تابعنا على

جور نار

التونسي كي يسمع كلمة “مجلسْ” … يستلبسْ !

في المجلس الأعلى للتربية

نشرت

في

شكرا للإعلامي المُشرق صديق الكلمات البهيجة صاحب برنامج “مجرّد سؤال” على الإذاعة الوطنيّة عزالدين بن محمود، الذي مكّنني يوم الجمعة الماضي من بلورة بعض الملاحظات حول ما يدور خلال الأيام الأخيرة من حديث حول المجلس الأعلى للتربية وضرورة إرسائه كآلية إنقاذ للمنظومة التربوية التونسية مما آلت إليه من هُزال وسوء أداء. فكانت المداخلة التالية التي تمحورت على أربع أفكار أساسية :

منصف الخميري Moncef Khemiri
<strong>منصف الخميري<strong>

ولكن قبل ذلك، أتاح لي السيد بن محمود فرصة التذكير بأن النخبة التونسية بصورة عامة لا تطرح السؤال على نحو “ماذا ستجْنيه تونس من بعث مجلس نيابي أو هيكل قضائي أو هيئة وطنية ما ؟” بل تطرحه دائما على نحو “ماذا يمكن أن يجنيه الأفراد من الجلوس في المجلس أي التموقع داخل هذه المؤسسات ؟” … لذلك، وبمجرّد أن أعلن رئيس الجمهورية أن أكبر الجرائم التي تُقترف اليوم في حقّ تونس هي ضرب منظومة التربية والتعليم، وأنه لا بدّ من الإسراع ببعث مجلس أعلى للتربية يتولّى مهمة إصلاح وضع المدرسة التونسية، تعالت أصوات أئمّة التربية وفقهاؤها ودهاتها وحكماؤها وعلماؤها وراحوا يخيطون مواصفات من سيشرف على حظوظ هذا المجلس على مقاسهم… وكأني بهم مقاولون يتسابقون بشكل محموم لكسب معركة بتّة عمومية مُربحة جدا. وبرز المترشحون الذين يعتبرون أنفسهم الأجدر بترؤس هذا المجلس بالنظر إلى شهائدهم العرمرم ويافطات الخبرة الدولية (حتى أن  واحدا منهم سمّى نفسه خبيرا استراتيجيا في إصلاح المنظومات التربوية) دون أدنى حديث لا عن مشمولات هذا المجلس ولا عن آليات تسييره أو انتظارات المجتمع من بعثه.

وبالتالي فقد صحّ قول الأستاذ فتحي بوغرارة الذي علّق على المعارك الدائرة رحاها حتى على صفحات الفايسبوك بأن “رهان المناصب أشرس أعداء الإصلاح“.  

الفكرة الأولى : المجلس الأعلى للتربية مؤسسة قديمة جدا في تونس

أول مجلس أعلى للتربية في تونس كان سنة 1888 وكان اسمه المجلس الأعلى للمعارف “يعطي رأيه في الإصلاحات وفي الميزانية وفي التأديب بالنسبة لأعضاء التعليم”. ثم المجلس الأعلى للتربية القومية سنة 1958 الذي “تقع استشارته في المسائل المتعلقة بالتعليم وخاصة في تأسيس المعاهد المدرسية وبرامج الدروس والامتحانات والكتب…” إلى أن جاء القانون التربوي عدد 65 لسنة 1991 الذي “تقع استشارته في المسائل ذات المصلحة الوطنية المتعلقة بالتربية والتعليم…”.

وهكذا يتّضح أن هذه الآليّة ليست بجديدة على مدرستنا التونسية العريقة ولا هي ببِدعة تفتّقت بها قريحة بعضهم، وكان دائما الهاجس الأكبر الذي تتغذّى منه فكرة “هيئة عليا للتربية” هو الإيمان بأن الوزارة والدولة عموما تنفّذ وتفعّل وتطبّق ولكنها لا تبني التصوّرات ولا تقدر على تشخيص واقع المرفق الذي تشرف على تسييره بموضوعية وأنه لا بد من خبرات عالية في المجال تتحلّى بالموضوعية والقدرة على إكساب مدرستنا مزيدا من النجاعة خاصة في ضوء “ابتلاعها” للجزء الأكبر من الميزانية العامة للدولة.

الفكرة الثانية : المجلس الأعلى للتربية منظومي وليس قطاعي

التربية في أغلب بلدان العالم هي قطاع واسع متعدد الروافد والطوابق ولكن تستوعبه وزارة واحدة تُعنى بكل ما له صلة بالتربية والتكوين والتعليم العالي والبحث العلمي (بإدارات عامة قطاعية). أما في تونس فلدينا تعليم ما قبل مدرسي تشرف عليه وزارة المرأة وتعليم أساسي وثانوي تشرف عليه وزارة التربية وتكوين مهني تشرف عليه وزارة التكوين المهني وتعليم جامعي تشرف عليه وزارة التعليم العالي… إلى جانب تكوين مُمَهنن تشرف عليه وزارات أخرى مثل الفلاحة والسياحة والصحة والداخلية والدفاع… تكوين متشظّ يشبه إلى حدّ كبير تشقّق منطق دولتنا وتصدّعه في تسيير أمور البلاد. والغريب في تونس أن المعلم الذي يستقبل أطفال المحاضن ورياض الأطفال لا فكرة لديه مطلقا حول ما درسه هؤلاء قبل وصولهم الى المدرسة وأستاذ الإعدادي والثانوي غير مطالب بالاطلاع على ما يُدرّس أو لا يُدرّس في الابتدائي والأستاذ الجامعي في كوكب آخر لا يهُمّه البتّة ما تتناوله البرامج في الثانوي…

وعليه، فإن مهمة ضرورة تأمين الترابط والتكامل العضويّين بين كل مفاصل التكوين ومحاضنه تقتضي أن يكون “المجلس الأعلى للتربية والتكوين والتعليم العالي” متألّفا ضمن تركيبته من المعلم والأستاذ والمكوّن والجامعي والاقتصادي والمختص في عالم الشغل ورجل القانون…

الفكرة الثالثة : العالم لم يعد يتبنّى مقاربة “الاصلاح التربوي الشامل”

أمام اصطدام أي إصلاح تربوي مهما كان شاملا ومتبصّرا ومتكئا على تصورات أعتى الخبراء والدارسين بإكراهات الواقع الميداني للمدرسة و”حقيقتها المُركّبة” التي يصعب الإمساك بها في علاقة بمحوريتها داخل المجتمع وشساعة الجمهور الذي تتعامل معه ويتعامل فيها (لذلك سمّيت بماموث التربية : نسبة إلى ذلك الفيل الضخم المنقرض الذي كان يعيش في أوروبا الوسطى قبل مليون سنة)… وبات لا يُنفّذ من تجديداته وتوصياته إلا جزء يسير جدا… فضّل عديد الخبراء ووزراء التربية في العالم اعتماد مقاربة جديدة مفادها أنه “بدلا من البحث عن سنّ قانون ضخم بشأن التربية، من الأجدى أن نشتغل على رافعات تغيير أساسية من أجل تحديد جملة من الأولويات البارزة التي لا خلافات جوهرية حولها“… لأن الإصلاح ليس هو الذي يغيّر المدرسة ويؤثّر في مُخرجاتها، وإنما المدرسة هي التي تعدّل هذه الاصلاحات وتُحرّفها وتُحوّل وِجهتها وتختطفها أحيانا.

وفي وضع مدرستنا التونسية، أعتقد أن الأولويات واضحة ولا يختلف فيها اثنان عاقلان  :

  • فصَهْر أضلع منظومة التربية والتكوين والتعليم في كيان واحد… أولوية (ولو في شكل هيكل وطني مؤقت عابر لكل الوزارات والهياكل المعنية بالتربية)
  • ووضع حدّ لتراجع مكانة الرياضيات في مدرستنا …أولوية
  • وإعادة هيكلة الشعب المدرسية…أولوية
  • وجعل مسلك التكوين المهني معبرا أساسيا بمواصفات عالمية متطورة … أولوية
  • وتطويق المصائب التي تحدث في المستوى الإعدادي… أولوية. (في هذا المستوى أي في سنّ 13 – 16 سنة) يتكثف الانقطاع وتنتشر الزطلة ويتصاعد العنف وتتشكل فيه نهائيا الشخصيات المأزومة والأمزجة الملغومة.
  • إلخ….

الفكرة الرابعة والأخيرة : رسالة إلى سيادة رئيس الجمهورية

على رئيس الجمهورية أن يمضي في تصريحاته المتعلقة بالتربية والتعليم إلى مداها الأقصى ويبعث مجلسا مؤقتا للتربية والتكوين والتعليم العالي (لأن الأصل في أن تكون هذه الآلية الاستشارية دستورية وممثلة بشكل ديمقراطي لكل الجهات المحمولة على أن يكون لها رأي في سير هذا المرفق الحيوي) يكون متخفّفا تماما من الانتماءات الحزبية وكذلك بل وخاصة متجرّدا من حسابات أي نوع من الامتيازات والجاه والسلطان ويُعهد إليه بمهمة عاجلة وحيدة :

إنقاذ سفينة التربية والتعليم من الغرق النهائي من خلال حزمة من الإجراءات الآنيّة التي لا يستغرق التداول بشأنها أكثر من شهر أو شهرين وتكون نافذة على سبيل المثال بداية من السنة الدراسية القادمة.

ويتحتّم أيضا في سياق ذلك عدم انتهاج سياسة “الطاولة المُمحاة” أي ضرورة السعي إلى تثمين مكتسبات الماضي ورسملة ما هو إيجابي في منظومتنا التربوية والتكوينية والتعليمية اليوم وكذلك ما أتت به مختلف الإصلاحات المتعاقبة أو محاولات الإصلاح التي جرت في مختلف مراحل تطور المدرسة التونسية.

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

العراق: هل يستبق الأخطار المحدقة، أم سيكتفي بتحديد الإخلالات؟

نشرت

في

محمد الزمزاري:

ستنطلق الحكومة العراقية في تعداد السكان خلال هذه الأيام والذي سيأخذ مدى زمنيا طويلا وربما. تعطيلات ميدانية على مستوى الخارطة. العراقية.

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari

ويعد هذا التعداد السكاني مهمّا ومتأخرا كثيرا عن الموعد الدوري لمثل هذه الإحصائيات بالنسبة لكل بلد… فالعراق لم يقم بتحيين عدد سكانه منذ ما يزيد عن الثلاثين سنة، إذ عرف آخر تعداد له سنة 1991… ونظرا إلى عوامل عدة، فإن قرار القيام بهذا التعداد سيتجنب اي تلميح للانتماءات العرقية أو المذهبية عدا السؤال عن الديانة ان كانت إسلامية او مسيحية… وقد أكد رئيس الحكومة العراقية أن التعداد السكاني يهدف إلى تحديد أوضاع مواطني العراق قصد رصد الاخلالات و تحسين الخدمات وايضا لدعم العدالة الاجتماعية.

لعل اول مشكلة حادة تقف في وجه هذا التعداد العام، هو رفض الجانب الكردي الذي يضمر أهدافا و يسعى إلى التعتيم على أوضاع السكان في كردستان و في المنطقة المتنازع عليها بين العرب والأكراد و التركمان… خاصة أيضا ان اكثر من ثمانية أحياء عربية في أربيل المتنازع عليها، قد تم اخلاؤها من ساكنيها العرب وإحلال الأكراد مكانهم…

هذا من ناحية… لكن الأخطر من هذا والذي تعرفه الحكومة العراقية دون شك أن الإقليم الكردي منذ نشاته و”استقلاله” الذاتي يرتبط بتعاون وثيق مع الكيان الصهيوني الذي سعى دوما إلى تركيز موطئ قدم راسخ في الإقليم في إطار خططه الاستراتيجية.. وان مسؤولي الإقليم الكردي يسمحون للصهاينة باقتناء عديد الأراضي و المزارع على شاكلة المستعمرات بفلسطين المحتلة… وان قواعد الموساد المركزة بالاقليم منذ عشرات السنين ليست لاستنشاق نسيم نهر الفرات ! ..

أمام الحكومة العراقية إذن عدد من العراقيل والاولويات الوطنية والاستشرافية لحماية العراق. و قد تسلط عملية التعداد السكاني مثلما إشار إليه رئيس الحكومة العراقية الضوء على النقائص التي تتطلب الإصلاح و التعديل والحد من توسعها قبل أن يندم العراق ويلعنوا زمن الارتخاء وترك الحبل على الغارب ليرتع الصهاينة في جزء هام من بلاد الرافدين.

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 89

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

فترة التسعينات كانت حبلى بالاحداث والتغييرات في مسيرتي المهنية منها المنتظر والمبرمج له ومنها غير المنتظر بتاتا …

عبد الكريم قطاطة

وانا قلت ومازلت مؤمنا بما قلته… انا راض بأقداري… بحلوها وبمرّها… ولو عادت عجلة الزمن لفعلت كلّ ما فعلته بما في ذلك حماقاتي واخطائي… لانني تعلمت في القليل الذي تعلمته، انّ الانسان من جهة هو ابن بيئته والبيئة ومهما بلغت درجة وعينا تؤثّر على سلوكياتنا… ومن جهة اخرى وحده الذي لا يعمل لا يخطئ… للتذكير… اعيد القول انّه وبعد ما فعله سحر المصدح فيّ واخذني من دنيا العمل التلفزي وهو مجال تكويني الاكاديمي، لم انس يوما انّني لابدّ ان اعود يوما ما الى اختصاصي الاصلي وهو العمل في التلفزيون سواء كمخرج او كمنتج او كلاهما معا… وحددت لذلك انقضاء عشر سنوات اولى مع المصدح ثمّ الانكباب على دنيا التلفزيون بعدها ولمدّة عشر سنوات، ثمّ اختتام ما تبقّى من عمري في ارقى احلامي وهو الاخراج السينمائي…

وعند بلوغ السنة العاشرة من حياتي كمنشط اذاعي حلّت سنة 1990 لتدفعني للولوج عمليا في عشريّة العمل التلفزي… ولانني احد ضحايا سحر المصدح لم استطع القطع مع هذا الكائن الغريب والجميل الذي سكنني بكلّ هوس… الم اقل آلاف المرات انّ للعشق جنونه الجميل ؟؟ ارتايت وقتها ان اترك حبل الوصل مع المصدح قائما ولكن بشكل مختلف تماما عما كنت عليه ..ارتايت ان يكون وجودي امام المصدح بمعدّل مرّة في الاسبوع ..بل وذهبت بنرجسيتي المعهودة الى اختيار توقيت لم اعتد عليه بتاتا ..نعم اخترت الفضاء في سهرة اسبوعية تحمل عنوان (اصدقاء الليل) من التاسعة ليلا الى منتصف الليل …هل فهمتم لماذا وصفت ذلك الاختيار بالنرجسي ؟؟ ها انا افسّر ..

قبل سنة تسعين عملت في فترتين: البداية كانت فترة الظهيرة من العاشرة صباحا حتى منتصف النهار (والتي كانت وفي الاذاعات الثلاث قبل مجيئي فترة خاصة ببرامج الاهداءات الغنائية)… عندما اقتحمت تلك الفترة كنت مدركا انيّ مقدم على حقل ترابه خصب ولكنّ محصوله بائس ومتخلّف ..لذلك اقدمت على الزرع فيه … وكان الحصاد غير متوقع تماما ..وتبعتني الاذاعة الوطنية واذاعة المنستير وقامت بتغييرات جذرية هي ايضا في برامجها في فترة الضحى .. بل واصبح التنافس عليها شديدا بين المنشطين ..كيف لا وقد اصبحت فترة الضحى فترة ذروة في الاستماع … بعد تلك الفترة عملت ايضا لمدة في فترة المساء ضمن برنامج مساء السبت … ولم يفقد انتاجي توهجه ..وعادت نفس اغنية البعض والتي قالوا فيها (طبيعي برنامجو ينجح تي حتى هو واخذ اعزّ فترة متاع بثّ) …

لذلك وعندما فكّرت في توجيه اهتمامي لدنيا التلفزيون فكرت في اختيار فترة السهرة لضرب عصفورين بحجر واحد… الاول الاهتمام بما ساحاول انتاجه تلفزيا كامل ايام الاسبوع وان اخصص يوما واحدا لسحر المصدح ..ومن جهة اخرى وبشيء مرة اخرى من النرجسية والتحدّي، اردت ان اثبت للمناوئين انّ المنشّط هو من يقدر على خلق الفترة وليست الفترة هي القادرة على خلق المنشط ..وانطلقت في تجربتي مع هذا البرنامج الاسبوعي الليلي وجاءت استفتاءات (البيان) في خاتمة 1990 لتبوئه و منشطه المكانة الاولى في برامج اذاعة صفاقس .. انا اؤكّد اني هنا اوثّق وليس افتخارا …

وفي نفس السياق تقريبا وعندما احدثت مؤسسة الاذاعة برنامج (فجر حتى مطلع الفجر) وهو الذي ينطلق يوميا من منتصف الليل حتى الخامسة صباحا، و يتداول عليه منشطون من الاذاعات الثلاث… طبعا بقسمة غير عادلة بينها يوم لاذاعة صفاقس ويوم لاذاعة المنستير وبقية الايام لمنشطي الاذاعة الوطنية (اي نعم العدل يمشي على كرعيه) لا علينا … سررت باختياري كمنشط ليوم صفاقس ..اولا لانّي ساقارع العديد من الزملاء دون خوف بل بكلّ ثقة ونرجسية وغرور… وثانيا للتاكيد مرة اخرى انّ المنشط هو من يصنع الفترة ..والحمد لله ربحت الرهان وبشهادة اقلام بعض الزملاء في الصحافة المكتوبة (لطفي العماري في جريدة الاعلان كان واحدا منهم لكنّ الشهادة الاهمّ هي التي جاءتني من الزميل الكبير سي الحبيب اللمسي رحمه الله الزميل الذي يعمل في غرفة الهاتف بمؤسسة الاذاعة والتلفزة) …

سي الحبيب كان يكلمني هاتفيا بعد كل حصة انشطها ليقول لي ما معناه (انا نعرفك مركّب افلام باهي وقت كنت تخدم في التلفزة اما ما عرفتك منشط باهي كان في فجر حتى مطلع الفجر .. اما راك اتعبتني بالتليفونات متاع المستمعين متاعك، اما مايسالش تعرفني نحبك توة زدت حبيتك ربي يعينك يا ولد) … في بداية التسعينات ايضا وبعد انهاء اشرافي على “اذاعة الشباب” باذاعة صفاقس وكما كان متفقا عليه، فكرت ايضا في اختيار بعض العناصر الشابة من اذاعة الشباب لاوليها مزيدا من العناية والتاطير حتى تاخذ المشعل يوما ما… اطلقت عليها اسم مجموعة شمس، واوليت عناصرها عناية خاصة والحمد لله انّ جلّهم نجحوا فيما بعد في هذا الاختصاص واصبحوا منشطين متميّزين… بل تالّق البعض منهم وطنيا ليتقلّد عديد المناصب الاعلامية الهامة… احد هؤلاء زميلي واخي الاصغر عماد قطاطة (رغم انه لا قرابة عائلية بيننا)…

عماد يوم بعث لي رسالة كمستمع لبرامجي تنسمت فيه من خلال صياغة الرسالة انه يمكن ان يكون منشطا …دعوته الى مكتبي فوجدته شعلة من النشاط والحيوية والروح المرحة ..كان انذاك في سنة الباكالوريا فعرضت عليه ان يقوم بتجربة بعض الريبورتاجات في برامجي .. قبل بفرح طفولي كبير لكن اشترطت عليه انو يولي الاولوية القصوى لدراسته … وعدني بذلك وسالته سؤالا يومها قائلا ماذا تريد ان تدرس بعد الباكالوريا، قال دون تفكير اريد ان ادرس بكلية الاداب مادة العربية وحلمي ان اصبح يوما استاذ عربية ..ضحكت ضحكة خبيثة وقلت له (تي هات انجح وبعد يعمل الله)… وواصلت تاطيره وتكوينه في العمل الاذاعي ونجح في الباكالوريا ويوم ان اختار دراسته العليا جاءني ليقول وبكلّ سعادة …لقد اخترت معهد الصحافة وعلوم الاخبار… اعدت نفس الضحكة الخبيثة وقلت له (حتّى تقللي يخخي؟) واجاب بحضور بديهته: (تقول انت شميتني جايها جايها ؟؟)… هنأته وقلت له انا على ذمتك متى دعتك الحاجة لي ..

وانطلق عماد في دراسته واعنته مع زملائي في الاذاعة الوطنية ليصبح منشطا فيها (طبعا ايمانا منّي بجدراته وكفاءته)… ثم استنجد هو بكلّ ما يملك من طاقات مهنية ليصبح واحدا من ابرز مقدمي شريط الانباء… ثم ليصل على مرتبة رئيس تحرير شريط الانباء بتونس 7 ..ويوما ما عندما فكّر البعض في اذاعة خاصة عُرضت على عماد رئاسة تحريرها وهو من اختار اسمها ..ولانّه لم ينس ماعاشه في مجموعة شمس التي اطرتها واشرفت عليها، لم ينس ان يسمّي هذه الاذاعة شمس اف ام … اي نعم .عماد قطاطة هو من كان وراء اسم شمس اف ام …

ثمة ناس وثمة ناس ..ثمة ناس ذهب وثمة ناس ماجاوش حتى نحاس ..ولانّي عبدالكريم ابن الكريم ..انا عاهدت نفسي ان اغفر للذهب والنحاس وحتى القصدير ..وارجو ايضا ان يغفر لي كل من اسأت اليه ..ولكن وربّ الوجود لم اقصد يوما الاساءة ..انه سوء تقدير فقط …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم ..الورقة 88

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

المهمة الصحفية الثانية التي كلفتني بها جريدة الاعلان في نهاية الثمانينات تمثّلت في تغطية مشاركة النادي الصفاقسي في البطولة الافريقية للكرة الطائرة بالقاهرة …

عبد الكريم قطاطة

وهنا لابدّ من الاشارة انها كانت المرّة الوحيدة التي حضرت فيها تظاهرة رياضية كان فيها السي اس اس طرفا خارج تونس .. نعم وُجّهت اليّ دعوات من الهيئات المديرة للسفر مع النادي وعلى حساب النادي ..لكن موقفي كان دائما الشكر والاعتذار ..واعتذاري لمثل تلك الدعوات سببه مبدئي جدا ..هاجسي انذاك تمثّل في خوفي من (اطعم الفم تستحي العين)… خفت على قلمي ومواقفي ان تدخل تحت خانة الصنصرة الذاتية… اذ عندما تكون ضيفا على احد قد تخجل من الكتابة حول اخطائه وعثراته… لهذا السبب وطيلة حياتي الاعلامية لم اكن ضيفا على ايّة هيئة في تنقلات النادي خارج تونس ..

في رحلتي للقاهرة لتغطية فعاليات مشاركة السي اس اس في تلك المسابقة الافريقية، لم يكن النادي في افضل حالاته… لكن ارتأت ادارة الاعلان ان تكلّفني بمهمّة التغطية حتى اكتب بعدها عن ملاحظاتي وانطباعاتي حول القاهرة في شكل مقالات صحفية… وكان ذلك… وهذه عينات مما شاهدته وسمعته وعشته في القاهرة. وهو ما ساوجزه في هذه الورقة…

اوّل ما استرعى انتباهي في القاهرة انّها مدينة لا تنام… وهي مدينة الضجيج الدائم… وما شدّ انتباهي ودهشتي منذ الساعة الاولى التي نزلت فيها لشوارعها ضجيج منبهات السيارات… نعم هواية سائقي السيارات وحتى الدراجات النارية والهوائية كانت بامتياز استخدام المنبهات… ثاني الملاحظات كانت نسبة التلوّث الكثيف… كنت والزملاء نخرج صباحا بملابس انيقة وتنتهي صلوحية اناقتها ونظافتها في اخر النهار…

اهتماماتي في القاهرة في تلك السفرة لم تكن موجّهة بالاساس لمشاركة السي اس اس في البطولة الافريقية للكرة الطائرة… كنا جميعا ندرك انّ مشاركته في تلك الدورة ستكون عادية… لذلك وجهت اشرعة اهتمامي للجانب الاجتماعي والجانب الفنّي دون نسيان زيارة معالم مصر الكبيرة… اذ كيف لي ان ازور القاهرة دون زيارة خان الخليلي والسيدة زينب وسيدنا الحسين والاهرام… اثناء وجودي بالقاهرة اغتنمت الفرصة لاحاور بعض الفنانين بقديمهم وجديدهم… وكان اوّل اتصال لي بالكبير موسيقار الاجيال محمد عبد الوهاب رحمه الله… هاتفته ورجوت منه امكانية تسجيل حوار معه فاجابني بصوته الخشن والناعم في ذات الوقت معتذرا بسبب حالته الصحية التي ليست على ما يرام…

لكن في مقابل ذلك التقيت بالكبير محمد الموجي بمنزله وقمت بتسجيل حوار معه ..كان الموجي رحمه الله غاية في التواضع والبساطة… لكن ما طُبع في ذهني نظرته العميقة وهو يستمع اليك مدخّنا سيجارته بنهم كبير… نظرة اكاد اصفها بالرهيبة… رهبة الرجل مسكونا بالفنّ كما جاء في اغنية رسالة من تحت الماء التي لحنها للعندليب… نظرة المفتون بالفن من راسه حتى قدميه…

في تلك الفترة من اواخر الثمانينات كانت هنالك مجموعة من الاصوات الشابة التي بدات تشق طريقها في عالم الغناء ..ولم اترك الفرصة تمرّ دون ان انزل ضيفا عليهم واسجّل لهم حوارات… هنا اذكر بانّ كلّ التسجيلات وقع بثها في برامجي باذاعة صفاقس… من ضمن تلك الاصوات الشابة كان لي لقاءات مع محمد فؤاد، حميد الشاعري وعلاء عبدالخالق… المفاجأة السارة كانت مع لطيفة العرفاوي… في البداية وقبل سفرة القاهرة لابدّ من التذكير بانّ لطيفة كانت احدى مستمعاتي… وعند ظهورها قمت بواجبي لتشجيعها وهي تؤدّي انذاك وباناقة اغنية صليحة (يا لايمي عالزين)…

عندما سمعت لطيفة بوجودي في القاهرة تنقلت لحيّ العجوزة حيث اقطن ودعتني مع بعض الزملاء للغداء ببيتها… وكان ذلك… ولم تكتف بذلك بل سالت عن احوالنا المادية ورجتنا ان نتصل بها متى احتجنا لدعم مادي… شكرا يا بنت بلادي على هذه الحركة…

اختم بالقول قل ما شئت عن القاهرة.. لكنها تبقى من اعظم واجمل عواصم الدنيا… القاهرة تختزل عبق تاريخ كلّ الشعوب التي مرّت على اديمها… نعم انها قاهرة المعزّ…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار