تابعنا على

جور نار

ورقات يتيم … الورقة رقم 32

نشرت

في

في حياة الواحد منا هنالك لحظات فارقة فيها القدر وفيها نحن والقدر … تلك اللحظة الفارقة لا نقدر فيها على وصف ما يعترينا ..هل عشتم مرة في حياتكم لحظة بداية الاغماء، بعيد الشر عليكم ؟ ..

عبد الكريم قطاطة
<strong>عبد الكريم قطاطة<strong>

هي لحظة زمنية وما اكثر اغماءاتي ..يتزاوج فيها الوعي باللاوعي ..احسست فيها عديد المرات برهبة الموت وهي تتمازج مع ما تبقى من وعينا بما حولنا ..وحتى الاستفاقة من تلك الاغماءة هي عودة الروح الى الجسد (سلّة سلّة) كذلك هي الاقدار في كلّ ما نعيشه ..ومضة برق تُحيلك الى اشخاص لم تكن ابدا تفكّر في لقائهم يوما ما..لقاؤهم يعني انفتاح السماء على اشياء لم ترها من قبل ..ومضة برق تُحيلك على فراق البعض منهم وانت على يقين من انّ ذلك لن يحدث ابدا ..ومضة برق تعيد اليك توازنك الذي فقدته منذ قرون ..واخرى تثبّت قدميك على ارض ما كنت ابدا تنتظرها بمثل ذلك الثبات …حياة الواحد منّا كصفحات مجلّد لا يمكن اطلاقا للورقة رقم 2 فيه ان تطّلع عليها الا بعد ان تكون قد اتممت قراءة الورقة الاولى ..اي يستحيل على الواحد منّا ان يتطلّع الى غده الى المجهول .بيقين…والاغرب من ذلك ان المجهول اي الورقة الثانية قد تنسف ما قبلها ..وقد تثبت جمالها او قبحها …

وهنالك ايضا في حياتنا لحظات فارقة اخرى ..لحظات مفترق الطرق ..تصوروا انك تجد نفسك يوما في مفترق طرق وكلّها تؤدّي الى روما ..وكلّها شهيّة وتعجز تماما عن اختيار الاجمل فيها لأنها جميلة ..جميلة كفم طفل صغير وهو يضحك دون رياء ..جميلة ككمنجة رضا القلعي وهو يعزف على جرجيس وبناويتا ..جميلة كعاشق او كعاشقة وهو يحكي بصمته الجميل الممتع احلى الكلمات ..جميلة كثغاء الكبش يوم عيد الاضحى وهو يستجدي لا ادري امّا الرأفة به او لالحاقه باترابه ..جميلة كقطة بيضاء اللون وهي تشتم رائحة السمك وتربت على كتفيك بمواء خافت فيه الحنّية لتقول لك: اطعمني بورك فيك وفي غذائك ..جميلة كقطرة الندى تتارجح دون ان تسقط من ورقة غصن شجرة اللوز في صباح ربيعي ناعم ..

هل رأيتم معي كم هي عديدة لوحات الجمال الربّاني ؟؟ والتي قلّ وندر ان تكون لنا اعين تبصرها وتترشف جمالها؟؟… كانت لحظة زمنية فارقة وصديق عمري رضا يطرح ذلك السؤال المزلزل بعد خروجنا من الحوش: ايّا اش قررت ..؟؟؟… دعوني اقل لكم انه في تلك اللحظة وجدتُني في مفترق طريقين ..وفيهما من نقاط الاغراء الكثير… فالنجاح في الجزء الاول من الباكالوريا يعني الحصول على رتبة مدرّب اوّل…. والعودة الى الدراسة يعني الارتقاء بي الى درجة تعليمية متقدمة ..فماذا عساني ان اختار .؟؟ ثغاء الكبش او نظرة العاشق …؟؟ مواء القطة ام كمنجة رضا القلعي ..؟؟لعاب طفل ينساب على فمه عسلا وشهدا او قطرة الماء التي تتارجح على جبين ورقة شجرة اللوز وهي تهمس لا تسقطوني من فوق الغصن الاخضر ..؟؟كلّها شهيّة ..شهيّة جدّا كالجلوس على حافة البحر وانت تعشق اسراب السنونو ترقص على نغمات اندريه ريو معزوفة الدخول الى الجنة ..فاين ستكون جنّتي ..؟؟؟

ما وصفته لكم ليلتها وصديق عمري يطرح ذلك السؤال الزالزال (اش عملت) هو في زمنه كومضة برق …اللحظة الفارقة لم تتجاوز الثواني بمقياس الزمن العادي ولكن ولانها لحظة فارقة عمّرت في فكري وقلبي طويلا ..وجدت صديقي رضا يقول: اش قولك نكمّلو الباك مع بعضنا …؟؟؟ نعرف هو صعيب عليك خاصة وانك استانست بالفلوس ..اما احنا عمرنا ما قسمنا ..واللي في جيبي هو في جيبك… صديقي هذا بدات علاقتي معه منذ بداية التعليم الثانوي… هو يصغرني بسنة وابدا ان كنّا نفترق ..كنا دائما معا في كل شيء ..وكان العديد من اصدقائنا يحسدوننا على علاقتنا المتينة وكنت في عائلتهم واحدا منهم والعكس صحيح ..ولكنّ الاقدار مرّة اخرى قصمت ظهر علاقتنا ذات سنة ..ولبقية القصة حضور كبير في قادم الورقات …

عندما عبّر صديقي رضا عن رغبته الجامحة في ان نعيش معا سنة الباكالوريا …لم اترك لفكري او لقلبي او لايّ عامل آخر مهلة للتفكير في اخذ القرار … كانت اجابتي وبسرعة بليون كلم في الثانية: مشات معاك ..انا هكذا تعوّدت ان اخلص لمن احب ..انا تعلمت في الحب ان ابحث عن سعادة الآخر قبل البحث عن سعادتي ..انا في الحب اريد ان ارى في عيني من احب رقرقة الدمع وهو يريد معانقتي.. دموع الارتواء والانتشاء ..وفي تلك اللحظة لا اريد كلمات قد تفقد معاني الكلمات ..عندما قلت له “مشات معاك” كان سعيدا كطفل صغير ..وكنت الاسعد بسعادته ولسعادته … تصافحنا بحرارة وعدت الى الحوش ..واعلمتهم بقراري بالعودة الى طاولة الدراسة ..قراري فاجأهم وبكثير من المشاعر ..فبقدر ما كانت عيّادة تريد ان ترى طفلها ذات يوم طبيب او مهندس… وتلك كانت اعمق امنيات الامهات في ذلك الزمن ولعلّها مستمرّة لحدّ الان… وهو ما يفسر حرص العائلات في صفاقس على حثّ ابنائهم على “التمحريث” في الدراسة ..

اذن عودتي للدراسة ستكون بالنسبة لها تحقيقا لامنية غالية عندها علاوة على انّها ذات سنة عالجها طبيب وهي مقيمة في المستشفى بسبب ولادة عسيرة… وهذا الطبيب يُدعى “عبدالكريم” مما جعلها تُسقط صورته (لا ادري الوظيفية او الجمالية) على طفلها … اليس الله جميلا يحب الجمال فكيف عباده وعيادة لا يعشقون ..؟؟؟ اما الوالد فكان صامتا …ربّما لأن عودة ولده للدراسة تعني مصاريف اخرى وهو الذي تخلّص نسبيا منها في سنة التدريس بالسبّالة …بالنسبة له ..هذي تكوي وهذي تشوي ..هكذا فهمت صمته رغم انه لم يعبّر بتاتا عن رفضه لقراري واكتفى بالقول ( اللي تشوفو صالح اعملو) … طلبت منه ان يذهب الى السبالة للعودة بكل ما تركته هناك من ادباش وبسريري الحديدي الضيّق …وكم هنالك من اسرّة واسعة وهي في الواقع اضيق من اضيق مضيق

وكان ذلك ..وانتقل سي محمد رحمه الله الى السبالة واعلمهم بانقطاعي عن التدريس ..ولم اعد منذ نهاية 1969 الا في اواسط الثمانينات عندما قررت الرجوع الى كل الاماكن التي عشتها في طفولتي وفي شبابي، لاقدّم لها ولساكنيها ولمن عرفت فيهم آيات الشكر والعرفان ..لأني لولاهم لما كنت ما انا عليه اليوم . دعوني احك لكم عن آخر واقعة لي مع الاماكن …يوم امس كانت لي زيارة خاطفة الى مدرسة واد القراوة طريق تونس التي نلت فيها شهادة السيزيام …هي ليست الاولى ولكن امر على الديار ديار ليلى اقبّل ذا الجدار وذا الجدار، وما حل الديار سكنّ قلبي .. وهذه المرة فعلا حب الديار ..احسست وانا ادخل باب المدرسة الخارجي بنظرات موسيو دوميناتي معلّمي في الفرنسية تلاحقني واحسست بيد معلّمي في العربية سيّدي علي الشعري رحمه الله تربت على كتفي ..وتطبطب عليّ وتحضنني ..وآه من نعمة الاحتضان والطبطبة …

ولم استفق الا على صوت مديرها يقول بلهجة المدير (اتفضل حاجتك بحاجة ..؟؟) اجبته بكثير من التنوميس: لا، حاجتي ببرشة حاجات ..ولان رجل التعليم عادة وفي جل مستوياته لا يميل الى الفذلكة بل ان العديد مهم يتصوّر ان الفذلكة “تطّيح قدر”، فقد اجابني بجدّية: اشكون سيادتك ..؟؟ فاجبته بشيء من الاستعباط: خلّي بطاقة الهوية تعرفها في نهاية الفيلم .. حدّق فيّ مليّا ثم احتدّت جدّيته وقال: لا ..من فضلك ما انجمش نحكي معاك قبل ما نعرفك اشكون انت … وقتها ادركت انّو زايد ..رغم انّي اتفهّم وضعه كمدير ..اي كمسؤول عن مؤسسة في زمن اصبح فيه الزائر يُخيف ..من يدري قد اكون صهر ابي بكر البغدادي او حلاّق ابن لادن او طباخ الظواهري ….لا يمكن ان اكون فقط احد حراسهم الشخصيين (جسديا)… و بالمناسبة ابقى دائما مندهشا من البنية الجسدية لهؤلاء ..هل توحّمت امهاتهم على ابقار وحشية ..؟؟ هل تصدّقون اذا قلت لكم اني عندما ارى جثّة الواحد منهم اقف امام المرآة لاعشق عبدالكريم هذا الذي لا يزن فخذا منهم… فقط احس بأني انتمي لدنيا البشر في هذا الزمن لا لقوم عاد ..في عهود غابرة …

قدّمت لمدير المدرسة اوراق اعتمادي فكان العناق والترحيب والف اهلا ومليون سهلا …وتساءل عن سبب زيارتي تلك ..فقلت له هل تسمح بزيارة قسم وحيد من المدرسة ..وكان لي ذلك بكل ترحاب ..وقصدنا معا وانا دليله هذه المرة الى اقرب قسم لباب المدرسة..وقفت امامه بحنين لا يوصف وقلت له: شفت هذيكة البقعة، طاولة التلاميذ الاولى المقابلة لطاولة المعلّم؟ … ودون ان اتركههيجيب قلت له تلك طاولتي التي جلست عليها وانا تلميذ في السنتين الخامسة والسادسة ابتدائي …بل تلك هي حجر الاساس في تكويني ..تلك هي الشجرة التي اثمرتني وتلك هي الينبوع التي ارتويت منه وتلك هي سبب من اسباب سعادتي ..تهلّل وجه المدير فرحا وقدم المعلّمون عندما شاهدوني احكي بلساني وبيديّ على الطريقة الايطالية وانا ارقص مثلهم بكل جوارحي وبغبطة لا توصف …

اقبل الجميع ربّما مؤازرة لمديرهم ..ظنا منهم اني ربّما اكون وليا (كجدّ طبعا لا كأب) جاء ليعبّر عن غضبه في زمن اصبح فيه جل الأولياء يذهبون للمدارس والمعاهد وكل واحد عنتر على حالو … وعندما قدّم المدير هويّتي لهم قفز احدهم وقال .._يا سي عبدالكريم امّي قرات معاك هنا فرد قسم “انت ويّاها”… واضاف هل تعرف بنت الزيّاني ..؟؟ تلك امي ..وقفزت اكثر منه وقلت له ..طببببببببببببببببببببعا ..بجاه ربي سلملي عليها وبوسهالي .باااااااااارشا ….هل اقتنعتم اني لا يمكن ان انتمي لا للظواهري ولا للبغدادي ولا لابن لادن ..لان هؤلاء ابدا ان يتجرؤوا على القول (بوسهالي) رغم انهم في داخلهم لن يفلّتوا لا بوسة ولا ما اعمق منها ..

لا علينا ..نظر اليّ احدهم وقال لى..سي عبدالكريم نريد منك كلمة في السّجل الذهبي للمدرسة ..اننا نفتخر بك جدا وانت احد تلاميذها .. اعتذرت سريعا لسببين احدهما اعلنته وهو اني على موعد هام على الساعة 12 ..وثانيهما اني لا ارى نفسي يوما اكتب في السجل الذهبي لمدرستي الابتدائية او ايّ موقع اخر نهلت منه.العلم … كيف لقطرة من بحر تكتب في السجل الذهبي لبحرها ..؟؟ كيف لغصن نحيف مهما علا شأنه علميا ان يكتب على جذع الشجرة الشامخة زيتونة كانت ام نخلة ام صنوبرة .. ؟؟ كيف لـ”صغنّن” مثلي كان وسيبقى، ان يكتب في سجل ذهبي لهامة كبرى وقامة عظيمة والتي هي من انشأته وربّته وصنعته ؟؟…سجلّها الذهبي عندي هي ارضها التي اجثو فيها على ركبتيّ وابوسها ..سبّورتها التي الثمها ..طباشيرها الذي لو كنت امرأة لوضعته احمر شفاه على شفتيّ ..محبرتها العتيقة التي اكحّل بها عينيّ …هكذا انا ارى تكريم الاماكن ..وهكذا انا مفهومي للعشق وللجمال وللوفاء ..

بدأت سنة الباكالوريا وعدت الى معهدي الغالي على قلبي (الحي)… كانت سنة اخرى مفصلية في حياتي ..مفصلية بكل المقاييس.. مفصلية بكل الاحداث التي اتوقّعها والتي لم اتوقعّها بتاتا ..الم اقل لكم انه يستحيل على الواحد منّا في قراءة مجلد ان يبدا بالورقة الثانية ..مجلّد حياتنا تبقى فيه ورقة الغد في عداد المجهول مهما كانت استعداداتنا ومهما كانت توقعاتنا ..فانا لم اصدّق يوما عرّافا ونحن في اسبوع العرّافين ولم اصدّق يوما نشرة جوّية رغم ايماني العميق بالعلم .. مرة اخرى انها الاقدار بحلوها وبمرّها ..رغم ان الحلو منها ما زال يستعبط ويتدلّل ..والمليح يبطى ..وساواصل دلالي عليكم ان ابطأت في الورقة 32 وربّما في الورقة 33 . وكل عام ونحن نتدلل على بعضنا البعض ..كتهنئة مني لكم بمناسبة حلول 2017 ..رجائي ان يكون عام الطبطبة والحب والخير ..

ـ يتبع ـ.

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ورقات يتيم… الورقة 115

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

في الفترة ما بين 2004 و 2010 لم تكن الاحداث التي عشتها كمّيا كثيرة وها انا امرّ على ابرزها لاخلص بعدها لقهرة الربيع العبري…

عبد الكريم قطاطة

عودة لسنة 2004… في اواسط تلك السنة بدأت رحلة تعاقدي مع جامعة صفاقس كخبير مدرّس للعلوم السمعية البصرية بمعهد الملتيميديا… صاحب المقترح هو مدير معهد الملتيميديا انذاك الزميل والصديق “عبدالحميد بن حمادو” الذي أعرفه منذ درسنا معا في تعليمنا الثانوي بمعهد الحيّ… سي عبدالمجيد فكّر في انشاء مادّة للعلوم السمعية البصرية ببرامج بعض شعب المعهد…تحادث في الموضوع مع زميلي الكاميرامان انذك مفيد الزواغي فأشار عليه بالاتصال بي وكان ذلك… وانطلقت مسيرتي كمدرّس لهذه المادة لمدة عشر سنوات بعد ان طلبت ترخيصا في الامر من رئاسة مؤسسة الاذاعة والتلفزة وتحصلت عليه، شرط ان لا يؤثّر ذلك على واجباتي المهنية… ومنين يا حسرة ؟

في وحدة الانتاج التلفزي كنا نعيش البطالة الدائمة ونتقاضى على ذلك رواتبنا ومنح الانتاج ايضا… وكان كلّما عُيّن مسؤول جهوي أو وطني جديد، قام بزيارة اذاعة صفاقس للتعرّف على احوالها وطبيعيّ جدا ان يزوروا وحدة الانتاج التلفزي… وكنت مطالبا كرئيس مصلحة الانتاج ان استقبلهم وان اقدّم لهم بسطة عن الوحدة وعن انتاجها… وكنت دائما اردّد نفس الاسطوانة التي كم اقلقت المديرين الذين تعاقبوا على رأس اذاعة صفاقس… كنت اقول لضيوفنا الاعزاء (اعني المسهولين): وحدة الانتاج التلفزي فيها كلّ شيء الا الانتاج، وبقية التفاصيل تأتيكم من مديري!…

مقابل ذلك كانت علاقاتي مع منظوريّ في مصلحة الانتاج التلفزي على غاية من الودّ والاحترام … بل ذهب بي الامر الى إعلامهم انه بامكان ايّ منهم ان يتغيّب لكن عليه يكتب لي مطلبا مُسبقا لرخصة غياب دون ذكر التاريخ، احتفظ به عندي حتى يكون وثيقة استظهر بها اداريّا كلّما اقتضى الامر وذلك لحمايتهم وحماية نفسي… وفلسفتي في ذلك تتمثّل في الآتي: مالفائدة في حضور موظفين لا شغل لهم ؟ خاصة انّ بعضهم يقطن عشرات الكيلومترات بعيدا عن صفاقس المدينة… ثمّ اليس واردا للموظّف الذي لا شغل له أن يصبح شغله الشاغل احداث المشاكل مع زملائه ؟ اذن مخزن مغلوق ولا كرية مشومة… لكن في المقابل واذا اقتضت مصلحة الوحدة ان يعملوا 16 و 18 ساعة ما يقولوش (احّيت)…

تلك العلاقة التي وضعت اسسها بيننا كرئيس ومرؤوسين رأيت عمقها يوم مغادرة الوحدة للتقاعد… يومها أحاط بي زملائي ورفضوا رفضا قاطعا ان اكون انا من يحمل بنفسه وثائقه وكلّ ماهو ملكه الخاص الى منزله… وحملوها عني جميعا وبكلّ سعادة مخضّبة بدموع العشرة… والله يشهد اني وطيلة حياتي كمسؤول سواء اذاعيا او تلفزيا لم اقم يوما باستجواب كتابي لايّ كان… ولم اخصم لايّ كان من اعدادهم في منحة الانتاج وفي الاعداد المهنيّة…

اذن وعودة الى علاقتي بجامعة صفاقس كمدرّس للعلوم السمعية البصرية بمعهد الملتيميديا ثم بعده بسنتين بمدرسة الفنون والحرف، حاولت ان اعطي دون كلل لطلبتي… كنت قاسيا معهم نعم… ولكن كان ذلك بحبّ لا يوصف… وبادلوني نفس الحب ان لم تكن دوزته اكبر … كنت الاستاذ والاب والاخ والصديق و كنت ايضا صدرا اتّسع حتى لاسرارهم الخاصة… رغم اني كنت ايضا بوليسا في امور الانضباط وتقديس العلم… وطلبتي الذين هم في جلّهم اصبحوا اصدقاء بفضل الفيسبوك شاهدون عليّ… ولعلّ من الاوسمة التي افتخر بها ما حصل في نهاية السنة الجامعية سنة 2012…

إذ ككلّ نهاية سنة جامعية يقع توزيع شهائد وجوائز للطلبة المتفوقين في جميع السنوات… وفي اخر القائمة سمعت من منشط الحفل يذقول: (الان الجائزة الاخيرة في هذا الحفل وادعو الاستاذ عبدالكريم قطاطة لتسلّمها)… فوجئت حقا بالاعلان… وكانت لوحة رُسمت عليها زيتونة وكُتب فيها (شهادة تكريم للاستاذ عبدالكريم قطاطة نظرا إلى عطائه الغزير لطلبة المعهد)… واعذروني على اعادة جملة تُريحني كلما ذكرتها وهي… “وبعد يجي واحد مقربع ويقلك شكونو هو عبدالكريم اش يحسايب روحو ؟؟” … بل تصوروا انّ زميلة من اذاعة صفاقس بعد حادثة ذلك الفيديو المنحوس حول من هم اعلام العار في نظري سنة 2012 (رغم انّي صححت فيما بعد ماجاء فيه ووضحت انّي لم اعمم وختمت بالاعتذار .. لكن وقت البعض يبدا يستناك في الدورة مهما وضحت وكتبت واعتذرت يكون موقفه”قاتلك قاتلك”)… تلك الزميلة ذهبت الى ادارة مدرسة الفنون الجميلة وطلبت منها فسخ عقدي معهم لاني لا اشرّفهم… وضحكوا منها وقالوا لها فيما قالوا: هاكة موش فقط استاذ الطلبة، سي عبدالكريم استاذنا وشرف لنا ان نكون تلاميذه… ورجعت المسكينة الى منزلها خائبة مذهولة مهمومة وغبينتها غبينة، المغبونة… وانا مسامحها…

قضيت 10 سنوات بمعهديْ الملتيميديا ومدرسة الفنون الجميلة وحتما ساعود الى اشياء عديدة حدثت فيها خاصة بعد قهرة جانفي 2011…

الحدث الاخير سنة 2004 كان دون جدال كُرويّا… تتذكّرو نوفمبر 2004 ..؟؟ وبالتحديد يوم 20 منه ؟؟ تتذكّروا هاكي التشكليطة السافيّة ؟ تتذكّرو زوبا وهو يمشكي في ملاعبية المكشّخة واحد بعد واحد ؟ تتذكّروا كيفاش علّق تيزييه في سقف الملعب ؟؟ انّه نهائي الكأس الشهير… وانه يوم سقوط امبراطورية فرعون الكرة ولد شيبيوب… وانا نعرف انو بعض المكشخّين ماشين عاد يسرسطو ماجاء من سور في كتابهم .. عن بطولاتهم .. عن القابهم وتونس بكلّها تعرف عن محصولهم في الشمبيونزليغ وطبعا ماشين يذكروني بهدف بوتريكة ويختمو بـ (ما تكلموناش احنا ماشين لكاس العالم في امريكا).. لاصدقائي المكشّخين الباهين فيهم وهم قلّة لانّ اغلبهم لا يورّيك ولا يفاجيك .. فقط لاصدقائي نحب نسألكم سؤال وحيد ..توة هدف زبير السافي في هاكي الفينال موش سميّح موش شيء يعمل 5555 كيف؟

موش تقول الواحد صيفا يبدا في يدو مشموم ياسمين وطاولة معبّية بالبطيخ والدلاع والهندي وما ننساوش الفقوس .. وهي تصير كورة من غير فقوس ؟…ويعاود يتفرّج عليه ويعشق العزف متاع زوبا ورقصتو كيف انتوني كوين في زوربا اليوناني ؟ وفي الشتاء يبدا قاعد تحت كوسالة وكاس تاي منعنع ويعاود يتفرّج على زوبا وهو يعزف اشي الحبّ كلّو واشي انت عمري .. واشي انساك ده كلام ويختمها ب ميا موري … نعرف اصدقائي المكشخين الباهيين يعرفوني بليد وماسط وخايب وقت نحكي على مكشختهم ..اما يدبّرو روسهم قلتلهم حبّوني؟… واذا حبوك ارتاح والله… دعوني الان اسرّ لكم بما لا يعرفه اغلب محبّي الفريقين حول ذلك النهائي… واصدقائي ومهما كانت الوان فرقهم يعرفون جيّدا انّي صادق في ما اقول والله شاهد على صدقي…

قبل خوض النهائي كان لنا لاعب معاقب (وسام العابدي)… ولد شيبوب كلّم هاتفيا انذاك احد مسؤولي النادي وقللو نقترح عليك اقتراح لفائدة الزوز جمعيات… قللو نسمع فيك هات… قللو تهبّط وسام يلعب الطرح وانا نقول للملاعبية يسيّبوا الطرح… تربح انت وتعمل شيخة انت وجمهورك وانا نعمل احتراز عليكم وناخذ الكاس… طبعا المسؤول رفض وبشدّة… ولد شيبوب قللو راك ماشي تهبط من غير قلب دفاعك وسام… تعرف اش معناها ؟ معناها ماشي انييييييييييي………… بزوز .. المسؤول ظهر حتى هو قبيّح وقللو .. انا منيش مهبّط وسام واحنا اللي ماشي انننننننننني ……… بزوز … وكلمة عليها ملك وكلمة عليها شيطان ..ولكم ان تعمّروا الفراغ وتربطوا بسهم … لكم حرية التعليق مهما كانت الوان فرقكم لكن مع ضوابط الاحترام …السبّ والشتم والكلام البذيء لا مكان لها في صفحتي! …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

لا تخرّبوا سور وسقف الوطن… فنحن غدا من سيدفع الثمن!

نشرت

في

محمد الأطرش:

كنتُ بصدد وضع اللمسات الأخيرة على مقالي الأسبوعي في جلنار، حين بلغ مسامعي صراخ وألم ووجع عائلات من قضَوْا تحت أكوام حجارة سور معهد المزونة، رحمهم الله.

تمرّد القلم بين أصابعي، ورفض إتمام ما بدأه والانصياع لأوامري، وما أكتب، معلنًا الحداد على من ماتوا، ووُئدت أحلامهم تحت حجارة سور جريح ينزف دم سنوات الإهمال والتخلي.

سور أصابته لعنة “باركينسون” تشريعاتنا المهترئة، فارتعش وجعًا. سور لم يرأف بحاله أحد من القائمين على شؤون ترميمه، وترميم ما يحيط به. سور سال دم جراحه، وأسال دم من مرّوا بجانبه وأمّنوه على أرواحهم. سور توجّع وتألم طويلًا، وبكى… ولم يسمع بكاءه أحد، حتى أبكى أمهات بعض من اعتادوا المرور بجانبه… سور تآكل، وبانت عورته، فغضب وانهار على من كانوا يمرّون بجانبه، يتكئون عليه، ويستظلون به من غضب الشمس وثورة الأحوال الجوية، وهم في طريقهم لطلب العلم.

الغريب ما قرأته بعد الفاجعة، وما سمعته من صراخ من خرجوا يهددون بالويل والثبور وعظائم الأمور. أغلب من خرجوا علينا يولولون، يطالبون بمحاسبة من تسبب في الفاجعة، ويطالبون بتحميل المسؤولية لكل من قصّر في أداء واجبه أو غفل عنه.

هكذا نقفز على كل وجع ومأساة، لنواصل الدعوة إلى الانتقام من كل ما سبق، ومن كل من سبقونا في تحمّل مسؤولية خدمة هذا الشعب… هل يجب أن ننتقم ونثأر بعد كل فاجعة أو فشل ممن سبقونا في تسيير شؤون مؤسسات البلاد؟ هل يجب أن نشيْطن كل من سبقونا في خدمة الوطن بعد كل وجع يشعر به جسد هذه الأمة؟ ألا يجدر بنا أن نعتبر مما حدث، ونبدأ بإصلاح حالنا وأحوالنا؟

أتساءل: ألا يتساءل أحدكم لماذا كل هذا العزوف عن تحمّل المسؤولية؟ أليس للفصل السادس والتسعين من المجلة الجزائية دور كبير في هذا العزوف، الذي أفرغ مؤسساتنا من كفاءات كنّا نفاخر بها، ونطمئن بوجودها على حالنا وحال مؤسساتنا وحال البلاد؟ ثم، أليس للفصل الرابع والعشرين من المرسوم عدد 54 نصيب مما نحن فيه، ومما عشناه ونعيشه؟ فمن كان يرى في السور عيبًا وخطرًا، لن يكتب عن الأمر، ولن يُنبّه لخطورته، خوفًا من أن يُتهم بنشر أخبار زائفة وإشاعات كاذبة…

ألم نغرق اليوم في وحل الفصل السادس والتسعين، ورعب المرسوم الرابع والخمسين؟ لماذا تنشر تشريعاتنا وبعض قوانيننا الخوف والرعب في نفوس كفاءاتنا، ومن يملكون القدرة على تحسين أوضاعنا؟ أيمكن للأمم أن ترتقي وهي تعيش تحت وطأة الخوف والرعب من قوانينها؟ كيف نطلب من بعضنا خدمة الوطن وهم يعيشون رعب القانون، ورعب الحقد، ودعوات الإقصاء والثأر والانتقام من كل قديم، وكل مخالف في الرأي، وكل من لا يعلن لنا البيعة، ولا يقف صارخًا “مزغردًا”، مصفقًا لأخطائنا، ملمّعًا لفشلنا، داعيًا لنا بطول العمر وجزيل الثواب؟

يا من تستمتعون بوجع خصومكم، ومن لا تتفقون معهم، ومن تركوا أثرًا طيبًا وانتصروا عليكم بما حققوه وأنجزوه…الوطن أمانة بين أيادينا جميعًا، فجنّبوه الفتنة، وجنّبوه الأحقاد، وحافظوا على سور الوطن…ولا تخربوا سقفه، فإن انهار سقف الوطن، فنحن، نحن الشعب، من سيدفع الثمن… نعم… نحن الشعب من سيدفع الثمن.

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم… الورقة 114

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

في جويلية 2004 انتهت حقبة اذاعة صفاقس مع السيّد عبالقادر عقير رحمه الله وغفر له وعُيّن السيد رمضان العليمي كبديل له وتحديدا يوم 12 جويلية…

عبد الكريم قطاطة

والسيّد رمضان العليمي شغل قبل تعيينه على رأس اذاعة صفاقس منصي كاتب عام للجنة تنسيق “التجمع الدستوري الديمقراطي” (الحزب الحاكم وقتها) بقفصة ثمّ مديرا لاذاعة تطاوين… وكعادة ايّ مدير عند تسميته اجتمع بالمسؤولين في الادارة بقاعة الاجتماعات المحاذية لمكتبه… ليعبّر وكأيّ مسؤول عن امتنانه لرئيس الدولة صانع التغيير لتشريفه بتلك المهمة… وعبّر وكسائر المديرين عن سعادته بوجوده في صرح اذاعتنا ونوّه بتاريخها وبالسواعد التي عملت فيها… ودون الدخول في تفاصيل اخرى تعرفون جيّدا تلك الخطابات الممجوجة التي يلقيها المسؤولون في مثل تلك التعيينات…

بعد ذلك تعرّف على المسؤولين فردا فردا… ولمّا حان دوري نظر اليّ السيّد رمضان العليمي وقال: (سي عبدالكريم اشكون ما يعرفوش انه اشهر من نار على علم، وهو بالذات عندي حديث خاص معاه)… وانتهى الاجتماع… وبقيت انتظر ذلك الحديث معه… وطال الانتظار… وكتبت له رسالة مطوّلة لم استجدِه فيها العودة الى المصدح فالحرة تجوع ولا تاكل بثدييها… لكن كان من واجبي ان اعطيه فكرة شاملة لا فقط عن وحدة الانتاج التلفزي حيث اُشرف فيها على مصلحة الانتاج، بل عن اذاعة صفاقس بشكل شمولي… وذلك من خلال ما عشته وعايشت فيها مع زملائي من احداث ناصعة البياض واخرى رماديّة حتى لا اقول سوداء…

هذه المراسلة كانت بتاريح 17 سبتمبر 2004 اي بعد شهرين و5 ايام من تعيينه… وها انا اختار الفقرة الاخيرة من مراسلتي الطويلة علّها تًعطي فكرة واضحة عن هدف تلك المراسلة حيث خاطبته بالآتي: (اخي الفاضل… انّ غيرتي على هذه الاذاعة هي وحدها التي جعلتني اكتب اليك فانا لا اطلب برنامجا او فضاء او ما شابه ذلك… ولكنّ الخطر الكبير يتمثّل في عديد الاسماء التي لا يمكن ان تكون امام المصدح وفي عديد البرامج التافهة تصوّرا وانجازا… وفي بعض الاشخاص الذين لا يملكون الحسّ الاذاعي ولا الكفاءة ومع ذلك يديرون امور هذه الدار على هواهم… اخي الفاضل احببت ام كرهت… الآن انت مدير هذه الدار وقدرك ان تعيد لها هيبتها وجمهورها واشعاعها… وهيبتها لن تعود الا من خلال تطبيق القانون ورفع المظالم … وفقكم الله لتسلّق هذه الجبال من المصاعب واعانكم على ان تكونوا كالميزان في عدالته، الذي لا يهمه ان ارتفع بالفحم او باللحم، بالتبر او بالتين… اليست العدالة هي اساس العمران ؟؟)…

السيّد رمضان العليمي كما ذكر في اجتماعه الاول بالمسؤولين وعد بحديث خاصّ معي… وانتظرت ولم يأت ذلك الحديث الخاصّ… وارسلت له المكتوب الذي حدثتكم عنه ولم يأت ذلك الحديث الخاص وها انا انتظر لحدّ اليوم وعده ولم يات ولن يأتي ولا حاجة لي بأن يأتي… لا لانه غادر الاذاعة ولست ادري ماذا اصبح اليوم وكلّ الرجاء ان يكون في صحة جيّدة مع طول العمر… ولكن لانّ الاجابة عن ذلك الوعد الذي لن يأتي جاءتني من احدى الزميلات في اذاعة تطاوين وهي بالاساس مستمعة لي منذ من البريد الى الاثير … وذلك بعد ستّة اشهر من تعيينه على رأس اذاعة صفاقس… حيث خاطبتني عبر مرسال فيسبوكي خاص بالقول: (لا تنتظر مؤازرة من السيّد رمضان العليمي… انه لا يكنّ لك الودّ وهذا عرفته عندما وددت تكريمك في اذاعة تطاوين ولكنّه عبّر بشكل مباشر انّه لا يطيب بذكرك… لكنّي كنت مصممة على تكريمك واذعن لي لكن لبس عن طيب خاطر)…

انذاك فهمت انّ الحديث الخاصّ معي لن يكون وحتى طيلة عهدته باذاعة صفاقس تحادثنا مرّتين فقط… يوم جاءني لمكتبي بوحدة الانتاج التلفزي ليسأل عن مشاكل الوحدة وندرة انتاجها… اي نعم قلبو وجعو على وحدة الانتاج… وتقولوشي عمل حاجة ؟؟ اقسم بالله وكانّه لم يسمع شيئا مما سردته له… المرة الثانية التي قابلته فيها يوم أقام حفلا خاصا لتكريمي سنة 2006 بعد احرازي على وسام الاستحقاق الثقافي من رئيس الدولة… وهو يصير منو ما يحتفلش بما قرره صانع التغيير؟…

ساعود لموضوع الوسام في ورقات قادمة… سنة 2004 ايضا وبالتحديد في 30 مارس شاء قدر الله ان يحرمني وللأبد من الوجود المادّي لوالدتي عيّادة… كان ذلك يوم اثنين… ولكن في الويكاند الذي سبق يوم الاثنين 30 مارس وتحديدا يوم الاحد 29 مارس كنت والعائلة وبعض من اهلي عائدين من الساحل بعد قضاء نهاية اسبوع باحد النزل… عندما وصلنا الى ساقية الزيت طلبت من سائق السيارة ان يتوقف.. اندهش الجميع لذلك… تصوروا انّ غايتي كان اقتناء قهوة او بعض المكسّرات للسهرة… توقف اذن ونزلت من السيارة وقلت لهم (كمّلوا ثنيتكم انا ماشي لعيّادة نحبّ نطلّ عليها ونبوسها وبعد نجيكم)… اندهش الجميع… يا ولدي اش قام عليك .؟ يا ولدي غدوة امشيلها … يا ولدي الدنيا مغربت .. تي راهي امّك في ساقية الدائر وانت في ساقية الزيت… تي راهو زوز كيلومتر موش شوية… تي هات على الاقلّ نوصلوك…

تعرفوه هاكة البهيم حاشاكم اللي يحرن ؟ اللي يعرفني يعرف انو من طباعي السيّئة وقت نحرن نحرن… وفعلا حرنت وزيد قلت لهم (انا طيلة دراستي الابتدائية كنت نجي من ساقية الدائر لساقية الزيت على ساقيّ… نحبّ نمشي على ساقيّ ونعيش شوية نوستالجيا ذلك الزمن… ايّا امشيو على ارواحكم)… وتوكّلت على الله وخليتهم داهشين في ها المخلوق وفي راسو الكبير وعنادو في احدى تلك اللوحات… صدقا كان هنالك احساس رهيب بداخلي وانا اقطع تلك المسافة… ذكريات… نوستالجيا… سعادة… وحزن لم افهم مأتاه…

وصلت الى مسكن الوالد والوالدة ومعهما اختي نبيهة التي تكبرني بسنة والتي لم تتزوج لإعاقة وُلدت بها ولم تقع معالجتها في زمن كان العلاج الطبّي نادرا جدّا… والتي لازمت الوالد والوالدة طيلة حياتهما، رحم الله الثلاثة… عندما دخلت للمنزل سلّمت على سي محمد… والدي هكذا كنت اناديه لا يا بابا ولا يا بويا ولا يابّا متع جيل توّة… ووجدت اخواتي الثلاث متحلقات حول عيادة… فرحت بي عيادة وباستغراب وقلق عن هذه الزيارة في وقت بدأ الليل يسدل ستائره ونظرت لولدها وسألتني: (يا وليدي لاباس عليكم ؟)… مسكت يدها وقبلتها وقلت لها وراسك الغالي لاباس توحشتك جيت نطلّ عليك اكاهو… تهللت اساريرها ونظرت الى اخواتي وقالت: (ما يعزش بيكم انتوما الكلّ في كفّة وعبدالكريم في كفّة راهو كفّتو تغلب)… وضحك البنات وأجبن (يخخي حتى تقوللنا؟..نعرفوا نعرفوا)… اعدت تقبيل يديها وبشكل جارف، لكأنّ القدر كان يهمس لي… اشبع بيها اليوم لانّها غدا ترحل…

في الغد وانا في مكتبي وكانت الساعة تشير الى الثالثة ظهرا هاتفني احدهم (لم اعد اذكر من هو) وقال لي: امّك مريضة وتحبّ تشوفك… ووجدتني بالنهج الذي تقطن فيه عيّادتي وسي محمد… وتسمّرت ساقاي عن المشي… سيارات رابضة امام المنزل… هذا يعني انّ عياّدة …. نعم دخلت وسالت اخوتي متى ؟ كيف ؟ بالامس كانت في صحة جيدة .. ماذا حدث ؟ لماذا لم تخبروني بما حلّ بها ؟… اجابتني إحداهنّ وقالت… كنا معها نتجاذب اطراف الحديث كما تعرفنا وفجأة قامت وقالت: (صلاتي ابجل من حديثكم سيّبوني نعطي فرض ربّي)… اقامت الصلاة ركعت ثمّ سجدت ثمّ هزّ ربّي حاجتو… وهي ساجدة…

دخلت فوجدتها مسجّاة في لحافها… دلفت اليها بهدوء لم ادر مصدره… رفعت الغطاء عن راسها… قبلت جبينها و قرات عليها نزرا قليلا من سورة البقرة (وبشّر الصابرين الذي اذا اصابتهم مصيبة) الى اخر الاية واعدت تقبيل جبينها و تقبيل يدها الباردة … والتي هي في برودتها وقتها كانت اشدّ حرارة من وهج الصيف في صحرائنا الكبرى… ورفعت يديّ الى خالقي وقلت (يا ربّي يجعلني كيفها)… لقد اكرمها الله بتلك الموتة الرائعة واستجاب لدعوتها الدائمة… يا ربّي يجعلني نهيّر في الفرش ونهيّر في النعش… ولأنّ الله قال في كتابه العظيم، سورة غافر آية 60: (ادعوني استجب لكم) واعاد نفس المعنى في سورة البقرة الآية 186، فالله اكرمها بان لا تقضّي حتّى يوما واحدا مريضة في فراشها…

الحمد لله اوّلا على قضاء الله… الحمد لله ثانيا على انّي نفذت وصيّتها لي بتلحيدها يوم دفنها… كان ذلك بعد اذان صلاة المغرب في المقبرة التي كنت اخاف من المرور بجانبها طيلة حياتي ليلا او نهارا… ولكن واقسم لكم بالله عندما ذهبت لتلحيدها في تلك الساعة، تحوّلت المقبرة امامي الى نور على نور… والحمد لله ثالثا انها رجتني في حياتها الاّ انقطع عن زيارة قبرها بعد وفاتها، وان احكي لها واطمئنها عن كل ما يجري في عائلتي…. وعائلات اخوتي… ووعدتها ولا زلت عند وعدي…

رحم الله عيّادة وابي واخوتي واهلي واصدقائي وزملائي… ورحم الله كلّ امواتكم واطال الله عمركم ومتعكم بالصحة والسلام الروحي …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار