تابعنا على

يجل نهار

محمد الأطرش: المشيشي يرفض الحرب بالمناولة…

… و يؤجل توزيع غنائم الحكم، إلى يوم اعتراف قرطاج بــ”باي” القصبة !

نشرت

في

يسألك بعضهم هل ستخرج تونس من الوضع التي تردّت فيه؟ وأقول كيف تخرج وجميعهم يراوحون مكانهم؟؟ أسئلة عديدة تطرح نفسها اليوم حول مآل ما تتخبّط فيه البلاد…فهل سينجح الغنوشي في البقاء على كرسي باردو؟؟ وهل سيحافظ المشيشي على موقعه في القصبة؟ وهل يواصل ساكن قرطاج سياساته الحمقاء و يجرّ البلاد إلى ما لا تحمد عقباه؟ كلها أسئلة ترتبط إجاباتها بعضها ببعض وكلها أسئلة قد تذهب بنا إلى إجابة واحدة …

عن مّاذا يبحث الغنوشي يا ترى؟

محمد الأطرش Mohamed Alatrash
<strong>محمد الأطرش<strong>

يصرّ بعض المتابعين على القول بأن الغنوشي يبحث فعلا وبكل الطرق عن قيادة البلاد وحكمها والتربّع على عرش باردو والقصبة معا حتى نهاية هذه العهدة….وأعود لأقول هنا إن الغنوشي لا يبحث عن ذلك علنا وبالشكل الذي يروّجه البعض، بل يبحث فقط كيف يخرج من هذه العهدة سالما، وكيف يجنّب حركته السياسية التآكل قبل موعد الانتخابات القادمة وكيف يخرج من هذه العهدة دون أن تتحمّل النهضة تبعات فشلها المعلن، وكيف يخرج وكل خصومه في وضع لا يهدّد وجود حركته…هذا ما يبحث عنه الغنوشي لكن كل هذا يمرّ عبر كسب معاركه التي كثرت وأصبحت الخبز اليومي لهذا الشعب، ولن يمكن تحقيقه دون أن ينجح الغنوشي في خلط الأوراق مرّة أخرى في المشهد السياسي المتعفّن…

ومعركة الغنوشي الأكبر هي طبعا الحفاظ على كرسي باردو وهذه تعتبر أيسر معاركه الحالية وربما القادمة لأنها ستكون حرب استنزاف يشنها عليه خصومه كلما دعت لذلك الحاجة، فالغنوشي درس جيدا ما يريده خصومه في المجلس وعرف كيف يشتّت شملهم ليجنب نفسه النزول عن كرسي باردو، الغنوشي نجح بمساعدة غباء وحمق بعض الأحزاب وكتلها النيابية في أن تكون النهضة “جوكير” هذه العهدة وملح طعامها، فلن تشكّل حكومة دون النهضة ولن ينجح المجلس في تركيز المحكمة الدستورية دون النهضة ولن يمرّ أي قانون دون موافقة من النهضة هكذا فعل الغنوشي بالمجلس وجعله رهينة بين كفيه…

لسائل أن يسأل وكيف ذلك؟ خلاصة الإجابة، لا أحد اليوم من نواب وكتل المجلس يريد ويتمنى حلّ المجلس وتنظيم انتخابات سابقة لأوانها، فانتخابات في وضع كالذي تعيشه اليوم تونس، وكالذي تعيشه أغلب الأحزاب لن يغيّر حال البلاد وحال المشهد كثيرا وقد يذهب ببعض الأحزاب إلى أرشيف المشهد وتصبح في عداد ضحايا هذه العهدة…وقد يذهب بعض النواب إلى السجن يوم ترفع عنهم حصانة المجلس بعد حلّه…وقد يكتشف الجميع كذبة عمليات سبر الآراء يوم يقع الإعلان عن نتائج انتخابات سابقة لأوانها…كلها فرضيات وجب أخذها بعين الاعتبار وعدم إغفالها…

فالغنوشي نجح في أن يجعل من كتلة قلب تونس كتلة الحلّ والربط في كل ما يقع بالمجلس، و هكذا أصبح إنزال الغنوشي يمرّ عبر تصويت كتلة قلب تونس…وإسقاط حكومة المشيشي يمرّ عبر تصويت كتلة قلب تونس…و إسقاط بعض القوانين أو مرورها يمرّ عبر أصوات نواب قلب تونس…فالغنوشي صنع متعمدا من كتلة حزبٍ رئيسُه يقبع في السجن بشبهة الفساد، الورقة الأهمّ في مجلس باردو، و مصير المشيشي اليوم يرتبط أساسا بأصوات كتلة قلب تونس…وسحب البساط من تحت أقدام الغنوشي يمرّ عبر أصوات نواب قلب تونس…فالوضع الحالي للمشهد السياسي لن يتغيّر ما لم يقع فكّ الارتباط بين كتلتي النهضة وقلب تونس وأحوازهما…

ولن يقع فكّ الارتباط بالسهولة التي يتصوّرها البعض فالمصالح المشتركة بين الكتل الداعمة لساكن القصبة أكثر من تلك التي تربط بين من يعارضها وبينها وبين بقية الكتل المكوّنة لمجلس باردو…والمصالح المشتركة بين كتلتي النهضة وقلب تونس أقوى بكثير من تلك التي تربطهما ببقية الكتل…فمستقبل الشيخ على رأس المجلس يمر عبر توطيد الارتباط مع كتلة قلب تونس وأحوازها، والحفاظ على تماسك كتلة قلب تونس يمرّ عبر توطيد الارتباط مع كتلة النهضة والبقاء ضمن الحزام المساند والداعم لحكومة المشيشي…فالمصير المشترك الذي يجمع من هم حول المشيشي اليوم سيمنعهم من فكّ الارتباط بين بعضهم البعض…

والواضح من هذا الارتباط الوثيق بين الكتل المكونة لحزام الحكومة السياسي أن المشيشي اصبح أيضا مكوّنا أساسيا من مكونات هذا الارتباط، فهذا الأخير لن يعود إلى حضن من رشحه لكرسي القصبة  أبدا ولن يفكّر في الأمر أصلا، فحزام حكومته اليوم يوفّر له ما لا يمكن أن يوفره له حضن ساكن قرطاج و”مديرة” ديوانه… كما أن الغنوشي لا يريد أن يغيّر ساكن القصبة لغايات في نفس راشد…فالنهضة لن تغامر ولن تكون سعيدة كما يتصوّر البعض في حال عودة ورقة ترشيح من سيسكن القصبة إليها، و النهضة أدركت قبل الجميع صعوبة المرحلة التي تمرّ بها البلاد…وتدرك حجم الخسائر التي ستلحق بمن سيسكن القصبة ومن سيقف خلفه لذلك لن تغامر بتغيير ساكن القصبة مهما كانت الإغراءات …

فالحراك الاجتماعي الذي تشهده البلاد اليوم قد يصبح في قادم الأشهر جحيما لا يطاق وقد يأتي على الأخضر واليابس، والنهضة لا تريد تحمّل تبعات ذلك بمفردها بل تريد أن يشاركها الجميع في اسقاطات ذلك على مستقبل البلاد وخاصة على نتائج الانتخابات القادمة التي ستكون حتما مقبرة للكثير من الأحزاب الممثلة اليوم في مجلس باردو…النهضة وبقيادة رئيسها قرأت جيدا ما يدور في رأس المشيشي وعرفت أنه الشخص التي تتوفر فيه مواصفات من ستحمّله تبعات كل الفشل القادم…خاصة أنها لم تكن وراء اختياره لكرسي القصبة بل كان اختيارا لساكن قرطاج وسيحسب عليه حتى وإن أصبح ابنا ضالا في نظر هذا الأخير…لكن هل يمكن أن تغدر النهضة بالمشيشي في الوقت الحاضر وتقترب من ساكن قرطاج ومن هم حوله…وهل يمكن أن تقبل بتحالف جديد يستثني قلب تونس وبعض من هم معها اليوم؟ الإجابة هي “لا يمكن”…

فالنهضة لن تقترب من ساكن قرطاج دون أن تكون الرابح الأكبر من ذلك، ولن يكون ذلك الاقتراب ممكنا دون أن تقترب أيضا ممن هم اليوم مع ساكن قرطاج وأقصد التيار وحركة الشعب، وهذا لن يكون ممكنا ما لم يقع فكّ الارتباط بين النهضة وقلب تونس ومن معه، فقلب تونس جاء ليعوّض الكتلة الديمقراطية وأحزابها بعد القطيعة التي حصلت أثناء جلوس الفخفاخ على كرسي القصبة، ولن يكون التقارب مع التيار وحركة الشعب ممكنا دون أن تتنازل النهضة تنازلات في حجم أطماع التيار وحركة الشعب وساكن قرطاج وربما البعض الآخر وأطماع هؤلاء كبيرة جدا وقد لا تترك للنهضة نصيبا…وقد تشهد الساحة السياسية في قادم الأيام مراودات متبادلة بين جميع الأطراف لغاية في نفس كل طرف منهم…وقد يروّج هؤلاء وأولئك عن تقارب قريب…وعن قصّة حب بين النهضة وبعض الأطراف القريبة من قرطاج…لكن هل ستنتهي كل تلك القصص بالزواج…لا أظنّ…

المشيشي، الرابح الأكبر من المعارك التي تدور حوله..

يدرك الجميع أن المشيشي لا يمكن أن نعتبره شخصية سياسية، ولا يمكن أن نصفه بالرجل القادر على إصلاح الأوضاع المتأزمة بالبلاد، كما لا يمكن أن ننتظر منه نجاحا أو حتى إصلاحا بسيطا لحال البلاد…فالرجل قد يكون رئيسا جيدا لمصلحة بإحدى المؤسسات العمومية أو كاتبا عاما لإحدى الولايات ليس أكثر، لكنه ورغم كل ذلك فهو الرابح الأكبر والمستفيد الوحيد من كل ما يدور اليوم حوله، والغريب في هذه المعادلة الصعبة أن الجميع أعلنوا الحرب على الجميع من أجل كرسي يجلس عليه المشيشي ولا يريدون الجلوس عليه…فالقدر أتى به إلى كرسي لن يغامر أحد بطلب الجلوس عليه في وضع كارثي كالذي تعيشه تونس اليوم،

فهذا الكرسي قد يصعد بك إلى السماء لو نجحت في إصلاح ولو بسيط لأوضاع البلاد، وقد يذهب بك إلى السجن لو أخطأت ولو خطأ صغيرا، وقد يصيبك بكل أمراض العصر بسبب الضغوطات التي ستعيشها…والوحيد الذي يريد إنزال المشيشي من كرسي القصبة هو ساكن قرطاج والأحزاب التي تدور في فلكه وهؤلاء يتمنون ذلك ويطالبونه بذلك، فقط لأنهم أخرجوا من الحكم بخروج الفخفاخ من القصبة ويدركون جيدا أن الفرصة قد لا تتاح ثانية ليكونوا في الحكم مرّة أخرى…رغم كل هذا لا أظنّ أن المشيشي سيفرّط في فرصة أرادتها له الاقدار، وكأني به يدرك ما يعنيه بيت شعر يقول “من أمكنته فرصة فأضاعها، وأستعتب الأيام فهو المعتدي” …

والمتابع لما يفعله المشيشي اليوم يدرك لأول وهلة أن المشيشي بدأ مرحلة كسب ودّ من هم حوله وودّ من يمكنهم الوقوف معه في قادم الأيام والاشهر إن كتب لحكومته الصمود في وجه العواصف التي تلوح مدمّرة في قادم الأيام…المشيشي أدرك أن حزامه السياسي لا يريد تركه لمصيره الآن، ومتمسك به وخاصة حركة النهضة فتركه لمصيره في هذه الفترة سيعتبره المتابعون لما يدور في البلاد انتصارا لساكن قرطاج وهذا سيضرّ بأحزاب الكتل الداعمة قاعديا وجماهيريا…كما يدرك المشيشي أن اتحاد ساحة محمد علي وخاصة أمينه العام يبحث عن إطالة عمره التنظيمي وعمر عهدته على رأس الاتحاد، ولن يكون ذلك ممكنا دون أن يوفر له بعض آليات “الرضاء” والقبول لدى قواعده وهياكله من خلال الإمضاء على عشرات الاتفاقيات القطاعية المعطّلة بالجملة ولسان حاله يقول “اعطه ألف درهم يا كعلي…وغدا نأخذها أضعافا” مخاطبا وزير ماليته وقاصدا بما يعنيه أمين عام الاتحاد…

فالغنائم التي كسبها الطبوبي أخيرا من ساكن القصبة رغم أنها مؤجلة التنفيذ لم يغنمها من غيره في وقت قياسي كالذي مرّ من عمر حكومة المشيشي، وفي وضع اقتصادي مأزوم وقابل للانفجار في كل لحظة، وتحت طائلة شروط ملزمة من صندوق النقد الدولي بالتخفيض في كتلة الأجور والحدّ من انتفاخها المتواصل منذ عشر سنوات…فهذه الاتفاقيات المجدولة زمنيا ستُخرج الطبوبي من ورطة الإمضاء على هدنة مشروطة للدخول في حوار وطني يعطي شرعية البقاء للطبوبي وبعض من معه، وإطالة عمر وجودهم النقابي والسياسي بالمشهد العام للبلاد التونسية…

أما عن تعامل المشيشي مع التحوير الوزاري الذي أجهضه ساكن قرطاج فلن يكون صداميا في قادم الأيام وقد يلتزم الصمت وعدم الردّ عن كل ما سيصدر من ساكن قرطاج ومن يدور في فلكه لغايتين…الأولى هي أنه أدرك أن ساكن قرطاج يمر بفترة عصيبة على المستوى النفسي وقد تتكرر الأخطاء الصادرة عنه وعمن هم حوله، وقد تتوسع رقعة المنتقدين والرافضين لتصرفاته وهو الأمر الذي قد يضطرّه إلى القبول بالأمر الواقع والعمل على إنهاء بقية تفاصيل التحوير الوزاري المجهض منذ أكثر من نصف شهر للحدّ من تصاعد الأصوات المرتفعة ضدّ تصرفاته الرعناء وغير المسؤولة خاصة وأن أي ردّ صدامي من القصبة على تصرف خاطئ من ساكن قرطاج سيُخسر ساكنها نقاطا هو في حاجة أكيدة إليها اليوم…

والغاية الثانية هي أن المشيشي ادرك أيضا أنه يقوم بحرب بالمناولة ضدّ ساكن قرطاج نيابة عن النهضة ورئيسها، وأن هذه الحرب ليست حربه لوحده كما تروج النهضة لذلك بل هي حرب كل مكونات الحزام السياسي الذي لا يريد أن يكون بعيدا عن حكومته، خاصة أن ساكن قرطاج يريد أن يستأثر بالحكومة وإبعاد من لا يريدون العيش تحت مظلته…فالمشيشي أدرك أخيرا أنه ليس الوحيد المعني بهذه الحرب ضدّ ساكن قرطاج وأن على كل من يشكلون حزامه السياسي المشاركة في هذه الحرب بالعدّة والعتاد وكسبها سريعا قبل المطالبة بنصيبهم من غنائم الحكم…وهذا يعني أن المشيشي قد يعطّل أو يؤجّل كل توزيع لغنائم الحكم إلى ما بعد كسب معركة التحوير والاستقرار الحكومي وتهدئة الأجواء مع ساكن قرطاج ويرفض أن يكون الجندي الوحيد في حرب قد يكون هو الخاسر الأكبر فيها إن خسرها…

وفي انتظار أخطاء قاتلة أخرى من ساكن قرطاج سيواصل المشيشي صمته ولامبالاته عن كل ما يحاك ضدّ حكومته …وقد يأتي الخطأ القاتل من ساكن قرطاج ويضطرّ إلى رمي المنديل والإعلان ضمنيا عن خسارته حرب “نادية وهشام”…

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 89

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

فترة التسعينات كانت حبلى بالاحداث والتغييرات في مسيرتي المهنية منها المنتظر والمبرمج له ومنها غير المنتظر بتاتا …

عبد الكريم قطاطة

وانا قلت ومازلت مؤمنا بما قلته… انا راض بأقداري… بحلوها وبمرّها… ولو عادت عجلة الزمن لفعلت كلّ ما فعلته بما في ذلك حماقاتي واخطائي… لانني تعلمت في القليل الذي تعلمته، انّ الانسان من جهة هو ابن بيئته والبيئة ومهما بلغت درجة وعينا تؤثّر على سلوكياتنا… ومن جهة اخرى وحده الذي لا يعمل لا يخطئ… للتذكير… اعيد القول انّه وبعد ما فعله سحر المصدح فيّ واخذني من دنيا العمل التلفزي وهو مجال تكويني الاكاديمي، لم انس يوما انّني لابدّ ان اعود يوما ما الى اختصاصي الاصلي وهو العمل في التلفزيون سواء كمخرج او كمنتج او كلاهما معا… وحددت لذلك انقضاء عشر سنوات اولى مع المصدح ثمّ الانكباب على دنيا التلفزيون بعدها ولمدّة عشر سنوات، ثمّ اختتام ما تبقّى من عمري في ارقى احلامي وهو الاخراج السينمائي…

وعند بلوغ السنة العاشرة من حياتي كمنشط اذاعي حلّت سنة 1990 لتدفعني للولوج عمليا في عشريّة العمل التلفزي… ولانني احد ضحايا سحر المصدح لم استطع القطع مع هذا الكائن الغريب والجميل الذي سكنني بكلّ هوس… الم اقل آلاف المرات انّ للعشق جنونه الجميل ؟؟ ارتايت وقتها ان اترك حبل الوصل مع المصدح قائما ولكن بشكل مختلف تماما عما كنت عليه ..ارتايت ان يكون وجودي امام المصدح بمعدّل مرّة في الاسبوع ..بل وذهبت بنرجسيتي المعهودة الى اختيار توقيت لم اعتد عليه بتاتا ..نعم اخترت الفضاء في سهرة اسبوعية تحمل عنوان (اصدقاء الليل) من التاسعة ليلا الى منتصف الليل …هل فهمتم لماذا وصفت ذلك الاختيار بالنرجسي ؟؟ ها انا افسّر ..

قبل سنة تسعين عملت في فترتين: البداية كانت فترة الظهيرة من العاشرة صباحا حتى منتصف النهار (والتي كانت وفي الاذاعات الثلاث قبل مجيئي فترة خاصة ببرامج الاهداءات الغنائية)… عندما اقتحمت تلك الفترة كنت مدركا انيّ مقدم على حقل ترابه خصب ولكنّ محصوله بائس ومتخلّف ..لذلك اقدمت على الزرع فيه … وكان الحصاد غير متوقع تماما ..وتبعتني الاذاعة الوطنية واذاعة المنستير وقامت بتغييرات جذرية هي ايضا في برامجها في فترة الضحى .. بل واصبح التنافس عليها شديدا بين المنشطين ..كيف لا وقد اصبحت فترة الضحى فترة ذروة في الاستماع … بعد تلك الفترة عملت ايضا لمدة في فترة المساء ضمن برنامج مساء السبت … ولم يفقد انتاجي توهجه ..وعادت نفس اغنية البعض والتي قالوا فيها (طبيعي برنامجو ينجح تي حتى هو واخذ اعزّ فترة متاع بثّ) …

لذلك وعندما فكّرت في توجيه اهتمامي لدنيا التلفزيون فكرت في اختيار فترة السهرة لضرب عصفورين بحجر واحد… الاول الاهتمام بما ساحاول انتاجه تلفزيا كامل ايام الاسبوع وان اخصص يوما واحدا لسحر المصدح ..ومن جهة اخرى وبشيء مرة اخرى من النرجسية والتحدّي، اردت ان اثبت للمناوئين انّ المنشّط هو من يقدر على خلق الفترة وليست الفترة هي القادرة على خلق المنشط ..وانطلقت في تجربتي مع هذا البرنامج الاسبوعي الليلي وجاءت استفتاءات (البيان) في خاتمة 1990 لتبوئه و منشطه المكانة الاولى في برامج اذاعة صفاقس .. انا اؤكّد اني هنا اوثّق وليس افتخارا …

وفي نفس السياق تقريبا وعندما احدثت مؤسسة الاذاعة برنامج (فجر حتى مطلع الفجر) وهو الذي ينطلق يوميا من منتصف الليل حتى الخامسة صباحا، و يتداول عليه منشطون من الاذاعات الثلاث… طبعا بقسمة غير عادلة بينها يوم لاذاعة صفاقس ويوم لاذاعة المنستير وبقية الايام لمنشطي الاذاعة الوطنية (اي نعم العدل يمشي على كرعيه) لا علينا … سررت باختياري كمنشط ليوم صفاقس ..اولا لانّي ساقارع العديد من الزملاء دون خوف بل بكلّ ثقة ونرجسية وغرور… وثانيا للتاكيد مرة اخرى انّ المنشط هو من يصنع الفترة ..والحمد لله ربحت الرهان وبشهادة اقلام بعض الزملاء في الصحافة المكتوبة (لطفي العماري في جريدة الاعلان كان واحدا منهم لكنّ الشهادة الاهمّ هي التي جاءتني من الزميل الكبير سي الحبيب اللمسي رحمه الله الزميل الذي يعمل في غرفة الهاتف بمؤسسة الاذاعة والتلفزة) …

سي الحبيب كان يكلمني هاتفيا بعد كل حصة انشطها ليقول لي ما معناه (انا نعرفك مركّب افلام باهي وقت كنت تخدم في التلفزة اما ما عرفتك منشط باهي كان في فجر حتى مطلع الفجر .. اما راك اتعبتني بالتليفونات متاع المستمعين متاعك، اما مايسالش تعرفني نحبك توة زدت حبيتك ربي يعينك يا ولد) … في بداية التسعينات ايضا وبعد انهاء اشرافي على “اذاعة الشباب” باذاعة صفاقس وكما كان متفقا عليه، فكرت ايضا في اختيار بعض العناصر الشابة من اذاعة الشباب لاوليها مزيدا من العناية والتاطير حتى تاخذ المشعل يوما ما… اطلقت عليها اسم مجموعة شمس، واوليت عناصرها عناية خاصة والحمد لله انّ جلّهم نجحوا فيما بعد في هذا الاختصاص واصبحوا منشطين متميّزين… بل تالّق البعض منهم وطنيا ليتقلّد عديد المناصب الاعلامية الهامة… احد هؤلاء زميلي واخي الاصغر عماد قطاطة (رغم انه لا قرابة عائلية بيننا)…

عماد يوم بعث لي رسالة كمستمع لبرامجي تنسمت فيه من خلال صياغة الرسالة انه يمكن ان يكون منشطا …دعوته الى مكتبي فوجدته شعلة من النشاط والحيوية والروح المرحة ..كان انذاك في سنة الباكالوريا فعرضت عليه ان يقوم بتجربة بعض الريبورتاجات في برامجي .. قبل بفرح طفولي كبير لكن اشترطت عليه انو يولي الاولوية القصوى لدراسته … وعدني بذلك وسالته سؤالا يومها قائلا ماذا تريد ان تدرس بعد الباكالوريا، قال دون تفكير اريد ان ادرس بكلية الاداب مادة العربية وحلمي ان اصبح يوما استاذ عربية ..ضحكت ضحكة خبيثة وقلت له (تي هات انجح وبعد يعمل الله)… وواصلت تاطيره وتكوينه في العمل الاذاعي ونجح في الباكالوريا ويوم ان اختار دراسته العليا جاءني ليقول وبكلّ سعادة …لقد اخترت معهد الصحافة وعلوم الاخبار… اعدت نفس الضحكة الخبيثة وقلت له (حتّى تقللي يخخي؟) واجاب بحضور بديهته: (تقول انت شميتني جايها جايها ؟؟)… هنأته وقلت له انا على ذمتك متى دعتك الحاجة لي ..

وانطلق عماد في دراسته واعنته مع زملائي في الاذاعة الوطنية ليصبح منشطا فيها (طبعا ايمانا منّي بجدراته وكفاءته)… ثم استنجد هو بكلّ ما يملك من طاقات مهنية ليصبح واحدا من ابرز مقدمي شريط الانباء… ثم ليصل على مرتبة رئيس تحرير شريط الانباء بتونس 7 ..ويوما ما عندما فكّر البعض في اذاعة خاصة عُرضت على عماد رئاسة تحريرها وهو من اختار اسمها ..ولانّه لم ينس ماعاشه في مجموعة شمس التي اطرتها واشرفت عليها، لم ينس ان يسمّي هذه الاذاعة شمس اف ام … اي نعم .عماد قطاطة هو من كان وراء اسم شمس اف ام …

ثمة ناس وثمة ناس ..ثمة ناس ذهب وثمة ناس ماجاوش حتى نحاس ..ولانّي عبدالكريم ابن الكريم ..انا عاهدت نفسي ان اغفر للذهب والنحاس وحتى القصدير ..وارجو ايضا ان يغفر لي كل من اسأت اليه ..ولكن وربّ الوجود لم اقصد يوما الاساءة ..انه سوء تقدير فقط …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جلـ ... منار

الصوت المضيء

نشرت

في

وفاء سلطان:

البارحة نشرت بوستا مفاده ان مقدار سلامك الداخلي هو انعكاس لعملك وإيمانك ونواياك وأفكارك وصداقاتك وعلاقاتك ونجاح اسرتك.

وفاء سلطان

فكرة البوست ولدت بعد محادثة على الخاص مع شخص لم أكن أعرفه من قبل، شخص متدين جدا جدا،

ولكنه كان مهذبا ولطيفا، لسبب واحد التقطته من خلال الحديث ألا وهو أن لديه شكوكا بطبيعة ما يؤمن به

أراد أن يجرني لأفصح عن كل ما أعرفه بهذا الخصوص، لأن ما أقوله راح يغوص في تلافيف دماغه ويحرك شيئا عنده.

في سياق الحديث قلت له: أشعر أنني أسعد امرأة في العالم، والشخص الأكثر سلاما

فردّ على الفور:

بعكسي تماما فحياتي قاسية جدا، وتابع: أعيش وأشعر أن كل شخص يتعامل معي بوحشية لأنني إنسان طيب وأخاف أن اؤذي أحدا.

قلت: الطيبة لا تعني أن تترك الوحوش تنهشك!

فردّ: أخاف من الله

قلت: ومتى كان الدفاع عن النفس ضد مشيئة الله؟

لن أخوض أكثر في بقية الحديث، لكنني أود أن أعلق على ما سبق وذكرته منه.

عندما أقول أنا أسعد امرأة في العالم والأكثر سلاما، لا أقصد أنني لم أحزن ولم أتألم، فالحزن والألم جزء من الطبيعة البشرية وعامل فعّال في ديناميكية الحياة.

الحزن ليس الوجه المغاير للسعادة، بل التعاسة هي ذلك الوجه.

نعم، لم أشعر يوما أنني تعيسة، ولكنني حزنت مرارا كردّة فعل على حدث ما.

الحزن شعور عابر يثيره حدث مؤلم، أما التعاسة فهي حالة عقلية دائمة تستنزف طاقة البشر وتحولهم إلى

دمى لا حياة فيها، يشعرون عندها أن لا قيمة ولا فائدة لوجودهم

بالمناسبة، استطيع ان أعمّم وأقول: لم أصدف في حياتي متدينا مهووسا وخضت قليلا في حياته إلا واكتشفت أنه تعيس إلا حد الاستنزاف، والإفراط في تدينه ليس أكثر من وهم، وهم يشبه إلى حد بعيد وهم الغريق عندما لا يجد سوى قشة فيتعلق بها.

الإنسان يملك إرادة حرة وهي وحدها، ولا شيء غيرها، ينقذه من تعاسته

أما الله فهو صوت الضمير في أعماقه، ذلك الصوت الذي يعزز إرادته ويضيء له الطريق

ولقد أضاء لي الطريق حتى صرتُ أرى ثقب الإبرة خلال لحظة ظلام دامس

فأدخل فيه الخيط كي أشبك جروحي وجروح الآخرين

Motif étoiles

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم ..الورقة 88

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

المهمة الصحفية الثانية التي كلفتني بها جريدة الاعلان في نهاية الثمانينات تمثّلت في تغطية مشاركة النادي الصفاقسي في البطولة الافريقية للكرة الطائرة بالقاهرة …

عبد الكريم قطاطة

وهنا لابدّ من الاشارة انها كانت المرّة الوحيدة التي حضرت فيها تظاهرة رياضية كان فيها السي اس اس طرفا خارج تونس .. نعم وُجّهت اليّ دعوات من الهيئات المديرة للسفر مع النادي وعلى حساب النادي ..لكن موقفي كان دائما الشكر والاعتذار ..واعتذاري لمثل تلك الدعوات سببه مبدئي جدا ..هاجسي انذاك تمثّل في خوفي من (اطعم الفم تستحي العين)… خفت على قلمي ومواقفي ان تدخل تحت خانة الصنصرة الذاتية… اذ عندما تكون ضيفا على احد قد تخجل من الكتابة حول اخطائه وعثراته… لهذا السبب وطيلة حياتي الاعلامية لم اكن ضيفا على ايّة هيئة في تنقلات النادي خارج تونس ..

في رحلتي للقاهرة لتغطية فعاليات مشاركة السي اس اس في تلك المسابقة الافريقية، لم يكن النادي في افضل حالاته… لكن ارتأت ادارة الاعلان ان تكلّفني بمهمّة التغطية حتى اكتب بعدها عن ملاحظاتي وانطباعاتي حول القاهرة في شكل مقالات صحفية… وكان ذلك… وهذه عينات مما شاهدته وسمعته وعشته في القاهرة. وهو ما ساوجزه في هذه الورقة…

اوّل ما استرعى انتباهي في القاهرة انّها مدينة لا تنام… وهي مدينة الضجيج الدائم… وما شدّ انتباهي ودهشتي منذ الساعة الاولى التي نزلت فيها لشوارعها ضجيج منبهات السيارات… نعم هواية سائقي السيارات وحتى الدراجات النارية والهوائية كانت بامتياز استخدام المنبهات… ثاني الملاحظات كانت نسبة التلوّث الكثيف… كنت والزملاء نخرج صباحا بملابس انيقة وتنتهي صلوحية اناقتها ونظافتها في اخر النهار…

اهتماماتي في القاهرة في تلك السفرة لم تكن موجّهة بالاساس لمشاركة السي اس اس في البطولة الافريقية للكرة الطائرة… كنا جميعا ندرك انّ مشاركته في تلك الدورة ستكون عادية… لذلك وجهت اشرعة اهتمامي للجانب الاجتماعي والجانب الفنّي دون نسيان زيارة معالم مصر الكبيرة… اذ كيف لي ان ازور القاهرة دون زيارة خان الخليلي والسيدة زينب وسيدنا الحسين والاهرام… اثناء وجودي بالقاهرة اغتنمت الفرصة لاحاور بعض الفنانين بقديمهم وجديدهم… وكان اوّل اتصال لي بالكبير موسيقار الاجيال محمد عبد الوهاب رحمه الله… هاتفته ورجوت منه امكانية تسجيل حوار معه فاجابني بصوته الخشن والناعم في ذات الوقت معتذرا بسبب حالته الصحية التي ليست على ما يرام…

لكن في مقابل ذلك التقيت بالكبير محمد الموجي بمنزله وقمت بتسجيل حوار معه ..كان الموجي رحمه الله غاية في التواضع والبساطة… لكن ما طُبع في ذهني نظرته العميقة وهو يستمع اليك مدخّنا سيجارته بنهم كبير… نظرة اكاد اصفها بالرهيبة… رهبة الرجل مسكونا بالفنّ كما جاء في اغنية رسالة من تحت الماء التي لحنها للعندليب… نظرة المفتون بالفن من راسه حتى قدميه…

في تلك الفترة من اواخر الثمانينات كانت هنالك مجموعة من الاصوات الشابة التي بدات تشق طريقها في عالم الغناء ..ولم اترك الفرصة تمرّ دون ان انزل ضيفا عليهم واسجّل لهم حوارات… هنا اذكر بانّ كلّ التسجيلات وقع بثها في برامجي باذاعة صفاقس… من ضمن تلك الاصوات الشابة كان لي لقاءات مع محمد فؤاد، حميد الشاعري وعلاء عبدالخالق… المفاجأة السارة كانت مع لطيفة العرفاوي… في البداية وقبل سفرة القاهرة لابدّ من التذكير بانّ لطيفة كانت احدى مستمعاتي… وعند ظهورها قمت بواجبي لتشجيعها وهي تؤدّي انذاك وباناقة اغنية صليحة (يا لايمي عالزين)…

عندما سمعت لطيفة بوجودي في القاهرة تنقلت لحيّ العجوزة حيث اقطن ودعتني مع بعض الزملاء للغداء ببيتها… وكان ذلك… ولم تكتف بذلك بل سالت عن احوالنا المادية ورجتنا ان نتصل بها متى احتجنا لدعم مادي… شكرا يا بنت بلادي على هذه الحركة…

اختم بالقول قل ما شئت عن القاهرة.. لكنها تبقى من اعظم واجمل عواصم الدنيا… القاهرة تختزل عبق تاريخ كلّ الشعوب التي مرّت على اديمها… نعم انها قاهرة المعزّ…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار