وينشرونها خاصة على الفيسبوك مشفوعة بشهادات حية عن معاناتهم الإهمال والاقصاء والظلم، كانت نبضا صادقا خاليا من التنميق الإعلامي والنقاشات المزيفة، نبضا آتيا من عمق هذا الواقع الشعبي المرير الذي يعكس إدارة سياسية فاشلة تعاقبت علينا عقودا تلو أخرى، كشفت ضعف الدولة وفشلها الذريع في بناء مؤسسات صلبة قادرة على إدارة الأزمات.

 لا أريد أن أكتب نصا حزينا ولكن الواقع محزن ومخز… اليوم استذكر ما مرّ وأتأمل ما يجري فازداد حزنا. ضحايا بشرية تقع فريسة للوباء والمصحات فارغة من أسرة الإنعاش ومن أجهزة التنفس، الموت يحصد والدولة عاجزة عن إنقاذ مواطنيها، قال لي طبيب ذات يوم، “فما ناس ماهياش متع موت”، لا أريد أن أذكر ولكن المشاهد تنهمر أمامي، تتراكم، أصبح للخوف أيضا حيز كبير في نفوسنا، فقد ولى عصر الطاعون، عصر حصد الضحايا دون شروط مسبقة، فاليوم يأتيك خبر ضحايا الكورونا من أعمار ومستويات صحية مختلفة فصغير السن معرض للموت و ذو الصحة الجيدة معرض كذلك…

 ومن المضحكات المبكيات أن هذه الكورونا قد أفرزت سلالات عديدة وأصبحنا نتحدث عن المتحول الهندي والإفريقي والبرازيلي والبريطاني وهلم جرا من الفيروسات المتحولة، وصراحة إن كلمة متحول بالذات تربكني فأهوائي السريالية وخيالي الغرائبي يرمي بي إلى عالم من البشر المتحول كمصاص الدماء وزومبي آكل البشر وأجساد أخرى هجينة عادة ما تضمر شرا وشراسة، وها أنني اليوم أعيش زمن المتحولات الفيروسية التي لا تقل شرا ولا شراسة عن الكائنات اللاواقعية والافتراضات الخيالية.

 وحقيقة أنني لا أجد إجابة واحدة ولا كافية عن سبب المتغيرات الطارئة والمفاجئة لما يجري في الأرض عامة وما يطرأ على الإنسان خاصة، فتتهافت التساؤلات وتتقاذفنا الأجوبة غريبة مغتربة عن بعضها البعض، فتخميني العقلاني العاقل يرجح الكفة لميزان العلم وضرورة دراسة الظاهرة في علاقة بالمتغيرات العضوية لسلالات من الحيوان والكائنات المجهرية وآثارها على جنس البشر والجسد البشري المتأثر بعوامل المناخ والطبيعة، ثم ترمي بي حيرتي في مطبات الأسئلة الوجودية في ذهول تام أمام هشاشة الإنسان، محور الأرض، هل هو فعلا محور الأرض؟ ماذا لو خططت الفيروسات لامتلاك الأرض وأصبح البشر لعبة في أيادي لا يعلمها غير الفيروس؟

 أعود إلى رشدي وألقي بنظرة جدية حول الصراعات الدولية وهيمنة الامبريالية المتوحشة ولعبة تصفيف وتصفية البشر وفق مقاييس مصلحة رأس المال، فتتراءى الخطة الشريرة والهدف الاجرامي وراء قتل الضعفاء وكبار السن بتصنيفهم كأعباء مادية وأجساد عاطلة عن العمل ثم في مرحلة ثانية القضاء على أكبر عدد ممكن من البشر كافة لتضخيم رأس المال ولمزيد من التحكم في العالم! ناهيك عن سوق اللقاح ودكاكين المتاجرة بترياق الخلاص … فهذا لقاح فايزر وآخر لقاح استرازينكا وسبوتنيك وكورونافاك والقائمة تزيد من كل حدب وصوب.

 في العام الماضي فُتحت سوق الكمّامات والغاسول الطبي واحتكرت المواد وبيعت بأسعار مرتفعة وتوفرت الآن بأسعار مراقبة نوعا ما وبوفرة وسخاء ياسبحان الله وليس هذا فقط، فقد توفرت كذلك أجهزة الاختبارات السريعة للكشف عن عدوى الوباء وأصبحت تباع هي الأخرى في الصيدليات والكل يدفع لأن المستشفيات العمومية عاجزة عن الاهتمام بالجميع، أجهزة اختبار وانعاش ولقاح ودواء وخدمات… كثير هذا على بلاد انهكتها أيادي النهب والسرقة وضعف ساستها ..

 إذن مرحبا بالمهربين وعاقدي الصفقات المشبوهة، ولتستثمر الشركات الكبرى وتحتكر وتبيع وتقبض الأموال قبل أن تنقبض الأرواح، هنيئا لكم بهذه الصفقة الوبائية الرائعة فأنتم أيضا فيروسات بشرية، استثمار في المرض في الوباء في الإنسانية، توحش بشري وانهيار كامل لمقومات الدولة السيادية، صفقات تدار ولقاح يتقاطر حسب قيمة وحجم الدفع…

 اليوم سمعت، في الرابع من شهر جويلية، أن عدد الموتى قد بلغ 180 من كل الأعمار والأعمار (المقصوفة) هذه المرة ليست بيد الله وحده. بل صار الموت بيد الدولة. بالمرض المنتشر والإهمال، يموت هنا الانسان.

أكمل القراءة
تعليق واحد

تعليق واحد

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

منبـ ... نار

“حين يتكلم الفن… يصمت العنف”

ورشات فنية وحوارات مفتوحة بالمركب الشبابي بالمهدية

نشرت

في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

د. مصطفى الشيخ الزوالي

د مصطفى الشيخ الزوّالي

تحت شعار “حين يتكلم الفن… يصمت العنف”، نظم المركّب الشبابي بالمهدية بالتعاون مع مجمع الصحة الاساسية بالمهدية، يوم السبت 20 ديسمبر 2025، يومًا دراسيًا خصص لموضوع السلوكيات المستجدة، ليكون فضاءً حيًّا للحوار والتفكير الجماعي حول التحوّلات السلوكية التي يشهدها المجتمع التونسي اليوم وانعكاساتها على الفرد والمجتمع، وبالأخص فئة الشباب. منطلق هذه التظاهرة قناعة مفادها أن العنف ليس ظاهرة معزولة أو سلوكًا فرديًا عابرًا، بل نتاج تراكمات اجتماعية ونفسية وثقافية، وأنّ الفن يمكن أن يكون مدخلاً فعّالاً للفهم، التعبير، والوقاية.

تضمّن برنامج اليوم مداخلات تمهيدية ساعدت المشاركين على تبسيط هذه الظواهر وفهم خلفياتها، إلى جانب ورشات تطبيقية شملت صناعة المحتوى، التعبير الجسماني، المسرح، وورشة التربية التشكيلية. وقد أتاحت هذه الفضاءات للمشاركين فرصة التعبير عن ذواتهم وتبادل الآراء حول الظواهر المذكورة، وتوّج المسار بعرض إنتاجات الورشات المختلفة ونقاش جماعي مفتوح، ما جسّد التفاعل بين التعبير الفردي والمشاركة الجماعية.

في هذا الإطار، جاءت اللوحة الفنية المصاحبة التي أنجزتها مجموعة من الشابات التونسيات باعتبارها إحدى مخرجات ورشة التربية التشكيلية، تحت إشراف فني للمنشط والفنان محمد بوفريخة، الذي أرشد المشاركات في التعبير الفني وتوظيف الرموز البصرية، وإشراف تربوي وحواري للمربي والباحث مصطفى الشيخ الزوالي، لتعكس بذلك تجربة جماعية متكاملة تتجاوز حدود الورشة نحو قراءة أعمق للمجتمع والتحولات المستجدة.

تُقرأ اللوحة كنافذة مفتوحة على تحولات المجتمع التونسي. فهي تبني دلالاتها عبر طبقات يتجاور فيها الماضي والحاضر، وتتقاطع فيها الذاكرة مع الأسئلة التي يطرحها الزمن الراهن، ضمن تفكير جماعي في الظواهر المستجدة التي باتت تؤثّر في الحياة اليومية، وفي أشكال التوتّر والعنف التي ترافقها.

في أسفل اللوحة، تبرز البوابة التقليدية المزدانة بالورود كعلامة على الجذور الأولى: ذاكرة جماعية وروابط اجتماعية وموروث ثقافي شكّل على امتداد عقود إطار العيش المشترك. لا تحضر هذه العناصر بوصفها حنينًا إلى الماضي، بل كدعوة ضمنية إلى التمييز داخل هذا الموروث ذاته، بين ما يظلّ قادرًا على الإسناد وبناء المعنى، وما تحوّل مع الزمن إلى عبء يعيق الفهم والتجدّد. الماضي، كما توحي اللوحة، ليس كتلة واحدة صمّاء، بل فضاء مفتوحًا للاختيار والانتقاء وإعادة التوظيف، حيث وجدنا في التعبير البصري للعمل صدًى لما حاولنا طرحه خلال الحوار، وكأنّ الرسم أتمّ ما بدأناه بالكلمة.

مع الصعود في طبقات العمل، تتجلّى رموز تنتمي إلى مرحلة وسيطة من تاريخ المجتمع: الهاتف القديم، الدفاتر، إشارات المرور، وعلامات التنظيم المؤسسي. هذه العناصر تستحضر ملامح فترة تمتدّ لنحو خمسين سنة بعد تأسيس الدولة الوطنية عام 1956، أي زمن ما قبل الرقمنة والإنترنت والذكاء الاصطناعي، حين ساد منطق التنظيم والضبط، وسعت المؤسسات إلى تأطير السلوكات داخل فضاءات محدّدة، من بينها الفضاء المدرسي.

في قراءتي للوحة، أجد صدىً مباشرًا لما سعيت إلى تبليغه خلال الحوار؛ فالرموز، رغم ما توحي به من انتظام واستقرار، تحمل بين طبقاتها توتّرًا خفيًا، كأنها تُبرز حدود هذا النموذج حين يواجه تحوّلات لم تعد تُختزل في الأمكنة التقليدية، وتدعونا للتفكير في كيفية تكييف القديم مع تحديات الحاضر. وهكذا، يصبح الرسم امتدادًا بصريًّا للحوار، حيث يلتقي التعبير الفني بما حاولنا صياغته بالكلمة، في تفاعل ثنائي بين الرؤية والتجربة.

في المستويات العليا، ينفتح المشهد على عالم رقمي متسارع، تتداخل فيه منصّات التواصل، الشبكات، والتقنيات الحديثة. هنا، لا يبدو العنف، إن وُجد، محصورًا في الساحات أو الأقسام أو الشوارع، بل انتقل بقوة إلى الفضاء الرقمي، متخذًا أشكالاً جديدة وأكثر تعقيدًا، من قبيل التنمّر الإلكتروني، التشهير، وتداول مشاهد العنف. وفي قراءتي للوحة، أجد انعكاسًا لما سعيت إلى تبليغه خلال الحوار: فهذه الرموز لا تُقدَّم في صيغة اتهام مباشر، بل كإشارة إلى الفجوة المتنامية بين واقع التلميذ “الرقمي” وتجربة الحياة المدرسية، وبين منظومة تربوية ما تزال، في جانب منها، تشتغل بأدوات الأمس وتتصوّر العنف بوصفه ظاهرة محصورة في فضاءات مرئيّة قابلة للضبط.

بهذا التدرّج البصري، تقترح اللوحة تأمّلاً في العلاقة بين الأزمنة، لا من زاوية القطيعة، بل من زاوية الموازنة والمسؤولية. فهي تلمّح إلى أن التعامل مع الظواهر المستجدة، بما فيها مظاهر العنف في الزمن الرقمي، لا يمرّ عبر إنكار التحوّل ولا عبر القطيعة مع الجذور، بل عبر قدرة جماعية على إعادة التفكير، حيث يلتقي ما يُرى في اللوحة بما حاولنا تبليغه بالكلمة، في تجربة مشتركة تُوازن بين القديم والحاضر، وبين الموروث والتحديات الرقمية.

في المحصّلة، لا تُفهم هذه اللوحة بمعزل عن ساعة ونصف من الحوار والنقاش الجماعي الذي رافق إنجازها. خلال هذا الوقت، إذ تداخلت الملاحظات المستمدة من الواقع مع محاولات التأطير التربوي والفني، لتنتج لغة بصرية تعبّر عن تجربة تفاعل مستمرة. وهكذا، يظل المعنى مفتوحًا، يترك لكل مشاهد حرية قراءة اللوحة وتأويلها وفق طبقاتها ودلالاتها، مع إدراك أن ما يظهر في الصورة يعكس تمازجًا بين التعبير الفني والإشراف الفني وما حاولنا إبلاغه بالكلمة في الحوار والتوجيه التربوي

أكمل القراءة

منبـ ... نار

أجرأة السوسيولوجيا: قراءة في كتاب “بن علي والنخبة التونسية”

نشرت

في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عبد القادر ميغري*:

قدم لي الصديق والزميل مصطفى الشيخ الزوالي إهداءً لكتابه “بن علي والنخبة التونسية، دراسة في الثقافة السياسية وخطاب المثقفين”، وهو عملٌ قدّمه الحقوقي التونسي أحمد كرعود وصدر عن المؤلّف نفسه عن المغاربية لطباعة وإشهار الكتاب سنة 2024، في خمس،وسبعين ومائتي صفحة.

أعرف سلفا أنني لن أفيه حقه من التمحيص لغزارة ما تضمنه من معطيات أولا ولأنه يضرب عميقا في المفاهيم السوسيولوجية الحديثة ومقولات علم الاجتماع ثانيا، ولجلالة نهجه القائم أساسا على الدقة والحذر من المطبات في موضوع مطروق، وهذا يضاعف صعوبته إذ المطلوب في التأليف هو الطرافة والجدة، ولذلك نراه يستهل المبحث باستعراض الدراسات السابقة موضحا مرجعيته النظرية والمنهجية (ص17) باعتماد مؤلفات لشخصيات وازنة معرفيا وسياسيا .فقد استند المؤلف على الدكتور عبدالسلام المسدي وكتابه “تونس وجراح الذاكرة” ، والدكتور الهادي التيمومي في كتب عديدة، أهمها “خدعة الاستبداد الناعم: 23 سنة من حكم بن علي”، إضافة إلى دراسة الأستاذ الجامعي عادل بن يوسف بعنوان “المثقفون والسلطة زمن حكم بن علي: الجامعيون نموذجًا 1987-2011”. كما اعتمد على كتاب “حقائق عن شخصية بن علي وأسلوبه في الحكم” الذي اشترك في تأليفه كل من صلاح الدين الشريف، الكاتب العام لرئاسة الجمهورية بين 1999 و2011، ومحمد المنصف القصيبي، الموظف السامي بالوزارة الأولى سابقًا.

وقد جمع المؤلف بين زبدة القول في هذه المؤلفات وبين بيان خصالها أو هناتها، مستفيدًا من المراجع المعرفية والنقدية في تحليل مسار النخبة التونسية. ومن الواضح منذ البدء أن المؤلف محكوم بهاجس “وضع المعلومات والمعطيات في سياقها التاريخي حتى يكون لها معنى” (ص70و 105) وأنه تنقل بين كم هائل من المصادر والمؤلفات التي وضعها أصحابها مدحا أو قدحا وما بينهما من تغيير الموقف من “رجل التغيير” وهؤلاء إما نخبة وإما نخبة النخبة من خيرة أكاديميي الجامعة التونسية، دون ان يجامل ولا يتحامل بل مستندا إلى مفاهيم ومقولات دقيقة في المجال (ص74 و85) مثلا : نخبة النخبة، أو خبراء الشرعنة عند غرامشي…).

وتتواتر قبل ذلك وبعده مفاهيم توظف في سياقها على سبيل الأجرأة مثل مفهوم الانزلاق (ص 68و71) النخبة والتصنيف الى Intelligentsia و Intellectuels مما استدعى تدقيقات كثيرة خاصة ان الامر يتعلق بالحديث عن أساتذة/مراجع في اختصاصاتهم الأكاديمية يترفع الكاتب عن ذكر أسمائهم مكتفيا بمواقفهم من مواقعهم الجديدة، ولذلك نجد جهازا مفاهيميا مبثوثا في ثنايا الكتاب لا يفتأ الكاتب يعود إليه كلما رام توضيح رؤية أو شرح طرح أو بيان موقف أو حتى إبداء رأي في مسار بعض من كان يراهم نماذج ورموزا للفكر والبحث الأكاديمي خاصة.

ولا يخفى هنا شعور الخيبة والإحباط نستشفه خاصة في اعتماد السرد وبعض مقاطع السيرة الذاتية، كاللقاءات والاجتماعات مع وزراء وشخصيات نافذة وللتجربة المهنية حضورها الوظيفي في كشف ما قد يخفى على العموم (ص 94 و 105 مثلا). فجاء القول كاشفا بعض الزوايا المعتمة وحوله إلى شاهد على العصر في مجالات متنوعة نذكر منها الإعلام والفن والتعليم لكن بعين عالم الاجتماع ووسائله ومنهجه لا رجل السياسة بتكتيكاته ومصالحه وأهدافه.. ولعل ذلك أتاح له مثلا محاصرة شخصية رمز إليها بحرفي ص.ش بحكم دورها البارز في إخضاع النخبة للسلطة القائمة وأكاد أقول إنه التاريخ يحاكم كلا بما كان ليديه من أفعال ولسانه من أقوال وتلك لعمري محاكمة ” معرفية” مُثلى باعتبارها منظارا دقيقا يكشف الفاصل القيمي بين ما تروج له النخبة نظريا وما تمارسه عمليا. وفي ذلك برأيي استحضار للوضع المفارق تاريخيا la Situation historiquement paradoxale لسلم القيم بين المنشود والموجود.

ومن جهة أخرى لم يخل الكتاب من طرائف في تسابق أعلام في ما سماه ” التجويق” في مجالات الثقافة والفن والإعلام ، مستعرضا أمثلة على فقر المشهد الثقافي والإعلامي وظفه الساسة وذراعهم الإعلام في ترذيل الفن بالترويج لنماذج توغل في البذاءة وتزيد الطين بلة .. على انه لم ينس الإشادة الضمنية بموقف استثنائي خارج عن السرب في هدوء واختزال لا يقدر عليه الا العظيم الراحل توفيق بكار في خطابه لزميله المسدي عن بن علي :”لا تنتظر منه خيرا كبيرا يا عبد السلام” (ص179) ممهدا بذلك ربما لبيان أسباب التصحر السياسي بعد 2011 (ص189) إذ رده إلى هيمنة مقولات الاستبداد على النخب السياسية ” الجديدة” نفسها في مختلف الاقطاب (ص195) .. ليخلص إلى خاتمة عامة عنوانها تساؤلات واستنتاجات من أجل المستقبل متبوعة بقائمة طويلة من المصادر والمراجع يحيلنا في بقية الكتاب على مقاطع منها تراوح بين الجد والهزل إذ جعلها تنطق عن ذاتها فتثير سخريتنا نحن القراء من أصحابها حينا واشمئزازنا حينا آخر دون أن ينفي عنا إمكان التقدير والإجلال لبعضها الآخر.

يقدّم كتاب “بن علي والنخبة التونسية” قراءة دقيقة للمسافة بين القول والفعل في النخبة التونسية، كاشفًا التناقضات في علاقات المثقفين بالسلطة، ويشكل، كما أشار أحمد كرعود في تقديمه، إضافة قيّمة بتحليل معمّق لتواطئهم مع السلطة، ويفتح نوافذ للتأمل في حاضر الثقافة السياسية واستشراف مستقبلها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*مستشار في الاعلام والتوجيه المدرسي والجامعي

أكمل القراءة

منبـ ... نار

الدين في جوهره ليس مادة للتندر، ولا منصة للتعالي… بل رسالة هدي ومواساة

نشرت

في

رضا الحديدي*:

المأساة تكمن في مشهد الأزمة الأخلاقية التي يعيشها الخطاب الديني حين تحول إلى استعراض لا يحمل من الدين إلا مظهره.

وحين نجد ظاهرة تغليف الخطاب الديني بالدراما والإثارة، وتختلط في حضوره الدعوة بالنكتة، والوعظ بالسخرية، والفتوى بالتجريح، نتساءل هل أصبح الداعية نجمًا ينافس نجوم الكوميديا؟ وحين نفقد الفرق بين الواعظ والمهرج، بين الحضور الروحي والعرض الدرامي وعندما تُقاس فاعلية الخطاب بعدد المشاهدات لا بعمق الأثر، فإننا لا نلوم الرمز وحده، بل نُدين ذائقة جماعية تسهم في خلقه وتغذي غروره.

لقد شكّل برنامج الداعية المثير للجدل الأخير، لحظة فاصلة في وعي الكثيرين، لما مثّله من انحدار في الذوق، والاحترام، والرسالة المفترضة . ان الرجل لا يفتقر إلى العلم، ولا إلى الشعبية. لكن المعضلة ليست في قدرته على جذب الانتباه، بل في طريقة تقديمه للدين كعرض سريع مختلط بالنقد اللاذع والتعالي أحيانًا.

حين يصبح الداعية محور الخطاب، لا الدين ذاته. فيتحدث من علٍ، ويصنف الناس بتعليقات تحمل في طياتها تهكمًا مبطنًا، وأحيانًا ازدراءً واضحًا، دون إدراك لوقع كلماته أو مدى تاثيرها علي الذوق العام وإيذائها له. تتحول فتاواه إلى مادة للسخرية،

هذا الأسلوب الذي يخطف الاهتمام، يخفي داخله أزمة عميقة: تغليب الشكل على الجوهر، والصوت المرتفع على العقل الهادئ. هذا التضخم لا يأتي من فراغ، بل من شعور داخلي بأن الجمهور سيظل في حالة تصفيق، حتى مع الانزلاق في الأسلوب، هنا نرى كيف تتحول الدعوة إلى عرض جماهيري، لا حوار روحاني.

السوشيال ميديا ضاعفت من حضور هذه النماذج ، لأنها تستهلك المحتوى المثير بسرعة، وتعيد نشره آلاف المرات، مما يغذي “شهوة الظهور” عند البعض ولم يكن في الحسبان السؤال هل هذا الخطاب يخدم الدين؟” بل : “هل يجذب الأرقام؟” وهنا تكمن الكارثة.

فالمعايير أصبحت ترند، مشاهدات، تفاعلا، لا محتوى أو تأثيرا حقيقيا. لكنها في الوقت نفسه، سرعان ما تنقلب عليهم. الجمهور الذي يرفعك في فيديو، قد يسحبك إلى القاع في هاشتاغ. ولأننا أدمنّا الترفيه باسم الدين، وتركنا الحكمة خلف الشاشات. تم تهميش القيم ، وإعلاء صوت من يجيدون “اللعب على الشاشة”، حتى لو كان الثمن تهشيم قيم أساسية.

لكن من الظلم تحميل الشخص وحده مسؤولية السقوط دون الحديث عن البيئة التي صنعته، مسرح التهليل و المنصات التي فتحت له الأبواب، رغم تكرار انزلاقاته اللفظية والسلوكية. ما حدث مع هذا الداعية هو مرآة لما يحدث في المجال العام . قلة في التفكير النقدي، وفائض في رد الفعل. لم يسقط الرجل لأن خصومه أسقطوه، بل لأن الحقيقة أسقطته. لأنه استهلك رصيده الأخلاقي على مدى سنوات، حتى جاء الانفجار.

إن الجمهور الذي لطالما ضحك أو صفّق، بدأ يرفض. وهنا يكمن الأمل. فهذا بحد ذاته بداية نهوض جماعي من سبات تقديس الشخصيات، واستعادة سلطة العقل.

لا يكفي أن نغضب بعد السقوط. الأهم هو أن نراجع المعايير التي تُبنى بها الرموز في حياتنا: من نمنحهم المنابر؟ وبأي خطاب نقبل؟ وما الذي نصمت عنه؟ وأن تكون القاعدة: من لا يقدر على تمثيل القيم، لا يحق له الحديث باسمها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*أديبة مصرية

أكمل القراءة

صن نار