جور نار

ورقات يتيم … الورقة رقم 15

نشرت

في

عصفور السطح

…. السنة الاولى من التعليم الثانوي انتهت اذن بالرسوب …وجاءت العطلة الصيفية …..تلك السنة ورغم الرسوب ملأتني بشعور غريب …احسست في تلك العطلة بأن عبدالكريم آخر بدأ يظهر ..

<strong>عبد الكريم قطاطة<strong>

تجربة السنة الاولى اثمرت في داخلي نوعا من الثقة بالنفس وربما نوعا من الغرور اذ كيف لراسب مثلي في سنته تلك المكللة بالفشل دراسيا وهو الذي كان طيلة دراسته في الابتدائي من الثلاثة الاوائل، ان يكون مزهوا واثق الخطوة يمشي (ليس ملكا قطعا) وكأنه ينظر الى الاشياء والاشخاص والاحداث من برج فوقي ..؟؟؟ في تلك العطلة الصيفية كانت حياتي تسير عادية هادئة …حتى حان موعد عرس احد الاقرباء لاكتشف عالما آخر .. هو من الميسورين …وانا ما حضرت مرة عرس ميسور ابدا …واعراس الميسورين كانت “ربوخ” حقا ..فبدءا بالعشاء الذي فيه ما لذ وطاب من المأكولات لللمدعويين من الاهل والاصدقاء حيث اماكن خاصة للنساء (الحريم) واخرى خاصة بالرجال و “العضارط” (جمع عضروط اي الشباب) وحتى الرجال والعضارط منقسمون الى مجموعتين الاولى كبار السن واطفالهم (اذ كيف لطفل في سني وامثالي ان يختلطوا بالحريم ..؟؟؟) والثانية للعضارط وهم في حلقات منزوية بعيدة عن كبار القوم يأكلون و”يمزّطون” اي يشربون بنت العنبة …

وكلما سمع احدالكبار صرير قواريرهم الا وعّبر البعض منهم (متطرفو ذلك الزمن) عن غضبهم من ام الخبائث: “توة هذا قال بيه ربي والله تقول نمشي نكسرهم على روسهم ..تي هاكة موش ولد خليفة .. لشكون جاء ؟؟؟ بوه خليفة حتى مات ما يعرفش طعمتو ؟؟” فيما يردّ المتفتحون (علمانيو ذلك الزمن) بالعبارة الشهيرة: “كيسان معدودة ويتوب عليهم ربي” … وفي الحقيقة هم لم يكونوا يوما لا متطرفين ولا علمانيين .. بل هم ايضا وفي زمان عضرطتهم كانوا في جلّهم مثلهم تماما ..الا ان الواحد منا ومنهم وفي عمومنا وعندما يتقدم به العمر يتعنتر ويتفنن في نقد تصرفات الاخر والافتاء والعنطزة، حيث لا يقدر ولا يريد ان يقدر مثلنا ومثل هؤلاء على قراءة الاحداث والسلوكيات بمنظار واقعي اي اولا “الجمل ما يراش حدبتو” وفي رواية اخرى “ما يراش عوج كرومتو” وثانيا هل تساءلوا لماذا لجأ امثال هؤلاء العضارط الى ام الخبائث ..؟؟؟ وعندما نعرف السبب لا فقط يبطل العجب بل يصلح العقار ما افسده الدهر ..

اولئك العضارط وقبل ان يركنوا للقوارير ليشتكوا لها بمعزوفة (وداوني بالتي كانت هي الداء) كانوا يقضّون كامل اليوم وهم ينصبون “التيندة” ركح الفرقة المغطّى وجهد بوهم طالع …ثم يرشون المكان المخصص للمدعويين (مساحة هامة من الجنان) بالماء حتى يستطيع الجميع التمتع بسهرة رائقة لا غبار فيها رغم وجود اغبرة اخرى عليها ..وعند العشاء تبدأ معزوفتهم (دع عنك لومي فان اللوم اغراء )…ينتهي العشاء ويبدا تقني مكبرات الصوت والمصادح بعمله ..يمر على كل مصدح ويطلق كلمة سره الغريبة “ساه”؟؟؟ فهمت بعد سنوات انه يجرب ويستعمل فعل جرب بالفرنسية وبشكل مدمر لكلمة essai…. ثم يتداول اعضاء الفرقة على التخت لاخذ اماكنهم ولبدء عملية تعديل اوتار آلاتهم الموسيقية ..وفي زاوية اخرى ينبري عنتر عازف الدربوكة الشهير يحمي دربوكته على مجمارة حتى ينضج جلدها وتستجيب لنقراته …

عنتر هذا كان في بداية الستينات ابرع عازف على الدربوكة دون منازع في صفاقس ومن اغرب ما روي عنه (مبني للمجهول في الفعل وفي الراوي) انه وقع منعه بتاتا من العزف على آلة الايقاع (الدربوكة) وعوضه عازف اخر يدعى لوربو واصبح بعده الاشهر بينما هو اكمل حياته بعزف الرق (الطار )… وقع منع عنتر لانه ذات سهرة اندمجت سيدة في مشاهدة عزفه وبكل انبهار فسقطت من اعلى البناية التي وقع فيها الحفل وماتت لتوّها (والعهدة على من روى) ..

لنعد الى حفل عرس قريبي … في تلك الليلة كانت الفرقة يقودها المرحوم محمد الدريدي عازف قانون بفرقة الاذاعة الجهوية ..وكنت اسمع كبار القوم الذين كانوا ينهون عن المنكر يتهامسون: “الليلة العوادة فيها زوز نساء” … كنت مندهشا من حفل عرس تحضره مطربتان خاصة ولعلمكم ان اذاعة صفاقس عندما فتحت ابوابها وجدت صعوبات كبيرة لادماج عنصر المرأة في فرقتها الموسيقية، لان الغناء انذاك لأية امرأة عيب ..بل عيب كبير .. بدأ الحفل وكأي حفل حتى بداية السبعينات بالمقطوعة الموسيقية الشهيرة (سماعي بياتي للملحن المصري ابراهيم العريان)… كل الفرق تبدأ بها وفي كل المناسبات ..ثم بعدها يأتي الموشح وهو في الغالب شوشانة وفي مرحلة متقدمة ناعورة الطبوع .. ثم تبدأ الاغاني الفردية وهي كلها طقطوقات اما تونسية او مشرقية وابدا ان يتغنى المطربون بعبد الوهاب او ام كلثوم او عبدالحليم ..وحتى المطربون انذاك لم يكونوا مطربين مختصين في الغناء فقط فهم في جلهم اعضاء عازفون في الفرقة ..ولا عزاء في الاعراس للسيدات …

المرأة لا يحق لها حضور الحفل الرجالي … وللامانة كما الرجل في الحفل النسائي لا حضور له مع النساء الذي يكون عادة في الغد وتديره فرقة موسيقية نسائية (بيانو وطار ودربوكة) ويقيادة اشهر الشهيرات كسودية .. المرأة في الحفل الرجالي تاخذ مكانها على سطح المنزل المقام فيه الحفل ..وبأمر من سي السيد عليها ان تلبس السفساري وتكون “التعويرة مغنبزة ” اي لا تظهر من وجهها الا كوة صغيرة على احدى عينيها .. ترى من ثقبها فقط العالم الاخر (وهكذا الاستمتناع او لا يكون _)… والويل والثبور لاية امرأة تظهر حتى عينها الثانية ..بينما عين سي السيد وعند خروج الراقصة تتحول الى بروجكتور رهيب تقضي على الاخضر والاخضر لانه لا يابس في جسدها حسب تعبيرات سي السيد وشلته وهم يتهامسون: “يعطيها عزة بدنها يتلعوك كيف الحلوى” …

عند خروج الراقصة فهمت وقتها ما معنى الليلة العرس فيه زوز نساء اي راقصتان …. وربما لانني من جينات سي السيد شدني ظهور الراقصة وانا اشاهدها لاول مرة (“لحم ولحم” موش لحم ودم) .. كانت اول مرة في حياتي اشاهد امرأة لابسة ثلاثة ارباع “بلاش هدوم” … فحتى عندما كنا نذهب للاصطياف في سيدي منصور كنا نرى شبه آدميات في البحر و”روبتهن” منتفخة في الماء اشبه بالبيوت المكيفة …صدقا ليلتها لم يكن احساسي بها احساسا جنسيا فانا طفل غر انذاك وكل مافيّ غر ايضا ..ولكن هو ربما اكتشاف جسد امرأة (لا انثى) تتلوى بكثير من الاناقة والجمال وبكل راحة واريحية … كنت متسمرا في مكاني انظر اليها احيانا باعجاب عميق وانظر احيانا الى اولئك “المتطرفين” وهم ينزعون كبابيسهم ويضربون بها افخاذهم من شدة الطرب وخاصة للفت انظارها لهم ولشواربهم المفتولة ولباسهم الانيق والمعد لهذه الليلة بالذات… لانه جرت العادة ان “ييبت” بالراقصة من يدفع اكثر من كبار القوم ولو كانوا من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر …

اتمت الراقصة الاولى وصلتها وتركت مكانها للراقصة الثانية (موش قلتلكم زوز نساء ؟؟) وكعادتي “الخايبة” انا المهتم بالتفاصيل ..استاذنت ابي في الدخول الى المنزل لقضاء حاجة بشرية واذن لي دون اسئلة بوليسية …كيف لا والراقصة الثانية تعلن عن مقدمها (ربما هو ارتاح من خلقتي) رحمك الله يا سي محمد …وفعلا انا لم اكذب على الوالد انما اختلف معه فقط في نوعية الحاجة البشرية التي فهمها هو ..حاجتي البشرية انذاك ان اتلصًص على عرش الراقصة …تسللت وراءها وخلفها حارسها (صاحبنا متاع “اسسه” اي تقني مكبرات الصوت ..وكنت وددت لولم يكن معها ..ثم الم يكتف بتجربة المصادح ..؟؟؟)… ولانه كان حارسا بارعا لمحني بعين استكوتلانديارد ونهرني كي ابتعد عن عرش الراقصة … “رقدت في الخط” ولم اعره اي اهتمام وافهمته بذلك السلوك اني لم اسمعه و”تلهيت” بامور اخرى حتى يأمن جانبي ويعتبرني عبيطا لا افهم شيئا …

صعد وراقصتنا (طبعا موش متاعو هو اكهو علاه موش راقصتي انا زادة ؟؟؟) صعد الى مدرج يؤدي الى بيت في السطوح ..ذاك هو عرش الراقصة ..اغلقه وعندما سمعت صرير غلق الباب تسللت الى محيط العرش ..الباب لا مفتاح فيه بل الاروع ان المفتاح لا مكان له …اي هنالك كوة صغيرة بامكاني ان ارى من خلالها ما يجري بالداخل … و”ما كنتش من العاكسين” نظرت …سرير وحيد ب”وبلاصة” واحدة والراقصة مستلقية عليه وهي “تقرعط” (اي تشرب)في قارورة ستيلا ..وهي بيرة في قوارير ضخمة … طبعا وسيجارتها “عدو” بضم العين والدال، وهي تطلق عادة على ما ياكله النديم من ماكولات على طاولة ابي نواس …الا ان مقدم احدهم في المدرج افسد عليّ متعة الفرجة واسرعت بعيدا عن بيت السطح …القادمة تفطنت لوجود احد ما هنالك فقدمت للاستطلاع ..انها خالتي نفيسة رحمها الله ..كانت تحبني هلبة وكانت تعتبرني ابنها وهي التي لم تتزوج ولم ترزق …سالت عن وجودي هنالك فافدتها اني اردت مشاهدة الحفل من فوق السطوح …”موش هذا السطح يا ولدي ايجا انهزك للسطح الاخر” …

حملتني معها حيث السطح الاخر وحيث امي …انطلت الحيلة واستاذنت العودة للبقاء مع الرجال …ولم تلح امي في بقائي بجانبها لان خالي رحمه الله كان يعتبر وجود الاطفال في مثل سني بجانب النساء غير محبذ ..ولانها كانت تحترمه جدا ارتات في عودتي لمصاف الرجال اسلم للجميع، رغم انها في قرارة نفسها كانت تكون اكثر راحة لو كنت بجانبها خوفا من العقارب وسط الجنان ..براف ..رضي الخصمان (انا وامي) وهرولت بسرعة الى عرش الراقصة وبالتحديد الى كوة الكاميرا (مكان المفتاح) …وما ان وضعت عيني على الكوة حتى هالني ما رايت …الراقصة وتقني الابواق يتخاصمان …وعادت بي ذاكرتي الى النزالات التي كنا نتبارى فيها نحن الاطفال …كنا وعندما نتخاصم مع بعضنا يقترح الواحد منا على الاخر معركة بقوله: “ايّا تطيحلي”…؟؟؟ وعندما نتفق يقع طرح السؤال الموالي: “بونية والا صراع او ڨراش؟… وفي الحالة الثانية الغالب هو من يطيح بخصمه ويجثم على صدره …وتقني المصادح غالب في الڨراش ….كدت افتح الباب لادافع عن الراقصة …ثم “ما يحشمش يلعب ڨراش مع مرا ؟؟؟؟ المفروض يتصارع هو وراجل كيفو” … وما هدّأ من روعي انذاك ضحكات الراقصة الخفيفة وكأنها تحب الڨراش ….

غادرت المشهد واجما ولم احك لاحد ما شاهدت ولا ما سمعت وانتظرت خروجها لرقصتها الثانية …عندما خرجت كانت اكثر دلالا واكثر غنجا واكثر حيوية ..كانت شهية كطعم الشهد وعسولة كطعم الرقص ..يبدو ان الڨراش يعمل …

ـ يتبع ـ

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version