تابعنا على

جور نار

ملياراتهم وملياراتنا… أو عندما تضَلّ الأموال العربية وِجهتها

نشرت

في

منصف الخميري:

ذكرت وسائل الإعلام العالمية خلال نفس الأسبوع المنقضي (26 و 28 فيفري 2024) أن مُسنّة أمريكية تتبرّع بمليار دولار وهي كامل الثروة التي ورثتها عن زوجها الغني، من أجل تأمين مجانية الدراسات الطبية مدى الحياة بداية من شهر أوت القادم في كلية الطب بحي البرونكس أحد أكثر الأحياء فقرا بنيويورك (معهد إينشتاين للطب) للطلبة الحاليين والطلبة الذين سيلتحقون بمُدرّجاته في المستقبل، وأن أمير دولة قطر من ناحية أخرى أمضى في أول يوم لزيارته الرسمية إلى باريس اتفاقا يقضي باستثمار 10 مليار يورو  في قطاعات مختلفة من الاقتصاد الفرنسي.

منصف الخميري Moncef Khemiri
<strong>منصف الخميري<strong>

في الحدث الأول، يتعلق الأمر بسيدة أمريكية اسمها روث غوتسمان، أرملة ملياردير أمريكي راكم ثروته في القطاع المالي ولم يوصِها بوِجهة محدّدة تُنفق فيها المال، بل ترك لها الحرية المطلقة في أن تتدبّر أمر صرفه في ما تراه صالحا بعد وفاته. عمرها 93 سنة وقد اختارت هذه الكلية بالذات لكونها كانت مُدرّسة للطب البيطري بها منذ 1968 حيث اشتغلت على مبحث صعوبات التعلم وأدارت برامج لرفع الأمية.

صرحت أثناء حفل الإعلان عن هذا العطاء غير المسبوق في التاريخ وتعالي صيحات الفرح والابتهاج في المُدرّج، بأنها تتمنى أن تساهم هذه الهبة في تخفيف العبء المالي الذي يواجهه الطلبة في هذه المؤسسة وتجعلها مُتاحة أمام جميع من ليست لديهم الإمكانيات المادية لولوجها (تبلغ معاليم الترسيم في هذه الكلية 60 ألف دولار سنويا).

في اللوحة الثانية، يُصرّح الأمير القطري تميم بن حمد آل ثاني حال وصوله إلى باريس وقبل انطلاق مراسم حفل العشاء الفاخر الذي أعدّه ماكرون على شرفه، بأنه “وقّع مخططا طموحا للاستثمارات يصل إلى مبلغ 10 مليار دولار (10 أضعاف ما تبرّعت به غوتسمان لطلبة كلية الطب بالبرونكس) في مجالات الانتقال الطاقي والإلكترونيات والبرامج الفضائية والذكاء الاصطناعي والرقمنة والصحة والصناعات الثقافية…

لا شيء كان يُجبرُ غوتسمان بأن تخصص كل هذا المبلغ (922 مليون يورو) وتضعه على ذمّة الطلبة الحاليين والقادمين في مجال دراسي له رمزيته وعلامات نُبله في قلوب الناس، لأن الطب هو ربما من المجالات العلمية القليلة التي تأبى التوظيف الإجرامي في غير معاني الرسالة الأصلية التي بُعثت من أجلها. لا شيء كان يُلزمها بذلك سوى حميمية العلاقة التي كانت تربطها بمؤسسة جامعية قضّت فيها ما لا يقلّ عن 55 سنة تدريسا وبحثا وتأطيرا) والإيمان العميق بأن الاستثمار في العلم والمعرفة هو الوحيد الذي ينفع الناس ويُخلّد أسماء أصحابه في كتب التاريخ وسجلاّته.

في المقابل، ألف اعتبار واعتبار يفرض على الدول العربية الثريّة (والأثرياء العرب في الدول الفقيرة) أن يستثمروا ما زاد على حاجتهم من الأموال الطائلة التي بحوزتهم في التخفيف من آلام بني جلدتهم وعذاباتهم.

هم يعلمون جيدا :

أن نسبة البطالة لدى الشباب العربي تتجاوز 30 % وأن نسبة البطالة العامة في البلدان العربية بلغت 17 % في السنوات الأخيرة أي 3 مرات أكثر من المعدل العالمي.  

وأن البلدان العربية تخصص 0.2 % من الناتج الداخلي الخام فقط للبحث العلمي مقابل 1.7% في الدول الأوروبية و 2.7 % في الولايات المتحدة الأمريكية.

وأن النشر العلمي في المنطقة العربية لا يساهم إلا بنسبة 0.15 % في مجهود النشر العالمي مقابل 36 % لفائدة الولايات المتحدة الأمريكية.

وأن عدد الفقراء فقرا مدقعا في 10 بلدان عربية هي مصر وتونس والمغرب والجزائر والأردن والسودان وموريتانيا وجزر القمر والعراق واليمن (حسب تقرير صادر مؤخرا عن الأمم المتحدة) بلغ 83.2 مليون نسمة بما يمثل 13.4% من مجموع السكان، وأن نسبة الفقراء في تلك البلدان بلغت 40.6% من السكان بعدد 116.1 مليون نسمة.

وأن عدد الأميين والأميات من فئة الشباب 15 – 24 سنة يُقدر بـ 9.5 مليون ليمثل نسبة 9.57 % من مجموع الأميين والأميات في العالم من نفس الفئة.

… وغيرها من المؤشرات الدالّة على أن الاستثمار في حقولنا ومدارسنا وأحيائنا العطنة أنبل مليون مرة من نقل ثروات بواطن أرضنا إلى العواصم الأجنبية. 

سألتُ الذكاء الاصطناعي

سألت تطبيقةً للذكاء الاصطناعي لأنني أكثر عجزا من أن أتعرّف إلى كامل سلسلة الأصفار التي يتكون منها مبلغ 10 مليار يورو وحجم المشاريع التي يمكن أن تُستثمر في إنجازها كل هذه الأموال، سألتها كم من مستشفى بمواصفات نموذجية متعارف عليها من المُمكن أن يُبنى بمبلغ مثل هذا، فتحصلت على الإجابة التالية : “قد تختلف الكُلفة من بلد إلى آخر وقد تتأثر باحتساب أجرة الطواقم العاملة من عدمها، ولكن يمكن القول بأن مستوى إنفاق كهذا كفيل بإنجاز 20 مستشفى متطورا“…

فساءني حالي وحلُمت بأرخبيل طبي من المستشفيات الجامعية المتطورة يمتد على طول 20 بلدا عربيا متجاورا (ولا مشكل في استثناء بلدين عربيين ثريّيْن) تُطلق عليها أسماء أطباء وعلماء وباحثين ساهموا تاريخيا في تطوير العلوم الطبية بمختلف فروعها مثل الرازي وابن زهر وابن الجزار وابن سينا والكِندي … وقائمتهم يفوق عددها العشرين بالتأكيد.

أليس بمثل هذا ينال أثرياء العرب (المُتيّمين بنيل المراتب العليا في الدنيا والآخرة وتجميع أعداد من يترحّم على أمهاتهم وآبائهم) شرف الانتماء إلى أمّة أنقذوا مرضاها وأطعموا جوعاها وشيّدوا كلياتها واستصلحوا مغارسها ؟ أليس بمثل هذا تُخلق لدينا نحن العرب أيضا تقاليد للرعاية الثقافية والفنية والطبية، تتدعّم بموجبها منابت الفنون الفتية وتتعزّز مساحات الإبداع في مختلف المجالات ويُحفظ تراثنا المُبعثر والمُلقى على قارعة النسيان، ومساعدة المدارس المنكوبة على تخطّي ما يُعيق نجاح أبنائها ؟

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ورقات يتيم… الورقة 102

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

في علاقات الواحد منّا مع الاخرين في محيطه وبقليل من الحدس بعد المعاشرة، يتفطّن الى نوعين من الاحاسيس ..فهو مع البعض يشعر بالتناغم بالراحة بالصدق حتّى بمجرّد تحيّة او نظرة او ابتسامة ..وفي المقابل يشعر مع البعض الاخر بنوع من التوجّس والريبة …

عبد الكريم قطاطة

منذ بداية سنة 2001 احسست ببداية تغيير في علاقة المرحوم “عبدالقادر عقير” بي… ولانّني من طبعي اعتمد دوما قناعة نصف الكأس الملآن في تعاملي مع الاحداث والاشخاص، فسّرت ذلك التغيير كما اسلفت بعوامل ظرفية قد يمرّ بها الشخص في حياته فتعكّر مزاجه مع الاخرين … لكن وفي نصف الكأس الفارغ لاحظت ومنذ سنة 2000 دخول زميلين في محيطه بشكل متواتر… ومن واجبي تجاهه، نبهته لأمرهما لاني اعرف معدنهما وخاصة محدوديّة كفاءتهما… شكرني على النصيحة ولكن لم يعمل بها بتاتا… بل كان موقفه عمليا مفاجئا جدا لي … وكنت اشتمّ رائحة الغدر بالنسبة لما سيحدث في نهاية المطاف …

وجاء التاكيد عندما اعلمني زميلي في مكتب الاستقبال بانّ احدهما كلفه وبامر من المدير ان يمدّه يوميا باسم وطبيعة كل شخص يريد مقابلتي… وجاء التاكيد الثاني من زميل في غرفة الهاتف ليقول لي إن احدهما اتصل به وطلب منه ودائما بامر من المدير ان يمدّه يوميا بقائمة كل المتصلين هاتفيا بعبدالكريم… ورجاني الزميلان ان لا اوقعهما في شراك الادارة خوفا من ايّ عقاب محتمل… ووعدتهما بالكتمان ولم يعرف ايّ كان ولحدّ هذا اليوم شيئا عنهما… عندما علمت بالامر استبقت الاحداث برسالة كتبتها للسيد عبدالقادر عقير هذا نصّها:

وحده الله يشهد انني اكتب لك لا خوفا ولا طمعا ولكن عشقا سرمديا لاذاعتنا الحبيبة اذاعة صفاقس… سيّدي الكريم عبدالقادر عقير… عديد المرات حاولنا معا ان نضع اليد في اليد من اجل خير هذه الاذاعة رغم بعض الاختلافات… لكن يبدو وحسب ما يصلني من اصداء يبثها اتباعك انّ الاختلاف قُدّر له ان يصبح خلافا وللاسف… اتباعك يشيعون انّ راس الحيّة هو عبدالكريم وانّ مخططا جاهزا لاقصائه واقصاء من لهم صلة به… ويشيعون ايضا انّ امرا رئاسيا ورد لايقاف برنامجه في الشبكة القادمة… ويشيعون ويشيعون وانا اجيبك: لماذا تجهدون انفسكم في وضع مخططات لاقصائي ؟ الم اقل لكم انني مستعد لاراحتكم من هذا العناء وذلك بالانسحاب من دفة المسؤولية ان كان ذلك في صالح اذاعتنا؟ ثم تتحدثون بواسطة اتباعكم عن امر رئاسي بايقاف برنامجي… هل ليس للرئيس مشاغل لهذا البلد سوى اقصاء برنامج اذاعي ما ؟ الم تدروا انكم بما يبثه اتباعكم تصنعون منّي بطلا رغم انفكم وانتم الذين تريدون القضاء على راس الحيّة ؟ …

وها انا اجدّد لكم طلبي… ان كنت مقلقا وخطيرا لهذه الدرجة فعلى عكس ما يخيّل لكم وبشرف عزّة نفسي وعزّة شرف زيتونة الاثير، انا دوما مستعدّ للتخلّي عن المسؤولية من اجل صالح الاذاعة وبكلّ جدية وصدق … ولكن دعني اسالك … هل بموقفي هذا سيتم القضاء على المنزلقات التي وصلت اليها اذاعتنا تسييرا وانتاجا وعلاقات ..؟ هل يضمن انسحابي هذا تفادي عديد التجاوزات لاتباعك التي اصبح يعرفها الخاص والعام ؟ هل يضمن انسحابي تطورا ايجابيا لبرامجنا التي شهدت تراجعا كبيرا على عكس ما يروجه لك البعض ..المصدح وقعت استباحته بمن هب ودبّ وبنفس الاسماء التي تلقى التشجيع على عكس اخرى التي لا تلقى الا التنكيل؟ هل يضمن انسحابي تطوير العلاقات بين ابناء المؤسسة التي اصبحت تكتلات وقبائل نتيجة لما يزرعه اتباعك من حقد وضغينة واكاذيب واراجيف في صدرك؟

سيدي الكريم اعيد عليك القول هذه المرة كتابيا .. جلّ المنتسبين للاذاعة ينتظرون رحيلك على احرّ من الجمر لانّك وللاسف اعتمدت على (شلّة) لا تحظى بالاحترام والتقدير واصمّت مسامعك عن الحقيقة … هم لاحظوا انك منذ مدة اصبحت المعاملات بين الموظفين لا تتسم بالعدالة في رخص غيابهم .. في اوقات دخولهم وخروجهم للادارة .. في اعداد منح الانتاج والاعداد المهنية ..فهل وراء هذه الحالة عبدالكريم ايضا ؟ ان كان كذلك فهذا يعني انّ عبدالكريم خطير ولكن يعني ايضا انهّ قدير ومستطيع ..

سيّدي الكريم لنكن صرحاء ..كم مازل بيننا ؟ شهر ؟ سنة ؟ 5 سنوات ؟ ليس مهمّا ما سيقوله الناس وانت بيننا .. المهم ما سيقوله الناس عندما تغادر هذه القلعة .. ولكن بحقّ فلذات كبدك لا تدع الاخرين والمحسوبين على عبدالكريم يدفعون حساب عبدالكريم … عبدالكريم في الخمسين من عمره وسيكتب عني التاريخ كما سيكتب عنك… ولكن ما يعرفه عني الاخرون وانت منهم اني احب بلدي لحدّ النخاع واحب اذاعتي لحدّ النخاع وهذا يعرفه الكبير والصغير ولا يمكن لايّ كان ان يمسح تاريخي بجرّة قلم .. رجاء لا تقرا خطابي لك على انه تهديد ووعيد ..اقرا خطابي على انه كلمات من صديق يريد ان ينبهك لعديد الاشياء والتي اهمها أني لست ماكرا شريرا كما يصوره لك البعض… ولكني لست غبيا ايضا ولست شيطانا حتى افجّر ما بحوزتي من حقائق لاني مازلت مؤمنا بانّ الاصلاح ممكن.. ساواصل بذل جهودي كي تبقى اذاعة صفاقس اعلى من الجميع… وساواصل سعيي الدؤوب للوقوف ضدّ كل الكلاب التي تريد نهشها…

اختم بما انطلقت به في رسالتي هذه اكتب لا طمعا ..فانا لا تهمني الطموحات السخيفة التي رمتها على مسامعك تلك الشلة والتي مفادها اني اعمل على ازاحتك لتولّي منصب ادارة اذاعة صفاقس… والغريب انك بدات تصدّق مثل هذه الحماقات… واكتب لا خوفا لاني لا اخاف الا الله .. اخيرا ارجو ان اجد فيك صوت العقل وانت تقرا مخطوطي بخطّ يدي حتى يبقى شاهدا عليّ وعليك… وفقنا الله جميعا فيما فيه خير اذاعتنا وهي على بعد امتار من الاحتفال بعيد ميلادها الاربعين…

صفاقس في 20 نوفمبر 2001

ولم اتلقّ ردّه لفترة طويلة بل جاء في مكتوب رسمي وبتاريخ 24 ديسمبر 2001 وياله من ردّ ..بل يا لها من ردود… كان مسلسلا باتمّ معنى الكلمة… غفر الله له ولكل من غادرنا وعاصرنا في تلك الحقبة…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

الشرخ يتوسع بين المكتب التنفيذي و”المعارضة النقابية”

نشرت

في

محمد الزمزاري:

يعتزم شق نقابي حشد العمال بساحة محمد علي يوم السبت 18 جانفي القادم وهو اليوم المصادف لذكرى تاسيس الاتحاد العام التونسي للشغل…

محمد الزمزاري Mohamed Zemzari

ويبدو أنه زيادة عن الخلافات الحادة صلب المكتب التنفيذي بين أغلبية مسيطرة و تيار يعارضها، وعن ماخذ المعارضة النقابية السابقة واللاحقة والمراحل التي تميزت بالحدة وبشبه انسداد كامل أمام التوصل إلى حلول تحفظ صورة الاتحاد النضالية وتدفعه للعمل من أجل مصلحة الطبقة الشغيلة بعيدا عن العقليات البيروقراطية او الجمود او الركود… وهي خلافات لا تستجيب لأهداف المنظمة الشغيلة ومصالح العمال، بل تفسح المجال لارباك وتقسيم الاتحاد قصد الإجهاز عليه وهي أهداف انطلقت مع حكم الاخوان حين استفحلت الاعتداءات وتجييش وسائل اعلام “الذباب الازرق” في كل مكان للتهجم على المنظمة ناعتة إياها بـ”اتحاد الخراب”…

هذه المنظمة العتيدة التي كان لها دور مفصلي في الكفاح الوطني ضد الاستعمار ثم في الدفاع المستميت عن الطبقة الشغيلة، لطالما تعرضت لمؤامرات ومحاولات اختراق وتكوين نقابات صفراء وأخرى تنادي بالتعددية النقابية ..وكلها محاولات تستهدف العمل النقابي و تؤسس لخدمة الراسمالية الفاسدة ..

وقد عاشت بلادنا خلال حكم الاخوان مضاعفة اعداد أصحاب الملايين والمليارات، في حين ازداد الفقراء فقرا وتآكلت الطبقة الوسطى وديست الحقوق وتردت قيمة العمل الشريف… ولعل مازاد الطين بلة هو التصريح (ان ثبتت صحة هذا الخير) بأن ميزانية الاتحاد راكمت ديونا تقدر بـ 40 مليون دينار…

وذلك ما ترى فيه المعارضة النقابية دليلا جديا على وجود سوء تصرف او شبهات فساد سيما أن مداخيل المنظمة النقابية سواء من الاشتراكات التي تصل إلى 800 الف او المداخيل الأخرى المتعددة، تغطي النفقات ومن المفترض أنها تحقق فوائض. وترتفع الدعوات اليوم لإجراء محاسبة دقيقة سواء داخل المؤتمر او خارجه…

إن الوضعية الحالية التي يمر بها الاتحاد من صراعات لن تخدم هذه المنظمة العتيدة التي واجهت كل ضروب الحصار و السجون و الظلم و الاعتداءات واليوم تفرز خلافات داخلية مؤسفة.

أكمل القراءة

جور نار

لماذا أبقينا على قابيل داخلنا؟

نشرت

في

محمد الأطرش:

يروى أنّ وردة جميلة نبتت في صحراء قاحلة وأخذت مكانا لها بين الرمال والأحجار. كانت هذه الوردة كثيرا ما تفاخر بنفسها وبجمالها إلى درجة الغرور، وكان وجود نبتة صبّار قبيحة بجانبها هو الأمر الوحيد الذي يزعجها… ويغضبها ويخرجها من هدوئها…

ودون أن تدرك تبعات تصرفها انهالت عليها بالشتم والسبّ، مرّة تعايرها ببشاعتها وأخرى بشكلها المخيف ومرّات برائحتها… لم تردّ نبتة الصبّار الفعل والتزمت الصمت والهدوء… وكانت وفية لطباعها فالصبّار معروف بتحمله صعوبة العيش في المناطق القاحلة وصبره الكبير على الجفاف وقلّة المياه وندرتها… تحركت بعض النباتات الأخرى المتواجدة قرب الوردة وحاولت تقديم النصح وإعادة الوردة إلى رشدها وصوابها وفضّ النزاع بينها وبين نبتة الصبّار لكنها فشلت في جميع محاولاتها… حاولت… وحاولت حتى ملّت فالصيف على الأبواب ولا يمكنها بذل مجهود كبير يجعلها عرضة للذبول وربما الموت…

اشتدّت الحرارة بحلول أولى أيام الصيف وبدأت الوردة تعاني من نقص الماء في جسدها وبدأت تظهر عليها علامات الذبول والجفاف على أوراقها… ومع اشتداد الحرارة فقدت الوردة ألوانها الزاهية التي كانت تفاخر بها امام من يجاورها من النباتات والاعشاب… التفتت يمنة ويسرة…  وشرقا وغربا… فلم تجد غير جارتها التي كثيرا ما اساءت إليها ونعتتها بأبشع النعوت وتآمرت عليها وحاولت ابعادها والتخلّص منها… فجأة رأت الوردة ما لفت انتباهها وما لم تعرفه سابقا ابدا… رأت طائرًا يدنو من نبتة الصبّار ويدسّ منقاره فيها ليشرب بعضًا من الماء الذي خزنته في جسدها وأوراقها وجذوعها المنتفخة بسبب تخزينها للماء…

 وعلى الرغم من خجلها الشديد من نفسها وخوفها من أن ترفض نبتة الصبّار طلبها ونجدتها ببعض من الماء، طلبت الوردة من نبتة الصبّار بعض الماء لتطفئ ظمأها… فوافقت نبتة الصبّار دون تردد ودون أي نقاش، وساعدت الوردة على الصمود والنجاة في طقس لن تتحمله الوردة ليوم آخر ابدا… هكذا أنقذت نبتة الصبّار الوردة التي كثيرا ما اساءت إليها، لكن ماذا عن الانسان الذي عاني من الانسان؟… ماذا عن الانسان الذي يقتل أخاه الانسان… ماذا عن الانسان الذي يظلم أخاه الانسان… ماذا عن الانسان الذي يقصي أخاه الانسان… ماذا عن الانسان الذي يؤذي أخاه الانسان… ماذا عن الانسان الذي يجوع بجانبه أخيه الانسان… ماذا عن الانسان الذي يكره… ويحقد… ويشمت… ويضمر الشرّ لأخيه الانسان؟…

كل مخلوقات الله تصالحوا وتسامحوا وأمضوا ميثاق تعايش بينهم… ألم يصبح القطّ في زماننا هذا صديقا للكلاب؟ ألم يصبح الفأر في أيامنا هذه من أقرب الأصدقاء للقطط؟ ألم يصبح الذئب صديقا للكلاب يجالسها ويصاحبها ويتزاورون لا عداوة بينهم ولا هم يتحاربون… ألم يتصالح الجميع إلا الإنسان مع الإنسان… ألم يصبح الإنسان عدوا دائما للإنسان… ألم تصبح الكلاب أكثر منّا وفاءا لبعضها البعض… أسَمِع أحدكم يوما عن ذئب خان ذئبا… أليس الذئب أكثر بِرّا بوالديه من الانسان؟ لماذا أبقينا على قابيل داخلنا؟

أكمل القراءة

صن نار