تابعنا على

جور نار

ڤالُولي جايْ ڤُمت نكَحّل ونفوّحْ… ڤالُولي راحْ ڤُلت اجعلتَهْ لا روّحْ!

نشرت

في

محمد الاطرش:

هل نحن بخير اليوم في تونس؟ وهل نحن كذلك في العالم أيضا؟؟ هل حقا لا شيء يقلقنا ولا شيء يعكّر صفونا ومزاجنا؟؟ هل نحن متصالحون مع ذاتنا ومع من هم حولنا؟ هل نحن حقّا بشر لنا ضمائر ومشاعر، ونحبّ كل الناس، ولا نستمع إلى همس الوسواس الخنّاس ومن يضمر الحقد لكل الناس، ولا نصدّق وشايات عمّ خليفة “البهناس” والخال مبروك “البزناس”…

هل نحن حقّا لا نكره، ولا نحمل ذرّة من الأحقاد في صدورنا؟؟ أليس من الواجب، ومن حقّ الأجيال القادمة علينا أن نعترف بصوت عال أننا لم نزرع حبّا في حقولنا، وأننا بذرنا الشوك فقط وقد تحصد أجيالنا القادمة الألم والوجع… أليس من الواجب ان نعترف بأن حياتنا ليست ورودا كما يزعم ويروّج بعضنا، وسماؤنا ليست بالزُرقة التي يزعمون ويصوّرون ويفاخرون… أليس من الواجب أيضا أن نعترف أن حياتنا ليست اشواكا في كامل مراحلها، كما يزعم البعض ويثقل كاهلها بكلّ خيباته ومعاناته ومآسيه وإخفاقاته وفشله… فالمتنبي كان على حقّ حين قال بأن العاقل يشقى في النعيم بعقله وبأن الجاهل يسعد في الشقاء بجهله… فالحياة أشواك وأوجاع حين يدرسها العاقل، ويحللها ويفكك شفرتها ويغوص في أعماقها ليردّ كل شيء إلى علّته…

كما أن هذه الحياة تصبح عند الجاهل ورودا، فتستعيد السماء زُرقتها وصفاءها وتعود العصافير إلى زقزقتها… فالجاهل يأخذ الحياة كما هي، كما جاءته بطبعها، دون أن يتعب نفسه وعقله في قراءتها وفهمها وتحليل معانيها وسبر أغوارها، وربما الغوص فيها لتأويلها… فالحياة في مختصر الحديث والكلام ليست مشرقة كالنهار كما يزعم ويصرخ ويروّج و”يفرض” بعضنا، وليست حالكة السواد كبعض ليالينا، كما يصرّ ويزعم ويتّهم ويروّج بعضنا الآخر… فبعضنا لا يصوّر الحياة إلا حين تصفو وتزهر وتظهر مفاتنا… وبعضنا الآخر لا يصوّر الحياة إلا في فسادها ومأساتها ووجعها… حياتنا طبخة عجيبة غريبة مُرّة المذاق … وحُلوة المذاق.. .سُمٌ وترياق… بطعم ودون طعم… جمعت بين الخير والشرّ… وبين الحزن والفرح… وبين الأمل واليأس… وبين الحب والكره… وبين الشكّ واليقين…

لسائل أن يسأل لماذا أصابتنا لعنة الحقد والكره في تونس، لا أحد يحب الآخر… وجميعنا يضمر الشرّ لجميعنا… لماذا طغى الحقد والكره على حياتنا؟ أتعلمون سادتي أتعلمون… أتعلمون أن في تونسنا اليوم بعضنا يكره بعضنا… وبعضنا يحقد على بعضنا… وبعضنا تأبط شرّا لبعضنا… وقليلنا فقط يحب قليلنا… أتدرون سبب ما نحن فيه من حقد… وكره… وشماتة؟؟ الكذب سادتي… الكذب هو أصل وجعنا… وسبب مأساة بعضنا إن لم نقل أغلبنا… فجميعنا يكذب على جميعنا… وجميعنا يلحق الأذى بجميعنا… وجميعنا يلفّق الأكاذيب بجميعنا… فيكره جميعنا جميعنا… نحن شعب يخاف الحقيقة… ويزيفها إن علم أنها ستؤلمه وستسبب له وجعا…

لقد أصبحنا نكذب بطلاقة وبلاغة لا مثيل لهما… نكذب ولا نتلعثم… نكذب لغاية ودون غاية… نكذب ونحن نعلم أننا نكذب… نكذب ونحن سعداء بأننا نكذب… نكذب ونحن نحقد… نكذب ونحن نمزح… نكذب ونحن نضمر السوء… نكذب ولا نبالي ولا نهتمّ بعواقب فعلتنا وما قد تكون تبعاتها… نكذب ولا نلتفت لضحايانا وما كذبناه… وما لفقناه… نكذب ونحن نعلم وجع وألم وتعب وعذاب من كذبنا عنه وعليه وورطناه… نكذب ونصدّق ما نكذب… ونواصل الكذب ونعيده ونكرره… ونفاخر بما كذبناه… فنحن نُقنع بالتكرار وليس بالحجّة والدليل والبرهان… هكذا زرعنا نبتة الحقد والكره في صدور بعضنا البعض… فأصبح الحقد جزءا من الهواء الذي نتنفّس… فماذا زرعنا وبذرنا… وماذا سيجني ويحصد أحفادنا غدا؟؟؟

حين كذبنا زرعنا الحقد… وحين جاء يوم الحصاد حصدنا الكره… أتعلمون أن جاري من اليمين يكره جاري من اليسار… وجاري من اليسار يكره جاري من اليمين ومن أقصى اليمين ومن الديمقراطيين والليبراليين والنقابيين والثوريين والقوميين والاشتراكيين والراقصين والمتأبطين لآلهتهم من الملحدين والهندوس والبوذيين ويكره حتى يده اليمنى وحماره الحزين ومن تبقى من الهنود الحمر المساكين… ويكره جميع من يحبون جاري وزوجة جاري ويكره حتى من يحفظون الستين من المؤمنات والمؤمنين من سورة البقرة إلى المعوذتين… وجار جاري من اليمين يكره جار جاري من اليسار… وجار جاري من اليسار يكره جار جار جاري من اليمين ويقسم بيوم الدين أنه عضو في اتحاد المكروهين، وناشط في حزب المنافقين… أتعلمون أن قطّ جاري من اليسار يكره قطّة جاري من اليمين ويهددها بأنه سيمنع عنها بقايا الدجاج وصحن السردين، وأنه أجّل كل ذلك إلى حين… أتعلمون أن كلبة جاري من اليمين تكره جاري وكلب جاري وسيارة زوجة جاري إلى يوم الدين… وهل تعلمون جازاكم الله خيرا ووقاكم شرّ الكره والكارهين أن “عمّ الصادق الحوانتي” أصبح من “المكروهين” و”المنبوذين” و”المنعوتين” ومن قرؤوا عليهم “ويل للمطففين” إلى يوم الدين، بسبب علبة حليب سُجلت بدفاترنا اليومية في عداد المفقودين… وأن ابن عمّتي الكوني اصبح لــــ”الحوانتي” من الكارهين والحاقدين بسبب كيلوغرام من السكر ورطل من الفارينة، ومن الحليب… علبتين…

 هل تعلمون سادتي هل تعلمون… أن جاري الدستوري يكره جهرا جارتي النهضوية، ويهواها سرّا حين تعود مساء من “السهرية”… وجارتي النهضوية تكره جاري الدستوري، ويتبادلون الاسرى من الكلام الموبوء وشتائم السوء، حين تطالبه أحيانا باللجوء… وهل تعلمون إخوتي هل تعلمون أن جاري من اليسار المتطرف ومن أعضاء أحزاب اليسار المتطرف يكره جاري من اليمين المتطرف لأنه من قيادات أحزاب اليمين المتطرّف ولأنه يحفظ من الأحزاب “الستين” ويركب أحيانا الليموزين ويطعم جهرا المساكين ويجالس سرّا السكارى والمنافقين … وهل تعلمون سادتي هل تعلمون أن جاري من القوميين العروبيين الناصريين يكره جاري من اليمين، وجاري من اليسار وجار جاري الذي هو من الليبراليين وجارة جاري من الوسطيين والذي يقال انها من الديمقراطيات والديمقراطيين وجار جارتي الدستوري وجار جار جاري من الإسلاميين ويكره حتى المنظمات الحقوقية والسفارات الأجنبية وحتى بقرة عمّ إبراهيم “الحلايبي” المسكين… أتعلمون سادتي … أتعلمون أن جاري من اليمين يكره جاري من اليسار ومعه “عمّ المختار” لأنه يتابع كل الاخبار ويكشف كل الاسرار ويرويها همسا لكل الأجوار ويسلّم نسخة منها للإعلام إلى عمّ خليفة “السمسار”… “ملاّ خنّار يا عمّ المختار”…

هل تعلمون إخوتي، هل تذكرون وتفقهون كيف يزعمون، ويروجون، ويقولون، وفي الأخبار يتحدثون عن أن كل شعب الأغنياء والمعوزين من الفقراء والمساكين والمطحونين وحتى الميسورين لشركة الكهرباء وتوزيع المياه والهاتف القار والمحمول… يكرهون ومنهم يشتكون وبخدماتهم ينددون وعليهم وعلى فواتيرهم يحقدون ومع كل فاتورة اياديهم إلى السماء يرفعون، وبالدعاء والبكاء يجهشون، ويصرخون وللخالق مولانا ومولاهم يلتجئون… يطلبون يستغيثون… وحين بِقطْع الماء والكهرباء والهاتف يُهدَّدُون وبالتنبيه يُعلَمُون، “واقفون” ينتصبون ونحو مقرّات هذه الشركات يهرولون وهم لصدورهم يلطمون ويولولون وهمسا يشتمون، وبأعلى أصواتهم يصرخون “لبيكم … لبيكم إننا آتون…فالماء والكهرباء لا تقطعون…وخطنا الهاتفي لا تُسكِتون…سندفع ما علينا… وما طلبتم وما تأمرون”… وحين يصلون وفي أسوا حال أمام أعوان الشركة يقفون… يضعون ما في جيوبهم ويفرغون… وهم من رعب القطع والعطش والظلام يرتعشون… وبالتي هي أحسن ما جاءت به فواتيرهم وجادت به جيوبهم يدفعون… وببقية المبلغ على أقساط مؤجلة يلتزمون …وهم على انيابهم يكشرون… سعداء لا يصدّقون…

أعرفتم الآن كيف ان بعضنا بالحب مسكون…وأغلبنا بالحقد ممحون مجنون… جميعنا يراوح كما غنت نبيهة كراولي حين رفعت عقيرتها بالغناء قائلة: ” قالولي جاي قمت نكحل ونفوح… حضرت التاي ولفي مالأبعاد مروح… طال المشوار يا عذابي، والعقل احتار يا صحابي …قالولي راح قلت جعلته لا روح…” خيط رفيع جدا يفصل بين الحب والكره في هذه البلاد… في زمن لا أراك الله مكروها…

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

زمن الصعاليك

نشرت

في

عبد القادر المقري:

هو يمكن من عشر سنوات، عشرين، ربما منذ مطلع هذا القرن اليابس، حصل ما يشبه الرِدّة الحضارية التي لم يعشها كوكبنا منذ اكتشاف الزراعة والكتابة وإنشاء المدن… أي ما قبل بابل وطيبة وأثينا وقرطاج… ردة إلى ظلام الهمجية والتعصب ولغة القوة والفظاظة وسوء التربية…

عبد القادر المقري Makri Abdelkader

من أصغر فزغول يدوّن أو يعلّق في فايسبوك، إلى رئيس أكبر دولة في العالم، صرنا نتفرج ذاهلين على انحطاط الخطاب وفجاجة المواقف وزوال الحدود بين اللائق وغير اللائق… كل الكلام الذي يتبادر إلى الذهن صار يخرج عاريا دون حرج أو مراعاة أو تردد جميل تحكمه أخلاق وبضبطه إحساس… كنا ذات سنة نلوم سامي الفهري على قصص الزبالة ومفرداتها التي يرصّع بها أعماله ومنشورات قناته التجارية… كنا ندين ذلك على اعتبار أنه نشاز في عالم أرقى وأكمل… ولكن حين التفتنا يمينا ويسارا، وأبحرنا في لجة ما يرد من كل ناحية، وجدنا أن الدنيا كلها بناسها وحوادثها أصبحت زفتا على زفت…

هذه الأيام مثلا قام دونالد ترامب وقعد وأعلن رغبته في شراء غزة… وللذين ينقصهم الاطلاع، غزة هذه ليست ماركة سيارات أو فصيلة أبقار أو علبة حليب مركّز، بل جزء من وطن داخله شعب حي وخارجه ملايين يحلمون بالعودة إلى بيوت سلبت منهم… شعب لديه إرادة ومشاعر وقدرة على الفرح والغضب والثورة والفعل وردّ الفعل… والذكي المتحضّر هو من كان دائما وعلى مر العصور، يحسب ألف حساب لمشاعر الآخر ولردة فعله، ولمنظومة قيم تعِبَ فلاسفة وحكماء وأنبياء في صوغها طوال ألفيّات… وهذا ما كان يجهله إنسان المغارة، وها قد أعادت إنتاجه زمر البرابرة الجدد…

ربما هي الأزمات الاقتصادية المتتالية، وربما هي الأزمات الأخلاقية الناتجة عنها كما حلل كارل ماركس، وربما هي الأزمات الصحية الكاذبة كما يجزم ترامب، وربما هي أزمات شحّ الثروات وتزايد التعداد كما تنبأ مالتوس، أو هو تقلب المناخ كما استخلص مؤتمر باريس… وربما، وربما… ولكن الأكيد أن كل هذا مجتمعا أفرز أجيالا وثقافات عدوانية، فجّة، عديمة الذوق، كارهة للجمال، مطبّعة مع القبح… سينما السنوات الأخيرة صارت مرتعا لكافة الفظاعات الممكنة… إن لم يكن الفيلم من أوله لآخره، فعلى الأقل يحشرون مشهدا أو اثنين يدفعانك إلى الغثيان، يثيران التقزز…ولجان الرقابة لم تعد تشتغل على هذه التفاصيل، وأصبح مسموحا لديها بأن يسيل الدم وتيقر البطون إلخ مما لا أقدر على وصفه فضلا عن مشاهدته وسماعه…

في سنيّ الدراسة، كنا في مادة التلفزيون مع أستاذنا رضا النجار، وكان الموضوع فك شفرة تصريحات الساسة والإفادة من ذلك عند التعليق عليها… ومن الأمثلة التي سردها مؤسس المركز الإفريقي لتكوين الصحفيين، تصريح من أربع أو خمس جمل فاه به الوزير والأمين العام السابق للجامعة العربية الشاذلي القليبي… هذا التصريح قدمه لنا الأستاذ على أنه ناريّ خطير… قرأنا الجمل الخمس من اليمين إلى الشمال، ثم من الشمال إلى اليمين، ثم من فوق إلى أعلى طردا وعكسا.. فلم نكد نفهم إلا باقة مجاملات وتحايا ودّ وأخوّة وصفّا عربيا مرصوصا لا ريب ولا استرابة فيه… إلا أن سي رضا علق عليها قائلا: أرأيتم كل هذا الودّ والورد؟ إنه تغليف جيّد لعبارة واحدة: أنا رافض رافض رافض… عجبا، قلنا له… فأجابنا: احذفوا المفردات الدبلوماسية المتأدبة، وأعيدوا القراءة، تجدوا ما قلته لكم… وبالفعل قمنا بالحذف وإعادة القراءة فوجدنا أن الرجل صفع مخاطبه بلسانه، بل “سلح عليه” كما يردد القدماء… عندها ختم أستاذنا حصته بجملة أخيرة كالمتنهّد: لهذا بقي “مسيو” قليبي في مناصبه، كل هذه السنين…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

من سيعيد إعمار غزّة… ومن سيدفع الثمن غاليا؟؟؟

نشرت

في

محمد الأطرش:

قام مساعدو ساكن البيت الأبيض بإعادة صياغة “الاقتراح الصادم” الذي تقدّم به دونالد للقادة العرب الشهر الماضي تحت عنوان “طرد جميع سكان غزّة من القطاع وإخلاء المكان”..

 مساعدو دونالد طلبوا من القادة العرب تقديم خطّة أفضل إن هم حقّا “قلقون” من خطة دونالد وما ستؤول إليه الأوضاع إن وقع تنفيذها… وأضاف مساعدو ساكن البيت الأبيض مخاطبين قادة الدول العربية المعنية بالمبادرة وبطرح رؤية بديلة “قدّموا خطّة أو قوموا بتنفيذ ما اقترحناه عليكم”… لذلك يحاول منذ الأمس قادة مصر والسعودية والأردن وقطر والإمارات العربية المتحدة المجتمعون في الرياض، إيجاد خطّة ورؤية بديلة مخالفة تماما لما اقترحه ساكن البيت الأبيض وتمويل تنفيذها… الدول العربية المعنية بما اقترحه ترامب ستساعد على الإشراف وتمويل إعادة إعمار غزة، مع ضمان إبقاء سكانها في مكانهم… كما سيحاول قادة هذه الدول الحفاظ على مقترح قديم يهدف إلى التوصل في نهاية الأمر إلى إقامة دولة فلسطينية، وهذا ما تمّ إطلاع بعض الدبلوماسيين والمسؤولين من عديد الدول العربية والغربية في الرياض عليه.

من المنتظر أن تقترح مصر تشكيل لجنة من التقنيين الفلسطينيين وبعض القادة من المجتمع المدني غير المرتبطين بحماس لإدارة غزة بعد الحرب، وفقًا لدبلوماسيين عرب ومسؤول غربي كبير… ويعكف قادة الدول العربية الخمس على إيجاد خطّة تثبت لترامب أن مخطّط التهجير لن يكون الأنجع والأصلح لوضع سكان غزّة والقضية الفلسطينية، وأن خطتهم ستمكّن من إعادة إعمار القطاع دون الحاجة إلى تهجير سكانه… فترامب حسب بعض القادة العرب رجل عقارات، وحديثه ومخططه المقترح الشهر الماضي يهدف فقط لإعادة تطوير غزّة لغايات أخرى تستثني سكان غزّة الأصليين… وهم (أي القادة العرب) يريدون وضع خطة قابلة للتطبيق تظهر وتؤكّد لترامب أنه يمكن إعادة بناء غزة وتوفير مستقبل أفضل لمليوني فلسطيني، دون إجبارهم على مغادرة أراضيهم وتركها…

ويحاول العرب بقيادة مصر دعم السلطة الفلسطينية المعترف بها دوليا والتي كانت تدير غزة قبل سيطرة حماس على القطاع قبل نحو عقدين… لكن يبدو أن الرئيس محمود عباس متردد في قبول هيكلية حكم ما بعد الحرب لا تمنحه السيطرة الكاملة على كل الأراضي الفلسطينية المتفق عليها… علما بأن بعض مسؤولي حركة حماس صرحوا أخيرا أنهم مستعدون للتنازل عن السيطرة المدنية والإدارية على القطاع مع رفضهم حل جناحهم العسكري… وهو الأمر  الذي ترفضه تل أبيب وساكن البيت الأبيض فتل أبيب تريد وتسعى إلى نزع سلاح حركة حماس مهما كلفها الأمر…

وهنا يكمن التحدّي الأكبر على قادة الدول العربية الخمس… كيف يجدون خطّة واقعية يمكن القبول بها من الفصائل الفلسطينية ويقبلها ساكن البيت الأبيض وتل ابيب… الأمر يبدو معقّدا إلى ابعد حدّ… والمطلوب من الدول العربية الرافضة لخطّة تهجير سكان غزّة إيجاد مخرج للمأزق يضمن تأمين القطاع مع المنع الكلي والشامل لحركة حماس من التحرّش أو مهاجمة بقية الأراضي المحتلة التي تخضع لسلطة تل أبيب… كما يطالب ساكن تل أبيب بتمتيع جيش المحتل بحرّية العمليات في القطاع على المدى الطويل وهو الأمر الذي لن تقبله الدول العربية أبدا… والسؤال الأهمّ، من سيدفع تكاليف كل الخراب الذي حلّ بغزّة ومن سيتكفل بإعادة الإعمار، وهل سيفرض ساكن البيت الأبيض تكفّل شركات الماما بإعادة الإعمار على أن يتكفّل العرب بدفع الثمن… غاليا … 

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم… الورقة 107

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

كانت الحلقة الاولى يومها في علاقتي بخالقي … نعم صليت له وسجدت وقلت لربّي كما اسلفت في الورقة 106 (انا جايك)… وتصادف ذلك مع قدوم شهر رمضان… وقمت بفريضة الصيام لاوّل مرّة في حياتي…

عبد الكريم قطاطة

كنت قبل سنة 2003 (عازقو) كما كنّا نعبّر انذاك عن كلّ من يُفطر في ذلك الشهر الكريم… ولأوّل مرّة في حياتي ايضا اصبحت اشارك المصلّين في صلاة التراويح بعد الافطار… وعشت حالة من الخشوع الرهيب… بكاء مستمرّ… والسبب الرئيسي في بكائي كان مزيجا من الندم على عصياني طيلة ما سبق من حياتي، والخوف من ان اقابل ربّي ذات يوم وانا مكبّل بالمعاصي… كلّ تلك المشاعر كانت نيرانها تضطرم في صدري… وكان لا بدّ من البحث عن شخص اثق فيه واحبّه واحترمه حتى افرغ له ما في صدري من شحنات خوف بحجم الجبال… ومن يكون غيره؟ انه معلّمي في السادسة ابتدائي الذي اكنّ له كلّ التقدير والاحترام… انه الحاج علي الشعري رحمه الله امام جمعة مسجد ساقية الزيت…

وجاء يوم الجمعة لاجد نفسي من المصلين صلاة الجمعة خلفه… يومها لم البس اجمل الملابس بل وتعمدت ان اترك اللحية لايام تسرح في ملكوت الله خوفا من ان يتعرّف عليّ سي علي (عاد الله خير انا ماشي نحكيلو على ماضيّ الاغبر ويعرف انّي فلان الفلاني؟ يا فضيحتك يا ولد عيادة!)… وعلى فكرة، عيّادة رحمها الله كانت تتمنى طيلة حياتها ان تراني تائبا الى الله وكانت تعرف عن ابنها الصائع كلّ شيء… رغم انّي لم ابح لها يوما بتفاصيل حياتي الماجنة… ولكنّ ذكاءها واحساسها بولدها وبعمايلو حتى وهو يخفيها عنها يمكن لكم ان تقرؤوها في تساؤلها الدائم في فترة من عمري: (يا وليدي وقتاش ماشي يهديك ربّي و”تسكّر سروالك”؟!)… الم اقل لكم انّها تقرؤني حرفا حرفا حتى ولو لم انطق بأيّ حرف… والحمد لله انها عاشت لتراني ولو لمدة سنة واحدة ذلك الابن الهارب الى ربه …

اتمّ سيدي علي الشعري يومها صلاة الجمعة بنا وبدأ المصلّون يغادرون المسجد و(تسلحبت) كأنّي عامل عملة، في خطى متعثرة له… لمن؟ لذلك الرجل الضخم جثة والاضخم في الكاريزما… تماما كما عهدته وانا تلميذ في السادسة ابتدائي بمدرسة القراوة المختلطة… سلمت عليه باستحياء وعيناي لم تتجرّآ على النظر اليه… قال لي مرحبا يا ولدي عندك سؤال تحب تسألو؟ صمتّ قليلا ولساني الداخلي يقول (يا ريتو كان سؤال)… طأطأت رأسي وبالكاد خرج صوتي المرتعش الخائف من معلّمي قائلا: (سيدي الشيخ انا نحسّ بأنو ربّاني هداني… لكن ماضيّ معذّبني… نحسّ بجبال من الذنوب… وباش نسهّل عليك مانيش ماشي نقلك اشنوة اللي عملت، اما اسهل اني نقلك شنوة اللي ما عملتش…

لم ارفع رأسي لأرى ردّة فعله ولكن رايتها بقلبي حين قال لي:(ايّا سمّعني اشنوة اللي ما عملتش ترا)… قلت له: (لم اشرب الخمر طيلة حياتي ولم اعاشر المثليين والبقية الكلّ عملتو)… والله يشهد اني كنت صادقا في بوحي هذا… ورايت ودائما بقلبي يده حين ربّت بها على كتفي وقال: (يا ولدي وقت ترجع لدارك شدّ كتاب القرآن وامشي لسورة الفرقان واقرا من الآية 63 حتى الآية 71 وستجد الاجابة)… سلمت عليه شاكرا ومرة اخرى لم اجد الشجاعة لرؤية عينيه وهو الذي يمتاز بعينين كبيرتين ثاقبتين… تسلحبت مرّة اخرى وغادرت المسجد…

ساقية الزيت حيث المسجد تبعد عن مقرّ سكناي 9 كلم تقريبا… يومها كانت المسافة 9999 كلم… ويومها كان الزمن يسير بسرعة مليمتر واحد في الساعة… يااااااه فعلا كانت السكّة يومها طويلة قوي كما وصفها سعيد صالح… ووصلت لمنزلي وديراكت استلقيت على فراشي وديراكت سورة الفرقان والاية 63… وشعرت بالويل والثبور لمن هم من صنفي ولمن ارتكبوا ما ارتكبت… يا الهي… هل هذا انت الغفور الرحيم…؟ ولانّ الله ودون شك هو الغفور الرحيم وجدتني ابكي بكاء الفرح والامان وانا اقرأ الآية 71 وحلّ جلاله يقول بعد الآيات الرهيبة والمرعبة التي سبقتها: (الا الذين تابوا وآمنوا وعملوا عملا صالحا فاولئك سيبدّل لهم الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما)… ياااااه ما اشهى البكاء يومها حبّا في الله وفي رحمته وغفرانه… بل لم اكتف بذلك… قررت في تلك اللحظة ان اقوم بصلاة لم تأت في القرآن ولا في السنّة، واسميتها صلاة الحمد والشكر وداومت عليها يوميّا لحدّ يوم الناس هذا… وهل انسى فضل معلّمي سي علي الشعري عليّ رحمه الله… انا من عادتي ان اعترف بالجميل لكلّ انسان عرفته في حياتي ومهما كان حجم جميله… فكيف لا اذهب لمن حررني من عقدة الخوف من ماضيّ الخايب في علاقتي بخالقي؟ اقتنعتوشي توة انو في فترة من عمري كنت خايب بالحق؟؟

ورجعت له وما احلى الرجوع اليه ..رجعت لمعلّمي بأبهى ملابسي وطلّقت اللحية وللابد وصلّيت خلفه صلاة الجمعة وتقدّمت له هذه المرة بكل ثقة في النفس وسلّمت عليه بسعادة… نظر اليّ وقال: (جايني فرحان اليوم ماذابيك سيئاتك كانوا اكثر، طمعا في تحويلها الى حسنات هواشي؟)… نزل الدمع من عينيّ مرّة اخرى وشكرت له صنيعه وقلت له: (‘توة جا الوقت باش تعرفني انا شكون؟) قللي مرحبا بيك ايّا قللي انتي شكون؟… قلت له انا تلميذك عبدالكريم قطاطة في مدرسة القراوة في سنة 1960… شدّ على يدي بكل حرارة وقللي انت ولدي متاع اذاعة صفاقس ؟ قلت له انا هو… جذبني اليه وعانقني وقبّلني… وطفقنا معا في بكاء جميل… نعم البكاء احيانا هو عذب جدا وعزف جميل على اوتار الوجدان… اضف له طبطبة بيديْ سيدي علي الغليظتين على ظهري وهو في قمة سعادته بابنه الذي جاءه تائبا، وبابنه المنشط الذي وبالنسبة له هو وسام له كمربّ نجح في تربية عبدالكريم…

صدقوني انّ تلك الطبطبة باليدين اللتين قلت عنهما غليظتين هي وعلى حدّ تعبير ابراهيم ناجي (ويد تمتدّ نحوي كيد مُدّت من خلال الموج لغريق )…مسكني سيدي علي من ذراعيّ النحيفتين وقال: (توة ماشي نطلب منك طلب ونحبك تلبيهولي)… قلتلو انت معلمّي وعرفانك عليّ لن انساه طيلة عمري… اطلب عينيّ وشويّة فيك… قال لي وبنظرة جادّة كما تعوّدت عليه عندما كنت تلميذا… اهاب مثل تلك النظرات ولكن هذه المرة كانت ممزوجة بحنّية المربّي الاب… قال: (انت مازلت تتذكّر دار بوك علي اللي في واد القراوة بعد المدرسة؟)… قلت له طبعا وبالامارة في نهاية واد القراوة على اليسار… قال: (تبارك الله على ولدي وعلى ذاكرتو)… واضاف: (نحبك تجيني نهار الاول في عيد الفطر بعد صلاة العصر تقبّل عليّ)… وطبعا قفزت كلماتي وبكلّ سعادة وسرور وطبعا دون نسيان جانب المزاح فيّ قلت: (معناها ماشي تذوّقني البقلاوة وكعك الزلوز والملبّس)… ابتسم بكل حبّ وقال: اللي ماشي نحضرهولك خير مللي قلتو الكل… انت قدرك اعزّ باااااااااااارشا مللي قلتو…

وكنت اليوم الاول من عيد الفطر بمنزله… فوجئت جدا بالجمع الغفير الذي كان في الصالون… مسك سيدي علي رحمه الله بيدي وقال لي: هؤلاء هم ابنائي واحفادي… ثم نظر اليهم وقال: (هذا خوكم عبدالكريم قطاطة اللي تسمعوه وتحبوه في اذاعة صفاقس… اي نعم هذا خوكم اللي ما جابتوش امكم والحمد لله ربيت وما خبتش)… سلّمت على الجميع بكل حب وسعادة ثم قال لي سيدي علي: (ايّا تفضل موش حكيتلي على البقلاوة وكعك الزلّوز والملبّس؟ ورينا جهدك)… قلتلو: (سيدي ومعلمي احنا راهو جماعة الاذاعة نبهبرو برشة اما ما نفعلوش)… وبنظرة فيها عتاب غاضب قال لي سيدي علي: (انت بالذات فخور بيك لانك تقول وتفعل)… وربت في حنية على كتفي وقال: (عندي هدية ليك مفاجأة اما راهو تشوفها وبعد ترجعهالي)… ودلف الى بيته واخرج لي ورقة من نوع دوبلوفاي وقال لي تفضل اقرا…

يااااااااه انها ورقة في تمرين انشاء تحمل اسمي ولقبي وانا في السادسة ابتدائي… وهل هناك هدية اثمن من تلك؟ عاد بي زمني الى زمن اخر وهنا لا بدّ من القول وانا زعمة زعمة التلميذ المجتهد والنجيب جدا في مادة اللغة العربية طيلة دراستي… لابدّ من القول اني عشت عديد المواقف والاحداث في حياتي التي تعطلت فيها كلماتي… نعم لغة الكلام احيانا تتعطّل عندما تجتاحنا مشاعر غامرة…. فنصبح كقشّة تبن في لجج البحار… هل يعني ما قلته انّ لغة كلامي ستتعطّل وتقف عند هذا الحدّ في الحديث عن خالقي وعن الدين واهل الدين؟؟ ابدا ما قلته لحدّ الان هو غيض من فيض… ولكن للتذكير وللتاكيد مرة اخرى اقول: ما دوّنته وسأدوّنه في قادم الاوراق هو تجربة شخصية لا ارمي من ورائها اعطاء درس لايّ كان… انا لست مؤهلا لذلك بتاتا… بل وهذي تلميحة مقصودة اعتبروها بداية الغيض لورقتي المقبلة او مخالفة غير مباشرة، كم اشفق كثيرا على كل من يعطي دروسا في الدين لانه رغم ما بداخله من نوايا سيحمل وزره ووزر من يتبعه.

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار