جلـ ... منار
“روش طحن” … عن انحطاط اللغة، أو لغة الانحطاط
نشرت
قبل 3 سنواتفي
ذات مرة كنت جالسًا في القطار أصغي لشاب يكلم صاحبه، فلو كانت المحادثة باللغة السنسكريتية لفهمت أكثر. لا أنكر أن أكثر هذه التعبيرات يمكن فهمه من سياق الكلام وتعبيرات الوجه، لكن بعضها عسير فعلاً.
كل لغة تتطور مع الوقت، وأية مقارنة بين لغة (المنفلوطي) ولغة (صنع الله إبراهيم) تريك الفارق الهائل.. قارن بين لغة (شكسبير) ولغة (جون جريشام) مثلاً.. وحتى القواميس الإنكليزية الرصينة صارت تحوي قدراً لا بأس به من العامية وربما الشتائم. أذكر المعركة الأدبية النارية بين (العقاد) و (ميخائيل نعيمة) حول لفظة (تحمم) التي قال الأول إنه لا وجود لها في اللغة العربية، بينما أصر (ميخائيل نعيمة) على أنها لفظة مفهومة لأي شخص، فلماذا نسمح لشاعر من البادية ـ والكلام لـ (نعيمة) ـ أن يخترع لفظة لا وجود لها، مثلما اخترع (امرؤ القيس) لفظة (تتفل) لأنها تناسب القافية والوزن وأعلن أن معناها (ثعلب) من الآن فصاعداً، بينما نمنع شاعراً آخر من ابتكار لفظة مثل (تحمم)؟
حتى على مستوى المحادثة، يسهل أن تجد فارقًا شاسعًا بين لغة أفلام الماضي وأفلام اليوم .. لم يعد أحد يحيي الآخر بـ (سعيدة مبارك) أو يصف الجو بأنه (طقس في غاية البداعة).. هذه لغة تناسب الماضي الجميل حينما كان شوقي بك يذهب مع حبيبته إلى النيل ليركبا فلوكة و “تعال من فضلك خدنا”..وكان المراكبي مهذبًا يرد بصوت ملائكي: “دي ستنا و انت سيدنا” ؛ فلم يطلب سعرًا فلكيًا ولم يخرج مطواة قرن غزال ويغتصب الفتاة أمام شوقي بك.
تتنازعني هنا كراهيتي ـ التي لا حيلة لي فيها ـ لهذه اللغة الجديدة التي يدور 80% منها حول معنى الاستهتار وعدم الاكتراث وأن الأمر لا يستحق. لغة فيها تحد غريب وقدر لا بأس به من الوقاحة، فأنا ما زلت مصراً على أن لفظة (بيئة) هي لفظة (بيئة) فعلاً. وماذا عن لفظ (موزّة) التي تعني (فتاة جميلة) ؟.. هناك قدر من الوقاحة والاستهتار بالأنثى كأنها شيء يؤكل لا أكثر، والغريب أن الفتيات يقبلن هذه اللفظة باعتبارها (مجاملة رقيقة). يتنازعني هذا المقت مع إيماني بأن على جيلي ألا يفرض تحفظاته على الجيل الجديد .. لقد حورب (سيد درويش) عند ظهوره باعتباره (شاباً لا يحترم أساطين الغناء)، وحورب (عبد الحليم حافظ).. واليوم يُحارب المطربون الشباب لأنهم ليسوا (عبد الحليم حافظ).. كان آباؤنا يزغرون لنا حين نستعمل لفظ (سكّة) ـ بفتح السين ـ بمعنى (الشيء التافه)، واليوم لا يفهم الأب ما يقوله أولاده حتى يوبخهم عليه.. هذه هي القصة دائماً إلى يوم الدين. الشباب يبدو غريباً جامحاً بالنسبة للكهول، والكهول يبدون ماموثات متحجرة عاجزة عن التغير بالنسبة للشباب، و(أحمد عدوية) صار تراثاً كلاسيكياً راقياً بالنسبة إلى (شعبولا).
أعتقد أن النقلة الأولى الكبرى في لغة الشباب المصري كانت في السبعينات مع مسرحية (مدرسة المشاغبين) التي ولدت مصطلحات جديدة، بل وطريقة جديدة تماماً في المزاح. قبلها كان الناس يضحكون من أسماء مثل (السناكحلي) ومن كوميديا الموقف مولييرية الطابع ومن سلاح التكرار الذي تكلم عنه (برجسون) كثيرًا .. التكرار .. التكرار .. وحتى يصفق المشاهدون فتلتهب أكفهم. جاءت (مدرسة المشاغبين) بأسلوب خاص جدًا من الدعابة؛ ولمدة عشرين عامًا ظل طلبة المدارس يكررون دعاباتها التي لا تخلو من وقاحة واستهتار.
النقلة الثانية هي في التسعينات…
هنا يتعرض شبابنا لضغط يفوق بمراحل سُنة التغيير التي تكلمنا عنها.. الظروف القاسية التي يواجهونها، وعلامات الاستفهام التي تملأ المستقبل، ولدت فيهم تحدياً قد يتجاوز ما هو مطلوب أو صحي. إن لغتهم قد اتسعت لتحتوي عوالم الميكروباص والكمبيوتر ومترو الأنفاق والإنترنت..
المعلومات كثيرة جدًا .. الوجوه كثيرة جدًا …لا سبيل لاستيعاب هذا كله إلا بالسطحية والمزيد من السطحية .. كل شيء يجب أن يتم بسرعة وبلا تعمق .. وهذا يظهر بوضوح في اللغة قبل أي شيء آخر.
لقد تنبأ أندي وارهول – الفنان المجنون غريب الأطوار – بأنه في عام 2000 ستكون فرصة كل إنسان للشهرة ربع ساعة لا أكثر ..
يمكن أن نقول إن نبوءته تحققت.. ويمكن أن نضيف إلى الشهرة أن كل معلومة .. كل رأي .. كل انفعال .. فرصته في البقاء ليختمر ربع ساعة لا أكثر..أتذكر الموقف الطريف الذي حكاه د. (جلال أمين) عندما كان في الولايات المتحدة وضل طريقه بسيارته .. كانت هناك لافتات كثيرة جدًا تدل على كل شيء وهذه اللافتات جعلت الأمور تختلط عليه .. وهنا خطرت له فكرة غريبة: إنه كان بحاجة بالضبط إلى كم أقل من المعلومات كي يتخذ قراره !.. هذه عبارة جريئة جدًا لا يجسر على قولها إلا من هو في وزن (جلال أمين).. بالفعل كم المعلومات المتدفقة على الشاب عبر الفضائيات والإنترنت وآلاف الصحف يجعله في حيرة حقيقية .. لا وقت لتكوين رأي أو استيعاب أي شيء .. في الماضي كان هناك فيلم أجنبي واحد يعرض أسبوعيًا في برنامج نادي السينما، وكنا نرتب يومنا كله من أجل ساعة العرض هذه، ونلتهم عشاءنا أمام الشاشة .. ثم يعرض الفيلم فتستوعب كل حرف منه .. يتسرب إلى كل خلية من خلاياك .. أما اليوم فمن النادر أن تستكمل الفيلم إلى منتصفه قبل أن تقلب القناة بحثًا عن متعة أسهل..
هناك موضة جديدة أطلق عليها اسم (الروشنة الدينية) هي أغان دينية ملحنة بإيقاع عصري.. وترى الفيديو كليب في التلفزيون، فترى مجموعة من الشباب المتأنق أناقة الحراسات الخاصة يقف متخشبًا كأنه يحرس موكب (إبراهيم بيه)، وهو يردد أسماء الله الحسنى .. سرعان ما تدرك أنه لم يتسرب إلى أرواحهم مما يقولون إلا النغمات .. فقط يحركون شفاههم .. هذه أغان تم تصميمها ببراعة لسد حاجة الأفراح وذلك النشاط المصري الوليد: حفلات افتتاح المحلات الجديدة .. في مرة أخرى راقبت شابًا يرقص في ميوعة وانتشاء على أغنية شعبان عبد الرحيم فائقة الشهرة (أنا بأكره إسرائيل)، فساءلت نفسي: هل يعي أية كلمة من الكلمات التي يرقص على لحنها ؟.. هل يفهم ؟.. هل يهمه أن يكره إسرائيل أو يهيم بها حبًا؟
إنها السطحية في كل شيء ..
إن لغة (الروشنة طحن) تعبر عن هذا كله .. وسوف تجد من يرصدها بشكل أكاديمي يومًا ما، أما في المرحلة الحالية فإنني أشكر ذلك الشاب المتحمس الذي قرر جمعها في كتيب حتى لا تضيع. وذلك تحسبًا لليوم الذي يتكلم فيه أبناؤه فلا يفهم حرفًا مما يقولون. يومها تبدو عبارة مثل (كله في الأمبلايظ) عتيقة لها ذات رنين (طقس في غاية البداعة) في مسامعنا!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*طبيب و كاتب مصري (1962 ـ 2018) يعتبر من رواد أدب الخيال العلمي في المدونة العربية.
تصفح أيضا
وفاء سلطان:
البارحة نشرت بوستا مفاده ان مقدار سلامك الداخلي هو انعكاس لعملك وإيمانك ونواياك وأفكارك وصداقاتك وعلاقاتك ونجاح اسرتك.
فكرة البوست ولدت بعد محادثة على الخاص مع شخص لم أكن أعرفه من قبل، شخص متدين جدا جدا،
ولكنه كان مهذبا ولطيفا، لسبب واحد التقطته من خلال الحديث ألا وهو أن لديه شكوكا بطبيعة ما يؤمن به
أراد أن يجرني لأفصح عن كل ما أعرفه بهذا الخصوص، لأن ما أقوله راح يغوص في تلافيف دماغه ويحرك شيئا عنده.
في سياق الحديث قلت له: أشعر أنني أسعد امرأة في العالم، والشخص الأكثر سلاما
فردّ على الفور:
بعكسي تماما فحياتي قاسية جدا، وتابع: أعيش وأشعر أن كل شخص يتعامل معي بوحشية لأنني إنسان طيب وأخاف أن اؤذي أحدا.
قلت: الطيبة لا تعني أن تترك الوحوش تنهشك!
فردّ: أخاف من الله
قلت: ومتى كان الدفاع عن النفس ضد مشيئة الله؟
لن أخوض أكثر في بقية الحديث، لكنني أود أن أعلق على ما سبق وذكرته منه.
عندما أقول أنا أسعد امرأة في العالم والأكثر سلاما، لا أقصد أنني لم أحزن ولم أتألم، فالحزن والألم جزء من الطبيعة البشرية وعامل فعّال في ديناميكية الحياة.
الحزن ليس الوجه المغاير للسعادة، بل التعاسة هي ذلك الوجه.
نعم، لم أشعر يوما أنني تعيسة، ولكنني حزنت مرارا كردّة فعل على حدث ما.
الحزن شعور عابر يثيره حدث مؤلم، أما التعاسة فهي حالة عقلية دائمة تستنزف طاقة البشر وتحولهم إلى
دمى لا حياة فيها، يشعرون عندها أن لا قيمة ولا فائدة لوجودهم
بالمناسبة، استطيع ان أعمّم وأقول: لم أصدف في حياتي متدينا مهووسا وخضت قليلا في حياته إلا واكتشفت أنه تعيس إلا حد الاستنزاف، والإفراط في تدينه ليس أكثر من وهم، وهم يشبه إلى حد بعيد وهم الغريق عندما لا يجد سوى قشة فيتعلق بها.
الإنسان يملك إرادة حرة وهي وحدها، ولا شيء غيرها، ينقذه من تعاسته
أما الله فهو صوت الضمير في أعماقه، ذلك الصوت الذي يعزز إرادته ويضيء له الطريق
ولقد أضاء لي الطريق حتى صرتُ أرى ثقب الإبرة خلال لحظة ظلام دامس
فأدخل فيه الخيط كي أشبك جروحي وجروح الآخرين
عبد الله السيد ولد اباه*:
“يورغن هابرماس” هو بدون شك أهم فلاسفة الغرب الأحياء وقد وصل سنّ الرابعة والتسعين، وأصدر عشرات الكتب الفلسفية والاجتماعية الهامة، آخرها كتابه المرجعي في تاريخ الفلسفة من مجلّدين.
لقد كتبتُ حوله الكثير وصحبتُ أعماله الفكرية منذ مطلع الثمانينات، بيد أنّ الحديث اليوم يتعلّق بالموقف الذي عبّر عنه في عريضة وقّعها باسمه مع آخرين، بخصوص الأحداث المأساوية التي تمرّ بها غزّة حاليًا.
ما استوقفني في العريضة أمران، أوّلهما التأكيد على “شرعية” العدوان الإسرائيلي على سكّان غزّة من منظور “حق الدفاع عن النفس”، وثانيهما القول بأنّ اتهام إسرائيل بشنّ حرب إبادة ضد الشعب الفلسطيني مظهر من مظاهر العداء للسامية!
لم يذكر في العريضة أيّ شيء عن الاحتلال الإسرائيلي وحق المقاومة الفلسطينية الذي تكفله المواثيق والقوانين الدولية، ولم يتم الاعتراف بجذور وخلفيات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الذي لم يبدأ يوم 7 أكتوبر.
لقد استغرب الكثيرون مواقف الفيلسوف الألماني العجوز الذي يقدّم نفسه بكونه آخر مدافع عن تركة التنوير والحداثة الإنسانية، وأكبر معارض لليمين المتطرّف في أوروبا والنزعات الشعبوية العنصرية المتنامية في القارة. والواقع أنّ هابرماس لم يُخفِ يومًا من الأيام نزعته المركزية الغربية، من خلال الصراع المحتدم الذي خاصه ضد الأفكار التفكيكية والنقدية في الفلسفة الغربية من نيتشه إلى هايدغر وفوكو وديريدا.
ما حاربه هابرماس لدى هذا التيار الواسع الذي يصفه بالعدمي هو التشكيك في السردية العقلانية التنويرية لأوروبا الحديثة، برفض القول بالخلفيات السلطوية والإقصائية في الخطابات المعرفية والعلمية التي تدعي الكونية الموضوعية والمحايدة.
وعلى الرغم من تشبث هابرماس بالأنموذج التواصلي المفتوح القائم على التداول البرهاني الحر، إلا أنه في الحقيقة لم يسعَ يومًا إلى اكتشاف الثقافات الأخرى، بما يبرز جليًا في كتابه الأخير حول تاريخ الفلسفة الذي ينطلق فيه من مركزية اللاهوت الأوروبي في تشكّل المنظومات الفلسفية.
ما علاقة هذا التوجّه الفلسفي بتعاطفه مع إسرائيل وتنكّره لحقوق الشعب الفلسطيني الذي يتعرّض لحرب إبادة جماعية غير مسبوقة؟
العلاقة واضحة، وهي أنّ هابرماس عاجز عن التفكير خارج مقاييس الكونية الغربية حيث تشكّل الحالة الإسرائيلية امتدادًا طبيعيًا للسياق الأوروبي، ومن هنا إشارته إلى حساسية موضوع المحرقة اليهودية بالنسبة لألمانيا، وكأنّ الشعب الفلسطيني مسؤول عن هذا الحدث الذي تمّ في العمق الأوروبي.
الغريب أنّ هابرماس المدافع بقوة عن الشرعية المعيارية الإجرائية التي هي أساس المدونة القانونية الحديثة والمتشبث بعقلانية المجال التواصلي خارج أي تدخل للمرجعيات الدينية المقدسة، لا يشعر بالتناقض وهو ينحاز لأخطر الأنظمة اليمينية المتطرّفة حيث تتحالف الصهيونية الدينية المتشدّدة مع الأحزاب العنصرية الفاشية .
وصفه الفيلسوف الألماني “بيتر سلوتردايك” بأنه “السليل الأخلاقي للنازية”
لقد تعلّل هابرماس بما أسماه استثناء الديمقراطية الإسرائيلية، دون أن يقف عند المرجعية المسيانية للدولة التي حصرت هويتها القومية في مكوّنها اليهودي، بما يعني إقصاء خمس سكانها وهم من نسيجها المسلم والمسيحي الأصلي، كما أقامت في المناطق المحتلّة نظام تمييز عنصريًا لا يختلف في شيء عن حالة جنوب إفريقيا السابقة حسب إقرار رئيس الموساد السابق تامير باردو.
كيف يمكن الحديث عن دولة ديمقراطية تقوم على العنصرية والتطهير العرقي، وترفض معايير المواطنة المتساوية وتكرّس الاحتلال الاستيطاني؟
لقد وصف الفيلسوف الألماني “بيتر سلوتردايك” مفكّر التواصلية هابرماس بأنه “السليل الأخلاقي للنازية”، ويعني بهذه العبارة أنه ينتمي للفكر نفسه والمرجعية النظرية نفسها وإن اعتمد قاموسا أخلاقيًا عقلانيًا. هل يمكن من هذا المنظور لفيلسوف أوروبا الكبير أن يستوعب المأساة الفلسطينية التي هي بالفعل حرب إبادة حقيقية، وكل من يبررها هو شريك في العدوان والمذبحة؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*فيلسوف وباحث وكاتب وأكاديمي موريتاني
جلـ ... منار
ترامب الثاني: انتظار الفاشية خلف انتصار الـ”ماغا”!
نشرت
قبل أسبوعينفي
9 نوفمبر 2024من قبل
التحرير La Rédactionصبحي حديدي:
بعد الهزيمة المدوية التي مُني بها الحزب الديمقراطي الأمريكي، في شخص مرشحته للرئاسة كامالا هاريس ومقاعد مجلس الشيوخ في وست فرجينيا ومونتانا وأوهايو؛ لم تكن مفاجأة أن النقد الأوضح لخطّ الحزب واستراتيجيته أتى من أحد كبار “المشبوهين المعتادين” القلائل جداً في نهاية المطاف: السناتور برني ساندرز.
“ساندرز” يعتبر نفسه مستقلاً، ولكنه ينضوي ضمن تجمّع الديمقراطيين في مجلس الشيوخ ولا ينأى عنهم إلا في مناسبات قليلة؛ لأنه، في واقع الأمر، محسوب عليهم في أعمّ المناسبات.
ما يقوله ساندرز اليوم ليس جديداً من حيث المبدأ، أو هو لا يتصل أساساً باندحار هاريس والحزب الديمقراطي، لأنّ إهمال أولويات الطبقة العاملة، كما يساجل ساندرز اليوم، ليس خياراً طرأ على الديمقراطيين خلال الأشهر القليلة التي أعقبت عزوف جو بايدن عن الترشيح وصعود نجم هاريس؛ بل هو قديم ومتقادم وجزء لا يتجزأ من الشطر الرأسمالي في فلسفة الحزب الديمقراطي، على غرار الحزب الجمهوري وإنْ بفارق هنا أو هناك. كذلك يحيل ساندرز بعض أسباب الهزيمة الأخيرة، بل يوحي ضمناً بأنها الأبرز: “بينما دافعت قيادة الحزب الديمقراطي عن الأمر الواقع، كان الشعب الأمريكي غاضباً وأراد التغيير. وكان على حقّ”.
ليس تماماً، أو على الأقلّ ليس بمعدّل 71.7 مقابل 66.8 مليون ناخب، والفوز في التصويت الشعبي للمرّة الأولى بالنسبة إلى مرشح جمهوري منذ سنة 2004؛ و295 مقابل 226، في المجمّع الانتخابي؛ وليس في 27 مقابل 18، على صعيد الولايات؛ وليس وقد اتضح أنّ أداء هاريس كان أضعف من أداء بايدن 2020 في كلّ الولايات… التأزم، استطراداً، أبعد من مجرّد “غضب” شريحة من الشعب الأمريكي؛ والهزيمة هذه ليست أقلّ من فصل جديد في مسلسل طويل من انتقالات عاصفة وتحوّلات كبرى يعيشها المجتمع الأمريكي، فلا تقتصر على الحزبين الديمقراطي والجمهوري وحدهما، بل تمسّ سائر فئات الشعب وطبقاته، على أصعدة شتى اجتماعية ــ اقتصادية، ثمّ سياسية ومعنوية وأخلاقية وثقافية، وسواها.
في الوسع الابتداء من حقيقة أولى بسيطة، ماثلة للعيان وأوضحتها أنساق التصويت الاجتماعية والجغرافية والعُمْرية، مفادها أنّ الولايات المتحدة بعد 248 سنة على إعلان استقلالها ليست، بعدُ، مستعدة لانتخاب امرأة إلى منصب الرئاسة؛ وهيهات، تالياً، أن تكون جاهزة لانتخاب امرأة من أصول مهاجرة، آسيوية وسوداء البشرة في آن معاً. وفي باطن هذا المعطى الأول لوحظ أنّ تصويت المجموعات الهسبانية ذهب إلى ترامب بمعدّل 45 بالمائة، رغم التصريحات العنصرية البغيضة التي شهدتها بعض تجمعات ترامب الانتخابية، على مسمع ومرأى منه (كما في تعليق توني هنشكليف ضدّ بورتو ريكو بوصفها “جزيرة القمامة” مثلاً)؛ وهذا فضلاً عن أغلبية عالية لصالح ترامب في أوساط الرجال، لاعتبارات ذكورية لا تخفى.
وجهة أخرى في استدلال مغزى مركزي خلف الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة هي تلك التي تبدأ من تصريح ترامب، خلال خطبة انتصاره، بأنّ الـMAGA (مختصر للحروف الأولى من شعار ترامب الانتخابي باللغة الإنكليزية: جَعْلُ أمريكا عظيمة مجدداً) هي ‘أعظم حركة سياسية في التاريخ’؛ ليس لأنها كذلك بالفعل، فهي أبعد ما تكون عن أيّ طراز من العظمة حفظه التاريخ، بل لأنّ مكوّنات الاستيهام فيها حرّكت عشرات الملايين خلف ترامب: أشدّ تأثيراً من الاقتصاد ومسائل التضخم والقدرة الشرائية، وأدهى استقطاباً من رهاب اللاجئين والمهاجرين والأجانب، وأعمق دغدغة للكوامن الفاشية التي تصاعدت وتتصاعد في نفوس أمريكيين كُثُر ابتداء من العقدين المنصرمين.
كيف يُلجَم رجل كهذا وهو يسيطر على البيت الأبيض، ومجلس الشيوخ، ومجلس النوّاب، والمحكمة العليا، فضلاً عن كونه القائد الأعلى الفعلي للقوات المسلحة؟
وفي قلب الـ”ماغا” كان يتنامى هوس “القومية الأمريكية” الذي لم يعد غريباً أو ناشزاً أو نادر الاستخدام كما كانت الحال قبل صعود ترامب، ومنذ شيوع هستيريا تعظيم أمريكا سنة 2015، حين تضاعفت أكثر فأكثر النزعات العنصرية والمناطقية، وفلسفات “التفوّق” العرقي الأبيض. كذلك، في جزء متمم، لم تعد الولايات المتحدة حصينة تماماً إزاء مؤثرات العالم خارج المحيط، ولم يعد تكوينها المجتمعي ــ الذي ساد الاعتقاد بأنه متعدد المنابت، تعددي الأعراق ــ بمنأى عن يقظة القوميات هنا وهناك، في العالم بأسره ثمّ في أوروبا حيث المنبع الثقافي الذي يغذّي قسطاً غير ضئيل من “القِيَم” الأمريكية.
وكي لا يُظلم ترامب أو تُنسب إليه وحده شرور الـ”ماغا” فإنّ غالبية الإدارات الأمريكية السابقة، منذ عهد وودرو ولسون وليس رونالد ريغان أو جورج بوش الأب والابن؛ لم تفعل سوى محاولة تطوير المشروع الإمبريالي الأمريكي، السياسي والاقتصادي والثقافي، تحت هذه المظلة بالذات: سطوة أمريكا العظمى! ولم نعدم كاتباً أمريكياً ظريفاً جنح ذات يوم إلى الشكوى من “واجب مقدّس” أُلقي على عاتق أمريكا تجاه العالم، اتخذ سلسلة تسميات مثل “الإمبراطورية بالصدفة العمياء” و”الإمبريالية بالتطوّع” و”العبء الجديد للرجل الأبيض”. وفي كتاب بعنوان “السلام الأمريكي” صدر للمرّة الأولى سنة 1967 ولم تمنع حرب فيتنام من جعله مرجعاً أثيراً لدى شرائح واسعة من القرّاء في أمريكا، كتب رونالد ستيل: “على النقيض من روما، إمبراطوريتنا لم تلجأ إلى استغلال أطرافها وشعوبها. على العكس تماماً… نحن الذين استغلتنا الشعوب واستنزفت مواردنا وطاقاتنا وخبراتنا”!
والرجل، ترامب، الذي أعلن على الملأ أنّ إعادة انتخابه سوف تخوّله أن يكون دكتاتوراً؛ وأنه سيثأر من خصومه، وعلى رأسهم أولئك الذين كانوا مستشارين في إدارته أو وزراء أو رؤساء أركان أو محامين، بمن فيهم نائبه نفسه؛ وأنّ عودته إلى البيت الأبيض سوف تريح الأمريكيين من واجب الذهاب إلى صناديق الاقتراع الرئاسية، مرّة أخرى أو إلى الأبد… لماذا سوف يعفّ، هذا الرجل بالذات، عن الذهاب إلى أقصى مدى في الفاشية والتسلط وترويض ما يتبقى من قواعد/ نواهٍ ديمقراطية في نظام الولايات المتحدة؟ للبعض أن يتشبث بمقولة رسوخ هذا النظام، وأنه أقوى من أيّة سلطات يمنحها الدستور للرئيس الأمريكي؛ ولكن… كيف يُلجَم رجل كهذا وهو يسيطر على البيت الأبيض، ومجلس الشيوخ، ومجلس النوّاب، والمحكمة العليا، فضلاً عن كونه القائد الأعلى الفعلي للقوات المسلحة؟
من المنتظَر، بالطبع، أن يغرق كبار “نطاسيي” الحزب الديمقراطي، المختلفين عن ساندرز من حيث المنهج والغاية والوسيلة، في ترحيل أسباب الهزيمة إلى عوامل مثل تأخّر بايدن في قرار عدم الترشيح، أو اختيار تيم والتز شريكاً على البطاقة مع هاريس، أو الأدوار التي لعبتها وسائل الإعلام اليمينية واليمينية المتطرفة، أو تدخّل الاستخبارات الروسية لصالح ترامب من زاوية عدم حماس الأخير للحرب في أوكرانيا، أو حتى الآثار (أياً كانت) لعجز هاريس والديمقراطيين عن كسب الصوت العربي في ولاية متأرجحة مثل ميشيغان؛ وسوى ذلك، ممّا هو كثير متعدد ومتشابك، محقّ أو باطل أو في منزلة بينهما. الراسخ، مع ذلك، أنّ فوز ترامب ليس اختراقاً تاريخياً لشخصه وشخصيته وما بات يمثّل في وجدان ملايين الأمريكيين، فحسب؛ بل هو انتصار ساحق للـ”ماغا” في مدلولاتها الأعمق، والأبعد أثراً وديمومة، من المحتوى الركيك الذي يعلن جعل أمريكا عظيمة مجدداً.
وما يصحّ أن يُنتظر من ترامب الثاني ليس المزيد من التطرّف في السياسة الخارجية، وملفات حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة، وتعزيز التطبيع مع السعودية خصوصاً، وتقليص الحضور الأمريكي في الأطلسي، فقط؛ بل ما هو آت على صعيد الداخل الأمريكي، أيضاً، لجهة انحسار يمين الجزب الجمهوري، مقابل صعود اليمين المتشدد: العنصري أكثر، والانعزالي أشدّ، والشعبوي أنكى، و… الفاشيّ الأعتى.
ـ عن “القدس العربي” ـ
صن نار
- ثقافياقبل 22 ساعة
قريبا وفي تجربة مسرحية جديدة: “الجولة الاخيرة”في دار الثقافة “بشير خريّف”
- جور نارقبل 22 ساعة
ورقات يتيم … الورقة 89
- ثقافياقبل يوم واحد
زغوان… الأيام الثقافية الطلابية
- جلـ ... منارقبل يومين
الصوت المضيء
- جور نارقبل 3 أيام
ورقات يتيم ..الورقة 88
- ثقافياقبل 4 أيام
نحو آفاق جديدة للسينما التونسية
- صن نارقبل 4 أيام
الولايات المتحدة… إطلاق نار في “نيو أوليانز” وقتلى وإصابات
- صن نارقبل 4 أيام
في المفاوضات الأخيرة… هل يتخلى “حزب الله” عن جنوب لبنان؟