تابعنا على

جلـ ... منار

الجوعان إذا شبع

نشرت

في

إضحك مع قرنى التمرجى والدكتور عزت ..

عندما جربت السفر للملكة العربية السعودية بعد التخرج – عام 1990 – تعثر تصريح السفر، وقيل لي إن علي أن آخذه من جهاز أمن الدولة. هناك كارثة ما.

<strong>أحمد خالد توفيق<strong>

المخبر الذي يجلس في مكتب الاستقبال كالح الوجه، يتعامل مع الناس بوقاحة مستفزة كفلاح جلف يعرف أنك عاجز عن أن تضره. يسخر من لقب كل شخص (أحمد حسنين ؟ هع هع . مش كفايه حسن واحد ؟… علي الأطرش ؟ هو لسه أطرش ؟ هع هع)، ويستهزئ بالجميع شاعرًا بأهمية مركزه، ومعظم ما يقوم به من عمل هو جعل الناس ينتظرون على احر من الجمر، ثم بعد ثلاث ساعات يخبرهم أن (فلان بيه) لم يأت اليوم، وأن عليهم العودة بعد ثلاثة أيام، ثم يبدي قرفه واشمئزازه من توسلات الناس له لأن موعد السفر اقترب .. أو .. أو .. لا أعرف إن كانوا يتبدلون في النوبتجية، لكن حظي العاثر كان يوقعني دومًا مع هذا الوغد.

أجلس في غيظ – لرابع يوم – أصغي لهرائه والقصص السخيفة التي يحكيها لأحد معارفه:ـ”العقيد (فلان بيه) يثق بي تمامًا .. لا يخرج لأي مأمورية من دون أن يقول لي: تعال معي يا إبراهيم بيه فأنا بحاجة لك !!!” أتماسك حتى لا أنفجر ضحكًا. أحداث رائعة يوسف إدريس (جمهورية فرحات) لا تفارق ذهني.

سخريات الحياة أن يصير هذا الكلب متحكمًا في مستقبلك ومصيرك، وهو بالفعل قادر على ألا تقابل الضابط المسؤول للأبد. في النهاية عندما قابلت الضابط نفسه – الشهادة لله – كان في غاية التهذيب والأدب، وقال لي وهو يناولني لفافة تبغ ويشعلها:ـ”ملفك يتحدث عن نشاط شيوعي أيام الكلية يا دكتور، لهذا حدث هذا الخلط.. لاتقلق . سأنهي المشكلة حالاً”

كما قلت لك: لست ناشطًا كما إنني لست شيوعيًا، لكن هذا ليس موضوعنا على كل حال. مرة أخرى بعد أعوام تكرر الموقف ذاته، وجئت لأمن الدولة لأجد مخبرًا غير خصمي القديم، لكنه هو نفسه بطباعه وغروره وقلة أدبه. بعد ما تكرر الكعب الدائر مرتين، خرجت لكابينة هاتف واتصلت بصديق حميم له قريب ذو منصب مهم في جهاز أمن الدولة. عدت لمكتب الاستقبال لأسمع سخرية المخبر السخيفة وكلامه الجلف. عندما دق جرس الهاتف، رفع السماعة وبدت معالم البلاهة والغباوة على وجهه:ـ”نعم يا باشا .. هو امامي الآن .. ماذا ؟ أوصله بنفسي لمكتبك ؟ أمرك” وسرعان ما راح يركض كالأرنب وأنا وراءه عبر أروقة الجهاز الكئيبة، ليوصلني للضابط الكبير الذي أنهى المشكلة في نصف دقيقة وهو يبتسم. وعندما خرجت من الباب للشارع نهض المخبر محييًا في توقير كأنني صرت باشا آخر.

عندما يتملك السلطة شخص جاهل غبي لم تهذبه الثقافة ولم يعلمه الدين شيئًا، فإنه يصير من زبانية جهنم، وتصير رسالته في الحياة هي أن يحيل حياة البسطاء الذين لا خطر منهم جحيمًا.

هناك كذلك (عقدة ممرض الطبيب الناجح) التي يعرفها الأطباء جيدًا. هناك دومًا الطبيب الناجح الذي يتزاحم المرضى على عيادته. هؤلاء – كي يقابلوا آمون – يجب أن يظهروا الخضوع والتبتل للكاهن الأعظم. وهذا الكاهن الأعظم يجلس إلى مكتب (إيديال) صغير شاعرًا بتضخم أهميته، يرنو لهم بتنطع وغرور يتناسبان مع جهله. مع الوقت يوقن أنه مهم جدًا .. إن الناس تتزاحم أمامه طالبة رضاه .. البعض ينتحون به جانبًا، والبعض يبرزون له بطاقات تدل على أنهم مهمون مثله. إنه يملك لهم كل شيء.. يملك أن يسمح لهم بمقابلة آمون داخل المحراب، أو يمنعهم من ذلك فهو إذن الهلاك الأبدي لأرواحهم.. مع الوقت يشعر بأنه أهم من الطبيب بكثير.. يتصرف بغرور فج لا يختلف عن غرور مخبر أمن الدولة الذي حكيت عنه. وأعتقد انه يتحول إلى وحش يسيطر عليه الطبيب بصعوبة.

منذ أعوام زرت طبيب أمراض جلدية شهيرًا في مدينتي، فأعطاني الممرض الرقم 71 في الحجز اليومي !.. وهو يحدد لك الموعد بالدقيقة.. 8:10 مساء مثلاً .. السبب هو منع الازدحام الذي يثير شهوات مفتشي الضرائب، لو تأخرت خمس دقائق لضاع دورك. ثم عرفت أنه يتقاضى سبعة جنيهات عن كل كشف. لو افترضنا أن الطبيب يفحص مائة مريض يوميًا – والكل يؤكد أن هذا ممكن لأن الرجل يقضي مع كل حالة ثلاث دقائق – فإن الممرض يحصل على 700 جنيه يوميًا تقريبًا، أي اننا نتكلم هنا عن 18 ألف جنيه شهريًا على الأقل، مقابل (لسه قدامك اتنين يا حاج .. اتفضلي يا مدام عزة .. الحجز بالتليفون يا كابتن).. هذه وظيفة تغريني انا نفسي، فلا غرابة في ان يفقد الممرض أي سيطرة له على نفسه ..

القاعدة واحدة وسارية في كل مكان. هات شخصًا جاهلاً غبيًا من أصل منحط – ولا أعني الثراء أو الفقر طبعًا – واعطه سلطة ، حتى لو كانت حراسة باب مبولة عمومية، ولسوف تطلق أقذر مكونات نفسه للخارج. إنه يصير الشيطان ذاته. ينطبق هذا على الجميع . ينطبق على مخبر يحرس بوابة أو تومرجي في عيادة .. ينطبق على مسؤول كبير أو أستاذ جامعي .. ينطبق على ضابط شرطة صار (باشا) يهابه الجميع .. ينطبق على مذيع يحتل ساعات مهمة في الفضائيات ولا يصدق أنه صار بهذه الأهمية ..

على الجانب الآخر تكتشف أن ذوي الأصول الكريمة – مهما كان فقر جذورهم – يزدادون رفقًا ونبلاً كلما ترقوا في سلم الحياة. وتجدهم يحرصون على أن يقوا من هم أصغر منهم أشواك الرحلة وغبارها. المؤسف ان فرصة السيطرة والنفوذ قلما تتاح لهؤلاء. الأحجار الكريمة نادرة في هذا العالم، لذا هي ثمينة عالية القيمة.

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جلـ ... منار

“الملاك يهبط في بابل”

نشرت

في

وفاء سلطان:

ليس كل كتاب أقرأه ويعجبني معناه أنني اؤمن قطعا بكل ماجاء فيه.

لكنني حتما أستفيد من كل فكرة أقرؤها، لأنها تساهم في توسيع مداركي اتفقت معها أم لم أتفق.

وفاء سلطان

انتهيت لتوي من قراءة كتاب أهدتني إياه ابنتي بالتبني الشابة الجميلة Zara Otaifah

الكتاب بعنوان:

The Three Waves of Volunteers

And The New Earth!

(الدفعات الثلاث من المتطوعين والعالم الجديد)

……..

الكاتبة فيلسوفة أمريكية مختصة في علم التنويم المغناطيسي.

على مدى عدة عقود قامت بتنويم الكثير من مرضاها،

واستطاعت، بناء على قولها، أن تقرأ اللاوعي عندهم وتتعرف على حيوات سابقة عاشوها،

وبالتالي وصلت إلى قناعاتها المذكورة في الكتاب،

والتي لست بصدد شرحها، ولا يهمني أن تؤمن بها أم لا. حتى لو كان الكتاب محض خيال،

ما أعجبني فيه هو وضوح الفكرة وجمالها الإنساني.

إذ لا يوجد عبارة واحدة فيه تحتاج إلى رجل دين (مشعوذ) كي يفسرها ويحاول أن يغطي قبحها بما هو أقبح منها!

هذا من جهة ومن جهة ثانية، لا يمكن لعبارة واحدة أن تسيء إلى أي جزء من هذا الكون، بل على العكس

تتدفق نهرا من المشاعر الطيبة في نفس القارىء

وترتقي بروحه فوق قبائح المعتقدات سواء بالوعي أو باللاوعي عنده!

……..

كل الكتب التي تحكي عن هكذا تجارب تشرح أننا نأتي إلى الحياة لنتعلم درسا، نموت ونعود إليها لكي ندفع

ثمن أخطائنا، وبالتالي لنستمر في التعلم واكتساب الحكمة، حتى نصبح مع الزمن مجرد أرواح نقيّة طاهرة تسبح في عوالم أرقى من عالمنا الأرضي!

هذا الكتاب لم يشذّ عن هذه القاعدة.

الفكرة الجديدة فيه: أن هناك أرواحا نقية لم يسبق أن أتت إلى الأرض لتخطيء وتتعلم.

هذه الأرواح تتطوع بين الحين والآخر لتأتي إلى الأرض من عوالم أخرى، كي تساهم بطاقتها الجميلة في التخفيف من حدة كوارثها.

وجودها على الأرض يحملها عبئا ثقيلا في بعض الأحيان

تعجز عن حمله فتقرر العودة.

……..

وهذا، وفقا لرأي الكاتبة، يشرح الكثير من حالات الانتحار

ويشرح أيضا وجود حالات لأشخاص لا يستطيعون إطلاقا أن يتكيفوا مع جنون البشر.

ويعزز صحّة المثل الشعبي: لو خليت خربت

طبعا، علميّا لست متأكدة من استنتاجات الكاتبة،

ولا اؤمن بحرفيّتها.

لكن لا أستطيع أن أنكر الدور الذي لعبته في تعزيز قناعاتي وسلوكياتي،

والتي ملخصها أن عليّ أن أتعامل مع كل شخص ألتقي به كروح كونية متحررة من أي خلفية دينية أو ما شابه.

وأن أية محاولة لأميّز نفسي عن الآخر دينيا، فكريا، ماديا، علميّا أو لأي اعتبار آخر، هي محاولة عنصرية تسبب اضطراب الروح وبالتالي هزمها

……..

لقد استعرت تعابير (مضطربة ومنهزمة) من كتابين،

إحداهما للعالمة الروحانية الأمريكية Salvia Brown

التي تسمي هكذا أرواح

Troubled Souls

في كتابها On The Other Side

والآخر للمفكر الأمريكي Don Baker

الذي يسميها الأرواح المنهزمة defeated Souls في كتابه

What Happy People know

……..

نعم عندما تتخندق ضد الآخر تضطرب روحك وتنهزم،

وكذلك تساهم أيضا في اضطراب روح الآخر وهزيمتها.

من هذا المنطلق بت أرفض وأكره المعتقدات، التي تخلق عالما مهزوما ومضطربا حتى النخاع

أكمل القراءة

جلـ ... منار

مع اقتراب الذكرى 20 لرحيله… ياسر عرفات في جنين

نشرت

في

صبحي حديدي:

مادة ياسر عرفات (1929ــ2004) في غالبية الموسوعات الغربية التي تؤرّخ لـ”النزاع العربي ــ الإسرائيلي” تشدد على دوره في “عملية السلام” من مؤتمر مدريد، ومفاوضات أوسلو واتفاقياتها، وصولاً إلى كامب دافيد والتفاهمات المختلفة مع رؤساء حكومات إسرائيلية أمثال إسحق رابين وبنيامين نتنياهو وإيهود باراك؛ أكثر من تركيزها على مواقعه القيادية، سواء داخل حركة “فتح” أو منظمة التحرير الفلسطينية أو السلطة الوطنية في رام الله. وهذا تفصيل مفهوم الدوافع بالطبع، لا تخفى عنه مفارقات التاريخ بين حين وآخر، أو عموماً في واقع الأمر.

صبحي حديدي

على غرار المفارقة التالية: مع اقتراب الذكرى الـ20 لرحيل أبو عمّار، تشهد اليوم محافظات جنين وطولكرم وطوباس، والضفة الغربية والقدس إجمالاً، حروب اجتياح إسرائيلية لا تضرب عرض الحائط بقسط كبير من بنود اتفاقيات “عملية السلام” على امتداد مراحلها، فحسب؛ بل تحيلها، فعلياً، ومعها العملية بأسرها، إلى حبر باهت على ورق بالٍ. الأخبار، حتى الساعة، تشير إلى استشهاد أعداد إضافية من الفلسطينيين، بما يرفع عدد الشهداء في الضفة الغربية إلى 667 منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023.

وإلى جانب حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزّة، وامتدادها على أكثر من مستوى واحد إلى الضفة الغربية والقدس المحتلة، فإنّ الحال الرسمية للسلطة الفلسطينية عموماً، ورئيسها محمود عباس خصوصاً، تحيل بدورها إلى شخص عرفات، وإلى مفارقة قائد قال لا كبيرة، حاسمة ومبدئية ومشرّفة في كامب دافيد، صيف 2000، أمام الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون ورئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق إيهود باراك؛ إزاء محمود عباس، القابع في أروقة “المقاطعة” أو الخطيب أمام البرلمان التركي، أو طالب التوسط من ولي العهد السعودي.

وهذه حال تعيد إلى بُعد خاصّ، خلاصته أنّ عرفات لم يكن أقرب إلى تجسيد مشروعيات فلسطينية وطنية شتى، سياسية وتاريخية ونضالية وحقوقية وقانونية وأخلاقية، فحسب؛ بل لاح مراراً أنه التمثيل الرمزي الأخير، عملياً، لتراث في الكفاح المناهض للاستعمار والإمبريالية بدأ بعد الحرب العالمية الثانية على امتداد آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وعُرف باسم “حركة التحرّر الوطني”. ولعلّ من المتفق عليه أنّ ذلك الكفاح اتخذ العديد من الأشكال والأساليب، وسار وفق خطوط عقائدية متباينة، وبلغ ذروته في الستينات والسبعينات، قبل أن يشهد محاقاً سريعاً حين أخذت الحرب الباردة تضع أوزارها، وانهار “المعسكر الاشتراكي” وتداعى نظام القطبين ليفسح المجال أمام هيمنة أمريكية ـ إمبريالية شبه مطلقة.

ومن الخير، والإنصاف المحض، ألاّ ينسى أحد ــ ويتذكّر الفلسطينيون خصوصاً ــ أنّ عرفات انتسب إلى تراث كفاحي تعدّدي مدهش، ضمّ أسماء أخرى شغلت نضالاتها النصف الثاني من القرن العشرين، واحتلّت مواقع أيقونية خالدة في ذاكرة الشعوب: ستيف بيكو ونلسون مانديلا في جنوب أفريقيا، أميلكار كابرال في غربي إفريقيا، فرانز فانون في المارتينيك والجزائر، هو شي منه في فييتنام، جمال عبد الناصر في مصر والوطن العربي، كوامي نكروماه في غانا، أحمد سيكوتوري في غينيا، شي غيفارا في كوبا وأمريكا اللاتينية…

وممّا يُسجْل فضيلةً خاصة لصالح عرفات أنّ حركة التحرّر التي قادها لم تكن شبيهة أبداً بسواها: لم تكن القضية بعدُ على الخريطة، فضلاً عن أنّ “الشعب الفلسطيني” ذاته لم يكن موجوداً في عُرف قوى كبرى عديدة؛ وكانت الحركة في المنفى أساساً، ضمن بحر من الأنظمة الاستبدادية، التابعة أو المفرّطة في الحقّ الفلسطيني. خصمها الإسرائيلي، في المقابل، كان ويظلّ مخفراً متقدّماً للإمبريالية عموماً، وللولايات المتحدة خصوصاً: قوىّ حصين منيع نووي، مدلّل في الغرب بأسره، مرفوع فوق القانون الدولي، مستثنى من شرعة الأمم. وأخيراً، ولعله الاعتبار الأهمّ، أنّ حركة التحرّر الوطني الفلسطينية كانت في الآن ذاته نقيض حركة عقائدية واسعة النفوذ والتأثير هي الصهيونية، تزعم أنها “حركة تحرير” يهود العالم، وتتسلّح حتى النواجذ بعقدة الذنب التي حملها الغرب بعد أوشفيتز والمحرقة، وتحتكر عقدة الضحيّة الكونية الفريدة في عذاباتها!

في سنة 1991 نشر جون والاش وجانيت والاش كتاباً ضخماً بالإنكليزية تحت عنوان “عرفات: في أعين الناظر” وقع في أكثر من 540 صفحة، وكتب شمعون بيريس مقدّمة إحدى طبعاته؛ وانطوت فصوله على عناوين مثيرة مثل: “إماطة اللثام عن عرفات” “اللغز في الأحجية” “الجدار المقدّس” “أخوة وأعداء” “أيلول أسود/أيلول أبيض” “أقنية سرّية” “محرّمات كيسنجر” “من أوسلو إلى الخليل: مصافحات الأيدي وغصّات القلوب”…

في السطور الأولى، حيث جرت العادة أن يضع المؤلّف تصديراً خاصاً أو إهداءً، يكتب جون وجانيت والاش التالي: “القرد في عين أمّه غزال… مَثَل عربي اقتبسه مناصر لمنظمة التحرير، على سبيل شرح الفارق في صورة عرفات عند الغرب وعند الفلسطينيين”! وهنا فقرة أولى من تصدير الناشر على طيّة الطبعة المجلدة من الكتاب: “من مصافحة 1993 التاريخية مع إسحق رابين إلى التوتّر الراهن مع بنيامين نتنياهو، استأثر ياسر عرفات بمفاتيح السلام في الشرق الأوسط. ولقد حدث مراراً وتكراراً أن أُعلنت وفاته السياسية، ولكن الزعيم الفلسطيني كان ينهض ثانية مثل العنقاء لكي يتجاوز المعارضة. وبعد ستة أعوام من تحالفه مع صدّام حسين في حرب الخليج، يهلل له شعبه ويرى فيه صورة البطل، ويعتبر الكثيرون أنه صانع سلام. ومن خلال سلسلة اتفاقيات مرحلية انتقل من صورة المنبوذ إلى الرئيس والزعيم البرلماني للحكومة الفلسطينية. وجهوده جلبت له جائزة نوبل للسلام”.

وللمرء، غير المتغافل عامداً، أن يلاحظ هذا البناء الخلفيّ للصورة السلبية، أو لتضخيم الاحتمالات السلبية في معطيات محددة من الصورة:

ــ إذا كان عرفات هو الذي يستأثر بمفاتيح السلام في الشرق الأوسط، فإنه منطقياً واستطراداً صانع العراقيل والعقبات في وجهه، أو حتى كاره، السلام الذي لم يتحقق حتى الآن.
ـ وإذا صحّ أنّ وفاته السياسية أُعلنت مراراً وتكراراً، فإنه لم يكن يعود كالعنقاء لكي يتجاوز المصاعب والأزمات والمآزق، بل لكي يتجاوز… المعارضة! إنه إذن، منطقياً واستطراداً، رجل لاديمقراطي ما دامت روحه السياسية لا تُردّ إليه إلا لكي “يتجاوز المعارضة”!
ـ لقد تحالف مع صدّام. هل فعل، حقاً؟ وهل كان موقفه السياسي يندرج في صيغة “التحالف” أياً كانت حدود المصطلح السياسية القصوى؟
ـ ومع ذلك فإنّ شعبه يهلل له ويعتبره بطلاً. الترجمة الأخرى هي أنّ ذلك الشعب على شاكلة قائده: متحالف مع صدّام حسين، بل ويرى عنصر البطولة في ذلك التحالف!
ـ انتقل من صورة المنبوذ Pariah إلى صورة الرئيس، ليس لأنه استحقّ ذلك في نظر شعبه وبعد انتخابات ديمقراطية، بل بسبب “اتفاقيات مرحلية”! وهو ليس الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني، ورئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، وقائد حركة فتح بل “زعيم برلماني” ليس أكثر!
ــ وأخيراً، ما الذي جلب له جائزة نوبل للسلام؟ “جهوده” وليس أفعاله وأقواله في سبيل السلام، وليست نضالاته وتضحياته التي جعلت ذلك السلام ممكناً وتلك الجائزة تحصيل حاصل، خصوصاً أنها مُنحت مُثالثة مع رابين وبيريس… الأمر الذي لا يشير إليه الناشر!

هذا محض أنموذج على تشويه صورة عرفات، وأمّا التاريخ فإنه لا يكفّ عن صناعة حضور عرفات في جنين وطولكرم وطوباس، كما في غزّة المدينة ودير البلح وخان يونس؛ أو حيثما يتعالى شعبه عن روائح جثة هامدة كانت تُسمى “عملية السلام”!

ـ عن “القدس العربي” ـ

أكمل القراءة

جلـ ... منار

هل تفعلها كامالا هاريس؟

نشرت

في

عبد الله السنّاوي:

 إنه سؤال الساعة في العالم كله، لا فى الولايات المتحدة وحدها بقدر الدور الذى تلعبه فى أزماته وحروبه.

عبد الله السنّاوي

إثر الصورة الكارثية، التي بدا عليها الرئيس “جو بايدن” في المناظرة التي جمعته مع غريمه “دونالد ترامب”، كان استبدال الجياد أمرا محتما.

حسمت الأمور سريعا لصالح نائبته “كامالا هاريس”.

لم يكن الحزب يحتمل منازعات جديدة على من يخلف بايدن والانتخابات تطرق الأبواب، وإلا فإن الهزيمة مؤكدة.

كان اختيارها إجباريا دون رهانات كبرى على قدراتها بالنظر إلى حضورها الباهت في ظل “بايدن”.

المفاجأة الحقيقية أنها أعادت اكتشاف نفسها عندما أخذت تتحرك كرئيسة محتملة لأكبر قوة دولية.

بدت أكثر ثقة في قدرتها على إلحاق الهزيمة بـ”ترامب”، الذي يمثل هاجسا مقيما بأوساط الحزب الديمقراطي أن يعود مجددا إلى البيت الأبيض.

بدا السؤال مقلقا وملحا: هل بوسعها أن توقف زحفه؟

بأسرع من أي توقع أخذت السمت الرئاسي، وامتطت موجة الرهان الاضطراري عليها.

تحدثت كمدعية عامة سابقة عن الرئيس السابق كـ”مجرم” ثبتت بحقه اتهامات مخلة بالشرفين الشخصي والسياسي.

كان ذلك بحد ذاته داعيا إلى ضخ الحماس في حملة ديمقراطية باهتة لوقف صعود ترامب، خاصة في أوساط الشباب والأجيال الجديدة.

بنزعتها اليسارية مثلت نقيضا متماسكا لخيارات وسياسات “ترامب”.

بصورة قياسية تدفقت الأموال في خزينة الحملة الانتخابية في اليوم الأول لطرح اسمها.

كان دعم بايدن داعيا جوهريا في قطع الطريق أمام الذين حاولوا منازعتها على الترشح باسم الديمقراطيين بالانتخابات الرئاسية المقبلة.

تبارت رموز الديمقراطيين وقيادات أوروبية ودولية في الإشادة المفرطة بـ”بايدن” ووصف فترة ولايته بـ”الاستثنائية”.

بالمفارقة فإن أغلبهم دعوا، أو تمنوا خروجه من السباق الانتخابي خشية خسارته على خلفية حالته الصحية والإدراكية.

لدواعٍ انتخابية استهدف المديح الزائد الحفاظ على وحدة الحزب أمام دعايات “ترامب”، الذي دأب على وصفه بأنه أسوأ من تولى المنصب الرئاسي قبل أن يلحق السوء نفسه بنائبته “هاريس”.

على بعد مائة يوم من الانتخابات الرئاسية الأمريكية فإن كل شيء محتمل ووارد.

لم تعد الانتخابات محسومة لـ”ترامب” سلفا ولا صعود “هاريس” مستبعدا.

حسب استطلاعات الرأي العام الأمريكية فإن نسبة تأييد المرشحة الديمقراطية بين الشباب تصل إلى نحو (60%)، غير أن المعركة الانتخابية سوف تظل مفتوحة بلا حسم ربما حتى إغلاق لجان الاقتراع.

وإذا وفقت في اختيار نائب رئيس جديد له حضوره وشعبيته فإن ذلك قد يكون من دواعي رفع سقف فرصها بحصد المنصب الرئاسي.

بالحساب العرقي في بلد متنوع يعاني من وطأة العنصرية فإنها أول سيدة سوداء مرشحة أن تصل إلى الموقع الأول في النظام السياسي الأمريكي.

وبالحساب التاريخي فإنه من غير المستبعد أن تكون الشخصية السادسة عشرة في قائمة من صعدوا من ظل الرئيس إلى المكتب البيضاوي.

إذا ما طالعت قائمة نواب الرئيس بعد الحرب العالمية الثانية، الذين صعدوا للموقع الأول، فإنها تضم رئاسات فوق العادة، كـ”هارى ترومان”، و”ليندون جونسون”، و”ريتشارد نيكسون”، و”جيرالد فورد”، و”جورج بوش” الأب.

صعود “هاريس” الصاعق أزعج “ترامب”.

في البداية سخر قائلا إن هزيمتها أسهل من هزيمة بايدن، لكنه اكتشف سريعا أنها لن تكون لقمة سائغة.

هكذا عاود سيرته الأولى في إثارة الشكوك حول كفاءتها والقول إنها يسارية متطرفة سوف تفضى بالولايات المتحدة إلى التهلكة!

دعا إلى مناظرتها لعله ينجح في وقف ظاهرتها من أن تتمدد وتحسم الانتخابات قبل الذهاب إلى صناديق الاقتراع.

بالمفارقة فإنها تصل إلى الستين من عمرها في (20) أكتوبر المقبل قبل الانتخابات الرئاسية بأيام قليلة، فيما هو يكون قد تجاوز الثامنة والسبعين.

كأن السحر ينقلب على الساحر، فهو بحكم الزمن مرشح لتكرار سيناريو بايدن إذا ما دخل البيت الأبيض مجددا.

إذا انتخبت هاريس لن تكون نسخة جديدة من بايدن.

هناك ما هو ثابت بحكم المصالح والاستراتيجيات شبه الراسخة، وهناك ما هو متغير بحكم طبائع الرئاسات والأولويات التي تتبناها وقدر ما تتمتع به من كفاءة.

بايدن وهاريس خياران متباينان.

الأول، ابن المؤسسة الأمريكية ويلتزم حقائقها ومصالحها.

الثانية، مدعية عامة سابقة ونائبة مخضرمة، جاءت من أصول أفروآسيوية.

على وجه آخر فإن ترامب وهاريس خياران متناقضان.

أولهما، يمثل اليمين الشعبوي .. وثانيتهما، تمثل النزوع اليساري.

لن تمضى “هاريس” على خطى بايدن في الأزمات والحروب التي أدارها.

ستحاول أن تتخفف من نزعته العسكرية المفرطة في حرب أوكرانيا وغزة دون تعديل في التوجهات الرئيسية.

تقف، كـ”بايدن”، مع ترسيخ التحالف الغربي ممثلا فى حلف الناتو ودعم العلاقات مع الحلفاء الأوروبيين وحصار روسيا تحت سقف عدم التورط في صدام عسكرى معها.

لن تمضى كـ”ترامب” في تسوية سريعة للأزمة الأوكرانية، وقد تحاول عكسه أن تتخفف من درجة التحالف مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.

كان مستلفتا تجنبها المشاركة في الجلسة الخاصة، التي تحدث فيها نتنياهو أمام مجلسي الكونغرس بذريعة التزامها بمؤتمر انتخابي في الوقت نفسه.

أرادت عن قصد سياسي ألا يجمعها مشهد احتفالي واحد مع نتنياهو، أو أن تكون طرفا في مظاهرة سياسية تدعم سياسته العنصرية، أو أن تسيء إلى صورتها أمام جمهورها الانتخابي في أوساط الديمقراطيين.

كان ذلك داعيا لهجوم ساخط عليها من جمهوريين استدعوا نتنياهو لإحراج بايدن بدعوى منع السلاح عنه لإلحاق الهزيمة الكاملة بالمقاومة الفلسطينية.

كانت تلك مغالطة مع الحقائق ومناكفة انتخابية بالوقت نفسه.

بالأرقام، غاب نحو ثلثي الديمقراطيين في مجلسى الكونغرس عن حضور تلك الجلسة.

بدت الجلسة نفسها استعراضا سياسيا مبتذلا أخذ فيه نتنياهو يمتدح بطولات الجيش الإسرائيلى وحرصه على حياة المدنيين مكيلا الاتهامات لخصومه ومعارضيه الأمريكيين خاصة المتظاهرين أمام مبنى “الكابيتول” ضد زيارته.

وصف كل من يعارض حرب الإبادة على غزة ب”معاداة السامية”، ونالت نفس التهمة من المحكمة الجنائية الدولية، التي تنظر في استصدار مذكرة ايقاف بحقه.

في وقت لاحق التقى نتنياهو ب”بايدن” و”هاريس” كل على انفراد.

بدت “هاريس” حريصة على التوازن المحسوب بين تأكيد الالتزام التقليدي بأمن “إسرائيل” و”حقها” في الدفاع عن نفسها، وبين الموقف الأخلاقي والسياسي الذي استدعى أن تقول بصراحة لافتة: “لن أصمت على معاناة الفلسطينيين في غزة”.

اختبار غزة يدخل في صميم السباق الانتخابي الأمريكي، وهذه مسألة تتعلق بمستقبلنا ومصيرنا.

ـ عن “الشروق” المصرية ـ

أكمل القراءة

صن نار