جور نار

ورقات يتيم … الورقة رقم 9

نشرت

في

Voleur avec Apple illustration stock Illustration du criminel 77523663

سنة السادسة “ابتدائي” وانا استعد لسنة ليست ككل السنوات في حياة كل تلميذ انذاك (سنة السيزيام وما ادراك) وشهادة السيزيام انذاك كانت شهادة تنتظرها لا فقط عائلة التلميذ بل اهله وجيرانه وخاصة “الحوش” لانني سادخل في مناظرتها مع ابن عمي الذي يكبرني بثلاث سنوات . والمنافسة بيننا وبين العائلتين في الخفاء ستكون على اشدها ..

<strong>عبد الكريم قطاطة<strong>

وانا استعد لتلك السنة عشت احداثا هي الاولى من نوعها في حياتي … اولها انني وبمعية ابن عمي تآمرنا على السرقة …نعم هي الا ولى و لن تكون الاخيرة …سرقة التفاح من جنان احد جيراننا ..هم جيران من اولائك الذين يسكنون في المدينة شتاء وفي الغابة صيفا … اغنياء صفاقس عموما … وغيب يا قط العب يا فار … خرجنا يومها كعادتنا نبحث في طوابي الجيران عن الحميضة والجرجير والهندي السوري (وهو نوع من الهندي صغير الحجم احمر اللون لذيذ لمن يريد الحموضة ويستعمله العديد في وضعه ببعض الخضر المملحة كالسفنارية واللفت لصبغهما بلونه الاحمر الجميل) وهو لا يوجد بكثرة في غابتنا …وبعد ان تمكنا من الحصول على صيدنا خطر ببالنا ان نذهب الى صيد اثمن: تفاح دار بسباس، جنان هؤلاء كان شاسعا وبه عديد االاشجار المثمرة الا ان اختيارنا وقع على التفاح ….

هذه النوعية من الثمار كنا لا نأكل منها الا ما يجلبه عمي الدلال من عمله او ما يرمي به العاملون في ماكينة °ولها ° المحاذية لمدرستي الابتدائية والتي تتنوع اختصاصاتها حسب الفصول … ففي الشتاء هي لعصر الزيتون وبداية من الربيع تصبح قلعة كبيرة لفرز الغلال وتصديرها الى داخل الجمهورية، علاوة على تهيئة ثمار اللوز (تقشيرا وتكسيرا) لنفس الغرض …وسواء كان محصول التفاح مما يجلبه عمي او مما يرميه عمال الماكينة فانه لن يكون الا تفاحا معتلا في ثلثيه حيث نلتهم الثلث المعافى من عاهة الثمار… اذ كيف لنا ان نقدر على شراء التفاح وهو بالنسبة لميزانيتنا انذاك كافيار ..؟؟ هل تصورتم الان الصيد الثمين الذي برز الى المشهد المعدي ونحن نبحلق بكروشنا لا بأعيننا الى تفاح البسابسة ..؟؟؟

ابن عمي اختار ان يكون بوليسا يراقب حركة المرور في الزنقة واشار على “كريّم” باجتياز الاسلاك الشائكة وبالهجوم الداعشي على شجرة التفاح …وكان داعشيا حقا لاني وانا الخائف من افتضاح امري ذبحت كعيبات التفاح بـ”حشيشو وريشو”، طايب على نيّ، صغير على كبير … ولم ارحم حتى بعض الاغصان التي حرمتها يومها من امومتها . والى الابد .. وهرولنا فرحين مسرورين الى جناننا لالتهام الغنيمة … وقللو تعرفشي نسرق قللو نعرف قللو تعرفشي تخبي قللو ماهياش من اختصاصي (هذي من اختصاص لصوص السياسة بعد 4 1جانفي !)…وبعد ان اخذنا نصيبنا من ثمار التفاح البسباسي اللذيذ بقي من المحصول بعض التفاحات، ارتأينا ان نحجز لها مكانا في الحوش حتى لا تطاله لا الايدي ولا الاعين ..لتنمكن من العودة الى التفاح اللي يفوح ..واللي ماشي يطلع الروح، وكانه (وحسب الاساطير لا غير) التفاح اصل البلية منذ آدم وحواء _.

وضعناه في جيوب بنطلوناتنا ومشينا الهوينى حتى لا نلفت الينا انظار سكان الحوش …وما كدنا نجتاز عتبة الحوش حتى اطلت علينا عيادة بنظراتها المرتابة ….هي دائما مرتابة كلما خرجت مع ابن عمي او كلما تاخرت في العودة الى المنزل ..وفي هذه الحالة يصح الوجهان كما تقول القاعدة اللغوية . رغم انه يومها “اتهردو” الوجهان … وجهي ووجه ابن عمي… وما ان لمحت كرات التنس التي انتفخ بها جيبا “دجوركوفيتش ونادال”، حتى عرفت ان الامور فيها ليس فقط واو بل ظن وخال وشك وحسب و شمّ … وفعلا اشتمت عيادة الرائحة …وكعادتها وبكل بهنسة النساء الحكيمات سالتني … اشنوة هاكة يا وليدي؟ وكنت في تلك السن وانا عامل عملة، يتملكني خوف رهيب منها واتسمر في مكاني دون حراك لانه حتى الهروب منها لن ينفع اذ واذكركم بمقولتها الشهيرة عند محاولتي الهروب: والله لو كان متاقفش نقتلك…

واذعن لمشيئة “تاتشر عيادة” المرأة الفولاذية (لان الحديدية ليس من قدرها) وتدخل والدتي يدها في جيب البنطلون لتخرج الكنوز المهربة … وبنظرة غاضبة تزمجر في وجهي ويعلو صوتها تدريجيا حسب نسق اعترافي …ايا قللي منين سرقتوه … واذعن للحقيقة المرة …انكشف امري …لا فائدة من ان اتلكأ امام قاضية التحقيق عسى ان يكون اعترافي فيه ضمان لعقاب اخف مما ينتظرني ..وتلتحق خالتي والدة ابن عمي بمهرجان القبض على مجرمي الحوش: “هاكة اللي مازال علينا نسرقو ديار جيرانّا …هذا لا عملو لا بوك لا جدك” (ولست ادري ان كانا فعلا بريئين او “العريق جباد” حقا لست ادري) .. وتتفقان على رفع القضية للسلط العليا في محكمة العدل الحوشية (ابي وعمي) مع حجز المسروقات وحجزنا بقية اليوم داخل بيت كل واحد منا دون حراك ….لا مرزوقي …ولا دايمي …ولا عدناني … ولا والو …

وتمر الساعات طويلة ونحن ننتظر صدور احكام ‘التاس’ الحوشية …وعينك ما ترى النور ويزمجر السيدان ويقرران طريحة على الساقين (واحد يحمل والاخر يضرب) لكل واحد منا … وهي المرة الاولى ولكنها الاخيرة التي اقع فيها تحت طائلة هذا العقاب وهذا العذاب … ولكم ان تتصوروا حالتي وانا طفل لم يعاقب يوما بطريحة من جهة ثم نفس هذا الطفل كان يعيش الرعب في الروضة (زاوية سيدي عبدالقادر) وهو يشاهد بعينه وقلبه وكل حواسه اترابه يخضعون لعقاب “الفلقة”، تلك الشبيهة بالمقصلة وهي تثبت القدمين بين فكيها الخشبيين وسيدي المدب يمسد الرجلين بعصا زيتون …

الحدث الثاني الذي عشته في تلك السنة لعبي للكرة لاول مرة في حياتي مع بورة الكحلاوي، بورة حومتنا ..الفرق انذاك تسمى في صفاقس اما بمكانها الجغرافي (بورة القصر بورة حي بورقيبة طريق سيدي منصور … بورة الحطاب مركز الحطاب طريق المهدية) … او باسماء اشخاص او عائلات (بورة العلوش بورة العذار بورة الشباشبة او ….بورة الكحلاوي) …وبعد تعرفي على اترابي في حومتنا فهمت جيدا لماذا سميت البورة ياسمه … هو اولا لاعب فريد من نوعه لانه قادر على اللعب في اي مركز من حراسة المرمى الى قلب هجوم والله دون اية مبالغة (ورغم الاختبار الناجح جدا الذي اجراه في السي اس اس وهو صغير السن _13 سنة _ ورغم رغبة الاطار الفني لجلبه بكل السبل الى النادي، فانه رفض رفضا قطعيا الانضمام) …لا تظنوا ان الترجي اغراه بالمليارات ثم طلع صيشة …بل رفضه كان لسبب حيوي بالنسبة اليه …هو متعود على لعب الكرة في حومتنا دون حذاء …إينعم،حافيا … فكيف له ان يفرط في هذه المتعة ويسجن رجليه في ‘بودير’؟؟؟ ثاني الاسباب انه كان _باربو الحومة …صحة بدن وبونيتو تخوف … ومن يجرؤ على عراكه ..؟؟؟؟..

في ذلك اليوم المشهود في علاقتي بكرة القدم ارسلتني امي لقضاء بعض حاجيات العائلة لطهي العشاء …وما ان وصلت الى البورة (ملعب صغير في ذلك الزمن وسط الوادي طوله بالكاد عشرة امتار وعرضه متران) … ما ان وصلت حتى دعاني سي الكحلاوي لا مشورة بل امرا لكي اتمّ المجموعة وآخذ مكاني كحارس مرمى …لبيت دون تردد اولا خوفا من بطش الكحلاوي وثانيا زهوا وافتخارا …توة وليت راجل يا عبدالكريم وتلعب مع الرجال وفي بورة الكحلاوي التي يستحيل ان ينتصر عليها اي فريق منافس سواء لعبا او بالبونية، خاسرين رابحين ما تروحوا كان خاسرين …وماكدت ادخل الى عشب “البرنابيو” (حجارة وحصاة الوادي) حتى عملت فيها بطلا وبقفزة بهلوانية لصد المهاجم ومنعه من تسجيل هدف وكأني° ياشين° زماني، الحارس الروسي الشهير والملقب بالعنكبوت الاسود، حتى انهال الكحلاوي شتما وسبا على “كريم” وهو يرى الكرة تجتازني من بين ساقيّ (عظمة) وتستقر في شباكي …وهل كانت هنالك شباك ..؟؟؟ كل ما في الامر حجرتان لرسم معالم المرمى والبقية ارض صلبة تدمي كل لاعبيها ..

خجلت من نفسي ومن “تكركيرة” الكحلاوي بعد ان فصلني واطردني شر طردة … واحمد الله انه لم يمر الى سرعة الغضب القصوى فيوافيني حق الطبل ليلة العرس …غادرت الملعب الاولمبي لحومتنا واتجهت مسرعا الى حانوت الحومة لقضاء ما اوصتني به امي …كانت تنتظرني براس الزنقة كلما ابطأت في عودتي …وكانت تخاف على كريمها بشكل خرافي … الساعة انذاك تشير الى قرب المغرب فكيف لولدها ان يعود ليلا وكيف له ان يبطئ في عودته ومعه ملح العشاء ؟؟؟؟ وما ان اقتربت منها حتى وكعادتها نظرت في ملابسي وحالتي مليا ثم اندلعت المعركة (وهي على فكرة، من جانب واحد)…ما تقلليش لعبت الكورة مع كلاب السوق …؟؟؟ …انت قدرك من قدرهم …؟؟؟؟ (وكأني ابن الباشا محمد قطاطة( …هكة دبشك؟ …مبلحطين ..؟؟؟ اش قولك نحمش عليك بوك ..؟؟؟ اوعدني انك ما عادش تعاودها ماكانشي اعرف اش يستنى فيك الليلة حكان بالفلفل من عندي والا بوك يبيتك معلق ….يشرق علينا نخالطو اللي ما يسواوش .؟؟؟

وامام هذا الواقع المنذر بكل العواصف اذعن واعدها بـ “باهي نوعدك ماعادش نعاودها” … وهو وعد لم اتقن يوما الوفاء به بل تفننت كل المرات للاطاحة به مما جعلها في آخر عهدي بالكرة وانا احمل الزي الرياضي لاشارك اما في تمارين او في مباراة، تتنهد وببسمة خفيفة تردف: مازالت اتبع فيك هالكورة يراها مقهورة … وهي صادقة في دعائها لان الكرة في جل طفولتي وشبابي قهرت ارادتها في إثنائي عنها …

الحدث الثالث قبل مناظرة السيزيام بايام كان دخولي لقاعة سينما بصفاقس المدينة …حدث ذلك في قاعة الهلال سابقا وهي كانت بجانب المسرح البلدي ..والفيلم كان لفريد الاطرش وسميرة احمد °شاطئ الحب ° والدعوة اتت من خطيب اختي (طبعا وين نحطك يا طبق الورد) …انذاك لم يكن بامكان الخطيب ان يرافق خطيبته الى اي مكان قبل الزواج وكانت العبارة المنتشرة في ذلك الزمن والتي يحرص كل اب على اشتراطها على الخطيب: لا نحب لا دخلة ولا خرجة. هذية امور ماهياش في سبرنا (اي في عاداتنا)…وانطلاقا من °امر على الديار ديار ليلى اقبل ذا الجدار وذا الجدار، وما حب الديار سكنّ قلبي ولكن حب من سكن الديار °، فان خطيب اختي كان عندما دعاني الى مشاهدة فيلم معه يريد ان يبلغ رسالة مشفرة الى اختي قد تكون “شفت قداش نعزك .؟؟”..او شفت قداش نحبك يا ريت كنت انت في بلاصتو ؟؟..او وقتاش يمروا الايام وندخل انا وياك وين ما تحب … اي بموجز العبارات …راهو قريب صبري ينفد …

ولا اظن بل انا علي يقين كلي بان هذه الرسائل المشفرة تنزل على قلب اختي بردا وسلاما في بدايتها ثم تتحول عند مغادرتنا انا واياه لحوشنا، الى تنهيدة يصل مداها الى ربض زنقة بن سعيد حيث يقطن خطيبها …لن انسى لخطيب اختي مهما كانت نوعية رسائله المشفرة، انه وطوال عمره كان يضعني في اطار ذلك الاخ الصغير الحريص على الوقوف معه في كل احتياجاته… رحمه الله ولنا عودة للعديد منها …

في شهر جوان وصلت بطاقة الاستدعاء … لاجتياز مناظرة السيزيام بالليسيه … هكذا كان يسمى معهد طريق قابس للذكور…. معهد 15 نوفمبر كان يسمى الحي ومعهد 9 افريل كان يسمى التكنيك ومعهد الفتيات كان يسمى “ليسيه دي جون في” اي معهد الفتيات ان صحت الترجمة … ثم معهدان اعداديان للناجحين كبار السن والذين لا تتجاوز مدة دراستهم ثلاث سنوات، وهما اشبه شيء بالمعاهد المهنية حاليا … معهد محمد علي (وكان يسمى السونتر) وهو للفتيان … ومعهد الطاهر الحداد وكان يسمى سوق الزيتون وهو للفتيات … هذه هي فقط المعاهد الموجودة انذاك بصفاقس …

يااااااااااااااااااااااااااه كانت على قلّتها معاهد لها بصمانها ولها حكاياتها ….وكم منها فقد لونه وطعمه ورائحته الان …كم انا يتيم وانا ارى ما صارت عليه اليوم في جلها

ـ يتبع ـ

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version