تابعنا على

جور نار

ورقات يتيم … الورقة رقم 6

نشرت

في

Résultat de recherche d'images pour "dessin de charrette" | Espacio rural y  urbano, Libro de colores, Medios de transporte

ذاكرة الواحد منا علميا هي اشبه بزجاجة ..كلما تقدمنا في السن الا وكانت ذاكرتنا منتعشة للغاية مع قاع القارورة (اي فترة الطفولة والشباب) وعكس ذلك ذاكرتنا يصيبها الهزال مع بقايا القارورة وخاصة اعلاها وبالتالي آخر ما نعيشه لذلك نقول “تي الواحد نسى حتى عشاء البارح اشنوة”…

عبد الكريم قطاطة
<strong>عبد الكريم قطاطة<strong>

ومن نفس هذا المنطلق العلمي نفهم الان ذلك المثل الشعبي القائل (العزوزة خرفت قامت تحكي على ليلة دخولها) من هذه الزاوية وقبل البدء في علاقتي بالمذياع في السنة الخامسة ابتدائي (ساعود معكم الى ذكريات تلك السن في المناسبات الخاصة )…علاقتي بالبحر بدأت مثلا في تلك السن قبلها كنا نكتفي بالبيسين …وهي بيسين دياري (السباحة في جفنة) هذه الجفنة متعددة الاختصاصات فهي طوال السنة لغسل الادباش بالصابون العربي وهي في فصل الصيف للـ”فتلان” اي اعداد الكسكسي والمحمص والتشيش والملثوث اي العولة … وهنا لابد من الاشارة الى الام رحمها الله ودورها في معالجة الملفات الاقتصادية في مملكتها كانت حقيقة صيدا باتم معنى الكلمة لم تخضع يوما للمحاصصة ولشطحات الدهر … هي تلعب بلاد على اصبع ساقها الصغير عليسة زمانها كعديد الامهات …

فرغم الفاقة التي لازمتنا دهورا الا ان عولتنا لا تنقطع واعيادنا تكاد تكون في احتياجاتها الرئيسية كسائر الناس … رحماك يا عيادة يا للة النساء واحكمهن …..الجفنة هي ايضا تلك التي نملؤها ماء ونسبح في بعض صنتميتراتها عمقا …المهم عومة …في السنة الخامسة ابتدائية كانت لنا اول زيارة للبحر ..ومن لنا غير شاطئ سيدي منصور وبالتحديد قرب الولي الصالح الذي سمي باسمه … كانت السفرة تتم ليلا على عربة مجرورة (كريطة) حيث نحمل زادنا وزوادنا، وهذا يعني ما خف حمله ورخص ثمنه لان ما غلا ثمنه لا نملكه … دون نسيان جلد الكبش وصوفه لغسلهما في البحر …قلت تكون السفرة ليلا حتى نبتعد عن اعين المتحرشين، خاصة ان الوالد شعراوي (اي عندو شعرة سيدنا علي) او حزار.والويل كل الويل لمن يقترب منه اذا طلعتلو الكلبة بنت الكلب …

وهنا تروي لي الوالدة انها ذات مرة بينما كانت راجعة من زيارة اهلها في البرنوص (محطة بطريق منزل شاكر) وكان والدي قد اقترض كريطة للعودة بها معززة مكرمة من هنالك (وفي الحقيقة حرصا منه على ان لا يقترب منها طامع ما) ..اثناء تلك العودة كان هناك رجل يمشي الهوينا وراء الكريطة و”عينيك ما ترى النور” … نزل سي محمد (هكذا كنت اسميه دوما حتى مماته) وانهال على ذلك المسكين ركلا وضربا وسبّا …وامي مندهشة من صنيعه وتقسم لي باغلظ القسم انه “خاطيه وكلاها في عظمو ورقد مسيكن” … اذن تفهمون الان لماذا الزيارة لسيدي منصور تكون ليليا ذهابا وايابا …

السفرة تنطلق الساعة العاشرة ليلا وسيدي منصور يبعد عنا حوالي 15 كلم ..اي ان الوصول الى الطائرة لباريس اسرع من الوصول الى سيدي منصور على “الآرباس” الكريطية …حال وصولنا تهرع امي الى مقام الولي تبركا به لتشعل شمعة …(والحمد لله اني كنت كل سنة حتى وفاتها البّي رغبتها وامتعها بنفس الزيارة لتناول العشاء على “سطحة” مقامه …اما انا فكنت اهرع الى البحر اجلس على الشاطئ) ….يااااااااااه تصوروا المشهد الليلي …السماء تغطينا بنجومها والبحر يعزف في خريره سمفونية الوجود …مشهد حفر منذ اول زيارة لي للبحر ومازلت لحد الان افضل ما اعشقه في البحر (الليل وسماه ونجومو وقمرو) وزد على ذلك البحر وهديرو ….يا الله ما اعظمك ….في الاثناء كان الوالد مع البنتين الاكبر مني سنا ابقاهما الله، يبني قصرنا على الساحل الازوردي: “كيب” مصنوع من اعواد خشب مشدودة بشكل متقن ومغطاة بـ “طرف عربي” او كليم او بعض الملاحف … قلت متقنا لان الوالد كان اسطى بناء …. ومما اذكره في هذا الباب كان لا يعمر كثيرا مع من يعمل معهم سواء في البناء او في موسم الزيتون في المعصرة، او في (المرادم ) وهي لصنع الفحم … هو فعلا “ذريع” وعليه الكلام، ولكنه “بلابزي” بشكل فادح ولهذا السبب كان عاطلا عن العمل اغلب الوقت …

لا علينا في سيدي منصور نقضي ثلاثة ايام بطولها وعرضها بالنسبة للوالدة واخوتي لا سباحة خارج منظومة الليل …والصباح باكرا كتب عليهن ان يكون حبهن للبحر.. للحياة.. للجمال ..للوجود من نوع ذلك الفيلم المصري (حب لا يرى الشمس) … بالنسبة لابي يكتفي بـ”عومة الصباح” لان دوره في سيدي منصور ان يكون عونا ممتازا في الجوسسة والاستخبارات على حريمه …اما انا فكنت لا اخرج من البحر الا نادرا … ادخله اسمر واخرج منه فحمة في خاتمة المصيف… اخرج منه ربما لاخذ لمجة (ڨدمة خبز يابسة بشكشوكة بايتة) … وكنت الوكها وانا اردد القول ‘مرجتونا كبيدتنا بالشكشوكة) فترد الوالدة بكل حدة (احمد ربي غيرك ما طالهاش) … يا لسخرية القدر …هل هنالك اليوم افضل منها تلك الشكشوكة وهي مزدانة بكريكشة او بعصبانة القديد …او بكعيبات سردينة مقلية ..؟؟؟؟..

البحر في بداية اكتشافي له هو عالم آخر عالم لم نكتف فيه بالسباحة والام تلاحقني بندائها الذي لا ينقطع (ما تفوتش الحزام البحر غدار ) ربما لان والدها رحمه الله مات غريقا …وعبثا حاولت دوما ان “اصب لها بالقمع” ان السباحة في سيدي منصور قد تصل في بحره الى الكوت دازور دون وصول مائه الى الحزام …لانه فعلا من البحار غير العميقة (هو على فكرة بالحق شيّط في هذه النقطة، نازح حتى وهو مليان) ….البحر ايضا كان التقاط صدفات حلزونه على الشاطئ بانواعها في مرحلة اولى ثم التدرب على صيد سرطان البحر وحفظ التكتيك اللازم حتى لا يلدغنا بمنقاريه الحادين …والبحر انذاك لم تقف اختصاصاته عند هذا الحد بل تجاوزها الى بيت كبييييييير للراحة (مرحاض) وما لم نفهمه وقتها ونحن نعمل العملة ونبتعد عنها …انها تصر الحاحا على ان تتبعنا …وكم هربنا منها تاركينها تتبختر على سطح الماء حتى لا يتفطن الينا المصطافون (ويا لها من فضيحة) رغم اننا عرفنا في ما بعد انه مأوى لكل الفائض منا جميعا …

من المناسبات الاخرى التي لها نكهة خاصة امحت تماما: شهر رمضان …وهنا لا اقصد النكهة المعنوية بل النكهة التي نشتمّها بانوفنا …نعم والله اعي ما اقول دون مبالغة تماما كالمطر عند نزوله كنا نستنشق رائحة الغيث النافع ..الان وعند نزول القطرات الاولى من المطر نشتم رائحة قنوات التطهير العطرة …رمضان كان بسيطا جدا لا جواجم ولا تجوجيم …كنا في تلك السن نتسلق طابيتنا القبلاوية اي المتجهة الى القبلة، حيث هنالك فجوة بين ظلفة هندي واخرى ننتظر عندما تبدأ الشمس بالمغيب نور ثريا الجامع، بل قل طراطيش ثريا فوق صومعة جامع ساقية الدائر الوحيد …وذلك النور الذي يشتعل فجأة يعني …حان وقت الافطار حسب التوقيت المحلي جدا للطابية القبلاوية وما جاورها …

انذاك لا وجود لمذياع عندنا ولا وجود لمكبر صوت في الجوامع …وتعلو صيحاتنا ونحن اطفال (افطروا يا صايمين كسكسي بلحم ابهيم) ولم افهم لحد الان ما السر في هذه المعزوفة ….. كما لم افهم ما السر في مشاكستنا نحن الفتيان للفتيات في سننا بالتهكم عليهن (يا بنية شحمة نية) فيكون ردهن (يا وليد عود جويد) وكما لم افهم عند نزول المطر تلك الاغنية التي نرددها (يامطر صبي صبي والليلة عرس القبي، والقبي بسلامتو ضربة على قنباعتو ؟؟؟) … وكما لم افهم مجموعة من الامثال التي فيها نبز بالالقاب من نوع (كان لقيت الارض حايرة مشاو عليها الشطايرة) … او (كان لقيت الارض كالة مشاو عليها القلالة) …او (عرة الزنوس المعالج والفلوس) …او (غربال المليح فيهم مالطي ياكل الستاكة ويبات معلق) … مع اعتذاري لكل اصحاب هذه الالقاب … انا انقل فقط دون قصد اهانة اي كان …

حلمكم اذن واعود لرمضان …رمضان يتميز بخاصيات اخرى ايضا ليلة السابع والعشرين …هي ليلة مقدسة عند الوالد ليلة ختم القرآن والختم عنده يبدأ من سورة الضحى حتى المعوذتين … كنت واياه نتداول على السور وهنيئا له بمن ينهي الختم سيتمتع بهدية رمضان (نظريا زلابية ومخارق، وعمليا هي للجميع لانها من الفرص القليلة التي نتمتع بها بفاكهة رمضان: زلابية السيالة) … رمضان بالنسبة للوالد هو 30 على 30 مع احترام رؤية المفتي باااااااازين في السحور ولا شيء غيره وكان يأكله بكل نهم متغنيا بمعزوفته المعهودة (التشيشة ماهي عيشة من هم الزمان، والبازين هو الرزين اه يا لو كان) ر… مضان ايضا هو مرطبات العيد ( المقروض) … و”مرطبات” هذه كلمة بورجوازية جدا امام ما كنا نحضره والذي يتلخص في ابسطها واقلها ثمنا: الدرع ..الڨاطو …واكا هو ….لكن بتقدم الزمن وحسب محصول الجنان في محاصيل اللوز …مقروض اسمر وهو محشو باللوز وبعض كعك اللوز والڨيزاطة (كعبات) اغلبها لضيوف العيد ونحن من حقنا ان نتذوق ما يتبقى …حتى مقروض العيد على بساطته كانت له ونحن نحمل صوانيه ودائما ليلا الى الكوشة، نكهة تغني وتسمن من جوع …اقولها وانا الذي لم اكن يوما اكولا طيلة عمري ….

آخر مناسبة لها خاصيتها هو يوم العيد …هو اليوم الوحيد الذي اصاحب فيه ابي الى المسجد لصلاة العيد …لا كسلا او تكاسلا مني ولا الحادا او اهمالا مني … ولكن لان الوالد رحمه الله وكغيره من اغلب الناس في تلك السنوات الصلاة كانت بالنسبة لهم هي بمناسبة العيد لا غير …غفر الله لهم…. نعود من صلاة العيد التي لا نفهم فيها سوى تلك الترانيم التي نترنم بها قبل مجيئ الامام -(لا الاه الا الله، الله اكبر، الله اكبر، الله اكبر، وسبحان الله والحمد لله ولا حول ولا قوة الا بالله) …نعود بعد الصلاة الى المنزل فرحين مسرورين والشمس بازغة والعصافيرتزقزق ….نعم فرحون مسرورون بلباس العيد الذي تنتهي مهمته في ثالث ايام العيد في انتظار العيد المقبل …

نعم الشمس بازغة لانه يوم مشرق بزيارة ضيوفنا وخاصة منهم خالي الطيب والد زوجتي رحمه الله، الذي كان الوحيد في قمة الكرم حيث بناول الصغار منا 5 مليمات لكل واحد و10 مليمات للكبار فينا …اما بقية الزوار فكثيرا ما يتحلقون للعب الكارطة (روندة وشكبة) وللوالد فيها باع كبير من جهة لحذقه للعبة ومن جهة ثانية لحرصه على الربح مما يجعله احيانا يقوم بتقطيع اوراق اللعبة حين تبدو له الخسارة في الافق (بلباز من طراز رفيع ) … رحمة الله عليه كنت وقتها اتصور ان الالعاب الورقية تنحصر في ذينك النوعين، وبعدها اكتشفت ان تلك الالعاب لا تعدو ان تكون بدائية امام البليڨو .. و التريسيتي .. والبيلوت وخاصة الكونتريه …اما الرامي… انت والجواكر …

اختم بالعصافير التي تزقزق وهذه مرتبطة بعصافير بطني .. بالمأكول يوم العيد… الخاصية في عيد الفطر لدينا تتمثل في (الحوت المالح) و(الشرمولة) … وانا كل همي الحوت المالح ..لان السمك عموما مالحا كان او حلوا هو اكلتي المفضلة …ولاننا قليلا ما ناكله ايام السنة فان العيد بالنسبة لي هو زردة عظيمة …اما الشرمولة وعلى عكس اغلب الصفاقسية لا تعنيني (لا آكلها بتاتا) …

يااااااااااااه الم اقل لكم ان رمضان له نكهة خاصة … كم افتقدناها .وهذا يتم من نوع آخر …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 86

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

لم انس ما فعله معي المرحوم صلاح الدين معاوي في حلحلة المظلمة التي تعرضت لها بعد عودتي من فرنسا وانا احمل معي ديبلوم الدرجة الثالثة للعلوم السمعية البصرية سنة 1979 دون أن يشفع لي نجاحي اوّل في تلك الدفعة …

عبد الكريم قطاطة

لم اجاز على ذلك الا بتلكؤ كلّ الادارت التي تعاقبت والتي وبخطأ منها رسمتني في قائمة المهندسين… وهذه كانت بالنسبة لي جناية في حقّ كل من ينتمي لذلك الاطار في الوظيفة العمومية لانّي لم ادرس يوما لاتخرّج مهندسا ..وامام رفضي لهذه الوضعية رغم اغراءاتها المادية وقع تجميد ملفّي 9 سنوات كاملة… حتى اقدم السيّد صلاح الدين معاوي على فتح ملفي من جديد وفي ظرف وجيز قام بالتسوية… لذلك وامام اقتراحه بتكليفي بمهمة الاشراف على اذاعة الشباب من اجل ادخال تطويرات عليها، خجلت من نفسي ان انا رفضت… ولكن وللشفافية المطلقة قلت له طلبك على عيني سي صلاح لكن بشرط ..ابتسم لي وقال (ايّا اعطينا شروطك يا كريّم .. اما ما تصعبهاش عليّ) ..

قلت له (اعترافا منّي بالجميل لك ولن انسى جميلك ساقبل الاشراف على اذاعة الشباب ولكن ضمن رؤيتي الخاصة لكيف يجب ان تكون اذاعة الشباب) .. لم يتركني اكمل واجاب على الفور ..انا اعرفك منذ سنوات ..واعرف ثوابتك ..ومن اجلها اخترتك لتكون مشرفا عليها وبنفس تلك الثوابت ولك منّي الضوء الاخضر والدعم الكلّي ..شكرته واردفت (سافعل كلّ ما في وسعي لارضاء ضميري ولاكون في مستوى ثقتك ..لكنّي لم اتمّ حديثي) .. ودائما بوجهه الباسم قال: (هات ما عندك) ..قلت اوّلا اشرافي على اذاعة الشباب يجب الاّ يبعدني عن المصدح ..المصدح هو عشق وانا لا استطيع التنفس لا تحت الماء ولا فوقه دون ذلك العشق…

ودون انتظار منّي قال سي صلاح ..واشكون قلك ابعد عن المصدح ؟؟ مازالشي حاجة اخرى يا كريّم ؟ … قلت له نعم هي حاجة اخيرة ..ساقبل على هذه المسؤولية بكلّ ما اوتيت من معرفة وجدّية وحبّا في بلدي لكن ساتخلّى عن هذا الدور بعد سنة للشروع في التوجّه الى الاعمال التلفزية كمنتج وكمخرج ..ضحك هذه المرّة سي صلاح وقال لي (يقولولي عليك راسك كاسح وما تعمل كان اللي يقلك عليه مخّك ..ويبدو انهم عندهم حقّ… المهمّ الان توكّل على الله ثمّ لكلّ حادث حديث) …

وفعلا شرعت بداية في الاستماع لبرامج اذاعة الشباب والتي تبثّ يوميا من الساعة السابعة الى التاسعة ليلا باستثناء يوم الاحد حيث تبدأ من الثانية ظهرا حتى السادسة مساء .. لآخذ فكرة عن واقعها ولاصلح ما يمكن اصلاحه… ولعلّ ابرز ما لاحظته في استماعي شهرا كاملا انّ عديد الاصوات التي كانت تعمّر اذاعة الشباب لا علاقة لها البتّة بالعمل الاذاعي ..ثم حرصت في نفس تلك الفترة على التعرّف على هويّة منشطيها فادركت انّهم في جلّهم من المنتمين الى التجمّع …وهنا عليّ ان اشير الى احترامي دوما لتوجّهات الفرد في اختياراته لكن شريطة ان لا يتحوّل المصدح الاذاعي لخدمات مصالحه الحزبية الضيقة ..المصدح كان وسيبقى في خدمة البلد لا في خدمة الاشخاص والاحزاب …

وامام هذه الحالة قررت ابعاد العديد من المنتمين لاذاعة الشباب انذاك امّا لاسباب مهنيّة بحتة (اي هم لا يصلحون للعمل الاذاعي لا صوتا ولا حضورا) او لوضوح مطامح البعض منهم وبشكل انتهازي لاجندة الحزب الحاكم ..وفي الاثناء كان عليّ ان اجد البديل ..اتجهت رأسا لبرامج الاطفال التي كانت تبث باذاعة صفاقس لدرايتي بالخبرة التي اكتسبها عديد براعمها مع منتجي تلك البرامج وعلى راسهم الكبير سي عبدالرحمان اللحياني حفظه الله ..وفعلا وجدت في تلك البرامج اسماء في بداية سنّ الشباب …وقمت ايضا بكاستينغ اخترت فيه اسماء جديدة قادرة على ان تكون ضمن اذاعة الشباب ..ووزّعت هذه الاسماء على فرق وكلّفت بعض الزملاء ذوي التجربة والكفاءة برئاسة تلك الفرق … وانطلقت مع الجميع في برمجة جديدة هدفها الاهتمام اليومي بمشاغل الشباب دون استعمال آلات الايقاع وعلى رأسها البنادر .. كان الشعار الذي اتبعناه انذاك (نحن معا نبحث عن الحقيقة كلّ الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة) ..ونجحت اذاعة الشباب في استقطاب جمهور عريض ..ونجح العديد من براعمها في نحت اسماء مازالت لحدّ الان تعمل بنجاح ..لانّها تعوّدت على الجدّية وعشق المصدح ..والالتزام بان لا شيء يعلو فوق الوطن ..

وبعد سنة يوما بيوم قدّمت استقالتي امام دهشة الجميع ..كان الجميع على علم بشرطي المتمثّل في مغادرة اذاعة الشباب بعد سنة ..لكنّ العديد منهم كان يتصوّر ذلك مجرّد تسويق كلام ..حتى حصل ما كان في الحسبان ..وكُلّف الزميل عبدالقادر السلامي رحمه الله بالاشراف عليها بعد مغادرتي حتى وقع حلّها عندما فُتح المجال لاذاعة الشباب بتونس لتصبح الضرّة التي قتلت ضرّتها ..وما اكثر ضرائرنا عندما يتعلّق الامر بصفاقس ..

قبل ان اصل الى التسعينات لابدّ من العودة الى نهاية الثمانينات لاشياء عشتها سواء اذاعيا او صحفيا ..في بداية جانفي 1988 كنت استعدّ للدخول الى الاستوديو لتقديم الكوكتيل في الاصيل… توقيتا كانت الساعة تشير الى الثالثة والربع ليتّصل بي موزّع الهاتف قائلا هنالك مستمعة اتصلت بك عشرات المرات لحاجة شخصيّة ملحّة ..هي معي على الخطّ هل امررها لك .قلت مرحبا ..جاءني صوت شابة يقطر حزنا وخذلانا ..لم تتأخّر عن الكلام وقالت بصوت متهدّج ..انا اسمي مروى من الساحل ..مشاكلي لا تُحصى ولا تُعدّ ولذلك قررت وضع حدّ لحياتي وسيكون برنامجك اخر شيء استمع اليه ..وانقطع الخطّ ..

للامانة انا كنت ومازلت اعوّل على احساسي بصدق الاخرين ..احسستها صادقة وكان عليّ ان افعل شيئا ما… قلبت البرنامج في محتواه المقرّر له… الغيت كلّ الاغاني المبرمجة مسبقا وعوضتها باغان تدعو للامل والتشبث بالحياة … كان سباقا ضدّ الساعة ..دخلت الاستوديو وبسطت الامر على المستمعين في سؤال للجميع ..هل باماكننا انقاذ مروى وثنيها عن قرارها ..وتهاطلت مكالمات المستمعين بكلّ حرقة وروح انسانية عالية… وقبل ان اغادر الاستوديو خاطبت صديقتنا مروى بقولي (انا ساغادر الاستوديو الان ولكن لن اغادر مقرّ الاذاعة حتى ياتيني هاتفك ليقول لي ولكلّ المستمعين انّك عدلت عن قرارك) …

نعم وكان ذلك…وبقيت متسمّرا في الاذاعة حتى منتصف الليل ليرنّ الهاتف بمكتبي وياتيني صوت مروى الباكي والمبشّر بشكرها وامتنانها للبرنامج وللمستمعين الذين اعادوا لها الامل في الحياة..ورجوتها ان تطمئننا من حين لاخر عن حياتها وفعلا فعلت… بل وهو الامر الذي اسعدني وأسعد المستمعين، حياتها استقرّت وتزوجت وانجبت اطفالا وهي تنعم بالسعادة والامان ..ما ذكرته لا يعني بالمرة استعراضا لبطولة ما وافتخارا بها، بل كنت ومازلت اؤمن انّ المنشط ان مات اوتجمّد في داخله الانسان لا يستحقّ وجوده امام المصدح .. ما قيمة الانسان ان مات في داخله الانسان .. انه اشبه بالدمية التي لا روح فيها ولا عطر ولا حياة…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

آفة المخدرات بتونس: التاريخ… والتوسع… والحلول (2)

نشرت

في

محمد الزمزاري:

من ذلك رأينا آلاف الاكشاك المنتصبة على الطرقات بصور مشبوهة و نشاطات هي أيضا خارجة على الذوق والصحة والقانون…

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari

وفي هذا الإطار نجحت عمليات توسيع الترويج بكامل البلاد عن طريق عصابات جهوية ومحلية لم تتورع حتى عن مراودة تلاميذ المدارس الابتدائية. كما دخلت للسوق انواع جديدة من المخدرات زيادة عن القنب والتكروري والماريخوانا وشتى مستحضرات الهلوسة… ونظمت العصابات المافيوزية صفوفها بدعم متواطئ من أطراف فاسدة وتوسعت عمليات الترويج والاستهلاك تبعا لتوسع شبكات التهريب التي كانت مستقوية كما ذكرنا بسياسات لم تكن تعنيها مخاطر التهريب او الترويج او انتشار الاستهلاك في كل الأماكن مدنية او ريفية او مدرسية وربما جل الشرائح بنسب متفاوتة ومنها شريحة كبار السن…

جدير بالتذكير لإعطاء كل ذي حق حقه، ان والي اريانة الأسبق كان اول من تفطن إلى “خيوط العنكبوت” القذرة التي تحاول مد شبكات التهريب و تدمير الشباب و حتى أطفال تونس… وكانت له الشجاعة والوطنية لكنس جل الاكشاك المدرجة ضمن منهجية واضحة المعالم… فما كان من الانتشار الاجرامي المتمثل في ترويج عدد من أصناف المخدرات إلا أن انكمش في جحوره ..

اليوم هناك شعور جدي بأن الحرب على المخدرات قد انطلقت بفضل قرارات لا تقل صرامة عن مواجهة الإرهاب… لكن هل ان ايقاف بعض المروجين وحشرهم بالسجن سيقضي على الآفة بالبلاد؟؟ ان من يعرف بدقة عقلية المهربين و السلسلة الممتدة من الاباطرة المروجين إلى باعة التفصيل بالأحياء الشعبية والمرفهة وحتى الريفية كما ذكرنا، يدرك حجم الجهد الذي ينتظر الإطارات الأمنية و الجمركية و المصالح الاستخباراتية للانتصار على آفة هي الأشد خطورة بين كل الآفات… لذا، صار لزاما لإنجاح هذه المقاومة الباسلة التي تشنها أجهزتنا:.

اولا، ضرورة مراجعة التشريعات المتعلقة بالتهريب لا سيما في ما يتعلق بتهريب المخدرات والاسلحة والأموال، وهذه المراجعة المطلوبة يجب أن تستبعد منها اية صيغة صلحية.

ثانيا، تحديد عتبة دنيا للخطايا لا يقل عن 30 الف دينار ولو كانت الكمية صغيرة.

ثالثا، مصادرة كل أملاك المروّج او المهرب للمخدرات واملاك اصوله وفروعه وقرينه الا ما ثبت عن طريق قانوني.

رابعا، ترفيع الأحكام السجنية إلى اقصى ما في القانون الجنائي للأفراد، أما بالنسبة لمحلات بيع التفصيل فإنه يستوجب الغلق حال إثبات التهمة، زيادة على الخطايا الباهظة والعقاب البدني،

خامسا، تكثيف المراقبة على الحدود وتفتيش نقط العبور الرسمية وغير الرسمية وجمع أكثر ما يمكن من المعلومات حول شبكات إدخال المخدرات وترويجها ووضع المعنيين تحت المتابعة الأمنية مهما كانت صفتهم أو صفة من يحتمي بهم أو من يدافع عن “حقوقهم” تحت أي عنوان.

سادسا، إجراء رقابة صارمة على الأعمال الفنية التي تمجّد ترويج أو زراعة أو صناعة أو استهلاك المواد المخدرة، أو تطبّع مع هذه الظواهر أو تطنب في عرض مشاهدها أو سيرتها مهما كانت الذريعة التي يتم الاستناد إليها، وإجبار هذه الأعمال على اختصار تلك المشاهد أكثر ما يمكن والاقتصار غالبا على الإيحاء، مع إدانة ذلك بجلاء في الحوار والسيناريو، والحرص على عدم تحويل المروّجين والمدمنين إلى أبطال ونجوم يقتدي بهم الشباب.

سابعا، اي تخاذل من جهة رسمية أو توفير غطاء او تمرير للمخدرات يجب أن يقود إلى حبس الأعوان أو الإطارات المتورطة و قبله الطرد من الخدمة، مع تحديد خطايا موجعة ومتناسبة مع خطورة الجرم

وفي صورة توفر هذه العناصر واكتمالها، يمكن للبلاد أن تتخلص يصفة كبيرة من داء معشش بين ثناياها، وبذرة شيطانية تعاقبت على زرعها أجيال من أفسد الحكام وأبغض المحتلين… وكانت ذروة هؤلاء، المؤامرة العظمى التي فتكت بشعبنا بين سنتي 2011 و2022.

أكمل القراءة

جور نار

آفة المخدرات بتونس: التاريخ… التوسع… الحلول

نشرت

في

محمد الزمزاري:

التاريخ:

ترسخ وجود المخدرات منذ القرن السابع عشر وربما قبل ذلك بقليل وسجل مزيدا من التطور أيام الدولة الحسينية بأماكن عديدة من تونس والمغرب العربي في ظل تخلف حكم البايات الذي كان اهتمامه الأكبر بالجباية و محق كل قرية او قبيلة ترفض دفع الضريبة السنوية.

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari

وقد جند البايات لذلك فرقا وقيادات دموية متوحشة. من ذلك تم تدمير بلدتين كاملتين بالجنوب التونسي رفض أو عجز أهلها عن دفع الضرائب المسلطة (طرة و جمنة من ولاية قبلي التي كانت تابعة إلى عمالة توزر)… في نفس الفترة ازدهر المجون لدى الطبقات الأرستوقراطية بالبلاد كما انتشرت زراعة “التكروري” في عديد الجهات وسط مزارع الطماطم والفلفل والتبغ… ولم يكن ذلك ممنوعا بل انه بداية من احتلال تونس سنة 1881 شجع المستعمر تداول واستهلاك التكروري في جميع الجهات بالبلاد وربما اهمها مناطق الوطن القبلي وبنزرت والجنوب التونسي، لكن الإدمان على”الزطلة” او الحبوب المخدرة او الماريخوانا او غيرها لم تصل إلى تونس وقتها …

موقف بورقيبة من المخدرات:

خلال سنة 1957 اي في بدايات الاستقلال اقترح بورقيبة وضع او تغيير تشريعات بخصوص استهلاك المخدرات وخاصة “التكروري” وهدد بالسجن لمدة خمس سنوات كاملة كل مروّج او مستهلك للتكروري إيمانا منه باضرار المخدرات على الاجيال التي ستصنع تونس. وقام بورقيبة بمبادرة ناجعة للقضاء او على الاقل للتقليص من زراعة التكروري او ترويجه او استهلاكه، عبر تكوين فرق جهوية ومركزية تجمع اطارات ومتفقدين من وزارة المالية و الداخلية (حرس وطني خاصة) وتقوم هذه الفرق بتفقدات وأبحاث فجئية للبساتين وحقول الزراعات الكبرى لاصطياد المخالفين ورغم ان آفة التكروري عندها لم تنقطع، فإن الخوف من العقاب المتعلق باستهلاك او زراعة التكروري قد عم البلاد رغم التجاء البعض الي زراعة المخدرات المذكورة بالابار والسطوح والجبال.

ماذا عن عهد بن علي؟

عرفت فترة حكم بن على عودة قوية لانتشار المخدرات و شهدت البلاد نقلة نوعية متمثلة في ولادة عصابات منظمة داخليا و خارجيا بالتعاون الوثيق مع المافيا الإيطالية. ولعل مقتل منصف شقيق بن علي كان في إطار ما نسب لصراع العصابات العالمية لدى البعض فيما يعتبره آخرون تصفية داخل هذه المافيات. ازدهرت المخدرات وتفاقم انتشارها و برزت عصابات منظمة للتهريب و الترويج و توسعت بؤر البيع عبر أنحاء البلاد الا انها تبقى محدودة مقارنة مع الوضع الذي وصلت فيه بعد ثورة 2011.

بعد بن علي:

خلال أيام الانتفاضة سنة 2011 سادت حالة الفوضى العارمة التي عمت البلاد و فتحت الحدود البرية والبحرية على مصراعيها أمام المهربين من كل الأصناف من استجلاب المخدرات إلى ترويجها بكل المدن و دخول كميات كبيرة من الأسلحة التركية من بندقيات الصيد التي تباع بصور شبه علنية بمئات الدنانير وبعض انواع المسدسات (بيريتا) رغم الجهود اللاحقة من المصالح الأمنية و الديوانية…. وشهدت أشهر ما بعد الانتفاضة عمليات ممنهجة لترويج السموم في كل مكان من البلاد في ظل ضعف السلطة التنفيذية و السياسية خاصة…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار