جور نار

ورقات يتيم … الورقة رقم 17

نشرت

في

فرص الخروج الى حانوت صالحة لقضاء بعض اللوازم الخفيفة للعائلة علمتني الكذب والسرقة … كنت اسرق قليلا من الوقت لاشاهد اصدقائي في الحومة “يكوّرون” وعندما اعود اختلق اية كذبة لابرّر تأخّري …

<strong>عبد الكريم قطاطة<strong>

وكنت احسّ بعيّـــــــــادة وهي لا تصدّق ولدها (الزفلات) و كــــــــانت كل مرة تعلّق بـ “اية تو نشوفك المرّة الجاية اشنية الكذبة الجديدة الّي باش تطلعلي بيها !!”… في تلك الحقبة كانت تكتفي بإشعاري بانها “مشلّقة” ولكن كانت تؤمن بأن الحر من غمزة و”البهيم” من همزة ..وسترون كم خاب ظنها فيّ لاني لم استطع مع عفرتتي وشقاوتي ان اصل حتى لدرجة البهائم (همزا) فكيف اصل الى درجة الاحرار (غمزا)؟؟؟… مرت العطلة الصيفية وعدت الى الدراسة (الى الحيّ) بعد عثرة السنة الاولى وجاءت السنوات الثلاثة من المرحلة الاولى من التعليم الثانوي خالية من الخيبات الدراسية …لم اكن لا وقتها ولا طيلة دراستي “محراث خدمة ” ولكن واصلت العمل بنفس النسق وبنفس الاسلوب …حضور كلّي في الدروس ..تركيز كبير ..ومراجعة طفيفة ايام الامتحانات …ونتائج قريبة من الحسن وتألق متواصل في اللغة العربية .. هذه اللغة التي عشقتها منذ طفولتي والتي كم اشقتني في مراحل مفصلية في عمري ..لا تتعجلوا ستاتيكم اخبارها في ورقات قادمة ….

في ختام السنة الاولى المعادة تحصلت على الجائزة الاولى في مادة العربية، حيث كانت الجوائز انذاك تسند لصاحب المرتبة الاولى في المعدل العام وجوائز خاصة بالتميّز في المواد الهامة (عربية، فرنسية، رياضيات وعلوم)… ولن انسى يوم اختتام السنة الدراسية عندما وقعت المناداة على اسمي وسلّمني السيد احمد الزغل اطال الله عمره جائزتي …يومها كان يبحث عنّي لسببين اولهما انّي لم اكن في الصفوف الاولى للتلامذة المتفوقين والذين يجلسون قبالة منصة الاساتذة والمدير …كنت مع فرقة المعهد الموسيقية والمكونة من تلاميذ المعهد عزفا وانشادا …سي علي الحشيشة استاذ الموسيقى انذاك اطال الله عمره … وهذا الاستاذ مازلت الاقيه لحد يوم الناس هذا …وهو لم يتغير شكلا ولا ابتسامة عن اول يوم شاهدته بالمعهد، سبحان الله لم يتغير بتاتا …

سي علي قام في بداية تلك السنة باختبار مجموعة صوتية لتصاحب بقية العازفين في اداء الموشح الوحيد (شوشانة) وكم كانت دهشتي عندما اختارني من ضمن تلك المجموعة …فانا وان كنت اجيد اداء الاغاني بانواعها ..فاني وكما تعلمون مصاب بـ”الرأرأة” اي عدم اجادة نطق حرف الراء … فكيف لمنشد مثلي ان يقع الاختيار عليه رغم اعاقته في النطق ؟؟ يوم اختتام السنة الدراسية بحث عنّي سي احمد الزغل بين الصفوف الاولى فلم يجدني وهو السبب الثاني لبحثه..اسمي يذكره بحادثة ما …وما لبث ان رآني اخرج من بين تخت الفرقة (استناني من قدام …جيتو على جنب) … نظر اليّ وكانه يقول: “انت موش متاع المبارزة بالسيف عمناول ؟؟؟” فاجبته بنظرة لا تقل رمزا عن نظرته قائلا له فيها ..”ينعم يا سي احمد انا هو بعينو” …

سلمني الجائزة دون اي تعليق دون اية نظرة .. برود لحد الصقيع … كدت اندم على الذهاب اليه لولا تلك العين الرائعة التي رمقتني من هناك: عين سي يوسف خماخم استاذي في مادة العربية رحمه الله والتي كانت كلّها تلخّص: “تستاهلها ولدي ربي يوفّقك” … كم هي النظرة موجعة احيانا …و كم هي تحلّق بنا احيانا اخرى في اعالي اعالي السحاب هل عشتم يوما التحليق في اعالي اعالي السحاب ..؟؟ …في تلك السنوات وككل تلميذ هنالك ثلاثة انواع من الاساتذة نعاشرهم ..بعضهم يتميّز بكاريزما هائلة …”الذبانة” تسمعها اثناء دروسهم … بعضهم عاديون للغاية فهم لا يحفرون اثرا في ذاكرتنا ..وبعضهم اما اصدقاء جدا لنا … سي النوري دمّق استاذ الرسم رحمه الله، سي علي الحشيشة استاذ الموسيقى، سي عياد السويسي استاذ المسرح رحمه الله … او هم مرتع لعبثنا الطفولي بانواعه (ويا ويلو اللي يحصل منهم بن ايدينا)…

اتذكر جيدا استاذ الرسم الفنان التونسي الكبير ابراهيم الضحاك، رحمه الله … كان طوال السنوات التي قضاها في المعهد “نصف صاح” … هو ناقص نوما اكيد …ولكن دائما °سيس دوز ° (وهذه عبارة تصف شارب الخمر الذي يبالغ في الشرب والتي لم افهم يوما لا ماتاها ولا معناها 6 : 12) … وكنا ننتظر بكل شوق حصة الدرس عنده لا لاننا كنا بارعين في الرسم فانا مثلا من افقر الناس فعلا وحسا بالرسوم وخاصة التجريدية ليوم الناس هذا … تصوروا اني نلت مرة واحدة عددا فوق العشرة عندما رسمت “شلاكة” …ويبدو اني عندما رسمت نفسي كشلاكة في التصوير نلت ما استحق ..سي ابراهيم هذا يمكن ان ننتظر منه اية هبلة جميلة من هبلاته ..ذات يوم اعجبه رسمان لتلميذين اعطاهما 20 على 20 .. لكل واحد منهما ..

نظر اليه احدهما وقال: “يا استاذ ظلمتني ..ما تشوفش اللي رسمي احسن شوية من رسم زميلي ؟؟؟” … نظر سي ابراهيم متأمّلا الى رسمه ونظر مليّا الى الرسم الاخر فما كان منه الا ان اضاف للمشتكي واحدا فاصبح عدده 21 على عشرين …؟؟ تفطنت الادارة إلى ذلك فرغبت منه مراجعة العدد لكنه رفض قطعا ذلك وقال لهم ساحذف له نقطة في الامتحان المقبل …وفعلا كان ذلك ..سي ابراهيم الضحاك ودائما هو ..جاءه احد التلاميذ وقال له حرفيا: “يا سي ابراهيم، باباي يسلم عليك وقلّك ولدي ناقصتو اربعة باش يجيب المعدل متاعو زيدهملو انت برّي ويبارك فيك وفي باباك” ..وكعادته نظر سي ابراهيم مليّا الى التلميذ وقال له وهو نصف صاح دائما: “سلّم على باباك وقلّو سي ابراهيم ما يبيعش في البصل وقلّو قلّك سي ابراهيم يلعن باباك وبو باباك!” ..ومرّ وكأن لم يحدث شيئا …

من غرائب الاحداث في تلك السنوات ايضا ..اننا كنا نحن التلاميذ نقوم بانشطة متعددة في الشبيبة المدرسية …موسيقى تمثيل غناء _… ووجدت نفسي منجذبا الى التمثيل بعد سنة في المجموعة الصوتية …الاستاذ انذاك كان المرحوم عياد السويسي ..عندما حضرت عنده اول مرة سالني عن علاقتي بالتمثيل فاجبته بانها علاقة استماع لبعض البرامج التمثيلية في اذاعة صفاقس وقبلها في الاذاعة الوطنية… سالني عن بعض الممثلين الذين اعجب بهم ذكرت له عديد الاسماء فما كان منه الا ان اعطاني قصيدة عنوانها الزوج القاتل لتيمور لاراجعها والقيها الاسبوع المقبل ..وكان ذلك ..ومرة اخرى لم تكن لثغتي حاجزا دون اعجاب استاذي في المسرح سي عياد فقط، بل فزت عن القائها بالجائزة الاولى في الالقاء جهويا، ورئيس لجنة الامتحان والتحكيم انذاك المسرحي التونيسي الكبير حسن الزمرلي رحمه الله… واستعددت للمشاركة في الامتحان الوطني للالقاء وركبت الحافلة للذهاب الى قابس حيث تقام المناظرة كممثل عن ولاية صفاقس..وانتظرنا اكثر من ساعة بعد موعد اقلاع طائرتنا (ما يمشيش في بالكم ) بل حافلة من شركة النقل …ثم انزلونا لان احد اودية جهة قابس قطع الطريق علينا بفعل فيضانه ..احيانا تاتيك الفرصة لتكون من منافسي عزت العلايلي او نور الشريف ..ولكن، ” يعطي للذبان عمى قداشني متواضع”! …

السنة الثالثة من المرحلة الاولى من تعليمي الثانوي كانت سنة حدث ….الحدث كان حدثا جللا ….في اوسطه وعند مقدم الربيع افقت على حقيقة …عبدالكريم صار كبيرا …”فهمتوها والا حتى نقولو هوني بير ؟؟؟” نعم بلغت سن الرشد الجسدي …ولست ادري هل كل من عاش مثل هذا الحدث احسّ بما احسست …التحوّل في شخصيتي كان غريبا وسريعا وبهذلني جدا …اصبحت وانا في الرابعة عشرة من عمري احس بأني بين عشية وضحاها أصبحت رجلا (وسيد الرجال) … نظرتي تغيرت ..مشيتي تغيرت .. سعة بالي لم تعد كعادتها … صياحي لم يعد لطيفا ..حتى الحجارة في الطريق لا تسلم منّي فاركلها هنا وهنالك… مما حوّل احذيتي الى خرئط بالحبر الصيني حيث الاسود من خلفها والرمادي اين موقع الركل في “بونتتها”…

هكذا كان يخيّل لي كيف يجب ان يكون الرجل ..صلفا شديدا واثق الخطوات لا يضحك كثيرا… حتى اختي الصغرى فكرية حفظها الله لم اعد اقتسم معها لعبي (قدّي قدّها ؟؟؟) … كنت حتى مع زملائي في المدرسة احاول تجنّب الاطفال منهم (مازالوا فروخ اش يفهموا فيها) واعاشر من يكبرونني سنا (عمران ..البرادعي ..الزواري ..ادريس) … والبعض منهم يزيد عني بثلاث سنوات او اكثر (يعني العضروط وخوه سنا وجسدا) … هم كانوا يتفادون احاديث “القباحة” امامي ..كأنهم لم يتفطنوا بعد الى اني “نڨّزتها” ودخلت ركابهم .. ولكني كنت اتلصّص وبطريقتي على احاديثهم …

سمعتهم يتحدثون عن “الكارطي” (دار البغاء العلني) وفهمت وقتها ما يعني الباب الشرقي ..سمعتهم يتحدثون عن استاذة الانكليزية “لاكوست” الفرنسية، تلك الوحيدة كأنثى في المعهد والتي تشرئب اعناقنا جميعا لها عند ظهورها، لان رائحة الانثى في ذلك الزمن كرائحة مطر لا ينهمر الا بعد دهور… يتحدثون عن لاكوست وكيف ان احد التلاميذ كان يحظى عندها بمكانة متميزة الى درجة انها تمكنه من دروس خصوصية بمنزلها، فيضمن هو التفوّق في الانكليزية وتتفوّق هي في استضافة وتذوّق موائد عربية اصيلة ..وكان زملائي العضارط يعضّون على اصابعهم قهرا ويردّدون: “عجب اش عجبها فيه هاكا الڨعبوط؟؟؟… ولم يفهموا ولن يفهموا ان رؤية البعض للجمال او للجسد تختلف عن رؤية الاخر …

علاقتي في ربيع تلك السنة توتّرت جدا مع كل محيطي… في حومتي، اصبحتُ علويّأ عموديّا في رؤيتهم (ما يلعّبونيش) … وحتى مع الحوش الذي اقطن به ..اصبحت اتساءل: هل هذا موقعي ؟؟ هل ولدت كي اكون في هذه الحالة الرثة والمزرية ..انا الذي لم اذق يوما طعم سرير انام عليه .. لم اذق طعم “كعبة ميلفي” من بائعها في المعهد وكنت اكتفي بالنظر الى بعض زملائي في الدراسة “يضربوا بالاربعة” في راحة العاشرة صباحا … واشنية هالعيشة وهالمقت ؟؟؟ كلما عدت الى المنزل بعد يوم من الدراسة وبعض “الطوشيع” في الكرة، انهالت عليّ عيادة بوابل اسئلتها: “اشبيك التو … اشبيه سروالك؟؟؟”… (جِدوا لي جملة خارج الدارجة تكون ابلغ واعمق واكثر شفافية عن الطفل والخ …. وسرواله) ..ثم تضيف: “اسمع يولّيشي صنانك تحت ضبوطك راني ديما امك وما تكبرش في عيني!!” ويحدث يومها زلزال مدمر في علاقتي مع عيادة …

ياااااااااااااااااااااااااااه كان مدمّرا انذاك نعم ..ولكن حتى الزلازل لها جمالها ..تأكدوا …لها جمالها ….

ـ يتبع؟ طبعا يتبع ـ

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version