جور نار

شتان بين قرطاجهم وقرطاجنا … أو المفهوم التونسي للمدن (2)

نشرت

في

طالعني منذ أيام، ريبورتاج فيديو من مدينة سياحية في جنوب إسبانبا تدعى قرطاج، أو قرطاجنة، أو “كارتاخينا” عند لغة مواطني سيرفانتس ودالي، والحارس “القديس” حقا، إيكر كاسياس …

<strong>عبد القادر المقري<strong>

وبقدر ما أمتعني الفيديو وملأني زهوا، فقد غمّني كمدا والله … مبعث الزهو أن حاضرتنا القديمة المطمورة تحت ألف طبقة من التراب والتجاهل وعقوق الأبناء والأحفاد، تجد لها نسلا متكاثرا في معظم بقاع الأرض حيث في كل منعطف منها رائحة أو بذرة أو أثر مرور أو وشيجة نسب … أما المتعة فللعين التي جالت بين معمار مدينة وشوارع متسقة ونظافة وجمال تسعى كلها لكي تليق بالاسم المخلّد وتحفظ له مجدا ومعروفا … مدينة ليست في ضخامة مدريد أو برشلونة، ولكنها تقول في كل شبر منها أنا كنت الأولى في القرون الخوالي، ولن أكون الأخيرة في زمن الحداثة والذكاء الاصطناعي … وإذا كانت جميع الزوايا تنطق بالحضارة أكمل معاني الحضارة، فإنك تسأل نفسك ولكن أين راح التوحش والقبح وسطحية الفكر ورداءة الذوق، أين؟

والإجابة لا نذهب بعبدا يا عمّاه … فقط قم بـ “نطّة” فوق البحر المتوسط، وعرّج على يسارك قليلا حتى أقول لك قف، ثم انزل شيئا فشيئا على بلد لا يبعد كثيرا عن جنوب إيطاليا … أيوه، بالضبط، هناك في أقرب نقطة تطل من قارة إفريقيا … اسمها الآن تونس، بالعربية والإسبانية معا… ولا تسألني كيف تحولت من قرطاج إلى هذه التسمية الجديدة الطريفة، ولا كيف انحسر مداها من امبراطورية تغطي كامل غرب المتوسط ووصلت إلى بريطانيا العظمى (بري تاين، من لغة حنّون البحّار) شمالا وخليج غانا جنوبا وربما أبعد، كيف تراجع كل ذلك إلى مساحة في حجم خنصر اليد، فلا جواب لي الآن وتلك قصة أخرى … ما أؤكده لك أن ما بقي وما تراه أمامك هو فعلا قاعدة وجوهر وأصل وقلب كل ما قرأنه عن قرطاج وسمعته عنها … متسعا ورونقا وتاريخا وقادة عظاما ومعارك وسيطرة طويلة وانتصارات وانكسارات انتهت كلها قبل ميلاد السيد المسيح بنحو قرن ونصف …

في موطن قرطاج الأصلي، لن تجد من قرطاج سوى خبر بعيد يشبه الإشاعة … لا الملامح، ولا العقل، ولا الشموخ، ولا الطموح، ولا الخيال العابر للقارات، ولا الإرادة التي تقهر جبال الألب … دعنا من كلام السياسة فأنا أيضا كم يتعبني … ولكن هات المعمار والإسكان والتجهيز وهندسة الأماكن وتخطيط المدن … بل هات ما أسماه عالمنا الذي عاش بعد قرطاج بألفية ونصف، عبد الرحمان بن خلدون، بالعمران البشري … هذا المصطلح لم يبق لنا منه سوى حي فرنسي موروث ملاصق لمنطقة الجبل الأحمر القصديرية المنسية … وهي تقع على مبعدة بضعة كيلومترات وبحيرة، من قلب العاصمة التونسية العالمية القديمة …

وسواء كنت في تلك المساحة أو على ضفة ميناء عليسة الأنيق، فلن تجد شيئا مما وضعه الإسبان زينة وهندسة لمدينتهم التي تقتفي أثرنا … وإذا كانت قرطاجة الجزيرة الإيبيرية شوارع واسعة مبلطة بالرخام، فإن قرطاج التونسية عبارة عن نسيج فوضوي من الأنهج الضيقة التي لا تغيب عنها الحفر وأتربة طريق لا أدري من أين تأتينا دائما مهما عبّدنا وزفّتنا … وإذا كانت قرطاج الإسبانية عامرة بالساحات الفسيحة جنة للراجلين، فإن معماريي حاضرة تونس لا تتجاوز ساحاتهم البضعة أمتار مربعة من صدف المفترقات لا أكثر … وهي على العموم غاصة بالسيارات التي لا تجد أين تركن، وتوحي إليك لكثرتها وتكدّسها، بأنك في ولاية ميتشيغان الأمريكية عاصمة صناعة السيارت في العالم كله … رغم أن مدن ميتشيغان لا تشهد هذا الاكتظاظ، ورغم أن تونس لا تصنع من السيارة إلا السوّاق … ومعظمهم أخذوا الرخصة “بالعظم” كما تقول جارتنا المسنّة …

ـ يتبع ـ

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version