جور نار

عن مسلسلات رمضان… المدينة الخالية (2)

نشرت

في

الحوار التونسي تحذف مشاهد من مسلسل أولاد مفيدة، والهايكا تتراجع عن قرارها -  أنباء تونس

منذ أيام حصلت حادثة التلميذ الذي طعن أستاذه بأحد المعاهد وهو مستدير إلى السبورة يكتب له ولأقرانه الدرس… وقد صاح أكثر من معلق: “هاهو أحد نجاحات سامي الفهري في تحويل تلامذتنا إلى منحرفين” …

<strong>عبد القادر المقري<strong>

وهل عندنا شك في هذا؟ صح النوم … كذا كلام قلناه وقاله غيرنا منذ عشرين سنة وأكثر … وعن هذا الفهري، فقد نبه المنبّهون منذ الحلقة الأولى من أول مسلسل افتتح به صاحب “كاكتوس” أعماله الدرامية معنا … مكتوب يا مكتوب … ورغم تبرير الجوقة السوداء التي كما قلنا رافقت نكبات الإنتاج السينمائي والدرامي التونسي من سحيق الزمن، وبخّرت للسوء وطوّبت الرداءة وجمّلت القبح وكانت جلد تدهورنا السميك وحاميته من كل مسؤولية وتصحيح، بل من كل نقد … رغم عجاج هؤلاء، فإن الحقيقة ما لبثت أن انكشفت ساطعة قاطعة صافعة في وجوهنا … وما علينا سوى أن نشرب المرّ حتى الثمالة، بعد أن أضعنا وقتا رهيبا في التساهل مع ما لا يمكن التساهل معه …

من اللائق سياسيّا وديمقراطيّا وإعلاميّا، أن ننتصر للحرية وأن نقول لا لهذا المقص أو ذاك الرقيب … عال … ولكن مع من؟ مع الموهوبين الذين يذهبون بنا إلى الأفضل والأعلى والأرقى … الحرية يستحقها الشابي وبودلير ومحمود بيرم وعاصي الرحباني وسيد درويش … الحرية تخدم كثيرا رسوم ناجي العلي ومسرح سعد الله ونّوس ولافتات أحمد مطر … الحرية كان يمكن أن تصعد بنا إلى السماء لو أعطيناها لـ”بشائرنا” الثلاثة: العالم بشير التركي، ورجل الأعمال الوطني بشير سالم بالخيرية، والصحفي الفذّ بشير بن يحمد … الحرية أشعة شمس حُرم منها منور صمادح ونبيل البركاتي وجيلبير نقاش وعبد الجليل الباهي… الحرية كان بإمكانها تحويلنا إلى باريس عربية أيام زخم الثمانينات وتوهّج مبدعينا وانجذاب العرب والعالم إلى عاصمتنا في تلك العشرية المدهشة …

ولكن كما قال لي صديقي الراحل صالح جغام، هل معقول توهب الحرية لعلي شورّب؟ … وهذا للأسف ما حصل … فقد أوصدنا الباب أمام كل أصيل وجميل، وخاف مزالي وبعده “بن علي” من نسمات قلم وطيران نغم وحُقة ألوان… وفي المقابل وبحسابات سياسية غبية أو متواطئة، اطلقا العنان لكل من خدش الذوق ورعى الظلام وقاطع العصر … أحدهم سخر منّي حين قلت إن التغلغل السلفي بدأ مع ترويج ثقافة النوبة والحضرة، وسألني مستنكرا: وهل المزود دعوة إلى السلفية؟ فأجبته نعم نعم نعم … خاصة حين يخرج هذا الجنس الفني من حيّزه العائلي المحدود إلى الفضاء الواسع، ويصبح أنمــــوذج فكر ومنهج تربيــة وسيــــــاسة دولة …

في هذا السياق التدميري جاءت مسلسلات الفهري وما تبعها، وما نُسج على منوالها … ورافق هذا الانحطاط الفني انحطاط إعلامي مع ظهور الإذاعات والتلفزات الخاصة … ويزول العجب عندما يتلازم الانحطاطان ويتزامنان، من نفس اللوبيات المحصّنة والمتروك حبلها على غاربها، بل والمتحكّمة في أعمّ مفاصل الدولة … وإذا كان بعضنا اليوم يتفجّع ـ وهو على حق ـ من انهيار أمن البلاد بعد تفكيك جهاز أمن الدولة، فإن امننا الثقافي والاجتماعي استبيح منذ تفكيكنا كافة آليات الرقابة على المسرح والسينما والتلفزيون إلى آخره … والتعلاّت كثيرة، ولعل أخبثها وأنجعها ضغط الوقت قبيل كل رمضان … فيمطّط الكل عمله إلى ماقبل الشهر بأيام، وأحيانا يبثّون حلقات مسلسل لم يتم تصوير باقي حلقاته … فإذا العمليات تتلاحق، والكل يرجو أن ينهي برمجته دون تأخير، ولا يهمّ مستوى المسلسل ولا محتواه ولا أيّ همّ يصدر فيه … وإذا تحركت الهايكا (بعد فوات الأوان) فهي بالكاد تحاول منع إعادة بث ـ كأضعف الإيمان ـ ونقف هناك …

قال مخرج مسلسل “رقوج” إن الرقابة حذفت له مشهد قبلة، متحسرا على ذلك ومضيفا بأن السينما المصرية كانت تجيز لقطة مماثلة بين عبد الحليم وشادية منذ أفلام الأبيض والأسود، عكسنا نحن في 2024 … ورغم أن السينما تقارن بالسينما، والدراما بالدراما، فهو يعرف قبلي أن لقطة كهذه لا تمر في مسلسل مصري لا سابقا ولا لاحقا ولا بعد عشرين سنة … ما علينا … على كل حال لو صح كلامه واشتغلت فعلا لدينا الرقابة، فيا ليتها تركت له لقطة البوس وفي المقابل، قامت بحذف لقطات أخرى لا يقبلها متحضّر … كتدخين الأطباء والممرضين (وفي محيط مستوصف أيضا!)، أو تعذيب الأطفال وتشغيلهم، أو ضرب المرأة، أو إهانة رجل الأمن أكثر من مرة … وهذا ما تمنعه كافة أجهزة الرقابة في دول تحلمون بالهجرة إليها وإلى ديمقراطيتها…

ـ يتبع ـ

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version