تابعنا على

منبـ ... نار

مفارقات تونسية[1]: تساؤلات حول الشعبوية وعقلية المؤامرة

“الاعتقاد في نظرية المؤامرة… أخطر مؤامرة !”

نشرت

في

Dossier Montée des risques et populisme Revue Risques

ما هي الشعبوية؟ ما هي أهم سمات الخطاب الشعبوي؟ أين ومتى ظهرت؟ لماذا تزدهر في أوقات معيّنة؟ لماذا يركز الشعبويون على نظريات المؤامرة؟ ما هي أشهر نظريات المؤامرة؟ ما مدى صحة القول بوجود المؤامرات؟ ما هو الموقف الملائم إزاء ما ينتشر في تونس وفي العالم من نظريات المؤامرة؟

<strong>د مصطفى الشيخ الزوالي<strong>

برزت الشعبوية في فترات تاريخية مختلفة وهي مرتبطة بالتحولات المتسارعة والأزمات الكبرى، سواء كانت أوبئة أو أزمات اقتصادية.، مثال ذلك مع الأزمة الاقتصادية العالمية لسنة 1929 حيث ظهرت الشعبوية في شكلها الفاشي مع موسوليني في إيطاليا وهتلر في ألمانيا وفرانكو في إسبانيا… مع الأزمة المالية الكبرى لسنة 2008، وإلى الوقت الحاضر، مرورا بأزمة الكوفيد 19، عرفت الشعبوية رواجا كبيرا في بقاع مختلفة من العالم:  في الولايات المتحدة الأمريكية مع ترامب ، في روسيا مع بوتين، في فرنسا مع حزب الجبهة الوطنية لمارين لوبان، وفي المجر، اليونان… إلخ.

من أهم ما يميز خطاب الشعبويين عموما، أنهم يدعون تمثيل مصالح الأغلبية الشعبية ضد النخب، وسواء كانوا في الحكم أم خارجه، فهم يتخذون من شعار “محاربة الفساد” محورا أساسيًا في مواجهة “خصومهم” من النخب المعارضة أو الحاكمة المنفصلة عن مشاكل السكان. من أقوال أشهر الشعبويين : «تحتاج بلادنا إلى  قائد عظيم… أنا الوحيد القادر على إصلاح نظام الخراب في واشنطن” (ترامب)، “نحن الشعب. من أنتم؟” (اردوغان). “سنجعل ألمانيا عظيمة مرة أخرى” (هتلر)

أما نظريات المؤامرة فهي كذلك، عادة ما تزدهر في وقت الأزمات والأحداث الاجتماعية الصادمة المؤثرة والضخمة (الاغتيالات، الحروب، الأوبئة، الأزمات الاقتصادية، الثورات….) وهي تزدهر بسبب ميل الناس في السياقات المذكورة إلى افتراض الأسوأ، كما تستند إلى الغريزة القديمة التي تنزع على تقسيم العالم إلى فئتين: نحن و هم.

تتعدد الأخبار التي يصدقها بعض القائلين بنظريات المؤامرة مثل التشكيك في “النزول على القمر”  والقول بأن “العلماء يكذبون على الناس” وما قيل حول هجمات 11 سبتمبر  2001، مقتل الأميرة ديانا، اغتيال جون كينيدي، كوفيد-19، إلخ [2]… سأكتفي هنا بتقديم رأيي في نظرية المؤامرة فيما يتعلق بالمثال الأول، باعتباره من المسائل التي باتت محسومة بالنسبة إلى كل من يؤمن بالعلم وبقدرة العقل على التمييز بين العلم والخرافة. لكن رغم ذلك لا يزال هناك من يؤمن بان “الأرض مسطحة” ولا يتردد في التصريح بذلك، لأن السياق الراهن يشهد تراجعا كبيرا عما تحقق من انتشار للأفكار العلمية والنظريات الفكرية التي حررت الانسان من الخرافات والشعوذة والكثير من المعلومات الخاطئة. وهنا نتساءل: هل من قبيل الصدفة أن تنتشر عقلية المؤامرة كلما  زادت نسبة التخلف في بلد ما وزادت معه  التفسيرات الخرافية والتآمرية.

بالنسبة لنظريات المؤامرة التي تتعلق بمسائل مثيرة لجدل طويل يصعب حسمه، أشير إلى أنه يمكن تصنيف المواقف الموجودة في كل مجتمع، إزاءها، إلى ثلاثة أنماط كبرى: القبول المطلق/ الرفض المطلق وموقف ثالث هو الأقرب إلى الصواب في كثير من الحالات، حيث لا يمكن، إذا سلمنا بتعقد الظواهر الاجتماعية والتاريخية، وسلمنا بقدرة البشر، أفرادا وجماعات، على بناء واقعهم وصناعة مستقبلهم، أن نسلم بوجود مؤامرات شاملة محركة لكل الأحداث في مجتمع معين، أو في العالم بأسره. ما يمكن أن نقر به هو خطط واستراتيجيات لجماعات متنوعة من أصحاب النفوذ والمصالح في الداخل والخارج، تتحرك في اتجاهات مختلفة وتتصارع فيما بينها ويسعى كل منها إلى ضمان هيمنته ومصالحه بطرق مختلفة تنفيذا لمخططاته ورهاناته، كلما سنحت الفرصة لذلك وقد ينجح كل منهم أو بعضهم، بدرجات متفاوتة في تحقيق مآربه، لكن دون أن يعني ذلك طبعا التحكم الكامل في كل الظواهر والأحداث.

من المعطيات والحجج التي يمكن تقديمها في بناء الخطاب المناهض لعقلية المؤامرة وكل خطاب شعبوي:

  1. نظريات المؤامرة، كغيرها من الأفكار التبسيطية للوقائع والظواهر، موجودة منذ القدم وفي كل المجتمعات، لكن اليوم مع وسائل التواصل الحديثة، تمكنت من الانتشار السريع ويسّرت لأصحاب العقول المتماثلة أن يترابطوا وينشروا أفكارهم وبالتالي تراجع دور النخب في التأثير على مجريات الأمور في المجتمعات. لقد تطورت “صناعة التلاعب بالجماهير” وأصبح انتشار المعلومات المضللة والمعلومات الخاطئة ممكنا إلى حد كبير جدا.
  2. التسليم المطلق بنظريات المؤامرة التي يعتمدها الشعبويون، يعني إقرارا بأن غالبية أفراد المجتمع، دون إرادة حرة، لا يملكون مصيرهم وغير قادرين على تغيير واقعهم بأنفسهم، هم في حالة “قصور” و “عجز”، ينتظرون مساعدة البطل الشعبوي الذي سينقذهم من “فساد المتآمرين”.
  3. في سياق السلط التي يمنحها البطل الشعبوي لنفسه” كمنقذ تاريخي للوطن”، تحت شعار “تحقيق إرادة الشعب”  يمكن أن يتم التراجع عن كثير من الحقوق الأساسية  كحرية الرأي والتعبير وتكوين الجمعيات وقد تفقد المؤسسات الديمقراطية دورها في تنظيم الحياة السياسية وتكثر التجاوزات لمبدأ الفصل بين السلط الثلاث، ومبدأ المساءلة القانونية .
  4. الشعبوية تميز بين الناس وتقسّمهم إلى “نحن” و”هم”، “الأخيار والأشرار”، “صالحين وفاسدين”،  “مع الشعب وضد الشعب”، وهذا يمس من حق عديد المواطنين في المشاركة في إدارة الشأن العام ويتعارض مع مبادئ مثل عدم التمييز واحترام التنوع والإدماج وعدم الإقصاء والتهميش

وأختم برواية حادثة عشتها شخصيا في التسرع بالإقرار بنظرية المؤامرة، إلى حين معرفتي بحقيقة الأمر مؤخرا وهو ما دفعني إلى كتابة هذا النص : كشف دليل التوجيه الجامعي لسنة 2009 ، أن وزارة التعليم العالي قد اتخذت قرارا بدمج الإجازتين الأساسيتين في التاريخ والجغرافيا في إجازة واحدة.  كما ألغت “الإجازة الأساسية في علم الاجتماع”. من الآراء والكتابات التي اطلعت عليها في سياق التفاعل مع القرار المذكور، أن تلك القرارات جاءت في “إطار تطبيق منظومة إمد” ولها “مقاصد مباشرة” وأخرى “خفية“. أما “المقاصد المباشرة” “فهي “استهداف الكليات العريقة التي تُدرّس التاريخ والجغرافيا والمعروفة بتمسكها بالمبادئ السامية للتعليم العالي وتسيير المؤسسات الجامعية وبالحريات الأكاديمية والاستقلالية الفكرية والتي كثيرا ما يكون أساتذتها سباقين في معارضة السياسة المسقطة والقرارات الزجرية والفوقية للوزارة… أما المقاصد الخفية فهي  لتهميش التكوين الأساسي في الجامعة التونسية وتنفيذ مشروع القضاء على علوم الإنسان والمجتمع في إطار منظومة تربوية معولمة وتقسيم دولي للأدوار لا يسند منها لبلدان العالم الثالث إلا دور مستهلك الأفكار والقيم التي تنتج وتصاغ في البلدان المهيمنة…” [3] وغير ذلك من الخطاب الذي تبنّيتُه حينها ولم أشك لحظة في وجود مؤامرة ، وطنيا ودوليا، وراءه .

ما من شك في صحة القول بوجود منظومة رأسمالية عالمية لتقسيم العمل، وهي ترجع في نشأتها، إلى أكثر من أربعة قرون[4]، موظفة مجلوبات العلوم والتكنولوجيا لتجدد نفسها وتضمن استمرار هيمنتها على العالم، وما من شك أيضا في تراجع الاهتمام بالعلوم الاجتماعية بداية من تسعينات القرن الماضي في عديد الدول، لكن واقعيا، لا علاقة مباشرة لكل ذلك بما حدث في تونس سنة 2009 ولا صلة مباشرة له بأية مؤامرة لا دولية ولا وطنية. فقد علمت مؤخرا عبر أحد أصدقائي، ممن كان مطلعا على دواليب وزارة التعليم العالي، بخبر الحادثة التي وقعت زمن حكم بن علي، بين وزير تعليم عال وعميد لإحدى الكليات بالعاصمة، حيث لاحظ الوزير خلال زيارته للكلية لائحة نقابية معلقة ببهو الكلية متضمنة لتشهير بسياسة وزارة الإشراف ودعوة للإضراب. فطلب من العميد إزالتها، رفض العميد ذلك، فنشأ حوار ساخن بين الطرفين أصر فيه كل منهما على موقفه. ويبدو أن الوزير لم ينس تلك الحادثة التي أثارت غضبه، إذ تبيّن لاحقا أنه تدخل في عمل إحدى لجان التأهيل الجامعي القطاعية قُبيل إصدار دليل التوجيه الجامعي2009، بفرض مجموعة من “القرارات الانتقامية” ظهرت جليا في دليل قائمة الشعب التي تضمنها دليل التوجيه الجامعي لتلك السنة [5].


[1]   سبق أن نشرنا بجلنار أربع “مفارقات تونسية”، تحمل العناوين التالية:  

“تساؤلات حول الديمقراطية والانتخابات في تونس اليوم”

” تساؤلات حول دور النقابات في تونس زمن الانتقال الديمقراطي”

 “الجدل المتجدد حول التعليم النموذجي في تونس”

و”تساؤلات حول اختبارات مناظرتي (السيزيام” والنوفيام) في تونس”

[2]  انظر قائمة نظريات المؤامرة بموسوعة ويكيبيديا

[3]  دون اسم للكاتب، جريدة “الطريق الجديد” التونسية عدد 145 الصادرة يوم 12 سبتمبر 2009، ص5

[4] كما علّمني ذلك جيدا الأستاذ فرج اسطنبولي، في إطار شهادة علم اجتماع التنمية سنة 1990

[5]  كان للوزير نفسه موقف غاضب أيضا من عميد آخر، رفض الانصياع إلى قبول قائمة من 7 طلبة أمر الرئيس السابق زين العابدين بن علي بترسيمهم بكلية الطب بتونس، كما تعوّد أن يفعل سنويا، لكن العميد رفض ذلك وفضح الأمر عبر تعليق القائمة الاسمية للطلبة السبعة الذين تم رفض تسجيلهم( مع ذكر معدلات نجاحهم في الباكالوريا.)

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

منبـ ... نار

مفارقات تونسية… إلى متى يُؤجّل قرار إلغاء امتحان “الباك سبور”؟

نشرت

في

رئاسة الحكومة تتخّذ إجراءات ردعية بخصوص الشعارات الإرهابية والعنصرية في  "دخلات الباك سبور"

تعيش تونس هذه الأيام، وخلال كامل الفترة من 15  إلى 27 أفريل 2024، على وقع ما يُسمّى بالباك سبور، ونغتنم فرصة الاهتمام العام بهذا الموضوع ومواكبته من قبل العائلات التونسية ووسائل الإعلام المختلفة،  لنقدم ملاحظاتنا ومقترحنا حوله،  لعلنا نساهم بذلك، في فتح النقاش العام حول الإشكاليات المطروحة، يحدونا الأمل في التعجيل باتخاذ القرار الرسمي الملائم، الذي طال انتظاره وهو إلغاء “اختبار آخر السنة في التربية البدنية والاقتصار على نتائج التقييم المستمر أثناء السنة الدراسية”.

<strong>د مصطفى الشيخ الزوّالي<strong>

ويتضمن هذا المقال تذكيرا بنماذج من الآراء والمعطيات الموضوعية المتداولة في الدراسات التربوية والتقارير الرسمية، والتي من المفروض أو  تُقنع الرأي العام  والمسؤولين بضرورة التعجيل بالقرار المقترح وبغيره من القرارات، ولكن، وفي سياق “انحلال الروابط الصلبة”، كإحدى السمات المميزة لحياتنا المعاصرة في “زمن السيولة”، كما يعرفه عالم الاجتماع الشهير زيغموند باومن، يتواصل التأجيل لهذا الأمر، كما يتواصل الـتأجيل لقرارات أخرى، لا تقل أهمية، قد تناولنا بعضها في دراسات علمية وتقارير رسمية أو  مقالات رأي حول “مفارقات تونسية” أخرى.[1]

أولا: نبدأ بالتذكير  بما حصل  سنة 2010 ،( في زمن “الصلابة” الرسمية التونسية)، فقد صدر  قرار إلغاء اختبار التربية البدنيّة لآخر السّنة وجاء ذلك بناء على تقرير من وزارة التربية والجهات الأمنيّة، حيث اتّخذ مجلس الوزراء يوم 20 أوت 2010 قرار إلغاء اختبار آخر السّنة في التربية البدنيّة: “حفاظا على سلامة التلاميذ والتوقّي من السلوك غير الحضاريّ، داخل المؤسّسات التربويّة وخارجها.  وقد برّرت الوزارة هذا القرار-كما جاء على لسان وزير التربية آنذاك- بثلاثة أسباب، هي:

  1. ارتفاع تكلفة الامتحان (3 ملايين دينار): ويحسن تخصيصُ هذه الأموال لتهيئة الملاعب واقتناء التجهيزات الرياضيّة.
  2. سبب بيداغوجيّ يتمثل في كون الأعداد المتحصّل عليها في اختبار آخر السّنة هي دون معدّلات المراقبة المستمرّة،
  3. سبب وقائيّ وأمنيّ، بعد تفاقم ظاهرة السّلوك المخلّ داخل المؤسّسات التربويّة وخارجها، بمناسبة تنظيم اختبار آخر السّنة في التربية البدنيّة.

ولئن استبشر عدد كبير من الأولياء ومديري المؤسّسات التربويّة بهذا القرار، فقد لاقى نقدا ورفضا من قبل نقابات التعليم ومدرّسي التربية البدنيّة الذين رأوا في القرار تهميشا لمادة التربية البدنيّة.

لاحقا، وفي سياق ما يمكن تسميته بالنتائج  المنحرفة” أو “غير المأمولة” لثورة 17 ديسمبر 2010/14 جانفي 2011، صدر سنة  2012، “قرار عودة اختبار التربية البدنيّة لآخر السّنة” دون معالجة الإشكاليات التي أدّت إلى إلغاء هذا الاختبار.

للتذكير أيضا، فقد تم خلال دورتي 2020 و2021، إلغاء الباك السبور واحتساب المعدل السنوي للتربية البدنية كعدد نهائي في امتحان الباكالوريا في كافة المعاهد العمومية والخاصة، وذلك بسبب الحجر الصحي وأزمة الكوفيد19.

ثانيا: حول انعكاسات امتحان “الباك  سبور” على التنظيم البيداغوجي والحياة المدرسية [2]

  1. توقف دروس التربية البدنيّة منذ منتصف شهر أفريل ، بسبب تجنيد جميع مدرّسي المادّة في لجان الامتحان .
  2. تعدد التجاوزات ومظاهر الإخلال أثناء سير الامتحان والسّعي إلى التحيّل على التراتيب، فترى عددا من المترشّحين الذين ضمنوا معدّلات سنويّة في التربية البدنيّة مرتفعة يقومون بتقديم وثائق تعفيهم من اختبار آخر السنة، وصنفا آخر اختار الإعفاء من دروس التربية البدنية طيلة السّنة الدّراسيّة ولكنّه يريد المشاركة في اختبار آخر السّنة لجني بعض النقاط التي قد تكون ثمينة عند احتساب العدد النّهائي.

ثالثا: حول العادات والطقوس التي انتشرت قبل إجراء الاختبار وبعده:

 ويتمثل ذلك في إقامة نوع من الحفلات والاستعراضات أمام المعاهد وفي الشّوارع، تعطل حركة المرور وتتحوّل في عديد المرات إلى  مآس وحوادث مرور خطرة. وفي ما يلي فقرات واردة في وسائل إعلام مختلفة وبمواقع الكترونية تناولت هذا الموضوع ، وهي تؤكد وجود شبه إجماع على خطورة الظاهرة في المجتمع التونسي:

  1.      ” احتفالات بها بكثير من الصخب وتتوجّس منه إدارات المؤسّسات والسّلط الجهويّة والمحليّة لما يرافق احتفالات التلاميذ به من تجاوزات خطرة…” 
  2. ” أسوأ هذه العادات هي (الكُورتيج) :“استعراض السيارات”حيث يخرج التلاميذ في استعراض بالسيارات يجوبون وسط المدينة  و شوارعها إضافة إلى الألعاب النارية و الشماريخ، عادتان تأتيان في المرتبة الثانية للائحة العادات السيئة حيث يعمد عديد التلاميذ إلى الاحتفال بالـ”فلام”و الألعاب النارية …”
  3. دخلة الباك سبور …وفاة تلميذ باكالوريا بعد سقوطه من نافذة السيارة خلال احتفاله مع أصدقائه…”
  4. “الآن وقد تمّ تسجيل وفاة التلميذ ( والتلميذة)… على إثر حادثي مرور خلال احتفاليات (الدخلة) الملعونة في الباك سبور…متى يتمّ التدخّل ومنع هذه الظاهرة الخطيرة.”

رابعا: انتشار الدروس الخصوصية في “الباك سبور” وتحوّلها إلى “عنوان فساد”

لاحظنا في السنوات الأخيرة، استفحال ظاهرة الدروس الخصوصية في “الباك سبور”، وذلك رغم غلاء أسعارها، فقد صرّح وزير التربية بتاريخ 16 أفريل 2019 ، أنّ”5  أيام دروسا خصوصية في (الباك سبور) بـ700 دينار” [3].  كما صرّح الوزير نفسه، بتاريخ 21 ماي 2019، أن :  “باكالوريا الرياضة في شكلها الحالي هي عنوان الفساد وهي  لا تحمل أي معنى …. من موقعي كوزير للتربية …. لا أسمح لنفسي بمباركة أشياء أعرف جيدا أنها غير مقبولة وغير معقولة . فهل يعقل مثلا أن يتحصل 99 بالمائة من التلاميذ في الباكالوريا رياضة على أعداد فوق 18 من عشرين، هناك تضخيم غير مقبول للأعداد التي تسند للتلاميذ على خلفية الدروس الخصوصية في الرياضة، ولو كانت هذه الأعداد تسند لها ميداليات ذهبية لكانت تونس بطلة العالم في الرياضة…”[4]

يبدو جليا  من خلال هذين التصريحين، أن الوزير قد كان يؤسس لحملة إعلامية، تمهيدا لاتخاذ قرار إلغاء “الباك سبور”، ولكن بعد أقل من سنة، تغيرت الحكومة وتغير وزير التربية، وتأجل اتخاذ القرار المذكور . ويبدو أن السبب الأساسي وراء التأجيل المستمر لاتخاذ  هذا القرار وعديد القرارات التي يحتاجها قطاع التربية في تونس منذ أكثر من عقد من الزمن، هو  عدم الاستقرار الحكومي وتعاقب أكثر من 10 وزراء على قطاع التربية منذ  2011.

خامسا:  “دخلة الباك سبور”

لا يفوتنا، في خاتمة هذا المقال، أن نُذكّر بنقطة إيجابية في “الباك سبور”، قد تدفع البعض إلى الدفاع عن استمرار هذا النوع من الامتحانات ونعني بذلك ما يمكن تسميته بـ”قصص النجاح في دخلة الباك سبور” والتي أكد  من خلالها التلاميذ في عديد الحالات، قدراتهم الإبداعية وتميزهم في التعبير عن حاجياتهم الأساسية وقيمهم الإنسانية أو احتجاجاتهم ومطالبتهم بحقوقهم. ومن المواضيع التي لاقت استحسان التونسيين وراجت في الاعلام: “تكريم الأساتذة والأولياء“،  “التحسيس ضد كورونا”، وآخرها الحضور البارز للقضية الفلسطينية في “باك سبور” 2024.

لضمان المحافظة على هذه النقطة الإيجابية، يمكن التفكير في تطوير  فكرة “دخلة الباك سبور”، دون إجراء اختبار التربية البدنيّة لآخر السّنة، وذلكعبر اعتماد صيغة مشاريع عروض فنية ورياضية وثقافية، تُطبّق فيها بيداغوجيا المشروع، حيثيمكن الاستفادة من دروس فشل تجارب سابقة للوزارة في هذا المجال. نعني بذلك تجربة “التعلمات الاختيارية” (2003- 2006)  أو “”مادة إنجاز مشروع” (2006-2015) [5]. واستنادا للوثيقة الرسمية للتجديدين المذكورين، يمكن أن تتكون مجموعات من التلاميذ، تنطلق في تصور مشروع “دخلة الباك” وإعداده وتنفيذه،  بداية من السنة الدراسية للسنة الرابعة ثانوي، أو انطلاقا من السنة الثالثة ثانوي . يؤطر المشاريع مجموعة من المربين من اختصاصات مختلفة كالتربية البدنية والموسيقى والمسرح وغيرها، وبالتعاون والدعم من أطراف أخرى من العائلات والمحيط الاجتماعي والاقتصادي والثقافي للمؤسسة التربوية كدُور الشباب أو الثقافة أو مؤسسات أخرى ( طبعا في سياق مشروع المؤسسة التربوية وتطبيق القانون المنظم له منذ 2004، وهو الأمر المنظم للحياة المدرسية، أو ربما القانون الذي ننتظر أن يعوّضه) يمكن كذلك أن تُرصد جوائز جهوية ووطنية لأحسن العروض التي يتم تقديمها في الاحتفالات المدرسية لآخر السنة إلخ إلخ…


هوامش:

[1] مثال ذلك دفاعنا عن قرار إلغاء الاعداديات والمعاهد النموذجية ، في مقالين منشورين بجلنار  وهي  “مفارقات تونسية ( 2)(28 أفريل 2022) و”مفارقات تونسية” (3) بتاريخ 22 جوان 2022

[2]  معطيات هذا العنصر والعنصر السابق مستخلصة، أساسا، من دراسة حول “الباك سبور” منشورة بموقع “المدونة البيداغوجية” بتاريخ 26 أفريل2015.

[3]  https://www.guideparents.tn/article

[4] https://ar.espacemanager.com

[5]  تناولنا  هذا الموضوع  في  كتابنا ” المدرسون والتجديد” ويمكن الاطلاع على تقديم الكتاب من الصديق منصف الخميري بالمدونة البيداغوجية  بتاريخ 6 مارس 2022 وكذلك على الفصل الأول من الكتاب بنفس المدونة  في 4 تواريخ متتالية بداية من 29 جانفي 2023

أكمل القراءة

منبـ ... نار

تكريما لروحك يا “جاد”… أعلِنُك رئيسا رمزيا

نشرت

في

Ouvrir la photo

توفيق العيادي:

كان جاد نصيرا للمرضى والعجّز والفقراء ولم يطلب يوْما نصرتهم لكسْب أو منصب أو مغنمٍ له، وقد هبّ الناس لتوديعه لأنهم أحسّوا فعلا بعظيم خسارتهم في موته.

Ouvrir la photo
توفيق العيادي

لم أعرف جاد الهنشيري إلا عن طريق الصدفة ومن خلال برامج تلفزية دُعِيَ لها ضيفا كممثل للأطباء الشبان، ولم ألتقه مطلقا، فقط استمعت إليه أكثر من مرّة وهو يُلقي بهمّه الذي هو همّ الفقراء على مسامع التونسيات والتونسيين، ويقطفُ من روحه أمَلاً يُرسِله لهم جميعا درْءً لأحزانهم التي فاقت كل معايير القيس وأدوات الأكيال والأوزان، وثـقُـل عليْهم حِمْلُ الهموم التي ناءتْ بها الأعناق، والمرارة على محيّا جادٍ بادية لا تُخطئها العين ويتدفّق الصدّق من بين موجات صوته المَغْصوص كَغُصَصِ كل الشباب الحالم على هذه الأرض، ولا تخلو غصّة جاد من معنىً يؤطّره مبدأ أساسيّ يشُدّ الحلم وينير الطريق ويُحفّز على المسير وتجشّم الصّعاب، مبدأ فحواه أنه : ” بمقدورنا أن نكون أفضل .. يجب أن نكون أفضل”، رغم الاستهجان والاعتراف بحجم الفساد الذي نخر معظم القطاعات والفئات في هذا الوطن.

لكَمْ نحن في حاجة ماسّة إلى شابّ جادٍّ كما “جاد” يتوهّج عزما وحبا وصدقا، ولسنا في حاجة إلى “عـتْـڤـة” قديمة كما بعض من فاق السبعين وغنِم من العهديْن ويريد اليوْم أن يستزيد … مات “جاد” رحمه الله وأغدق على أهله وصحبه الكثير من الصبر والسّلوى. لكنّ القِيَم التي حملها جادّ وحلُم بها وحمّلها لمنْ بعْدِه من الصّحْب والرّفقة، لا تزال قائمة، فأمثال جاد من الشباب الأوفياء والخلّص للوطن بكل مكوّناته سيّما البسطاء منهم، موجودون بالعشرات، بل بالآلاف وفي كل ربوعه، وما على الوطن إلاّ أن يَجِدّ في طلبهم والبحث عنهم وأن يُصدّرهم مواقع الريادة والقرار ،وإن حَجَبَهُمْ عنّا تعفّـفهم،

إذا كنا نريد فعلا المضيّ في الطريق المفضي إلى المشروع الحرّ وجبَ أن نغادر خصومات كسب العواطف واِستمالة الأهواء ونعراتِ التحامق، ونمضي في تسابق نحو كسب العقول وتهذيبها وتنظيفها من كل الشوائب العالقة بها لعهود .. ولذلك أقول للمشتغلين بالسياسة والمتكالبين على استدرار الشعب لتدبير شأنه العام والاستحكام برقابه، إن السياسيّ الناجح هو الذي يُبينُ للناس ما فيه من فضائل وما هو عليه من إقتدار وليس نجاح السياسي رهين عرض نقائص الخصم والتشنيع عليه وتعظيم مساوئه وإن كان له فيها نفع.

ونذكّر السياسي أيضا أن الجدارة بالحكم لا تتوقّف عند حدّ الفوز بالتفويض من الإرادة الشعبيّة عامة كانت أو مطلقة، كما أن النوايا الطيّبة لا تكفي لمزاولة السلطة، بل يبقى صاحب السلطة في حاجة إلى تأكيد شرعيّته بحسن إدارة الحكم الذي ينعكس وجوبا على أحوال الناس، وهذا لا يتمّ لهم بواحدٍ بل بكثيرين ومن أمثال “جاد الهنشيري” تضحية وصدقا ومروءة …

رحل جاد وبقي أثره فينا، وتكريما لروحك يا “جاد” واِنحيازا لكلّ قيَمِ الجدارة والصدق والإنسانيّة والجدوى، والتي مثّلتها باقتدار، أعْـلِنُـكَ “رئيسا” رمزيّا وشرفيّا بالغياب لهذا الوطن الحزين … ليطمئن السياسيون، فـ”جاد” لن ينهض من غيبته الأبديّة، وستكون قيمه تقضّ مضاجعكم كلّما اجتمعت لشخصٍ خشية أن يُبعثر حسابات الرّبح مِمّا تمِزّون من دماء الوطن.

أكمل القراءة

منبـ ... نار

هل تتخلص تونس من مكبلات صندوق النقد الدولي و تبحث عن مصادر بديلة؟ (2)

نشرت

في

Compétitivité des exportations en Afrique La Tunisie classée 2 ème Tunisie

عرفت تونس أزمات اقتصادية ومالية متفاقمة بعيد ثورة 14 جانفي، وتتالت هذه الأزمات و امتدت آثارها السلبية الى اليوم رغم القطع مع المنظومة البائدة إثر حراك 25 جويلية.

<strong>فتحي الجميعي<strong>

إلا أن الانتهازيين و أصحاب المصالح والسابحين عكس تيار النهوض بالبلاد عطلوا عملية الإصلاح وعملوا على إفشالها وذلك بكل السبل، فبقيت تونس رهينة الديون المتراكمة والمجَدْولة، وسياسات الجذب الى الخلف كالتهريب والمضاربة وتبييض الأموال. غير أن الإرادة الصادقة، والإيمان القوي بضرورة تغيير حال البلاد إلى الأفضل جعلها لا تنحني إلى الابتزازات، ولا تخضع للشروط.

فرغم توصلها في أكتوبر 2022 الى اتفاق على مستوى الخبراء مع صندوق النقد الدولي تحصل بموجبه على تمويل بقيمة 1.9 مليار دولار، لكن الاتفاق النهائي تعثر تحت طائلة الشروط القاسية كرفع الدعم، خفض الأجور و بيع مؤسسات عامة متعثرة. ولم يقف الأمر عند ذلك الحد بل تم وضع تونس ضمن القائمة السلبية لأول مرة من قبل هذا الصندوق، الأمر الذي صعب على بلادنا النفاذ الى الأسواق المالية العالمية.

وتفاديا للوقوع في صدمات اجتماعية واقتصادية، نجحت تونس بفضل تطور صادراتها، وعائدات السياحة، وتحويلات التونسيين بالخارج، وتنويع شركائها التجاريين إضافة إلى اعتمادها على الاقتراض الداخلي، والاكتتابات المتتالية لدى بورصة تونس، وانخراط التونسيين في هذه العملية، وهو نوع من الوعي الوطني والدفاع عن حرمة تونس، و نتيجة لذلك تحقق توازن مالي لدى البلاد هذا من ناحية، و من ناحية أخرى أعطت درسا لصندوق النقد الدولي بإمكانية التخلي عن خدماته عند الاقتضاء وخاصة عند المساس بأمنها القومي.

ورغم أن الفضاء الطبيعي  لتونس هو الفضاء الإفريقي والعربي والأوروبي باعتبار أن ثلثي المبادلات التجارية معه، إلا أنها عبرت عن انفتاحها على كل الفرص التي تمكن من تسريع وتطوير مناخ الأعمال ونسق النمو في اشارة إلى مجموعة “البريكس”.

إن تونس  مازالت منفتحة على الحوار مع صندوق النقد الدولي لكن دون إملاءات أو شروط تهدد السلم الاجتماعي. وإن تعذر ذلك فتونس مستعدة للانضمام الى بريكس للحصول على التمويلات اللازمة.

أكمل القراءة

صن نار