تابعنا على

جلـ ... منار

صاحب الزورق

نشرت

في

Peut être une image de 1 personne

مارك رجل أمريكي قح، ربما أمريكي عن الجد العاشر له… طويل كشجرة نخيل باسقة، يتدلى من قمتها شعره السابل الطويل والأشيب المشوب بالحمرة، كعنقود بلح في طريقه للنضج! تضاعفت أربعينياته في سمات وجهه، حتى يخيل للناظر أنه ابن ثمانين، لكنها لم تستطع أن تخفي الأفق اللامتناهي في محيط عينيه الزرقاوين،لدرجة أستطيع وأنا أبحر فيهما، أن أسمع شدو نزار قباني: لو أحد يمنحني زورق…!

وفاء سلطان
<strong>وفاء سلطان<strong>

مارك أمريكي مدجج بكل علوم وتكنولوجيا بلده، لكنه للأسف اختار نمطا حياتيا لا تستطيع أمريكا بكل برامجها الاجتماعية المعدة لإعادة التأهيل، أن تلعب أي دور في تغييره، مالم يكن هذا التغيير قراره. الأمر الذي يعكس سلبيات الحرية الشخصية المطلقة، ويبرهن على أن الحياة قرار!…

تعرفنا عليه من خلال نظام كاميرات المراقبة الذي يحيط بمكتب زوجي والذي نستطيع من خلاله أن نراقب الأمور أثناء الليل.

يأتي في الليل، ويقف على الشرفة قريبا من باب المكتب لمدة طويلة، يشحن خلالها تلفونه من المأخذ الكهربائي الخارجي.

ذات صباح دخل المكتب يطلب اذنا باستخدام الحمام، شكله ورائجته يؤكدان أنه يعيش مشردا في الشوارع. دار بينه وبين زوجي حديث طويل..طويل، تعرفنا من خلاله على أدق تفاصيل حياته.

بين الجملة والأخرى يكرر: أمي دمرتني! وكان زوجي يرد: بل أنت من دمرت نفسك!

……..

أثبتت لنا الأيام أنه عبقري، ودماغه أدق من أدق كومبيوتر عندما يتعلق الأمر بأي عمل يدوي، من تصليح أي جزء في السيارة إلى تغيير صنبور الحمام. تبنيناه، وصار فردا من عائلتنا. يعيش في غرفة خاصة في المكتب، ويقوم بأداء أي عمل نطلبه منه، وبطريقة أفضل من أية شركة مختصة!

مرّات كثيرة عبّر عن إعجابه بمحشي الكوسا، وتساءل: كيف تدخلين الرز واللحمة فيه؟ فأرد: إنه الإبداع العربي يا مارك!بينما لسان حالي يقول: كيف لو سمعت بالإعجاز العلمي لشرب بول البعير؟؟

ملأت له الاستمارة الخاصة بتأمين صحي من الدولة، وهو الآن يتعالج عند طبيب أسنان، بعد ان خسر معظم اسنانه بسبب تعاطي المخدرات. وصار يتردد على برنامج لتنظيفه منها، وإعادة تأهيله عقليا وعاطفيا.

لا نأمن جانبه كثيرا، وهو دوما تحت المراقبة. شهادة السواقة مسحوبة منه، ونقود به إلى أي موعد. تحسن وضعه كثيرا، لكنه بين الحين والآخر يدخل في نوبات كآبة حادة، يلعن خلالها أمه، وفي الثانية الواحدة مليون لعنة…

……..

اليوم، انفجر احد انابيب الماء الذي يروي حقلنا، وكادت المياه تغرق الحي… اتصلت بعدة شركات مختصة، وحصلت على أقرب موعد بعد يومين، الأمر الذي سيجبرنا على قفل عداد الماء عن البيت كله، وهذا شبه مستحيل!

اتصلت بزوجي، فجلبه على الفور، يحدونا أمل ضعيف في أنه سيكون قادرًا على إصلاح الخلل. المشكلة الأكبر هي ايجاد الأنبوب المكسور، فمساحة الارض سبعة ايكارات، وشبكة السقاية تمتد تحت الأرض وهي معقدة جدا، وتحتاج إلى جهاز خاص لمعرفة موضع التسرب المائي قبل الحفر.

خلال أقل من نصف ساعة عرف مكان الأنبوب المكسور، واستبدله بآخر في أقل من ساعتين.

……..

أتمنى لو أستطيع أن أبوح لكم بكل تفاصيل حديثي معه، ولكن قد يتطلب الأمر كتابا!

باختصار شديد جدا جدا، كان حديثه ـ وبمعظمه ـ أسئلة تدور حول: كيف استطعتم أن تحققوا لأنفسكم هذا النمط الحياتي، وأنتم مهاجرون؟

بين الحين والآخر كان يبدي إعجابه بالبيت… بالمزرعة… بالمنطقة… ويثني على إنجازاتنا، لم يفته أن يشكر الله لانه اهتدى إلينا، وكان يشكرني وزوجي كلما تطرق إلى التغيير الإيجابي في حياته.

ظل قلبه مليئا بالحقد على أمه، ووعدني وعدا قاطعا أن يسامحها، ويلتفت إلى تحسين وضعه. كان ذلك بعد أن خسر معركته الكلامية معي، والتي حاول خلالها أن يطعن في والدته، ويحملها كل المسؤولية، وكنت له بالمرصاد:

– مارك، أنت رجل بالغ، ومن العار عليك أن تحمل والدتك مسؤولية فشلك! كلنا، بشكل أو بآخر، عانينا من أخطاء – إن لم تكن جرائم- تربوية بحقنا،ولكن هذا لا يمكن أن يكون مبررا لفشلنا، وخصوصا أنك تعيش في بلد يحترم إنسانيتك، ويفتح لك كل باب على مصراعيه!

……..

رويت لمارك قصة، كانت قد أكلت من خلايا دماغي حتى اليوم الذي التقيت بزوجي وأقنعني فيه أنني أجمل وأذكى نساء الأرض.

نعم، كل إنسان يحتاج إلى آخر كي يحقنه بجرعة ثقة!

مليون مرة روت أمي القصة أمامي، منذ نعومة أظفاري وحتى تبلورت معالمي…

القصة تقول إن أمي ولمدة اسبوعين بعد ولادتي، لم تقتنع بأي اسم كي تمنحني اياه.

ذات صباح مر عمي أمام شرفتنا، فرأى أمي تحتضنني، سألها: هل وجدت لها اسما؟- لا، هل لديك واحد؟- نعم بالتأكيد، سميها “خـ…ة”!

كان عمي مستاء لأنني كنت البنت السادسة لأبي، وفي الثقافة السائدة البنت مصيبة، فكيف بستة مصائب!!!

……..

كلما روت أمي القصة كطرفة تدغدغ بها مشاعر الحضور، اضمحلت خلية في دماغي ومات شريان في قلبي، حتى كان ذلك اليوم الخالد في حياتي، عندما أبحر هذا العاشق الولهان في عيني، وصاح: لو أحد يمنحني زورق…!!!!

عندها انتعشت خلاياي وأورقت كل شراييني، ومازالت تعيش ربيعها، وأنا في عقدي السادس!

……..

لا شك أنك في رحلة الحياة، تحتاج إلى شخص يبحث عن زورق، كي يبحر في عالمك ويكتشف كنوزك.لكن الحياة، وفي معظمها، هي ثمرة قراراتك الشخصية!

ربما أرادني عمي أن أخرج إلى الحياة فضلات، انتقاما لأخيه المفجوع بستة مصائب!

لكنه كان قراري أن أخرج إلى الحياة وفاء سلطان، لأثبت له أنني العلاج لكل مصائبهم!

*********

السلام لروح أمي، فلقد تعلمت من أخطائها أن أمارس أمومتي بطريقة أفضل… كما وأتمنى لكل أم على سطح الأرض أحلى الأمنيات، مع خالص محبتي

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جلـ ... منار

الشاردون

نشرت

في

أحمد خالد توفيق:

أشهر قصة تُحكى عن شرود الذهن هي قصة إديسون العالم الأمريكي العبقري الذي لم يحضر حفل زفافه. السبب هو أنه انشغل في المختبر بتجربة مهمة، وقد بحثوا عنه كثيراً فاتضح أنه كتب موعد الزفاف في مفكرته لكنه نسي!

أحمد خالد توفيق

لا أعرف ما قاله لعروسه في تلك الليلة السوداء لكن التاريخ لا يذكر أن فسخ الخطبة قد تم على كل حال.

وهناك نيوتن عالم الرياضيات الذي كان جالساً قرب المدفأة لكنه لا يشعر بالدفء. فطلب من خادمه أن ينزع المدفأة من الجدار ويقربها منه، فقال له الخادم في أدب:

ـ لماذا لا يقوم سيدي بتقريب مقعده من النار؟

هنا شهق نيوتن، وأعلن أن خادمه عبقري حاضر الذهن فعلاً!

القصة الأغرب هي (تشسترتون) الكاتب المسرحي البريطاني الشهير الذي وقف في طابور مكتب البريد ليحصل على حوالة مالية، فلما بلغ الشباك اكتشف أنه نسي اسمه!، وكان أول ما قاله للموظف المذهول:

ـ معذرة يا سيدي… لكن هل تعرف اسمي؟!!

يمكننا بسهولة أن نتصور ما قاله الموظف وما فعله.

شرود ذهن العباقرة أمر معروف للجميع، وإن كان يسبب الدهشة أولاً.

وكثيراً ما يدفع الناس إلى اعتبار العبقري على شيء من ”الخبال” أو الجنون… لكنهم بعد ذلك يقبلونه باحترام.

لكني أعترف أن شرود الذهن لا يدل على العبقرية في كل الظروف، بل قد يدل على عقل خاو تماماً. وباعتباري من الذين اشتهروا بشرود الذهن، فإنني أقر وأعترف أن أغلب الأوقات التي شوهدت فيها شارداً لم يكن في رأسي أي شيء مفيد، لكن الناس تنظر لي في احترام، وتتصور أني أنظم قصيدة عصماء أو قصة عبقرية.

أشهر من عرف بشرود الذهن في عالم الأدب هو الأديب المصري (توفيق الحكيم)، لكن المخرج (محمد كريم) جلس معه طويلاً أثناء كتابة سيناريو فيلم (رصاصة في القلب) ولاحظ أن جزءاً من هذا الشرود إرادي تماماً. مثلاً، لاحظ أن توفيق الحكيم يجلس شارد الذهن وذقنه مستندة على مقبض عصاه، فيقول له محمد كريم: هناك فتاة حسناء سألت عنك أمس.

عندها يفيق الفيلسوف الشارد على الفور، ويستفسر عن كل التفاصيل. هذا إذن شرود إرادي يفيق منه متى أراد.

الموسيقار عبد الوهاب اشتهر بالشرود الحقيقي، ويقول كل من اقتربوا منه إنه كان يزوم كالقطط طيلة الوقت لأن الألحان لا تكف عن زيارة عقله.

أحمد شوقي الشاعر كان شارد الذهن كذلك، وكان يخرج علبة السجائر كل بضع دقائق ليدون على هامشها بضعة أبيات قبل أن تضيع.

على كل حال، يمكنك أن تنجو بشرودك فلا يسخر منك أحد إذا أقنعت الناس أنك فنان. وهو حل لا بد أن تلجأ إليه إذا أردت أن تنجو من مواقف محرجة جداً.

مثلاً، ذات مرة كنت شارد الذهن وقابلت امرأة ذات وجه مألوف على سلم بيتي فهززت رأسي وقلت في وقار متحفظ: مساء الخير.

وواصلت النزول، فقط بعد ربع ساعة تذكرت أن التي قابلتها هي أختي! والله العظيم حدث هذا وليس من تأليفي.

في مرة أخرى كانت زميلة عمل مملة تكلمني بصوت رتيب عن أشياء كثيرة، فلجأت إلى الحل الأمثل وهو صوت (ام م م!) كل ثلاثين ثانية بما يوحي بأنني أتابعها.

وفجأة فطنت إلى أنها تنظر لي في لوم وقد كفت عن الكلام الرتيب، ولما نظرت إليها قالت:

ـ أنا أسألك!!، وكالعادة لا إجابة عندك إلا (ام م م).

هذه مواقف محرجة جداً لهذا عليك أن تقنع الناس على سبيل الاعتذار أنك عبقري وأنك تفكر في عظائم الأمور. عليك أن تعتذر ثم تخرج ورقة مطوية وتدون فيها بعض الكلمات بلهفة ويد ترتجف، ثم تتنهد في ارتياح كمن فرغ من آخر بيتين في ملحمة الإلياذة.

غرابة أطوار؟ ربما… لكنها ليست أغرب من أن تقابل أختك فلا تعرفها، أو تكتشف زميلتك انك لا تسمع حرفًا مما تقول.

وكمــــا هي العــــــادة، شرود الذهن سوف يجعلني أفرغ من كتابة هذا المقال ثم أرسله لزوج خالتي كما أفعـل في كل مرة، بدلاً من إرساله لهذه الجريدة الغراء، وسأزعم أنني كنت أفكر في المقال التالي!

أكمل القراءة

جلـ ... منار

نتنياهو وأوشفتز… ورقة الشفقة ومذكرة الاعتقال

نشرت

في

صبحي حديدي:

ذكرت تقارير صحفية إسرائيلية، تضافرت مع أخرى بولندية، أنّ رئيس دولة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لا يعتزم السفر إلى بولندا للمشاركة في إحياء الذكرى الـ80 لتحرير معسكر أوشفتز النازي، جنوب بولندا، والذي اقتحمه الجيش الأحمر السوفياتي في 27 كانون الثاني (جانفي) 1945.

صبحي حديدي

قرار نتنياهو نجم عن خشية جدية حيال احتمال مبادرة قاضٍ بولندي ما إلى طلب توقيفه، تنفيذاً لمذكرة الاعتقال التي أصدرتها بحقه المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب في قطاع غزّة؛ خاصة أنّ نائب وزير الخارجية البولندي صرّح بأنّ بلاده موقّعة على النظام الأساسي للمحكمة، وتلتزم به. رئيس دولة الاحتلال سوف يغيب أيضاً عن الذكرى، وسيكون وزير التربية هو ممثل الكيان الوحيد، في محفل دولي يُنتظر أن يتقاطر إليه عشرات من زعماء الغرب والعالم.

هذه الواقعة ليست سوى نزر يسير من أثمان مستحقة جراء حرب الإبادة الإسرائيلية، المتواصلة ضدّ قطاع غزّة منذ 443 يوماً متعاقبة؛ أفلتت دولة الاحتلال من العقاب في تسعة أعشارها، بسبب تواطؤ الدول ذاتها التي ترفع راية شرعة حقوق الإنسان والقانون الدولي، ولا ترى في جرائم الحرب الإسرائيلية سوى حالة “دفاع عن النفس”. لكنه ثمن ليس بالرخيص على الاحتلال ومجموعات الضغط الصهيونية في طول العالم وعرضه، بالنظر إلى المكانة الرفيعة التي حظيت، وتحظى، بها ملفات الهولوكوست واحتكار موقع الضحية عموماً؛ وهذا المعسكر تحديداً، دون سواه أو بصفة امتيازية، في استدرار عطف الشعوب والرأي العام، والضغط على الحكومات والهيئات والمؤسسات استطراداً.

كانت أوشفيتز وصمة عار، وجريمة نكراء بحقّ الإنسانية جمعاء، وصفحة دامية سجلت محطات انحطاط سوداء في قلب الفكر السياسي الأوروبي وفصوله التنويرية الزائفة والعنصرية؛ لكنّ إعفاء الصهاينة من التوطئة لها، والتواطؤ فيها وعليها مع النازيين، لا يضيف الإهانة إلى جراح الضحايا اليهود أنفسهم فقط؛ بل يواصل إنتاج وإعادة إنتاج السيرورة الشنيعة لانقلاب الضحية الإسرائيلية إلى جلاد ضدّ الضحية الفلسطينية.

في سنة 1993 أحيت الإنسانية الذكرى الخمسين لانتفاضة غيتو وارسو، بحضور إسحق رابين رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، الذي حرص قبيل سفره على تحويل الضفة الغربية وقطاع غزة إلى “غيتو فلسطيني” قسري. وأمّا مارك إيدلمان، اليهودي الوحيد الذي نجا من ذلك الغيتو، فقد أعلن أنه سئم المقابلات الصحفية والتصريحات الجوفاء: “ما جدوى غربلة الماضي إذا كنّا قد فشلنا في تعلّم دروسه؟ الغرب ما يزال يضع الخطط الستراتيجية في المرتبة الأولى، ويفضّلها على الأرواح البشرية. ما يجري في يوغوسلافيا اليوم هو انتصار لهتلر وهو في قبره، والغرب يكرّر أخطاء الماضي مثل تكراره بلاغته الكاذبة ونفاقه الفاضح!”.

فكيف لو أنّ إيدلمان عاش إلى أيامنا هذه، وأبصر جرائم الحرب الإسرائيلية والتجويع والتطهير العرقي وقصف المشافي والملاجئ والمساجد والكنائس، بأيدي أحفاد ضحايا غيتو وارسو ومعسكرات أوشفتز وتريبلنكا وبوخينفالد وداخاو…؟ أو إذا شاء فتح فضائح اليهودي الهنغاري رودولف كاستنر (القيادي الصهوني البارز وأحد أقطاب الـ “ماباي”، حزب بن غوريون)؛ الذي تعاون مع النازيين خلال سنتَي 1944 و1945، لشحن نصف مليون يهودي هنغاري إلى معسكرات الإبادة، مقابل تسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين؟

وقد يجد نتنياهو بعض العزاء في السفر إلى بلد مثل الولايات المتحدة لا يعترف بالمحكمة الجنائية إلا إذا طالت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أو إلى بلد مثل هنغاريا يعترف بالمحكمة ولكنه يلقي بمذكراتها إلى سلّة المهملات، أو حتى إلى فرنسا بلد حقوق الإنسان التي صادقت على المحكمة ولكنها أفتت بأنّ نتنياهو يمتلك حصانة ضدّ قراراتها…

يبقى الأصل، مع ذلك، أنّ مذكرة الاعتقال أسقطت الكثير من امتيازات ورقة أوشفتز واحتكار موقع الضحية.

ـ عن “القدس العربي” ـ

أكمل القراءة

جلـ ... منار

دمشق وما بعدها… “سايكس ـ بيكو” الجديدة؟

نشرت

في

عبد الله السنّاوي

إثر سقوط دمشق في قبضة “هيئة تحرير الشام”، التى تدمغ دوليا بالإرهاب، تبدت مخاوف وتساؤلات عما إذا كانت المنطقة العربية كلها، لا سوريا وحدها، على وشك إعادة رسم خرائطها من جديد.

عبد الله السنّاوي

أشباح التفكيك تخيم على الشرق العربي كله، العراق ولبنان والأردن في عين الإعصار، والقضية الفلسطينية على المحك، أن تكون أو لا تكون، ومصر غير مستبعدة إذا ما جرى تهجير قسري من غزة إلى سيناء.

عادت مجددا إلى واجهة الأحداث اتفاقية “سايكس- بيكو” (1916)، التي استهدفت عند ذروة الحرب العالمية الأولى تقاسم النفوذ في المشرق العربي بين الإمبراطوريتين الفرنسية والإنجليزية عندما بدا أن الإمبراطورية العثمانية توشك أن تنزوي للأبد.

فى عام (1920) سلخ ما سمى بـ”لبنان الكبير” من الأراضى السورية بذريعة حماية الأقلية المارونية، ثم نزع “لواء الإسكندرون” في مقايضة فرنسية تركية قبيل الحرب العالمية الثانية مباشرة.

بإرث التاريخ: استهداف سوريا وجودا ودورا لا يتوقف.

بحقائق اللحظة: سلخ حلب غير مستبعد إذا ما توافرت الظروف المشجعة.

دخلت إسرائيل على خط توزيع المغانم.

بتصريح واضح وصريح أعلن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أنه بصدد بناء “شرق أوسط جديد”، خرق اتفاقية (1974) لفض الاشتباك مع سوريا، التى وقعت إثر حرب أكتوبر (1973). استولى على المنطقة العازلة، وجبل الشيخ بالغ الأهمية الاستراتيجية. جرد سوريا من قوتها العسكرية، طائراتها وأسطولها البحري ومخازن سلاحها ومراكز أبحاثها بمئات الغارات دون أدنى إدانة من حكامها الجدد. توغلت قواته إلى (25) كليومترا جنوبي دمشق ليعلن أنه طرف مباشر في لعبة تقاسم النفوذ، التي بدأت باتصالات ومشاورات وضغوطات دولية وإقليمية تتصاعد وتيرتها.

لم تكن هذه المرة الأولى، التي تطرح فيها مخاوف التقسيم على نطاق واسع ومنذر بتداعياته وعواقبه على مستقبل الوطن العربي ومصيره.

عند سقوط بغداد عام (2003) طرحت نفس المخاوف، لكنها الآن أخطر وأفدح. يقال عادة: “ويل للمهزوم”. وقد تجرع العراق مرارة الهزيمة واستغرقته احتراباته الطائفية وسيناريوهات تقسيمه وتوحش جماعات العنف والإرهاب في جنباته، لكن الهزيمة شملت بالوقت نفسه الوطن العربي كله.

كان احتلال بغداد نقطة تحول مفصلية استدعت مشروعات الشرق الأوسط الجديد وسيناريوهات التقسيم لصالح إعادة تمركز إسرائيل في قلب تفاعلاته.

الآن: خرج الدور الإسرائيلي من ظلال الكواليس إلى مقدمة المشهد. لم يكن غامضا الهدف الحقيقي من احتلال العراق. كان تحطيمه على رأس الأولويات بالنيل من وزنه الجغرافي الاستراتيجي في مشرق الوطن العربي والاستيلاء على موارده النفطية، حتى لا تكون هناك في المنطقة قوة عسكرية واقتصادية قادرة على منازعة إسرائيل.

تتجاوز الأدوار التركية والإسرائيلية تصفية الحسابات مع النظام السوري، ومنع تهريب السلاح عبر الحدود للمقاومة اللبنانية، إلى إعادة رسم معادلات النفوذ.

لم يكن ممكنا الادعاء بأن صدام حسين هو الديكتاتور الوحيد، ولا نهايته شابهت السيناريو السوري، حيث كان السقوط مدويا بلا طلقة رصاص واحدة! عند سقوط بغداد طرح سؤال: مَن التالي؟ انطوى ذلك السؤال على اعتقاد بأن النظم العربية جميعها استهلكت أدوارها ووجوهها، وأصبح وجودها عبئا استراتيجيا مخيفا على حقوق المواطنين العرب في العدل والكرامة والديمقراطية وحقوق الإنسان، فأمن الحاكم فوق أمن المواطن، وبقاء العروش فوق حقوق المواطنين.

السؤال نفسه يطرح مجددا فى ظروف مختلفة: أين الضربة المقبلة؟ عند احتلال العراق طرحت سيناريوهات “الشرق الأوسط الجديد”، التى بشرت به وزيرة الخارجية الأمريكية “كوندوليزا رايس”، المجال العام في الدول العربية، خشية إعادة رسم خرائطها بإثارة النزعات الطائفية أو العرقية، أو الغزو المباشر إذا اقتضى الأمر.

بثمن باهظ دفعه العراق، لم يأخذ سيناريو التقسيم مداه، فشل إعلان دولة كردية بالانفصال، ولم تنشأ دولتان على جثته، إحداهما سنية والأخرى شيعية، لكنه ما زال يعاني حتى الآن من مغبة ما حدث.

في الحالة السورية الحسابات تختلف. لم تسقط دمشق بغزو أجنبي، لكن الدور الخارجي واضح ومؤكد. بدا ملفتا ما صرح به زعيم “هيئة تحرير الشام” أبو محمد الجولانى أنها لم تحصل على تمويل، أو سلاح من أية دولة، وأن القوات التي وصلت إلى دمشق “سورية خالصة”.

كان ذلك تدليسا على الحقيقة ومحاولة يائسة لإخفاء القوى، التي أعدت المشهد وهندسته لأهداف سياسية تدخل في صميم مصالحها، تركيا وإسرائيل تحديدا.

لم يكن بشار الأسد هو موضوع الصراع، كما كتبت طويلا وكثيرا. إنها سوريا دورا ووجودا قبل أي اعتبار آخر. استحق “الأسد” السقوط حين رهن بقاءه على قوة الآخرين لا على قدرات شعبه وإرادة الحياة والمقاومة فيه.

في الأزمة السورية وصلت المفارقات الأمريكية إلى ذرى غير معتادة في السياسات الدولية.

دعا الرئيس الأمريكي الحالي “جو بايدن” إلى محاسبة أركان نظام “الأسد” على ما ارتكبوه من جرائم بشعة بحق معارضيهم.

هذا كلام له منطق متماسك يسوغه، لكنه يفتقد أدنى احترام لأية قيمة إنسانية وقانونية إذا ما وضع في سياق واحد مع رفضه القاطع لمذكرتي إيقاف “نتنياهو” ووزير دفاعه السابق “يوآف جالانت” بتهمة ارتكاب جرائم حرب في غزة والتلويح بعقاب المحكمة الجنائية الدولية التي أصدرتهما. كانت تلك مفارقة كبرى فى النظر إلى العدالة الدولية.

المفارقة الثانية، الاستعداد المبكر لرفع اسم “هيئة تحرير الشام” من قائمة الإرهاب الأمريكية دون أدنى استبيان لحقيقة مواقفها ومدى التزامها بقواعد الدول الحديثة.

إنها المصالح الاستراتيجية، التي تأخذ ما تريده إسرائيل في كل حساب، ولا تأبه بما يحقق أية مصلحة عربية.

إذا لم يستفق العرب في الوقت بدل الضائع فإن أشباح “سايكس- بيكو” الجديدة سوف تأخذ مداها تقسيما فوق الخرائط.

ـ عن “الشروق” المصرية ـ

أكمل القراءة

صن نار