تابعنا على

جلـ ... منار

مجمّع الشفاء واستباحة الجسد البشري: في غزّة كما في واشنطن

نشرت

في

يُفهم، بيُسر وبساطة وكثير من المنطق المستند إلى سوابق لا عدّ لها ولا حصر، أن تلتحق مختلف مؤسسات الإدارة الأمريكية الراهنة بهذه أو تلك من الأكاذيب، الفاضحة الفاقعة، التي تروّج لها دولة الاحتلال الإسرائيلي؛ في سياقات شتى عموماً، وبصدد العدوان الهمجي الراهن على المدنيين من أبناء قطاع غزّة خصوصاً.

صبحي حديدي
<strong>صبحي حديدي<strong>

لم يكن جديداً تبنّي الإدارة الأكذوبة الإسرائيلية بصدد قصف المستشفى الأهلي المعمداني، ولن تكون أخيرة “المعلومات الاستخباراتية” الزائفة التي أعلنت الإدارة أنها تملكها حول وجود قيادة عمليات لحركة “حماس” في أقبية مجمّع الشفاء الطبي. كما أنّ هذا السلوك الببغائي خلف أضاليل الاحتلال لم تنفرد إدارة بايدن بإدخاله وترسيخه، بل انتهجته الإدارات الأمريكية كافة، وطوال عقود من المساندة العمياء للفظائع الإسرائيلية على اختلاف أصنافها، السياسية والعسكرية والاستيطانية والعنصرية، من دون استثناء المجازر الدامية وجرائم الحرب الصارخة.

ما لا يصحّ أن يُفهم، باليُسر ذاته على الأقلّ، هو سكوت الهيئات الصحية الأمريكية، الرسمية منها ولكن الأهلية أيضاً وفي المقام الأوّل، عن استهداف المشافي والمصحات وسيارات الإسعاف، وبداخلها أيّ وكلّ عامل في الخدمات الطبية فلسطينياً كان أم أجنبياً.

فضائحي أكثر، وسافر جدير بأقصى الاستنكار، أن تتجاهل تلك الهيئات ما يصدر في هذا الصدد عن منظمات أممية ودولية مثل الصحة العالمية أو اليونيسيف أو الأونروا أو الصليب الأحمر أو أوكسفام، وكذلك عن منظمات حقوقية ذات شأن مثل العفو الدولية أو هيومان رايتس ووتش.

خلافاً، على سبيل الإيضاح المفيد، لاثنين من أشهر النصوص في القانون الدولي حول حماية المشافي والعاملين في الخدمات الطبية: 1) المادة 19 من مواثيق جنيف لعام 1949، التي تقول: “لا يجوز، تحت أيّ ظرف، مهاجمة المؤسسات والوحدات الطبية، ويتوجب احترامها وحمايتها من جانب أطراف النزاع”؛ و2) القاعدة 25 من “القانون الإنساني العالمي” الذي ينصّ على أنّ “العناصر الطبية المكلفة بواجبات طبية يتوجب احترامها وحمايتها في جميع الظروف”. هذا عدا عن اشتراطات اتفاقية روما 2002، التي شكّلت الأساس القانوني لمحكمة الجنايات الدولية، والتي تنصّ صراحة على أنّ الهجمات عن سابق قصد ضدّ المشافي وأماكن إيواء الجرحى والمرضى تُعدّ جريمة حرب.

المثال الأحدث، ولعله لن يكون الأخير أو حتى الأبرز، هو موقف “الرابطة الطبية الأمريكية” AMA، التي عقدت اجتماع مجلس المندوبين يوم 11 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري، فرفضت قيادة الرابطة دعوة 135 من الأعضاء لإجراء مناقشة حول ضرورات وقف إطلاق النار، بل وحجبت عن هؤلاء الحقّ الشرعي في 90 ثانية من التعليق على جدول الأعمال. وجاء في بيان المطالبين بفتح النقاش أنّ على عاتق الرابطة “مسؤولية التمسك بأمان العاملين في العناية الصحية وخفض المعاناة الإنسانية، ومن الواضح تماماً أنّ هذه القيم لا تُراعى من جانب بعض الأطباء المتنفذين في البلاد”.

فإنّ امتناع الرابطة الأمريكية عن المطالبة بوقف إطلاق النار في غزّة ليس دعوة صريحة لإعلان حرب مفتوحة على الجرحى والمرضى بل هو خيانة قصوى، لأبسط ما يقتضيه الطبّ من طرائق وإجراءات

هذه حال فاضحة استوقفت العديد من الكتّاب والباحثين المعنيين بالعلاقة بين الطبّ والحرب، من زوايا حقوقية وقانونية وإنسانية وأخلاقية، ثمّ سياسية في نهاية المطاف؛ على غرار روبا ماريا، الطبيبة وأستاذة الطب في جامعة كاليفورنيا ومؤلفة الكتاب الرائد “التهاب: الطبّ العميق وتشريح انعدام العدالة” 2021، بمشاركة الصحافي الهندي راج باتيل. وفي السطور الأولى من الكتاب يستعيد المؤلفان مقولة الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، في أنّ الجسد البشري “مورّط مباشرة في الميدان السياسي، وعلاقات القوّة تمارس تأثيراً فورياً عليه، فتستثمر فيه، وتترك عليه علامتها، وتعذّبه، وتجبره على تنفيذ المهامّ، وعلى أداء الطقوس، وإصدار العلامات. هذا الاستثمار السياسي للجسد البشري مقترن بعلاقات تبادل معقدة، وباستخدام اقتصادي، وهذه قوّة إنتاج تُستثمر في علاقات القوّة والإخضاع”.

لم يكن غريباً أنّ أمثال ماريا وباتيل كانا في طليعة الأصوات التي لم تتردد في إدانة جرائم الحرب الإسرائيلية عموماً، وتلك التي استهدفت المشافي والمرافق الطبية خصوصاً؛ وتصدت، استطراداً، لفضح سكوت الهيئات الصحية الأمريكية عن تلك الجرائم، من جانب أوّل؛ بالمقارنة، في المقابل، مع صراخها ضدّ انتهاكات أقلّ مارستها القوات الروسية الغازية في أوكرانيا. هنا، أيضاً، تتلاقى طرائق استثمار الجسد البشري بالتوازي مع علاقات القوّة والإخضاع، ويصبح نافلاً أيّ وجه للمقارنة بين مشفى في كييف وآخر في مدينة غزّة؛ كما تُكمم، أو حتى تُخنق تماماً، الأصوات التي تدعو إلى منطق مساواة في الحدود الدنيا، بين ضحية وضحية وطبيب وطبيب، على شاكلة ما فعل مدراء مؤتمر “الرابطة الطبية الأمريكية” مؤخراً.

وهذه الرابطة، للإيضاح المفيد مجدداً، تأسست سنة 1847 في شيكاغو، وتضمّ 271,660 منتسباً، بين طبيب وطالب طبّ، وميزانيتها تُحتسب بمئات الملايين، كما يتفق الكثيرون على أنها في عداد أقوى مجموعات الضغط داخل الولايات المتحدة إذْ تنفق نحو 18 مليون دولار سنوياً على أنشطة تأييد حملة هنا أو إفشال أخرى هناك. تاريخها يسجّل مخازي كثيرة، بينها إقرار الفصل العنصري بين الأطباء البيض والسود خلال حراك الحقوق المدنية، وعرقلة اعتماد الأطباء الألمان اللاجئين إلى أمريكا هرباً من النازية والرايخ الثالث؛ وزائر موقع “رابطة فلسطين الطبية الأمريكية” سوف يعثر على ملابسات شتى، قديمة ومتجددة، بصدد مواقف الرابطة الأمّ بصدد القضية الفلسطينية.

الأحدث، كما سلف، كان رفض التصويت على وقف إطلاق النار في غزّة، بذريعة أنه “مطلب جيو ـ سياسي” وليس من اختصاص الرابطة؛ التي اقتفت، في واقع الأمر، الخطّ الجيو ـ سياسي ذاته الذي اعتمده البيت الأبيض وزعماء ديمقراطيات غربية أخرى في بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، والاتحاد الأوروبي في الركب ذاته.

وكي لا تكون الرابطة الأمريكية أقلّ اغتراباً عن مثيلاتها داخل دولة الاحتلال، كان نحو 100 طبيب إسرائيلي قد توافقوا على عريضة (نعم: عريضة!) مكتوبة بالعبرية، تدعو إلى قصف كلّ مشافي غزّة، وتقول بالحرف: “لا يجب أن يكون هناك مكان آمن لكلّ من يخلط بين المشافي والإرهاب”؛ وأيضاً: “سكان غزّة الذين قبلوا تحويل المستشفى إلى وكر إرهابي والاستفادة من الأخلاقيات الغربية، هم أولئك الذي تسببوا في إفناء ذاتهم”. وهكذا فإنّ هؤلاء “الأطباء” ممّن أدّوا قسم أبوقراط كما يُفترض، لا يكتفون بالدعوة إلى فرض العقاب الجماعي والعشوائي والهمجي على المشافي فحسب؛ بل يعمدون أيضاً إلى إسباغ الشرعية على الإبادة الجماعية، تحت مظلّة استشراقية بذيئة عنوانها “أخلاق” الغرب، وضمن تصنيف موازٍ لذاك لذي اعتمده رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو حين تحدث عن “أطفال الظلام” في غزّة، أو وزير دفاعه يوآف غالانت الذي اختار توصيف “الحيوانات البشرية”.

وإذا لم تكن عريضة الأطباء الإسرائيليين غريبة عن سياقات عديدة شهدت تواطؤ العديد من المهن والوظائف الإسرائيلية مع سياسات الاحتلال القمعية والاستيطانية والعنصرية، فإنّ امتناع الرابطة الأمريكية عن المطالبة بوقف إطلاق النار في غزّة ليس دعوة صريحة لإعلان حرب مفتوحة على الجرحى والمرضى والمصابين والعاملين في الخدمات الطبية والمستشفيات، فحسب؛ بل هو خيانة قصوى، شنيعة وبغيضة، لأبسط ما يقتضيه الطبّ من طرائق وإجراءات. هو استباحة للجسد البشري، عبر السكوت عن اضطرار أطباء مشافي غزّة إلى إجراء عمليات توليد قيصرية بسبب تدني أو انعدام شروط الحدّ الأدنى، أو إجراء الجراحات المختلفة من دون تخدير، أو استخدام المنظفات المنزلية في تعقيم المشارط…

أنساق استباحة قصوى، بأوامر نتنياهو في غزّة، وسكوت الرابطة الأمريكية في واشنطن.

ـ عن “القدس العربي” ـ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*كاتب وباحث سوري مقيم بباريس

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جلـ ... منار

الصوت المضيء

نشرت

في

وفاء سلطان:

البارحة نشرت بوستا مفاده ان مقدار سلامك الداخلي هو انعكاس لعملك وإيمانك ونواياك وأفكارك وصداقاتك وعلاقاتك ونجاح اسرتك.

وفاء سلطان

فكرة البوست ولدت بعد محادثة على الخاص مع شخص لم أكن أعرفه من قبل، شخص متدين جدا جدا،

ولكنه كان مهذبا ولطيفا، لسبب واحد التقطته من خلال الحديث ألا وهو أن لديه شكوكا بطبيعة ما يؤمن به

أراد أن يجرني لأفصح عن كل ما أعرفه بهذا الخصوص، لأن ما أقوله راح يغوص في تلافيف دماغه ويحرك شيئا عنده.

في سياق الحديث قلت له: أشعر أنني أسعد امرأة في العالم، والشخص الأكثر سلاما

فردّ على الفور:

بعكسي تماما فحياتي قاسية جدا، وتابع: أعيش وأشعر أن كل شخص يتعامل معي بوحشية لأنني إنسان طيب وأخاف أن اؤذي أحدا.

قلت: الطيبة لا تعني أن تترك الوحوش تنهشك!

فردّ: أخاف من الله

قلت: ومتى كان الدفاع عن النفس ضد مشيئة الله؟

لن أخوض أكثر في بقية الحديث، لكنني أود أن أعلق على ما سبق وذكرته منه.

عندما أقول أنا أسعد امرأة في العالم والأكثر سلاما، لا أقصد أنني لم أحزن ولم أتألم، فالحزن والألم جزء من الطبيعة البشرية وعامل فعّال في ديناميكية الحياة.

الحزن ليس الوجه المغاير للسعادة، بل التعاسة هي ذلك الوجه.

نعم، لم أشعر يوما أنني تعيسة، ولكنني حزنت مرارا كردّة فعل على حدث ما.

الحزن شعور عابر يثيره حدث مؤلم، أما التعاسة فهي حالة عقلية دائمة تستنزف طاقة البشر وتحولهم إلى

دمى لا حياة فيها، يشعرون عندها أن لا قيمة ولا فائدة لوجودهم

بالمناسبة، استطيع ان أعمّم وأقول: لم أصدف في حياتي متدينا مهووسا وخضت قليلا في حياته إلا واكتشفت أنه تعيس إلا حد الاستنزاف، والإفراط في تدينه ليس أكثر من وهم، وهم يشبه إلى حد بعيد وهم الغريق عندما لا يجد سوى قشة فيتعلق بها.

الإنسان يملك إرادة حرة وهي وحدها، ولا شيء غيرها، ينقذه من تعاسته

أما الله فهو صوت الضمير في أعماقه، ذلك الصوت الذي يعزز إرادته ويضيء له الطريق

ولقد أضاء لي الطريق حتى صرتُ أرى ثقب الإبرة خلال لحظة ظلام دامس

فأدخل فيه الخيط كي أشبك جروحي وجروح الآخرين

Motif étoiles

أكمل القراءة

جلـ ... منار

“هابرماس”… والعدوان على غزّة

نشرت

في

عبد الله السيد ولد اباه*:

يورغن هابرماس” هو بدون شك أهم فلاسفة الغرب الأحياء وقد وصل سنّ الرابعة والتسعين، وأصدر عشرات الكتب الفلسفية والاجتماعية الهامة، آخرها كتابه المرجعي في تاريخ الفلسفة من مجلّدين.

لقد كتبتُ حوله الكثير وصحبتُ أعماله الفكرية منذ مطلع الثمانينات، بيد أنّ الحديث اليوم يتعلّق بالموقف الذي عبّر عنه في عريضة وقّعها باسمه مع آخرين، بخصوص الأحداث المأساوية التي تمرّ بها غزّة حاليًا.

ما استوقفني في العريضة أمران، أوّلهما التأكيد على “شرعية” العدوان الإسرائيلي على سكّان غزّة من منظور “حق الدفاع عن النفس”، وثانيهما القول بأنّ اتهام إسرائيل بشنّ حرب إبادة ضد الشعب الفلسطيني مظهر من مظاهر العداء للسامية!

لم يذكر في العريضة أيّ شيء عن الاحتلال الإسرائيلي وحق المقاومة الفلسطينية الذي تكفله المواثيق والقوانين الدولية، ولم يتم الاعتراف بجذور وخلفيات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الذي لم يبدأ يوم 7 أكتوبر.

لقد استغرب الكثيرون مواقف الفيلسوف الألماني العجوز الذي يقدّم نفسه بكونه آخر مدافع عن تركة التنوير والحداثة الإنسانية، وأكبر معارض لليمين المتطرّف في أوروبا والنزعات الشعبوية العنصرية المتنامية في القارة. والواقع أنّ هابرماس لم يُخفِ يومًا من الأيام نزعته المركزية الغربية، من خلال الصراع المحتدم الذي خاصه ضد الأفكار التفكيكية والنقدية في الفلسفة الغربية من نيتشه إلى هايدغر وفوكو وديريدا.

ما حاربه هابرماس لدى هذا التيار الواسع الذي يصفه بالعدمي هو التشكيك في السردية العقلانية التنويرية لأوروبا الحديثة، برفض القول بالخلفيات السلطوية والإقصائية في الخطابات المعرفية والعلمية التي تدعي الكونية الموضوعية والمحايدة.

وعلى الرغم من تشبث هابرماس بالأنموذج التواصلي المفتوح القائم على التداول البرهاني الحر، إلا أنه في الحقيقة لم يسعَ يومًا إلى اكتشاف الثقافات الأخرى، بما يبرز جليًا في كتابه الأخير حول تاريخ الفلسفة الذي ينطلق فيه من مركزية اللاهوت الأوروبي في تشكّل المنظومات الفلسفية.

ما علاقة هذا التوجّه الفلسفي بتعاطفه مع إسرائيل وتنكّره لحقوق الشعب الفلسطيني الذي يتعرّض لحرب إبادة جماعية غير مسبوقة؟

العلاقة واضحة، وهي أنّ هابرماس عاجز عن التفكير خارج مقاييس الكونية الغربية حيث تشكّل الحالة الإسرائيلية امتدادًا طبيعيًا للسياق الأوروبي، ومن هنا إشارته إلى حساسية موضوع المحرقة اليهودية بالنسبة لألمانيا، وكأنّ الشعب الفلسطيني مسؤول عن هذا الحدث الذي تمّ في العمق الأوروبي.

الغريب أنّ هابرماس المدافع بقوة عن الشرعية المعيارية الإجرائية التي هي أساس المدونة القانونية الحديثة والمتشبث بعقلانية المجال التواصلي خارج أي تدخل للمرجعيات الدينية المقدسة، لا يشعر بالتناقض وهو ينحاز لأخطر الأنظمة اليمينية المتطرّفة حيث تتحالف الصهيونية الدينية المتشدّدة مع الأحزاب العنصرية الفاشية .

وصفه الفيلسوف الألماني “بيتر سلوتردايك” بأنه “السليل الأخلاقي للنازية”

لقد تعلّل هابرماس بما أسماه استثناء الديمقراطية الإسرائيلية، دون أن يقف عند المرجعية المسيانية للدولة التي حصرت هويتها القومية في مكوّنها اليهودي، بما يعني إقصاء خمس سكانها وهم من نسيجها المسلم والمسيحي الأصلي، كما أقامت في المناطق المحتلّة نظام تمييز عنصريًا لا يختلف في شيء عن حالة جنوب إفريقيا السابقة حسب إقرار رئيس الموساد السابق تامير باردو.

كيف يمكن الحديث عن دولة ديمقراطية تقوم على العنصرية والتطهير العرقي، وترفض معايير المواطنة المتساوية وتكرّس الاحتلال الاستيطاني؟

لقد وصف الفيلسوف الألماني “بيتر سلوتردايك” مفكّر التواصلية هابرماس بأنه “السليل الأخلاقي للنازية”، ويعني بهذه العبارة أنه ينتمي للفكر نفسه والمرجعية النظرية نفسها وإن اعتمد قاموسا أخلاقيًا عقلانيًا. هل يمكن من هذا المنظور لفيلسوف أوروبا الكبير أن يستوعب المأساة الفلسطينية التي هي بالفعل حرب إبادة حقيقية، وكل من يبررها هو شريك في العدوان والمذبحة؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*فيلسوف وباحث وكاتب وأكاديمي موريتاني

أكمل القراءة

جلـ ... منار

ترامب الثاني: انتظار الفاشية خلف انتصار الـ”ماغا”!

نشرت

في

صبحي حديدي:

بعد الهزيمة المدوية التي مُني بها الحزب الديمقراطي الأمريكي، في شخص مرشحته للرئاسة كامالا هاريس ومقاعد مجلس الشيوخ في وست فرجينيا ومونتانا وأوهايو؛ لم تكن مفاجأة أن النقد الأوضح لخطّ الحزب واستراتيجيته أتى من أحد كبار “المشبوهين المعتادين” القلائل جداً في نهاية المطاف: السناتور برني ساندرز.

صبحي حديدي

ساندرز” يعتبر نفسه مستقلاً، ولكنه ينضوي ضمن تجمّع الديمقراطيين في مجلس الشيوخ ولا ينأى عنهم إلا في مناسبات قليلة؛ لأنه، في واقع الأمر، محسوب عليهم في أعمّ المناسبات.

ما يقوله ساندرز اليوم ليس جديداً من حيث المبدأ، أو هو لا يتصل أساساً باندحار هاريس والحزب الديمقراطي، لأنّ إهمال أولويات الطبقة العاملة، كما يساجل ساندرز اليوم، ليس خياراً طرأ على الديمقراطيين خلال الأشهر القليلة التي أعقبت عزوف جو بايدن عن الترشيح وصعود نجم هاريس؛ بل هو قديم ومتقادم وجزء لا يتجزأ من الشطر الرأسمالي في فلسفة الحزب الديمقراطي، على غرار الحزب الجمهوري وإنْ بفارق هنا أو هناك. كذلك يحيل ساندرز بعض أسباب الهزيمة الأخيرة، بل يوحي ضمناً بأنها الأبرز: “بينما دافعت قيادة الحزب الديمقراطي عن الأمر الواقع، كان الشعب الأمريكي غاضباً وأراد التغيير. وكان على حقّ”.

ليس تماماً، أو على الأقلّ ليس بمعدّل 71.7 مقابل 66.8 مليون ناخب، والفوز في التصويت الشعبي للمرّة الأولى بالنسبة إلى مرشح جمهوري منذ سنة 2004؛ و295 مقابل 226، في المجمّع الانتخابي؛ وليس في 27 مقابل 18، على صعيد الولايات؛ وليس وقد اتضح أنّ أداء هاريس كان أضعف من أداء بايدن 2020 في كلّ الولايات… التأزم، استطراداً، أبعد من مجرّد “غضب” شريحة من الشعب الأمريكي؛ والهزيمة هذه ليست أقلّ من فصل جديد في مسلسل طويل من انتقالات عاصفة وتحوّلات كبرى يعيشها المجتمع الأمريكي، فلا تقتصر على الحزبين الديمقراطي والجمهوري وحدهما، بل تمسّ سائر فئات الشعب وطبقاته، على أصعدة شتى اجتماعية ــ اقتصادية، ثمّ سياسية ومعنوية وأخلاقية وثقافية، وسواها.

في الوسع الابتداء من حقيقة أولى بسيطة، ماثلة للعيان وأوضحتها أنساق التصويت الاجتماعية والجغرافية والعُمْرية، مفادها أنّ الولايات المتحدة بعد 248 سنة على إعلان استقلالها ليست، بعدُ، مستعدة لانتخاب امرأة إلى منصب الرئاسة؛ وهيهات، تالياً، أن تكون جاهزة لانتخاب امرأة من أصول مهاجرة، آسيوية وسوداء البشرة في آن معاً. وفي باطن هذا المعطى الأول لوحظ أنّ تصويت المجموعات الهسبانية ذهب إلى ترامب بمعدّل 45 بالمائة، رغم التصريحات العنصرية البغيضة التي شهدتها بعض تجمعات ترامب الانتخابية، على مسمع ومرأى منه (كما في تعليق توني هنشكليف ضدّ بورتو ريكو بوصفها “جزيرة القمامة” مثلاً)؛ وهذا فضلاً عن أغلبية عالية لصالح ترامب في أوساط الرجال، لاعتبارات ذكورية لا تخفى.

وجهة أخرى في استدلال مغزى مركزي خلف الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة هي تلك التي تبدأ من تصريح ترامب، خلال خطبة انتصاره، بأنّ الـMAGA (مختصر للحروف الأولى من شعار ترامب الانتخابي باللغة الإنكليزية: جَعْلُ أمريكا عظيمة مجدداً) هي ‘أعظم حركة سياسية في التاريخ’؛ ليس لأنها كذلك بالفعل، فهي أبعد ما تكون عن أيّ طراز من العظمة حفظه التاريخ، بل لأنّ مكوّنات الاستيهام فيها حرّكت عشرات الملايين خلف ترامب: أشدّ تأثيراً من الاقتصاد ومسائل التضخم والقدرة الشرائية، وأدهى استقطاباً من رهاب اللاجئين والمهاجرين والأجانب، وأعمق دغدغة للكوامن الفاشية التي تصاعدت وتتصاعد في نفوس أمريكيين كُثُر ابتداء من العقدين المنصرمين.

كيف يُلجَم رجل كهذا وهو يسيطر على البيت الأبيض، ومجلس الشيوخ، ومجلس النوّاب، والمحكمة العليا، فضلاً عن كونه القائد الأعلى الفعلي للقوات المسلحة؟

وفي قلب الـ”ماغا” كان يتنامى هوس “القومية الأمريكية” الذي لم يعد غريباً أو ناشزاً أو نادر الاستخدام كما كانت الحال قبل صعود ترامب، ومنذ شيوع هستيريا تعظيم أمريكا سنة 2015، حين تضاعفت أكثر فأكثر النزعات العنصرية والمناطقية، وفلسفات “التفوّق” العرقي الأبيض. كذلك، في جزء متمم، لم تعد الولايات المتحدة حصينة تماماً إزاء مؤثرات العالم خارج المحيط، ولم يعد تكوينها المجتمعي ــ الذي ساد الاعتقاد بأنه متعدد المنابت، تعددي الأعراق ــ بمنأى عن يقظة القوميات هنا وهناك، في العالم بأسره ثمّ في أوروبا حيث المنبع الثقافي الذي يغذّي قسطاً غير ضئيل من “القِيَم” الأمريكية.

وكي لا يُظلم ترامب أو تُنسب إليه وحده شرور الـ”ماغا” فإنّ غالبية الإدارات الأمريكية السابقة، منذ عهد وودرو ولسون وليس رونالد ريغان أو جورج بوش الأب والابن؛ لم تفعل سوى محاولة تطوير المشروع الإمبريالي الأمريكي، السياسي والاقتصادي والثقافي، تحت هذه المظلة بالذات: سطوة أمريكا العظمى! ولم نعدم كاتباً أمريكياً ظريفاً جنح ذات يوم إلى الشكوى من “واجب مقدّس” أُلقي على عاتق أمريكا تجاه العالم، اتخذ سلسلة تسميات مثل “الإمبراطورية بالصدفة العمياء” و”الإمبريالية بالتطوّع” و”العبء الجديد للرجل الأبيض”. وفي كتاب بعنوان “السلام الأمريكي” صدر للمرّة الأولى سنة 1967 ولم تمنع حرب فيتنام من جعله مرجعاً أثيراً لدى شرائح واسعة من القرّاء في أمريكا، كتب رونالد ستيل: “على النقيض من روما، إمبراطوريتنا لم تلجأ إلى استغلال أطرافها وشعوبها. على العكس تماماً… نحن الذين استغلتنا الشعوب واستنزفت مواردنا وطاقاتنا وخبراتنا”!

والرجل، ترامب، الذي أعلن على الملأ أنّ إعادة انتخابه سوف تخوّله أن يكون دكتاتوراً؛ وأنه سيثأر من خصومه، وعلى رأسهم أولئك الذين كانوا مستشارين في إدارته أو وزراء أو رؤساء أركان أو محامين، بمن فيهم نائبه نفسه؛ وأنّ عودته إلى البيت الأبيض سوف تريح الأمريكيين من واجب الذهاب إلى صناديق الاقتراع الرئاسية، مرّة أخرى أو إلى الأبد… لماذا سوف يعفّ، هذا الرجل بالذات، عن الذهاب إلى أقصى مدى في الفاشية والتسلط وترويض ما يتبقى من قواعد/ نواهٍ ديمقراطية في نظام الولايات المتحدة؟ للبعض أن يتشبث بمقولة رسوخ هذا النظام، وأنه أقوى من أيّة سلطات يمنحها الدستور للرئيس الأمريكي؛ ولكن… كيف يُلجَم رجل كهذا وهو يسيطر على البيت الأبيض، ومجلس الشيوخ، ومجلس النوّاب، والمحكمة العليا، فضلاً عن كونه القائد الأعلى الفعلي للقوات المسلحة؟

من المنتظَر، بالطبع، أن يغرق كبار “نطاسيي” الحزب الديمقراطي، المختلفين عن ساندرز من حيث المنهج والغاية والوسيلة، في ترحيل أسباب الهزيمة إلى عوامل مثل تأخّر بايدن في قرار عدم الترشيح، أو اختيار تيم والتز شريكاً على البطاقة مع هاريس، أو الأدوار التي لعبتها وسائل الإعلام اليمينية واليمينية المتطرفة، أو تدخّل الاستخبارات الروسية لصالح ترامب من زاوية عدم حماس الأخير للحرب في أوكرانيا، أو حتى الآثار (أياً كانت) لعجز هاريس والديمقراطيين عن كسب الصوت العربي في ولاية متأرجحة مثل ميشيغان؛ وسوى ذلك، ممّا هو كثير متعدد ومتشابك، محقّ أو باطل أو في منزلة بينهما. الراسخ، مع ذلك، أنّ فوز ترامب ليس اختراقاً تاريخياً لشخصه وشخصيته وما بات يمثّل في وجدان ملايين الأمريكيين، فحسب؛ بل هو انتصار ساحق للـ”ماغا” في مدلولاتها الأعمق، والأبعد أثراً وديمومة، من المحتوى الركيك الذي يعلن جعل أمريكا عظيمة مجدداً.

وما يصحّ أن يُنتظر من ترامب الثاني ليس المزيد من التطرّف في السياسة الخارجية، وملفات حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة، وتعزيز التطبيع مع السعودية خصوصاً، وتقليص الحضور الأمريكي في الأطلسي، فقط؛ بل ما هو آت على صعيد الداخل الأمريكي، أيضاً، لجهة انحسار يمين الجزب الجمهوري، مقابل صعود اليمين المتشدد: العنصري أكثر، والانعزالي أشدّ، والشعبوي أنكى، و… الفاشيّ الأعتى.

ـ عن “القدس العربي” ـ

أكمل القراءة

صن نار