لم يحظ كاتب مصري أو عربي في التاريخ الحديث باهتمام مثلما حدث مع محمد حسنين هيكل. ولم تكتب الدراسات والأبحاث والمقالات عن كاتب سياسي مثلما كتب عنه. وكذلك لم يهاجم كاتبا ويتعرض لنقد شديد مثلما هوجم.
فقد عاش هيكل حياة حافلة وتجربة قلما تتكرر مع صحفي في التاريخ. ولذلك كانت العيون عليه والآذان أيضا تترقب كل ما يكتبه وكل ما يقوله وتنتظر ما سيكتب وما سيقول.
نحن أمام صحفي التصق بقمة السلطة ووصل إلى ذروة المجد المهني وبطبيعة الحال كوّن صداقات وأصبحت لديه عداوات من زملاء المهنة ومن السياسيين الذين ارتبطت بهم كتاباته يوما ما.
في عهد جمال عبدالناصر كان هيكل في قمة قوته ونفوذه. فكان الاعتراض على ما يكتب بمثابة الاعتراض على صوت النظام الحاكم فمحاولة الهجوم على رأي هيكل وقتها كان أشبه بعملية انتحارية قد تودي بصاحبها إلى التهلكة.
مقالات هيكل
وحدث أن كتب هيكل عام 1965 سلسلة مقالات بعنوان “حديث عن العمل الداخلي ومشاكله”. وفي هذه السلسلة من المقالات شن هجوما عنيفا على الحركة الشيوعية المصرية. وكتب بالنص: “ولقد كان مؤسسو الحركة الشيوعية في ذلك الوقت من الأجانب عموما ومن اليهود بالذات أذكر منهم “هنري كورييل”.
هذه العبارات كانت كفيلة بفتح باب من الهجوم العنيف على هيكل من أقطاب الحركة الشيوعية المصرية. ولكن الجميع صمت لأن هيكل وقتها كان في حماية عبدالناصر. وبعد وفاة عبدالناصر بدا أن السياج القوي الذي كان يحصن به هيكل نفسه قد زال أو في طريقه للزوال برغم قربه من السادات في بداية حكمه.
مقال نشر في الأخبار عن هيكل
تحية للرجال
إلا أن باب النقد والهجوم الحقيقي على هيكل قد بدأ. وما أن كتب هيكل مقاله الشهير”تحية للرجال” في مارس 1971 حتى انهالت عليه صحيفة الجمهورية بالهجوم والتقريع وهو ما لم يكن يحدث سابقا. فقد كتب عبدالهادي ناصف عضو الأمانة العامة للاتحاد الاشتراكي مقالا بعنوان “تحية مردودة من الرجال إلى الأستاذ هيكل”.
ثم يكتب أنيس منصور عام 1972 مقالا طويلا في آخر ساعة بعنوان “صداقة الحظ والشرف”. يقول في مقاله: “إن هيكل لم يكن الصدى والظل لعبدالناصر دائما لقد كان الصوت والضوء أيضا. فقد كان حريصا أن يؤكد للقارئ أن المعنى لعبدالناصر والشكل له وكثيرا ما كان يسرف في الشكل تأكيدا لذاته”.
وموسى صبري فتح النار على غريمه القديم اللدود. إذ كتب مقالين في الأخبار في ديسمبر 1972 بعنوان “المبشرون بالهزيمة- ماذا يريدون لنا؟ وماذا يريدون بنا؟”.
كتب فيه: “إن هيكل يستغل أجواء الديمقراطية لكي يبشر بالهزيمة ويشيع اليأس والبلبلة والتشكيك بين الجماهير التي تعد نفسها لقتال المصير موحيا للجماهير بأنه اللسان الرسمي المتحدث باسم الدولة”.
الهجوم على هيكل
ثم يستمر موسى صبري في هجومه قائلا: “أننا لا نتصدى لمجرد رأي يقال بل لاتجاه شرير تستحثه الكلمة وتدفعه أن يصل إلى منتهاه”. وفي عام 1972 ألقت المباحث القبض على المحامي اليساري أحمد نبيل الهلالي. وكان من ضمن المحجوزات 5 ملفات تحتوي على دراسة عن هيكل كتبها الهلالي وكان يعدها للنشر في كتاب.
وعندما سألوه عن تلك الملفات أجاب: أنه يعتقد أن فكر هيكل ضار. وأنه يرى أن مقالات هيكل تثير البلبلة في النفوس وتشيع اليأس وتقدم مفاهيم خاطئة وضارة. كما كان الهلالي محامي علي صبري وقد استمع لتسجيلات دارت بين علي صبري وشعراوي جمعة بها تقييم لهيكل فوجد هذا التقييم مناسبا لضمه للدراسة. وتحفّظ الأمن على الدراسة ويبدو أن الهلالي لم يتحمس لإعادة كتابتها مرة أخرى.
كل ذلك وهيكل على رأس الأهرام لم يخرج بعد من مملكته. وفي 2 فيفري 1974 صدر قرار بإقالة محمد حسنين هيكل من الأهرام. وتعيين”علي أمين” مديرا لتحرير الأهرام خلفا له. ولم ينتظر كثيرا علي أمين ليبدأ الهجوم بالغمز واللمز والتصريح أحيانا على هيكل. فقد استعاد عمود “فكرة” مرة ثانية بعد أن تركه في الأهرام منذ عام 1965.
الطريق إلى رمضان
وبدأ هيكل للتفرغ لكتابة كتابه “الطريق إلى رمضان” وكانت إدارة الأهرام قد آلت وقتها إلى إحسان عبدالقدوس كرئيس لمجلس الإدارة وعلي حمدي الجمال رئيسا للتحرير. وعندما علمت إدارة الأهرام بكتاب هيكل الجديد اشترت حق نشره على حلقات من دار النهار.
ونشرت الأهرام نفس الحلقات بالتزامن معها. ومع الحلقة الأخيرة نشرت مقالا طويلا على نصف صفحة موقّع باسم”الأهرام” تحت عنوان: “الحقيقة.. ونصف الحقيقة.. ولا حقيقة”. وكان المقال هو عبارة عن هجوم حاد شديد اللهجة على هيكل وكتابه.
بدأ المقال بداية غريبة فريدة من نوعها. لأول مرة يعترف رئيس تحرير جريدة أنه نشر كتابا لم يقرأ منه حرفا وأن موضوع الكتاب وقيمته لم يكن هو الأساس للنشر. ولكن الأساس هو الإثبات للعالم أن هيكل لم يكن ممنوعا من الكتابة في مصر وأنه مخطئ خطأ شديدا بنشره خارج مصر.
تصريح من السادات
كان ذلك عام 1975.. ولم تكن موجة الهجوم على هيكل قد بلغت ذروتها بعد. فالذروة بدأت في عام 1977 حينما كان هيكل يكتب مقالات عن الموقف التفاوضي المصري في الصحف العربية وأدلى بأحاديث لتليفزيون المجر ولمحطة “إن. بى. سي”- الأمريكية ولجريدة بوربا اليوغوسلافية قبل عشرة أيام من بدء رحلة الرئيس السادات إلى بون وباريس وواشنطن.
وإذ بالسادات وهو في ألمانيا يدلي بحديث مع المبعوثين المصريين هناك. ويقول: “الصحفي الذي يهاجمنا لحساب السوفيات كان عميلا للمخابرات الأمريكية”. وكان تصريح السادات هذا إيذانا بفتح النار على هيكل في مصر من كل جانب.
وبدأت الصحف تكتب. فالأهرام التي كان هيكل رئيس تحريرها من سنوات تنشر في باب كلمة الأهرام مقالا بعنوان “محامي الشيطان” تصف هيكل بالحاقد الذي أعماه زوال السلطة. وجدير بالذكر أن رئيس التحرير وقتها كان أحد تلامذة هيكل وهو حمدي الجمال.
ويكتب ثروت أباظة مقالا بعنوان “ليست مصادفة ولا عجيبة” واصفا هيكل بأنه يبعث صوته النشاز ليشكك في سياسة الرئيس. ويكتب عبدالحميد الاسلامبولي مقالا بعنوان “المزامير الهيكلية في محراب السوفيات……
يخجل القلب من نعيك، ويضيق الحرف برثائك، تفيض المشاعر حزناً وصدمة إنّما لا يتّسع الفضاء الالكتروني لترجمتها.. تربّطت أصابعي عن النقر على لوحة الحروف واحترقت دموعي غزارة في المُقل.
غبت أيّها المتمرّد الأوّل يا من نفضت الغبار عن فكرنا لنستنير وبقينا جهالاً!
هذا المقال أوائل البدايات فيالصحافة كتبته في 2018 وكان من أجمل ما كتبت لأجمل من عنه كتبت
تأثّرت بك وانتظرت عودتك لأعاصر شيئاً من فنّك الأسطوري.
كان مقالي حلماً جميلاً لكنّك رحلت دونما وداع كما أعزّ أحبّائي.
ثقُل كأس الموت يا تمّوز، حرقته لاذعة ترفض التروّي فمهلاً على المواجع
شخصٌ بمثابة الحلم تتمنّى إدراك حقيقته و سبر عمق أغواره، إلّا أنّك إن نلت شيئاً عنه تجد أنّك لا زلتَ على البرّ المربِك، الأكثر حيرةً.
لطالما تمنيّتُ أن أفهم من هو؟وكيف يُفكّر؟ ومن أين يأتِ لنا بكلّ تلك الحقائق الصادمة؟ السّاخرة والآخذة.
لِمَ هو بهذا التعقيد وتلك السلاسة في وقتٍ واحد؟!
كلّما صعُبَ عليك فهمه هان، و كلّما هانت كلماته استصعبت.
ذلك السّهلُ الممتنع ممتلئٌ بالشغف وكثير البرود، أستمعُ إلى حواراته القليلة جدّاً فأتمنّى أن أجد لتساؤلاتي أجوبة..
زياد الرّحباني اعترافات مشاكسة عمّا يجول في خاطره، يفاجِئُكَ ببساطة مفرداته وصعوبة تقبّلها في آن، حين يقول ” أنا مائة ألف شخصيّة فايتين ببعض” ويذهلك بحقيقةٍ أمرّ.
مضيفاً “بعد 5 دقائق من ولادتك رح يقرّروا دينك، جنسيتك، مذهبك، طائفتك، ورح تقضّي عمرك عم تدافع بغباء عن إشيا ما اخترتا”!! حتّى أنّه علّق وانتقد تغيير التوقيت حيث قال ساخراً:
” كل سنة بتقدموا السّاعة وبترجعوا لورا 10 سنين”.
هل هو بهذه العبقريّة التي يبدو عليها أم نحن بتنا جهالاً، لكثرة ما خذلتنا المعرفة في هذا الوطن الكئيب.
لماذا لا نرى ما يراه و نفقه ما يقوله، ونفكّر ولو قليلاً بنهجٍ يماثله؟!!
ليس زياد الرّحباني ذلك الموهوب، المؤلّف المسرحيّ أو الكاتب والملّحن الموسيقيّ فقط.
هو مَن لا تفوته فائتة في السياسة والأدب والفن والموسيقى والمجتمع ودائماً ما يُفصّلُ اعتراضات واتّهامات للجميع دون استثناء..
إنّه المشاكس الحذر، الصامت طويلاً ولكن إن حكى، أبكى التخلّف وأحبط مفاعيل الجهل، وصبَّ لينَ الزّيت على أفواه النار.
من هنا فإنّ المسرح اللّبناني في غياب زياد ناقصٌ وعند مستوى خطِّ الفقر!!
إلّا أنّه يغيب فجأةً وينقطع عن محبّيه عمراً. ليمنَّ علينا مؤخراً بعودةٍ خجولة أطلق فيها الوعد بالبقاء.
وها نحن هنا بعد سنوات من القطيعة المجحفة تلك، لا نُريدُ رحبانيّات متفرّقة، بل تتملّكنا رغبةٌ جامحة بلوحةٍ عنوانها فيروز وزياد الرحبّاني يغنيّان معاً، ويكسران كبرياء أفقٍ مثقّلٍ بانحطاط موسيقيّ!
ها هو المجنون العبقريُّ يحطّم صومعته ويُلقي علينا بسحر التراتيل.. بذكاءٍ فطري يضبطُ التوقيت الذي يراه مناسباً. مهما انتظرنا يبدو العناء مستحقّاً أمام جنون العظمة.
حين تدرك أنّ وحدَها النّسور من تغرّد خارج السّرب، وحين تقرّر تعود إلى أحضان فيروزها لتصبح الأغنية صلاة..
في زمن تتكاثر فيه الأقلام المتطفّلة على النقد الفني، وتختبئ وراء قناع “المحبة الصامتة” لتبثّ سمًّا باردًا في جسد الإبداع، يطلّ علينا مقالٌ “غير ودّي” عن حفل السيّدة ماجدة الرومي في “أعياد بيروت”، لا يحمل من الحسّ النقدي سوى مفردات طبية سطحية ومصطلحات صوتية غير واضحة أو مبررة ومبتورة السياق.
إن الحديث عن انتقال الصوت من طبقة الـ”Soprano Lyric” إلى “Mezzo-Soprano” أو حتى إلى “Alto” هو كلام صحيح علميًا من حيث التدرج الطبيعي لأي صوت بشري، لكنه يصبح مضللاً عندمايُطرح كأداة للطعن، لا كظاهرة بيولوجية طبيعية يعرفها كل دارس حقيقي لفسيولوجيا الصوت. فحتى مغنّيات الأوبرا العالميات ينتقلن تدريجيًا في طبقاتهن مع التقدم بالعمر، دون أن يُعتبر ذلك سقوطًا فنّيًا، بل نضجًا صوتيًا وإعادة تموضع ذكي للريپرتوار.
أما مصطلح “Tremolo” الذي استخدمته الكاتبة، (وليتها شرحت لنا نحن البسطاء اللي فهماتنا على قدنا معنى المصطلح الذي زودها به أحد المطرودين من حياة الماجدة) وهي استخدمته على عماها فأساءت فهمه على ما يبدو. فالـTremolo ليس عيبًا صوتيًا بالضرورة، بل أسلوب تعبير ديناميكي مقصود في الأداء، يُستخدم في الموسيقى الكلاسيكية والشرقية، ويُضفي بعدًا دراميًا على الجملة الغنائية، لا سيما في الأعمال العاطفية أو الإنسانية. لكنه يتحوّل إلى “اهتزاز غير إرادي” فقط في حالات مرضية مُثبتة طبيًا، وهو أمر لا ينطبق على الماجدة ولم تثبته أي جهة موثوقة في حالة السيدة ماجدة، بل استنتجته الكاتبة بإذن نقدية هاوية غير مؤهلة سريريًا أو أكاديميًا.وربما بأذن مستعارة ، من شخص ما !!
إن وصف الكورال بـ”العكّاز الصوتي” يعبّر عن جهل صارخ بوظيفة الكورال في الموسيقى الكلاسيكية والحديثة وكل الأغاني على حد سواء. الكورال ليس ترميمًا لعيوب، بل جزء أساسي من البنية الهارمونية، يعمل كدعامة جمالية وتعبيرية، سواء في موسيقى “باخ” أو أغاني فيروز أو إنتاجات اليوم الحديثة. حتى أم كلثوم ختمت حياتها الفنية بأغنية فيها كورال ومسجلة في الستوديو، وهي أغنية “حكم علينا الهوى”، فهل غرام بليغ حمدي بإضافة الكورال على أغلب ألحانه كان “عكازاً” لوردة وعبد الحليم وكل من لحّن لهم؟ استخدام الكورال لا يعني ضعفًا بل انسجامًا مع شكل موسيقي راقٍ يسمّى “الهارموني الكورالي”.
أما التلميح إلى أن السيدة ماجدة الرومي “تصارع للبقاء”، فذاك تعبير درامي هابط يتنافى مع اللياقات كما مع حقيقة ما رأيناه وسمعناه: فنانة قديرة تتحكّم بمسرحها، تدير الفرقة بوعي موسيقي عالٍ، تؤدّي بجملةٍ صوتية مدروسة تحترم مساحة صوتها الحالية، وتوظّف إمكانياتها التقنية بإحساس رفيع دون أن تفرّط بكرامتها الفنّية. ذلك يسمّى في لغة الموسيقى “interpretative maturity” أي النضج التعبيري، وليس انهيارًا كما يحاول البعض التسويق له بلغة “فيسبوكية” مستهلكة.
وأخيرًا، المقارنة بين ماجدة وصباح وفيروز مضلّلة وغير دقيقة. فكل صوت حالة مستقلّة، وكل مدرسة غنائية تُقاس بمعايير مختلفة. وإن كانت فيروز قد اختارت الابتعاد، في مرحلة ما بعد السبعين ،فذاك قرار شخصي لا يُفرض كنموذج على الأخريات. لأن أم كلثوم ظلّت تغني حتى العقد الثامن من عمرها، وهي راعت كما هو معروف طبقاتها الصوتية منذ بلغت الستين من عمرها. وهذا ما ما فات كاتبة المقال ذكره.
نحن لا نصفّق من دون وعي، بل نُصغي بفهم. وما سمعناه من ماجدة في “أعياد بيروت” كان صوتًا لا يزال يُغنّي بروح تُحسن استخدام تقنيات الـVibrato Controlled، وتعرف متى تُمسك بالجملة ومتى تُسلمها للمرافقة الموسيقية، دون أن تفقد شخصيتها الأدائية.
السكوت الذي دعا إليه كاتب المقال باسم “المحبّة”، هو صمت الجاهلين. أما المحبّة الحقيقية، فهي أن نعرف الفرق بين الهبوط الصوتي، وبين إعادة توزيع القدرات وتكييف الأداء بما يليق بمقام الفنّ النبيل…
كان مثيرا ولافتا أن طرفي الحرب الإيرانية الإسرائيلية التي امتدت لـ(12) يوما، يعتبر نفسه منتصرا.
فور وقف إطلاق النار خرج الإيرانيون إلى شوارع وميادين طهران يحتفلون بالنصر، يرددون الهتافات، ويتعهدون بمواصلة القتال في جولات أخرى.
بذات التوقيت، سادت التغطيات الإعلامية والسياسية الإسرائيلية نزعة انتصارية إجماعية.
ألقى رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” كلمة أطلق عليها “خطاب النصر”.
من الذي انتصر حقا؟!
أسوأ إجابة ممكنة إصدار الأحكام بالأهواء، وتنحية الحقائق جانبا.
إنها جولة في صراع طويل وممتد، تليها جولات أخرى بعد وقت أو آخر.
القضية الفلسطينية جوهر ذلك الصراع.
لم تكن من أعمال المصادفات عودة الزخم مرة أخرى إلى ميادين القتال في غزة فور وقف إطلاق النار على الجبهة الإيرانية.
“حان وقت التركيز على غزة لإنهاء حكم حماس واستعادة الرهائن”.
كان ذلك تصريحا كاشفا للحقائق، أطلقه رئيس الأركان الإسرائيلي “إيال زامير” في ذروة دعايات النصر.
إنهما حرب واحدة.
هكذا بكل وضوح.
أكدت المقاومة الفلسطينية المعنى نفسه في عملية مركبة بخان يونس، أوقعت أعدادا كبيرة من القتلى والمصابين، وأثارت الفزع في صفوف الجيش الإسرائيلي.
لا يمكن إنكار مدى الضرر الفادح، الذي لحق بالمشروع النووي الإيراني، جراء استهدافه بغارات إسرائيلية وأمريكية مكثفة ومتتالية.
هذه حقيقة.. لكنه يستحيل تماما أي زعم إنها قوضته، أو أن أمره انقضى.
لم يتمالك الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، الذي انخرط بصورة مباشرة وغير مباشرة في الحرب على إيران، أعصابه فأخذ يكيل الشتائم المقزعة لمحطة “سي. إن. إن”، على خلفية تشكيكها في روايته.
“إنها حثالة”!
لم يكن لديه دليل قطعي أن العملية الأمريكية، التي استهدفت ثلاث منشآت نووية، “أصفهان” و”ناطنز” و”فوردو” الحصينة في أعماق الجبال، حققت أهدافها.
حسب تسريبات عديدة فإن السلطات الإيرانية نجحت في نقل اليورانيوم المخصب وأجهزة الطرد المركزية من تلك المنشآت قبل قصفها بقاذفات (B2) إلى أماكن أخرى آمنة.
التسريبات شبه مؤكدة بالنظر إلى عدم حدوث تسرب إشعاعي، أو تلوث بيئي إثر تلك الضربات، التي استخدمت فيها قنابل عملاقة لأول مرة.
يصعب التسليم بـ”الإنجازات” الإسرائيلية في ضرب المشروع النووي الإيراني دون فحص وتأكيد.
بقدر آخر فإنها لم تحقق نجاحا يذكر في تقويض المشروع الصاروخي الباليستي، الذي أثبت قوته التدميرية ودرجة تقدمه، التي ألزمت الإسرائيليين البقاء في الملاجئ لفترات طويلة.
قبل وقف إطلاق النار مباشرة بدت الضربة الصاروخية في بئر السبع، تأكيدا أخيرا على درجة عالية من الفشل الإسرائيلي في إضعاف القدرات الإيرانية.
ثم تبدى الفشل فادحا في طلب إثارة الفوضى بأنحاء البلاد، تفضي تداعياتها إلى الإطاحة بنظام الحكم.
بحقائق الجغرافيا والتاريخ والحضارة، إيران ليست دولة صغيرة أو عابرة.
إنها مع مصر وتركيا الركائز الكبرى في حسابات الإقليم، مهما جرى لها، أو طرأ عليها من متغيرات سياسية.
بقوة إرثها التاريخي تحركت الوطنية الإيرانية لرفض الاستسلام بلا شروط لـ”السلام عبر القوة” حسب تعبير “ترامب”.
تحت الخطر الوجودي توحدت إرادتها العامة، بغض النظر عن أية تحفظات على نظام الحكم.
كان المواطن الإيراني البطل الأول في التصدي لتغول القوة الأمريكية والإسرائيلية.
أبدى الإيرانيون قدرة لافتة على الإحلال في مراكز القيادة والسيطرة تحت أسوأ الظروف، بعدما نال العدوان من قيادات عسكرية وعلمية ذات وزن ثقيل في الضربة الافتتاحية.
في حرب الـ(12) يوما تبدى شيء من التعادل الاستراتيجي، الطرفان المتحاربان تبادلا الضربات الموجعة.
فرضت السلطات الإسرائيلية تكتما مشددا على حجم الأضرار التي لحقت ببنيتها التحتية والعسكرية؛ جراء الضربات الإيرانية، حتى لا يفضي النشر إلى زعزعة ثقة مواطنيها في قدرة جيشهم على المواجهة.
فاقت الخسائر الباهظة أية طاقة على الإفصاح، لا عرفنا عدد القتلى والمصابين، ولا ما هي بالضبط المواقع الاستراتيجية، التي استهدفت، ومدى الضرر الذي لحقها.
المعلومات المدققة من متطلبات إصدار الأحكام.
بصورة عامة تقارب الحقيقة فإننا أمام حالة “لا نصر ولا هزيمة”، غير أن إسرائيل يمكن أن توظف مجريات الحرب لإثارة اليأس من كسب أي معركة ولو بالنقاط.
بدا المشهد الختامي ملغما بالتساؤلات الحرجة.
وجه الإيرانيون ضربة رمزية لقاعدة “العديد” الأمريكية، لتأكيد حقهم في الرد على العمل العسكري الأمريكي داخل أراضيهم ضد ثلاث منشآت نووية.
أُبلِغت مسبقا السلطات القطرية باستهداف القاعدة القريبة من العاصمة الدوحة خشية ردات فعل سلبية.
نُقِلت إلى الأمريكيين فحوى الرسالة الإيرانية.
كان ذلك عملا احترازيا، حتى لا تفلت الحسابات، في وقت توشك فيه الحرب على الانتهاء.
وصفت الضربة الإيرانية بـ”التمثيلية”.
الأقرب للحقيقة، إنه سوء تقدير فادح، لم يكن له لزوم، أو ضرورة، أربك البيئة العربية العامة المتعاطفة مع إيران، كما لم يحدث من قبل.
أثارت الضربة الرمزية شكوكا وظلالا لا داعي لها.
بقوة الحقائق كانت الحرب على وشك أن تنتهي.
الخارجية الإيرانية تشترط وقف الهجوم الإسرائيلي قبل العودة إلى المفاوضات مرة أخرى.
والحكومة الإسرائيلية تطلب وقفا فوريا لإطلاق النار، تحت ضغط الترويع، الذي ضرب مواطنيها، إذا ما وافقت طهران.
الجانبان المتحاربان يطلبان لأسباب مختلفة وقف إطلاق نار.
هكذا توافرت أمام “ترامب” فرصة للتخلص من عبء الحرب على شعبيته.
لم تكن إسرائيل مستعدة لأي اعتراف، بأنها لم تحقق أهدافها من الحرب، لكن الحقائق وحدها تتكلم.