تابعنا على

منبـ ... نار

في نماذج مستعملي الفايسبوك

نشرت

في

لن يكون هذا المقال تحليلا سوسيولوجيّا لظاهرة الإدمان على الفايسبوك الكونيّة (و معها كل مكوّنات الترسانة الرقمية المتحكّمة بالمجتمع العالمي اليوم أو ما يُصطلح عليها بمنظومة الغافام) و إنّما سيكون مجرّد محاولة لمسح أهم أصناف المستعملين لشبكة التفاعل الاجتماعي من جهة جوانب الطرافة و المسكوت عنه فيها مع الاعتذار سلفا لكل من سيكتشف بعض التشابه مع ملمحه الفايسبوكي الخاص أو مع شخصيات واقعية نتعايش معها على الشبكة.

moncef khemiri
<strong>منصف الخميري<strong>

وقبل المرور إلى عرض أهم الأصناف من المستعملين كما تراءت لي من خلال ما أقف عليه يوميا من تعليقات و منشورات و تدوينات، أشير إلى دراما وثائقية أخرجها “جيف أورلوفسكي” و تُبثّ على نتفليكس عنوانها “خلف شاشاتنا الدخانية” و التي تحاول تشريح النموذج الاقتصادي لكبريات الشركات الرقمية (فايسبوك و غوغل و تويتر و انستراغرام و يوتيوب) و تفكيك مفهوم “رأسمالية المراقبة” و مخاطر إدمان الشباب و الأطفال على مُنتجات عمالقة الويب اليوم … بالنسبة إلى من يرغب في كسب فهم عميق لكيفية اشتغال هذه المنظومات و طرق تأثيرها والتعرف على مخاطرها.

المُتعالي المُتوحّد:

هو فايسبوكي يكتب بانتظام ليُعبّر عن وجهات نظر مهمة نسبيا (وماسطة لاسطة أحيانا) له مريدين كُثر  وينتشي بعدد الجامات وتعليقات الإعجاب بما كتب. وهذا أمر طبيعي، لكن يستحيل أن تعثر لهُ على أثر أسفل تدوينات أصدقائه حتى من خلال وضع ذلك الاصبع الأزرق الساذج، لا يترحّم على الموتى ولا يفرح لفرح معارفه ولا يهنئ أحدا بنجاح أحد أبنائه في امتحان الباكالوريا. يَعتبر أنه غير مطالب بمجرد قراءة ما يكتبه الآخرون، بل إن هذا الآخر هو المطالب بتخصيص أفضل استقبال لما يَبيضُه هو في ديار زوكربارغ.

وحتّى عندما تستهويك منشوراته أحيانا وتُجازف بإبداء ملاحظة أو إعجاب، لا يكلف نفسه عناء التفاعل أو إشعارك بأنه تلقّى تفاعلك.

المرِحْ أو الزّهواني :

هو (أو هي طبعا) كائن إيجابي بصورة عامة لا ينشر إلا الطرائف والخوارق والعجائب والغرائب. لا ينشر إلا ما هو قادر على إسعادك أو إمتاعك أو جعلك تنسى لوهلة قتامة المشهد العام المحيط. هذا النموذج من الفايسبوكيين حتى عندما يحدث أن يعيش لحظات مؤلمة أو مزعجة، يختار الاختفاء والسكوت الى حين انقشاع الضبابة. هو باختصار متعهّد بإشاعة الضحك والبشاشة والفرح والحبور في “دوّار” الفايسبوك.

الفايس(بوخا)ئي أو الاحتفالي : 

هو صنف يجمع أناسا عاديون فيما يكتبون وينشرون، يهتمون بالشأن العام (والخاص أيضا ! ) متصالحون مع اختياراتهم الحياتية ويُصرّحون أنهم ليسوا على استعداد لتقديم تنازلات تحرمهم من الظهور بالمظهر الذي يريدونه. هم بصفة عامة كائنات مسائيّة يهيّؤون أفضل الطاولات ويعرضون أجود أنواع الخمر والنبيذ مُفضّلين تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية المباشرة…بدلا من كل الحيل البلاغية التي يلجأ اليها الكثيرون عندما يضطرون للحديث عن علاقتهم بـــ “أمّ الخبائث”.

الفايسبُكائي النّكدي:

هو شخص كثير التذمّر لا يعجبه العجب، عندما تهطل الأمطار يُسارع إلى صبّ جام غضبه على وزارة التجهيز والبلديات لعدم جهر المجاري والأودية، وعندما يشتد قيظ الصيف أول انطباع يحصل لديه هو التفكير بانقطاع الماء الصالح للشراب في المناطق الداخلية (وليس في الأحياء الحضرية ! ) ولمّا ينتصر الفريق الوطني لكرة القدم، لا ينتفض فرحا وتهليلا بمكسب رياضي من هذا القبيل بل يكتب مباشرة على صفحته “ما تفرحوش برشة مازال أمامكم فرق عتيدة”.

ويشمل هذا الصنف أيضا أولئك الذين يشكون دائما من شيء ما بشكل منتظم لكن لا يوضح أبدا ممّ يشكو تحديدا. ربما يفعلون ذلك بنية استدرار تعاطف الأصدقاء وتهاطل تعبيرات المجاملة من قبيل “باللطف عليك صديقتنا العزيزة”. 

الضّبع :

هو مستعمل للشبكة ينتمي الى فئة الضبعيّات المتميزة حسب المعاجم بـــ “امتلاك أقدام لا تتعب والتميز بنظر ثاقب وسمع قويّ وحاسّة شّم تُمكّنها من تحديد موقع اللحوم وتعتاش على أكل بقايا صيد وفرائس الحيوانات الأخرى”. 

وفي موضوع الحال، هذه الفصيلة من المستعملين يمكن اعتبارها من ذوي العوز والاحتياجات الخصوصية، متكوّنة من أفراد ليس باستطاعتهم إنتاج أي شيء مهم حتى ولو تعلّق الأمر بنقل طُرفة استمع إليها في إذاعة من الإذاعات. يتصيّدون تدوينات بعينها … يسطون عليها وينشرونها بأسمائهم دون حياء أو لياقة. والغريب في سلوك هؤلاء أنهم يعلمون جيدا كون صاحب التدوينة هو أول من سيطلع على ممتلكاته لديهم.

المُتلصّص أو حيوان الخلد :

هو فايسبوكي لا تراه أبدا، لا يبدي إعجابا أو اندهاشا أو حزنا أو تأثرا… لكنّه يقرأ كل شيء  ويطلع على كل التفاصيل ولا يتورّع أحيانا عن إثارة موضوع تدويناتك عندما تلتقيه.

الاستعراضي :

على نقيض المتلصّص، الكائن الاستعراضي يحب الظهور فينشر 10 مرات في اليوم لإعلامنا أنه فاز بتبحبيحة بحرية على الساعة السادسة صباحا ودبّج فطور غداءه بسمك المرجان ولم ينس أن يشتري بعض اللحوم لكلبه فوكس.

المؤذّن أو الدّيك والمكلّف بمأمورية :

هم أناس يعتقدون أنّهم مكلّفون بمهمة يومية تتمثل في التصبيح على الجميع وإلقاء السلام عليهم. ويعودون إليهم قبل أن يخلدوا للنوم ليقولوا  “أنا مرهق جدا، جميع أصدقائي وصديقاتي تصبحون على خير” !

المتخصّص :

شخصيا أنا مُعجب بهذا الصنف من الفايسبوكيين الذين صنعوا لأنفسهم “خطا تحريريا” لا يكتبون ولا ينشرون شيئا خارج سياقه. كأن يتخصص بعضهم في متابعة هجرة الكلمات بين اللغات وآخرون في عالم الفلك أو الإرث الأمازيغي أو كذلك الموسيقى الكلاسيكية الغربية والألحان العربية القديمة.

الصيّاد والتمساح والطّير الكاسر :

هذا الفريق من مستعملي الفايسبوك يشتغل مثل القنّاصة فوق سطح “حوش الفايسبوك”، يرصدون الوجوه النسائية الجميلة ويكتفون في مرحلة أولى بالجمجمة البريئة عليها ووضع علامات تفاعل مختلفة أسفل المنشورات المختلفة ثم يدعون في مرحلة متقدمة نسبيا (لعلمهم الاستراتيجي المسبق بضرورة أن يبقى حاضرا في ذهن من جمجم عليها) صاحباتهنّ داخل العلبة (إينبوكس) ليعبروا لهنّ في لغة ذئبيّة وديعة وليّنة عن إعجابهم وانبهارهم الكاذب بملامحهن ورفعة أذواقهن وشيئا فشيئا تتوطد العلاقة ويقتلعون موعدا غير افتراضي بالمرة.

المُسبّح :

هو  بصفة عامة كائن مقتنع بأن الله لم يهد سواه من العباد. لا يترك أي فرصة تمرّ دون محاولة إعطاء بعض النصائح ذات البعد الديني، ولما تعترضه مشاهد طبيعية غير معهودة أو جائحة مناخية يُسارع إلى تدوين “سبحان الله” واعتبار ذلك ابتلاء وعقابا من السّماء مستشهدا بآيات بيّنات من قبيل “قل للّذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد”.

تاجر الأثاث والأواني القديمة :

هو مستعمل مسكون بحنين لا يُقاوم للماضي، متخصّص في محاولة إعادة الحياة لأشياء وتفاصيل مهدّدة بالانقراض مثل محابر المدارس وفخاخ العصافير وريشة الحبر والمصابيح النفطية واسطوانات فودافون ذات الـــ45 دورة … متوّجا منشوره بالجملة القاتلة “هذه لا يعرفها إلا الجيل الذهبي”.

المردّد للكلام المستعمل (الفريب الأخلاقوي) :

هذا النوع من المستعملين يختار يوميا مقولات مستهلكة من قبيل “الفقر لا يصنع الثورة بل وعي الفقر هو الذي يصنعها” أو ” أعظم مجد لنا ليس في عدم السقوط أبدًا إنما في النهوض كل مرة نسقط فيها” أو ” اذا بَنيْت مدرسة أغلقت سجنا” أو “ملأى السنابل تنحني بتواضع والفارغات رؤوسهنّ شوامخ”، إلخ …

الوجه المُزعج في سلوك هؤلاء هو عدم التحلّي بالحدّ الأدنى من ذكاء التعامل مع بعض الطرائف أو التخريجات البلاغية الناجحة فيُردّدها جميعهم وكأنها من إنتاجهم أو كأنهم أوّل من نقلها فسريعا ما تعُجّ بها الشبكة لتصبح عنوان ابتذال وقلة ذوق. فعلى سبيل المثال “يبدو أن التونسيين كلهم من أصل إغريقي لأنهم غارقون في الديون والفقر …” تعترضك عشرات المرات في اليوم الواحد خلال الفترة السابقة.

هذا دون الحديث عن الطبّاخين والسِّلْفيّين (الذين يصورون وجوههم في كل حالاتها دون أن يطلب منهم أحد ذلك) و المُعزّين و الاحتجاجيين و الكذّابين و المتصورين أن غزو العالم رهن عضلاتهم نساء كانوا أم رجالا و اللاعبين و الدّعاة و مناوئي الحكومات مهما كان لونها و الحمقى و المغفلين.

أكمل القراءة
2 تعليقان

تعليق واحد

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

منبـ ... نار

أجرأة السوسيولوجيا: قراءة في كتاب “بن علي والنخبة التونسية”

نشرت

في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عبد القادر ميغري*:

قدم لي الصديق والزميل مصطفى الشيخ الزوالي إهداءً لكتابه “بن علي والنخبة التونسية، دراسة في الثقافة السياسية وخطاب المثقفين”، وهو عملٌ قدّمه الحقوقي التونسي أحمد كرعود وصدر عن المؤلّف نفسه عن المغاربية لطباعة وإشهار الكتاب سنة 2024، في خمس،وسبعين ومائتي صفحة.

أعرف سلفا أنني لن أفيه حقه من التمحيص لغزارة ما تضمنه من معطيات أولا ولأنه يضرب عميقا في المفاهيم السوسيولوجية الحديثة ومقولات علم الاجتماع ثانيا، ولجلالة نهجه القائم أساسا على الدقة والحذر من المطبات في موضوع مطروق، وهذا يضاعف صعوبته إذ المطلوب في التأليف هو الطرافة والجدة، ولذلك نراه يستهل المبحث باستعراض الدراسات السابقة موضحا مرجعيته النظرية والمنهجية (ص17) باعتماد مؤلفات لشخصيات وازنة معرفيا وسياسيا .فقد استند المؤلف على الدكتور عبدالسلام المسدي وكتابه “تونس وجراح الذاكرة” ، والدكتور الهادي التيمومي في كتب عديدة، أهمها “خدعة الاستبداد الناعم: 23 سنة من حكم بن علي”، إضافة إلى دراسة الأستاذ الجامعي عادل بن يوسف بعنوان “المثقفون والسلطة زمن حكم بن علي: الجامعيون نموذجًا 1987-2011”. كما اعتمد على كتاب “حقائق عن شخصية بن علي وأسلوبه في الحكم” الذي اشترك في تأليفه كل من صلاح الدين الشريف، الكاتب العام لرئاسة الجمهورية بين 1999 و2011، ومحمد المنصف القصيبي، الموظف السامي بالوزارة الأولى سابقًا.

وقد جمع المؤلف بين زبدة القول في هذه المؤلفات وبين بيان خصالها أو هناتها، مستفيدًا من المراجع المعرفية والنقدية في تحليل مسار النخبة التونسية. ومن الواضح منذ البدء أن المؤلف محكوم بهاجس “وضع المعلومات والمعطيات في سياقها التاريخي حتى يكون لها معنى” (ص70و 105) وأنه تنقل بين كم هائل من المصادر والمؤلفات التي وضعها أصحابها مدحا أو قدحا وما بينهما من تغيير الموقف من “رجل التغيير” وهؤلاء إما نخبة وإما نخبة النخبة من خيرة أكاديميي الجامعة التونسية، دون ان يجامل ولا يتحامل بل مستندا إلى مفاهيم ومقولات دقيقة في المجال (ص74 و85) مثلا : نخبة النخبة، أو خبراء الشرعنة عند غرامشي…).

وتتواتر قبل ذلك وبعده مفاهيم توظف في سياقها على سبيل الأجرأة مثل مفهوم الانزلاق (ص 68و71) النخبة والتصنيف الى Intelligentsia و Intellectuels مما استدعى تدقيقات كثيرة خاصة ان الامر يتعلق بالحديث عن أساتذة/مراجع في اختصاصاتهم الأكاديمية يترفع الكاتب عن ذكر أسمائهم مكتفيا بمواقفهم من مواقعهم الجديدة، ولذلك نجد جهازا مفاهيميا مبثوثا في ثنايا الكتاب لا يفتأ الكاتب يعود إليه كلما رام توضيح رؤية أو شرح طرح أو بيان موقف أو حتى إبداء رأي في مسار بعض من كان يراهم نماذج ورموزا للفكر والبحث الأكاديمي خاصة.

ولا يخفى هنا شعور الخيبة والإحباط نستشفه خاصة في اعتماد السرد وبعض مقاطع السيرة الذاتية، كاللقاءات والاجتماعات مع وزراء وشخصيات نافذة وللتجربة المهنية حضورها الوظيفي في كشف ما قد يخفى على العموم (ص 94 و 105 مثلا). فجاء القول كاشفا بعض الزوايا المعتمة وحوله إلى شاهد على العصر في مجالات متنوعة نذكر منها الإعلام والفن والتعليم لكن بعين عالم الاجتماع ووسائله ومنهجه لا رجل السياسة بتكتيكاته ومصالحه وأهدافه.. ولعل ذلك أتاح له مثلا محاصرة شخصية رمز إليها بحرفي ص.ش بحكم دورها البارز في إخضاع النخبة للسلطة القائمة وأكاد أقول إنه التاريخ يحاكم كلا بما كان ليديه من أفعال ولسانه من أقوال وتلك لعمري محاكمة ” معرفية” مُثلى باعتبارها منظارا دقيقا يكشف الفاصل القيمي بين ما تروج له النخبة نظريا وما تمارسه عمليا. وفي ذلك برأيي استحضار للوضع المفارق تاريخيا la Situation historiquement paradoxale لسلم القيم بين المنشود والموجود.

ومن جهة أخرى لم يخل الكتاب من طرائف في تسابق أعلام في ما سماه ” التجويق” في مجالات الثقافة والفن والإعلام ، مستعرضا أمثلة على فقر المشهد الثقافي والإعلامي وظفه الساسة وذراعهم الإعلام في ترذيل الفن بالترويج لنماذج توغل في البذاءة وتزيد الطين بلة .. على انه لم ينس الإشادة الضمنية بموقف استثنائي خارج عن السرب في هدوء واختزال لا يقدر عليه الا العظيم الراحل توفيق بكار في خطابه لزميله المسدي عن بن علي :”لا تنتظر منه خيرا كبيرا يا عبد السلام” (ص179) ممهدا بذلك ربما لبيان أسباب التصحر السياسي بعد 2011 (ص189) إذ رده إلى هيمنة مقولات الاستبداد على النخب السياسية ” الجديدة” نفسها في مختلف الاقطاب (ص195) .. ليخلص إلى خاتمة عامة عنوانها تساؤلات واستنتاجات من أجل المستقبل متبوعة بقائمة طويلة من المصادر والمراجع يحيلنا في بقية الكتاب على مقاطع منها تراوح بين الجد والهزل إذ جعلها تنطق عن ذاتها فتثير سخريتنا نحن القراء من أصحابها حينا واشمئزازنا حينا آخر دون أن ينفي عنا إمكان التقدير والإجلال لبعضها الآخر.

يقدّم كتاب “بن علي والنخبة التونسية” قراءة دقيقة للمسافة بين القول والفعل في النخبة التونسية، كاشفًا التناقضات في علاقات المثقفين بالسلطة، ويشكل، كما أشار أحمد كرعود في تقديمه، إضافة قيّمة بتحليل معمّق لتواطئهم مع السلطة، ويفتح نوافذ للتأمل في حاضر الثقافة السياسية واستشراف مستقبلها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*مستشار في الاعلام والتوجيه المدرسي والجامعي

أكمل القراءة

منبـ ... نار

الدين في جوهره ليس مادة للتندر، ولا منصة للتعالي… بل رسالة هدي ومواساة

نشرت

في

رضا الحديدي*:

المأساة تكمن في مشهد الأزمة الأخلاقية التي يعيشها الخطاب الديني حين تحول إلى استعراض لا يحمل من الدين إلا مظهره.

وحين نجد ظاهرة تغليف الخطاب الديني بالدراما والإثارة، وتختلط في حضوره الدعوة بالنكتة، والوعظ بالسخرية، والفتوى بالتجريح، نتساءل هل أصبح الداعية نجمًا ينافس نجوم الكوميديا؟ وحين نفقد الفرق بين الواعظ والمهرج، بين الحضور الروحي والعرض الدرامي وعندما تُقاس فاعلية الخطاب بعدد المشاهدات لا بعمق الأثر، فإننا لا نلوم الرمز وحده، بل نُدين ذائقة جماعية تسهم في خلقه وتغذي غروره.

لقد شكّل برنامج الداعية المثير للجدل الأخير، لحظة فاصلة في وعي الكثيرين، لما مثّله من انحدار في الذوق، والاحترام، والرسالة المفترضة . ان الرجل لا يفتقر إلى العلم، ولا إلى الشعبية. لكن المعضلة ليست في قدرته على جذب الانتباه، بل في طريقة تقديمه للدين كعرض سريع مختلط بالنقد اللاذع والتعالي أحيانًا.

حين يصبح الداعية محور الخطاب، لا الدين ذاته. فيتحدث من علٍ، ويصنف الناس بتعليقات تحمل في طياتها تهكمًا مبطنًا، وأحيانًا ازدراءً واضحًا، دون إدراك لوقع كلماته أو مدى تاثيرها علي الذوق العام وإيذائها له. تتحول فتاواه إلى مادة للسخرية،

هذا الأسلوب الذي يخطف الاهتمام، يخفي داخله أزمة عميقة: تغليب الشكل على الجوهر، والصوت المرتفع على العقل الهادئ. هذا التضخم لا يأتي من فراغ، بل من شعور داخلي بأن الجمهور سيظل في حالة تصفيق، حتى مع الانزلاق في الأسلوب، هنا نرى كيف تتحول الدعوة إلى عرض جماهيري، لا حوار روحاني.

السوشيال ميديا ضاعفت من حضور هذه النماذج ، لأنها تستهلك المحتوى المثير بسرعة، وتعيد نشره آلاف المرات، مما يغذي “شهوة الظهور” عند البعض ولم يكن في الحسبان السؤال هل هذا الخطاب يخدم الدين؟” بل : “هل يجذب الأرقام؟” وهنا تكمن الكارثة.

فالمعايير أصبحت ترند، مشاهدات، تفاعلا، لا محتوى أو تأثيرا حقيقيا. لكنها في الوقت نفسه، سرعان ما تنقلب عليهم. الجمهور الذي يرفعك في فيديو، قد يسحبك إلى القاع في هاشتاغ. ولأننا أدمنّا الترفيه باسم الدين، وتركنا الحكمة خلف الشاشات. تم تهميش القيم ، وإعلاء صوت من يجيدون “اللعب على الشاشة”، حتى لو كان الثمن تهشيم قيم أساسية.

لكن من الظلم تحميل الشخص وحده مسؤولية السقوط دون الحديث عن البيئة التي صنعته، مسرح التهليل و المنصات التي فتحت له الأبواب، رغم تكرار انزلاقاته اللفظية والسلوكية. ما حدث مع هذا الداعية هو مرآة لما يحدث في المجال العام . قلة في التفكير النقدي، وفائض في رد الفعل. لم يسقط الرجل لأن خصومه أسقطوه، بل لأن الحقيقة أسقطته. لأنه استهلك رصيده الأخلاقي على مدى سنوات، حتى جاء الانفجار.

إن الجمهور الذي لطالما ضحك أو صفّق، بدأ يرفض. وهنا يكمن الأمل. فهذا بحد ذاته بداية نهوض جماعي من سبات تقديس الشخصيات، واستعادة سلطة العقل.

لا يكفي أن نغضب بعد السقوط. الأهم هو أن نراجع المعايير التي تُبنى بها الرموز في حياتنا: من نمنحهم المنابر؟ وبأي خطاب نقبل؟ وما الذي نصمت عنه؟ وأن تكون القاعدة: من لا يقدر على تمثيل القيم، لا يحق له الحديث باسمها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*أديبة مصرية

أكمل القراءة

منبـ ... نار

نحو مهرجانات صيفية… تكون قاطرة تنموية لامركزية

نشرت

في

منصف كريمي*

للمهرجانات الصيفية دور هام في المشهد الثقافي والسياحي الوطني والدولي، ومساهمة كبيرة في الحراك الاقتصادي كقاطرة للتنمية المستدامة بالجهات خاصة وعلى المستوى الوطني عامة.

ومن هنا بات الرهان عليها ضروريا بإرساء الحوكمة الرشيدة وحسن تسيير هذه المهرجانات إداريا وماليا ومن حيث برمجة ترتفع بالذوق العام وانطلاقا من أهداف تنظيم هذه المهرجانات ذات الصلة بترقية وتطوير الفنون وتشجيع الإبداع الفني والأدبي وتشجيع العمل الثقافي وتطويره وإثراء المنتج الفني وتنويعه والمحافظة على التراث الثقافي الوطني وتثمينه مع الصبغة الخصوصية المميّزة لها في البرمجة حسب خصوصيات الجهات ذات الطابع الفلاحي، الحدودي، السياحي، الأثري والايكولوجي مع الاشتغال على استغلال خصوصياتها ومميزاتها والعمل على استثمارها في إطار منهجية تهدف لخلق الثروة ومواطن الشغل كالتشجيع على ابتكار منتجات مستوحاة من هذه الخصوصيات أو التخصص في التراث الغذائي والترويج له أو استغلال المواد الغابية للترويج الثقافي للجهة أو العمل على تشجيع المنتجات الخصوصية والتعريف بها وتشجيع الزوار من خارج الجهة لزيارتها لارتباطها بهذه الخصوصيات ولتفردها بها خصوصا ان عديد المهرجانات متجاورة ومتزامنة دون ان تحتوي على أية خصوصية كانت.

فتكتفي هذه المهرجانات ببرمجة عروض فنية روتينية ذات طابع تجاري بناء على ما يطلبه الجمهور دون أي عمق او تفكير أو مضمون ثقافي فني يهدف للرقي بالذائقة الفنية وفقدان أي توجه نحو اٌستثمار خصوصيات المنطقة الثقافية والحضارية ودون توظيف للمهرجانات في ترويج الإنتاجات الفنية الناجحة الخاصة بالمؤسسات الثقافية بالجهات لتشجيعها على مواصلة العمل المتميز.

ولذا بات من الضروري والمؤكّد اليوم تحديد المهرجانات الممكن المحافظة عليها ودعمها بناء على معاينة شاملة تحدد احتياجات الجهات وأخذ قرارات جريئة قصد تغيير الواقع الثقافي نحو الأفضل كما ان الدعوة ملحّة إلى برمجة مبدعي الجهات من مختلف الفنون في هذه المهرجانات وإعطائهم الأولوية في البرامج على أن تكون هذه البرامج نموذجية نوعية وذات جودة وبعيدة على استنساخ نفسها بمهرجانات مماثلة مع عدم اقتصار البرمجة هذه على العروض الفنية وذلك من خلال إضفاء الصبغة الثقافية على برنامجها العام بتنظيم ندوات فكرية،أمسيات شعرية،عروض سينمائية،ورشات ومسابقات ثقافية وفكرية وأدبية…

ومن الضروري بلورة هذه المبادئ من خلال منشور من قبل وزارة الشؤون الثقافية وضمن دليل توجيهي حول تنظيم المهرجانات الصيفية يكون مرجعا للمشرفين على تنظيمها ولنجاح هذه التوجّهات وإسنادها وبحثا عن سبل تجاوز الصعوبات لا بدّ من تضافر الجهود بين مختلف الأطراف المعنية للنهوض بالمهرجانات الصيفية وتثمينها انطلاقا من أهمية دور الثقافة في بناء عقول سليمة وفكر مستنير.

وفي هذا الإطار من الضروري أن يكون العمل الثقافي عموما أفقيا لا عموديا بهدف إنصاف الجهات ودعم حقها في الفعل الثقافي باعتبار أن”اللامركزية الثقافية”هي توجه من أؤكّد توجهات وزارة الشؤون الثقافية التي من دورها لفائدة هيكلة المهرجانات الصيفية بعث نقطة قارّة ومخاطب وحيد للمؤسسة الوطنية لتنمية المهرجانات والتظاهرات الفنية بالمندوبيات الجهوية للشؤون الثقافية توكل لها مهمّة تنسيق تنظيم المهرجانات الثقافية الكبرى وتمويلها على مدار السنة وبما يحقق مرونة التصرّف في العمل الثقافي تماشيا مع خصوصيّة القطاع وحينية عدد من الأنشطة والتّظاهرات على ان يسهر فريق عمل من إطارات المندوبيات الجهوية للشؤون الثقافية على تنظيم المهرجانات المرجعية على مدار السنة مع التركيز خاصة على مهرجان أو اثنين تبرز خيارات وزارة الشؤون الثقافية وتوجهاتها لخدمة الذوق العام.

ومن واجب هذه المهرجانات كذلك العمل على تطبيق توجّهات الدولة في خصوص الرقي بالذوق العام وذلك من خلال حرص الهياكل الادارية المشرفة على متابعة سير تنظيم المهرجانات الصيفية على التثبت مما يبرمج في هذه المهرجانات التي تدعمها وزارة الشؤون الثقافية بالحرص على أن لا تقدّم برامج ذات مضامين تسيء لسمعة الوزارة ومؤسساتها وبما يتنافى مع روح المهمة الثقافية المطلوب آداؤها مع أخذ كافة التدابير والقرارات اللازمة لمنع التجاوزات وممارسة صلاحيات إبداء الرأي في البرامج المنظمة واتخاذ كل الإجراءات الكفيلة برفع مستوى المضامين الثقافية التي يتم عرضها على الجماهير مع اقتراح رسم خطة لاستمرارية هذه التظاهرات الهامة بالاشتغال على مبدأ المشروع الثقافي الذي يستهدف جميع الفئات والمناطق الداخلية ويركّز على البرامج التي تربي النشئ على مقومات حضارتنا وعمقها التاريخي واتاحة الفرص لهم لمتابعة أبرز الإنتاجات الفنية الكلاسيكية من موسيقى سنفونية وأفلام سينمائية…الى جانب تجذير السلوكيات الثقافية لديهم بتعويدهم على زيارة المتاحف والمواقع الأثرية وتطوير ملكة القراءة لديهم ضمن برامج هذه المهرجانات.

تحويل مسرح البحر بطبرقة الى مركز ثقافي دولي:

بالنسبة الى المهرجانات الصيفية بولاية جندوبة كمثال من الضروري الاقرار ان هذه الولاية ذات طابع ريفي بامتياز حيث تتجاوز نسبة سكّانها بهذا الوسط 75./. وهي جهة حدودية في حاجة أكيدة إلى تفعيل المقاربة التشاركية الثقافية على مستوى الشريط الحدودي التونسي الجزائري وخاصة من خلال اضفاء البعد المغاربي على عدد من المهرجانات والتظاهرات الثقافية النموذجية بالجهة وبعث مسالك ثقافية مشتركة تخلق قطبا ثقافيا حدوديا و تثمّن العمق التاريخي والأثري والتراثي المشترك وبما يدعم البرامج الوطنية للسياحة الثقافية والسياحة البديلة ويشجّع على الاستثمار في الثقافة بالمراهنة على الصناعات الثقافية والاهتمام أكثر بالتراث الثقافي المادي وغير المادي.

وللغرض لا بدّ من اعادة هيكلة النشاط الثقافي عموما بهذه الجهة وخاصة مهرجاناتها الصيفية وفق خيارات وزارة الشؤون الثقافية ووفقا لمقتضيات الدستور ومبادئه وهو ما يحتاج إلى مزيد الهيكلة من خلال خاصة تعزيز البنية التحتية الثقافية والبرامج التنشيطية التي تتوجّه إلى الوسط الريفي مع حسن توظيف المكتسبات الثقافية بالجهة وخاصة مسرح البحر بطبرقة الذي آن الآوان برمجة تحويله وضمن مخططات التنمية الجهوية والوطنية إلى مركز ثقافي دولي ومن خلال بعث اقامات فنية ويمكن الانطلاق مبدئيا في بعث وحدة تصرّف حسب الأهداف من الآنم توكل لها هذه المهمة خصوصا ان الجهة تعاني نقصا في الفضاءات الثقافية ومسارح هواء الطلق وضعفا في الإقبال على الاستثمار الثقافي من قبل القطاع الخاص ذلك ان الاستشهار غير مفعّل بالجهة بسبب ضعف مبادرات أصحاب رؤوس الأموال والمستثمرين لدعم الأنشطة الثقافية

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*رئيس خلية المهرجانات الصيفية بجندوبة

أكمل القراءة

صن نار