سرديار

شاي بلبن على سطوح في الزمالك

نشرت

في

… كلما جاء الشتاء،

تذكرتُ أصابع “قدرية”و هي تنام كالعصفور بين راحتيّ، كان البرد يصل لأطرافها متعمدًا وكانت توافقه.. بل كانت تشجعه لتتسلل أصابعها البيضاء لجيوب بنطلوناتي الدافئة..في الطريق من وإلى المدرسة تحت ظلال أشجار البانسيه المبلولة بماء المطر.نظلُّ نخبطُ برفقٍ بين أيدينا، ونتبادل الأماكن حتى تدفأ أصابعها الشمعية ويعود اللون الأحمر لعروقها الزرقاء.

<strong>رواية<br>فتحي سليمان<strong>

قدرية”أو “أودري” كما كانت تدعوها جدتها “قوت هانم” نسخة ممصرة من “أودري هيبورن”.. الأنف الدقيق.. خصلات الشعر السوداء الغزيرة.. الرموش الطويلة التي تنام في مخدع جفن يصلح كبرواز جميل لعيون أجمل.

لوحةُ لفنانٍ لم يبخلْ عليها بأنابيبِ ألوانِه، وشفاه استنفدت اللون الأحمر كله؛
 تيمنًا بالأميرة “قدرية”ابنة السلطانة “ملك جشم”والسلطان “حسين كامل”جاءت فتاتي باسم من العصر الخديوي في زمن الجمهورية الأولى بعد ثورة يوليو 1952.

الجد كان ياورًا للعائلة العلوية، والجدة كانت وصيفة الأميرة “سميحة” في قصرها الذي تحوّل إلى مكتبة القاهرة الكبرى بالزمالك، على بُعد خطوات من الأرض الفضاء التي شيّد عليها ابنهما “شوكت” عمارتين الواحدة خلف الأخرى وبينهما حديقة تحولت إلى جراچ عندما كثرت السيارات.

كلمة “جزيرة”بمعنى الأرض التي تحدّها المياه من كل جانب حسب التعريف الجغرافي.. لا ينطبق في مخيلتي على الزمالك فالكباري وقُصر المسافة بين منزلنا، وحي بولاق وميدان التحرير من ناحية والكيت كات من الناحية الأخرى لا تدعم هذا التعريف .لكن شكل الحياة المُترفة ورائحتها الذكية  والهدوء الذي يلفُ شوارعنا بعد الخامسة عصرًا يقول: لا، هذه جزيرة، وجزيرة نائية جدًّا؛ لأنها لا تُشبه بولاق وحواريها الضيقة وملامحها المُتعبة!!

الحياة في الحي الهادئ لها طعم آخر..

العمائر صممت لتستضيف البراح والخصوصية.. الشمس والنور بنود هامة في الرسم الهندسي.. الأسقف العالية تمتص الصوت، وتمنح الهواء الفرصة بأن يدور ويمرح بين المكان.

نوافذ العمائر التي تطُل على النيل تقبع خلفها ستائر من الدانتيلا تحجب الرؤية عن العابرون بالمراكب النيلية.

المصاعد الخشبية تشبه دواليب الأطقم الصينية ودرجات السلالم الرخامية تشابكت أصابعها لترحم كُبار السن.

الخضرة…. الخضرة التي تُشعرك بأنها الساكن رقم واحد في الجزيرة.

من فوق سطح العمارة يبدأ عالمي…. مملكتي التي لا يتهمني فيها أحد بالتطفل..

تنساب موسيقي “باخ” و”موتزارت” ورائحة السيجار الكوبي، والنبيذ المعتق من الشرفات المطلة على سلم الخدم.

من خلف الستائر الموّاربة تبدو بدايات لوحة على كانفاس مشدود. وكتاب بين صفحاته Book Mark وخصلات شعر تطير مع هواء مجفف كهربائي….

خليط البشر الذين يسكنون الجزيرة يشكلون مجتمعًا كوزموبوليتاني بفكر فرانكوفوني النزعة…. أرفف المكتبات تزدان بكتب السانسيمونيين والرافعي والعميد المنياوي طه حسين خريج السوربون.

مصريون يتحدثون لُغات عديدة ويعملون في وظائف عبر البحار ودبلوماسيون من بلاد العالم أجمع…. رجال صناعة وبنوك وصُناع قرار…

فنانون وأدباء وأساتذة من الجامعات المصرية والجامعة الأمريكية.

عائلات تنتمي للعصر الملكي طالتها يد التأميم، وأخري من صعيد مصر  جاءت بعد أن تقلد عائلها منصبًا في الحكومة أو الوزارة.

عائلات يونانية.. كُنّا نخشى السير تحت شرفاتهم ليلة رأس السنة،لما يلقونه من أطباق قديمة، وعائلات إيطالية جاءت هربًا من الفاشية وأخرى قبرصية ومالطية وكريتلية.

تعشق موسيقى وأغنيات “ألفيس بريسلي”، وفي الخريف تربُط حول رأسها إيشاربات ملونة لتبدو مثل نجمتها المفضلة “أودري”في فيلم Breakfast at Tiffany’وفي ساعات العصاري وشوارع الجزيرة خالية من المارة والبوابون على مقاعدهم الخشبية يدخنون السجائر الماكينة تصعد إلى السطوح لتلحق بشاي الساعة الخامسة.

 ينزلق الطوق الخيرزاني حول وسطها النحيل وسط صيحات تشجيعنا.
“هولا هوب.. هولا هوب” يظل الطوق يدور ويدور وهي تطوّح ذراعيها في الفضاء، وحبّات الكريز تصرخ:

It is now or never

Come hold me tight

Kiss me my darling

Be mine tonight

Tomorrow will be to late

It is now or never

My love won’t wait

سماء الستينيات جميلة وقمرها أكثر لمعانًا.. والغريب أنه كان يأتي قبل غروب الشمس ليبدأ ورديته قبل الميعاد.

على سور السطوح نضع أكواب الشاي الأبيض لتمُر بينها مراكب الصيادين عائدة إلى “روض الفرج”ونظل ننقل الأكواب على السور حتى تختفي المراكب مع رشفاتنا.

الليل كان ينصرني على بياض “قدرية “الشاهق حين يملأ السماء…..
تتسلل أصابعها الرقيقة إلى تفاحة آدم التي برزت في عنقي..تضحك وهي تتحرك تحت أصابعها… ألتقم بأسناني هذا الإصبع الذي ما يزال يحمل بقايا البسكويت.. فتتركه بين شفتي.

كم كان شهيًا طعم بسكويت والدتي على أصابعك يا “أودري” يتبدّل الأصبع المبلول بآخر وآخر…… فتشيرين بلسانك النونو إلى فتافيت أخرى علقت بجانب فمك…

It is now or never

Come hold me tight …

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version