جور نار
ورقات يتيم … الورقة 33
نشرت
قبل 4 أشهرفي
عبد الكريم قطاطة:
في اليوم الاول من عودتي للدراسة بمعهد الحي، احسست بأنني لست ذلك التلميذ الذي هجر مدرسته بعد نكسة الجزء الاول من الباكالوريا ..احسست بأني تلميذ ليس كسائر التلاميذ …محفظتي تغيّرت ..ملابسي تغيّرت ..هيأتي تغيّرت …
كانت شخصيّة المربّي بادية على سلوكي .. زملائي في الدراسة الجدد كانوا يتساءلون .._اشكونو هذا اللي ضاربو في روحو؟؟ … و عندما تجاذبت الحديث مع احدهم (رفيق مغيّث) وهو تلميذ مشاكس جدا وكان الاكثر جرأة وهو يستشف اخبار هذا القادم الجديد (اللي عامل فيها برانس وانيق وهازز خشمو على الجميع)… وقتها عرف اني كنت معلّما في السنة المنقضية واني عدت الى معهدي لمواصلة الدراسة، ايمانا منّي بأن دربي وطموحاتي ما اردتها ان تقف عند ذلك السقف ..رفيق هذا وهو الذي يعيش حاليا في اوروبا .._بعد ان فعلت المستحيل لمعرفة اخباره وعلمت انه في بحبوحة العيش، ردّ على طراطيش معلوماتي الاولى التي افدته بها بالقول: جوّ السنا ..نتصوّر انّك من الرعيل الاول في الحي وماشي تفيدنا بخبرتك …
كان يقولها بشيء من السخرية اللطيفة ..فكان منّي وقتها ان ابتسمت ابتسامة لا تقل سخرية عن سخريته وقلت: “يعمل الله”… فعاد رفيق ليستدرك: ما تتغشش منّي والله ارتحتلك وحبّيت انفدلك معاك… فاجبت: ولا يهمّك انت ما تعرفنيش ._ وكعادته ردّ بابتسامته: انا نحسّ بيك وحيّد …_ رفيق هذا “ما يبلش الفولة في فمّو”… وانتشر خبر الوافد الجديد عبدالكريم المعلّم في وسطي الدراسي ..ووصل صيته حتى لدئ اساتذتي الذين والحق يقال عاملوني بشيء من اللطف وهم مدركون اني مررت بتجربة التدريس ..اساتذتي عموما في سنة الباكالوريا وباستثناء سي محسن الحبيب استاذ العربية ومستر فيرس استاذ الانكليزية (استاذ في قمة الجمال والاناقة والكفاءة بلجيكي متعاون)… الباقون كانوا جددا ..
والغريب انه ورغم ابتعادي عن معهدي لسنة واحدة فقط وجدتُني مع مجموعة هامة من الاسماء الجديدة… من المدرسين: مادموازال “بوسناك” وصدقوني اسمها ولقبها يجسدان تماما جمالها ..خاصة وهي ترتدي بشكل دائم “الميني جيب” الذي هو اقرب للميكرو جيب … وكأنها تستنهض همم التلاميذ نحو علم آخر وفنون اخرى (واحنا صغيّرين وما نعرفش الحاجات دي) … وكنا نحسد ونحسد ونحسد مسيو بلان استاذ الفرنسية الذي كان (مشلّق على روحو برشة) في التعاطي معها .كزميلة وكمربّية “حنيّنة آوي آوي آوي” ..
من ضمن الاساتذة الجدد كذلك الاستاذ توفيق بن عياد في مادة العلوم الطبيعية (رحمه الله)… كان “مهفّ” نظرته ردود افعاله .. في حصّة من حصص العلوم حول الهضم الاصطناعي حيث يختلط ما ناكله باللعاب فتبدا عملية تفاعل المادتين … علّق عليه احد التلاميذ (المعلول) والذي لم يكن معلولا في ضماره على عكس البعض الذي يولد معلولا وينتهي معلولا …. علّق سي المعلول على تفاعل اللعاب مع الاكل بقوله ..سي التوفيق اذا كان الآكل امرأة ما نجموش نقولو لعاب ..سي التوفيق المهفّ فهم مقصده ولكنّه استعبط و ردّ عليه: .اش نقولولو يا معلول ..؟؟ فاجاب ابن الآداب الذي لم يكمل دراسته في الاداب بل اصبح اطارا عاليا في الداخلية وللمعلولين فيما يختارون مذاهب (واحد في الداخلية والاخر في الاهلي وآخرون لم يعرفوا يوما ولن يعرفوا مذاهب في حياتهم) ..اجاب معلول السادسة آداب: نسمّيه رضابا سي التوفيق… انفجر القسم ضحكا وضجيجا ..وابتسم سي التوفيق وقال: صحيتك يا بليد عاملّي فيها ضامر .؟؟ وواصل زميلنا المعلول بلادته السمحة وردّ: علاش سي التوفيق ما عجبتكش ..؟؟؟ ضحك سي التوفيق وردّ: .كيف وجهك ..ولم يكتف معلولنا بمشاكسته واضاف: “سافا” …معناها سمحة ، وبابتسامة رضاء على ضمارو ..ختم سي التوفيق الاستراحة بـ”نرجعو نقراو” ..وعدنا الى درس الهضم الاصطناعي ..
هذه التفاصيل التي سردتها هي بالنسبة لي مدخل لعلاقة تلاميذ الباكالوريا انذاك مع اساتذتهم ..كنّا فعلا اصدقاء وجدّا و لكن كنّا منضبطين وجدّا ايضا … فمع الاستاذ محمد صالح الهرماسي وهو اكثر الاساتذة المؤثرين ايديولوجيا على تلك المشتلة من التلاميذ .. هو مشرقي التكوين كفء وبدرجة مبهرة …لم يستعمل يوما مذكّرات ليعود اليها …يساري المنحى .. كنا في حصص التاريخ والجغرافيا كتلاميذ الكتّاب ..تركيز كلّي ..صمت مطبق ..ومتعة ونحن نستمتع بكل ما يقدّمه لنا ..هذا داخل القسم …خارجه كان صديقا للعديد وبكل تفاصيل الصداقة ..هو يحتسي مع البعض منّا ما لذ وطاب وانعش من بنات واخوات وامهات العنبة ..وهو لا يجد احراجا في طلب “سجيرة” كما ينطقها هو عندما لا يجد في جرابه سيجارة واحدة، خاصة في اخر الشهر … وهو مغرم لحد النخاع الشوكي والبصلة الشوكية والمخيّخ بالسيدة ام كلثوم ..وكنت انا مدير اعماله والاصح خادم اعماله في دنيا الست ….كان يطلب منّي ان اقدّم له كلمات الست في اغنيتها الجديدة وهي تقدّم حفلتها الشهرية .. وانا الذي لم افلت ايّة حفلة كلثومية ..وذلك المصري المغرم الولهان ينبعث صوته الشهي من حشاشة اوردته الدموية بعد كل مقطع °(عظمة على عظمة على عظمة )…
اتذكّر جيدا ان آخر اغنية دوّنت كلماتها لاستاذي الهرماسي كانت اقبل الليل … لاحمد رامي كلمة ورياض السنباطي لحنا .. اقبل الليل وناداني حنيني يا حبيبي … عندما قرأها استاذي الهرماسي .. ووصل الى “يا بعيد الدار عن عيني ومن قلبي قريبا ..كم اناديك باشواقي ولا القى مجيبا” ..نظر اليّ وقال: اشنوة تحبّني نسكر على الصباح ..؟؟ وواصل التهام رائعة الست حتى قرأ خاتمتها “يا هدى الحيران في ليل الضنى ..قد غدوت الان ادري من انا ..كنت وحدي بين اوهامي واطياف المنى .. والتقينا فبدا لي يا حبيبي من انا اين انا” …اغمض استاذي عينيه وقال: اطلع بسجيرة عاد .. توة هاذا فن واللي يخرج من حنفية الزبلة فن ..؟؟ …يلعن بو التاسيلة متاع جد بوهم الكلب … وهو يقصد اشباه الفناين التونسين متاع صرّافة على صرّافة ..والاكيد ان الله احبّه لانه ومنذ بداية السبعينات غادر تونس باعتبار انتمائه لحزب البعث واستقر بسوريا كواحد من اكبر المستشارين السياسين للنظام السوري منذ حافظ حتى يشار الاسد ..تصوروا فقط انه يشنف اذنه في هذا الزمن الرديء ب”طق اشترق طق” او “انا موش مريڨل وانت موش مريڨلة” .. ويجعلهم لا يتريڨلو …مستويات ..على طريقة لاباس …
الحي في تلك السنة شهد حدثا مشهودا ..ويا له من حدث ..لأول مرة في تاريخه يشهد معهد الحي اختلاطه بالفتيات (واحنا صغيّرين وما نعرفش الحاجات دي يا بيه) والافدح انهن من فصيلة صنف الاداب ..والافدح الافدح انهن في فصل اداب لا انتمي اليه ..شفتو الظلم ..؟؟ كانت ساعة الرياضة يوم يكنّ فيها تلميذات الاداب واللواتي هن هسكات .. قالب ..ممتلئات جمالا واغراء … باستثناء واحدة كانت تُلقّب بحاملة مفاتيح “بورت كليه” نظرا إلى قصرها .. اما الافدح الافدح الافدح ..فانهن كنّ يمارسن رياضتهن بشورت …افضل واحد فيه لا ينزل عن نصف الفخذين …لم اقل نصف الساقين ..يا بشر يا عالم يا هو ..نصف الفخذين ..في حقبة كانت العلاقات المعلنة بين الفتى والفتاة تعني فضيحة ..في زمن كان الشبان والشابات في صفاقس يلتقون في المائة متر الرابطة بين باب الديوان والبلدية الكبرى …يتمشون ذهابا وايابا كل عشية احد عشرات الكيلومترات ..بعيدا عن الكوْبَلة (من كوبل) نعم يستحيل ان تجد شابا مع صديقته او زميلته او حبيبته ..ممنوع …. تصوّروا فقط عشيّة كاملة ولا شيء الا نظرات متبادلة ..اي وبايجاز “تشلهيڨ في تشهليڨ” …
سنة الباكالوريا انذاك عُرفت بدسامة وامتاع البرامج الدراسية فيها ..بدءا بالفلسفة والتي لم تكن تروق لي بتاتا نظرا إلى ان استاذها كان في اسلوبه “مدّب” … وللتدخّل او الاستفسار يُحتّم على كل تلميذ منّا ان يرفع يده ويقول للاستاذ (علي المقدّميني سامحه الله): سيدي ..والا لن يتمكّن من قول ما يريد ..تصوروا استاذ فلسفة في سنة الباكالوريا يكون بيداغوجيا بهذا الشكل ..كان بالنسبة لي يمكن ان يكون كل ّ شيء الا استاذ فلسفة ..ولهذا السبب لم اسمح لنفسي اطلاقا طيلة تلك السنة بطرح اي سؤال او اي استفسار رفضا منّي لكلمة “سيدي” كما يحبّها هو ويفرضها علينا ..رغم ان قناعتي الداخلية ودون اي جدال ما زلت اؤمن بأن المربّي منذ الروضة وحتى التعليم العالي يستحق افضل من كلمة سيدي ….
ولاعود لتلك السنة يكفي ان اذكر ان برنامج العربية كان ممتعا جدا ففيه المتنبي وما ادراك وفيه الشعر الحديث وادباء المهجر وفيه ايضا الشعر المعاصر … اما عن التاريخ فهو يشمل الحربين العالمية الاولى والثانية والثورة الفرنسية قبلهما والثورة البلشفية… وطبعا تاريخ الحركة التوسية للتخلص من الاستعمار وانذاك كنا نمر عليها مرور الكرام ولا نعيرها كثيرا من الاهمية (زعمة زعمة مڨوّشين) ..في الجغرافيا كانت المحاور على المستوى المعرفي هامة جدا… تصوروا فقط اننا كنا ندرس القوى الكبرى في العالم اقتصاديا من المارد الالماني العجيب الى انكلترا وفرنسا واليابان الى القارة اللقيطة امريكا كما يسميها سي الهرماسي… دون نسيان الاتحاد السوفياتي والسوفخوزات والكولخوزات وهو النظام التعاضدي انذاك في ثاني اكبر قطب عالمي مع الولايات المتحدة الامريكية …وحتى المواد الاخرى من علوم طبيعية وفيزياء وكيمياء وانكليزية كانت هامة جدا ..لن اعلّق على الرياضيّات واللغة الفرنسية (صاحبكم حويلة فيهم .. كعبة لا)…
في حياتي خارج معهد الحي ,,اصبحت الاكثر دلالا واحتراما وتبجيلا بين اصدقائي ربما لان صورتي كمعلّم لم تمّح في اذهانهم ..اما عن علاقتي بحبيبتي فكانت كعادتها منحصرة في الرسائل التي تُطل احيانا حسب ظروفها… والتي عبّرت في بدايتها عن سعادتها وعبد الكريم يعود الى مصاف العلم والمعرفة وينال شهادته التي ستؤهّله حتما الى غد افضل .. حتى كان جوان ونحن نستعد لخوض امتحان الباكالوريا و صهر صديق عمري رضا يخصص لنا منزله لنستعمره ليلا نهارا ونحن رباعي يراجع ويذاكر استعدادا للامتحان ..صهر صديق العمر (عبدالحفيظ قطاطة رحمه الله) لا علاقة قرابة لي به الا انه كان يحبّني بشكل كبير ..هو كان مختلفا عن الاخرين… هو مربّ فاضل يعشق عبدالناصر وفريد الاطرش وسكك الحديد الصفاقسي . ويعشق فيّ عنصر التحدّي والصراحة والجرأة ولكن ما يغيظه في شخصيتي اني “دمي بارد” _…ي لا اغضب بسرعة ولا ارد الفعل بسرعة .. على عكسه هو تماما ..وكان يقول لي دوما: من ايّ طينة انت اتخلقت .؟؟ ولأن علاقته بصديق عمري وبي متميّزة، اقصى زوجته واطفاله من منزله ليسكنوا في دار صهره ومكننا من ماٌقامة عنده على امتداد نصف شهر للمذاكرة ..كنا اربعة انا ورضا واخوه عبدالحميد ورابعنا صديق نلقّبه الناموسة ..لانه في لعبه كرويا كان يلدغ كالناموسة… الم يُلقّب شكري الطرابلسي بالوشواشة ..؟؟… واذ انسى فلن انسى يوما عندما هبّ الذباب بهجمة صيفيّة مريعة على مجموعتنا فما كان من عبدالحميد الا ان حمل قارورة الفلي توكس (البخاخة) ورشها على بدنه ..ولولا الطاف الله والعجلة بأخذ حمام، لـ “مشى فيها”…
اثناء المراجعة وصلتني رسالة من حبيبتي في خبر عاجل: (اجري لي يا عبدالكريم ..جا اشكون يخطب فيّ ..يلزمك تلقى حل ..انا ليك انتي اوكي اما اش ماشي نقول لدارنا ؟؟) … واتضرب سي عبدالكريم وما جاش يدور …جاء واقف على ساقيه والاصح قام يجري ساقو اعلى من راسو ..والجماعة مفجوعين .نظر ثلاثي المراجعة الى وجهي ولست ادري انذاك كان مصفرا او محمرا او بالألوان ..ونزلت اسئلتهم من كل حدب وصوب على “قنباعة” راسي: اشبيك .؟؟ اش ثمة ؟؟ لاباس؟؟ … همست في اذن صديق عمري: توة يلزمني نمشي نصف ساعة وانجيك وتوة بعد نحكيلك …وسرت وحدي شريدا ..محطّم الخطوات ..تهزّني انفاسي .. تخيفني لفتاتي .. كهارب ليس يدري من اين او اين يمضي ..شك ضباب حطام .. يعضي يمزّق بعضي يمزّق بعضي ….
على عكس حليّم كنت ادري تماما واعرف تماما وادرك تماما الى اين امضي …
ـ يتبع ـ
تصفح أيضا
عبد الكريم قطاطة:
الاشهر الثلاثة الاخيرة من سنة 1982 شهدت اوّل منعرج في حياتي الاذاعية… في البداية كانت هنالك نقاط ضبابية جدا في التعامل مع المدير بالنيابة المرحوم محمد الفراتي…
احسست بجفاف وبرودة من جانبه على امتداد مدّة لا بأس بها … كنت اظنّ انّ تحوّله من رئاسة مصلحة الاخبار الى مدير بالنيابة، جعله يلبس كسوة الطاووس المزهوّ بالثوب الاداري الجديد خاصّة وهو من الصنف الذي يصعب عليك فكّ شفرات نظراته… اذ قد يبدو سعيدا وهو غير ذلك تماما والعكس صحيح ايضا… وحتى في بعض المناسبات النادرة جدا التي دعاني فيها الى مكتبه كنت افاجأ بحواره معي في شؤونه الخاصّة والتي لا تمت لا للعمل بأية صلة… اذ كان يسألني احيانا عن حيرته في نوعية الغداء التي تؤرّق مضجعه واخرج بيد فارغة واخرى كلّها دهشة…
وللامانة كلّ هذا لا يُنقص من قيمته في شيء كواحد من افضل صحفيي اذاعة صفاقس في فترته …الاّ انّ بعض تصرّفاته كانت تبعث على القلق …ثمّ تجمّدت العلاقة معه بشكل مباشر لتُصبح بالمكاتيب… اتذكّر مرّة انّه سالني بالهاتف عن محتوى حصّتي القادمة من برنامج “كوكتيل” وهو ما لم يحدث اطلاقا مع سلفه المرحوم قاسم المسدّي… وطلب منّي ان يكون الردّ كتابيّا فكتبت له الاتي (وكل الوثائق التي ساعرضها عليكم مازلت احتفظ بنسخ منها)، كتبت له: الموضوع الرئيسي المقترح للحصّة المقبلة سيكون محوره النقل العمومي ومشاكله والهدف منه الاستماع لمشاغل الناس في هذا القطاع الحيوي، واذكّرك انّنا في وسيلتنا الاعلامية اذاعة صفاقس من واجبنا ان نستمع للمواطن ونقول للمحسن احسنت وللمسيء اسأت، واذا يُعاب علينا ان نكون كذلك فذلك شرف لنا، وليعلم كل واحد منّا انّ مسؤوليتنا تاريخية قبل ان تكون وظيفيّة اداريّة ..
كنت مدركا خاصّة بالجملة الاخيرة الواردة في مكتوبي انّي اشير اليه مباشرة بخطابي حتى اوقظ فيه جانب الصحفي المسؤول لا المدير بالنيابة على مقعده الوثير …ولكن يبدو انّ ذلك المقعد الوثير مغر… منذ فتنة عثمان رضي الله عنه هو مغر …ولو ادّى بقاتل أحد المُبشّرين بالجنّة إلى غرس خنجره فيه وهو يصيح (الله اكبر) …وكأنه قتل عدوّ الله … تماما كما يفعل منذ تلك الحادثة كلّ من يتصوّر انّه المهدي المنتظر في زمننا هذا .. رحم الله الامام محمد الغزالي الفقيه المصري في العصر الحديث الذي دعا دعاءه الشهير (اللهم ابعد اهل السياسة عن الدين وابعد اهل الدين عن السياسة) ….
بعد تلك الارساليات فوجئت يوما بنصف ورقة ارسلها اليّ المرحوم الفراتي يقول لي باحرف مبعثرة تشبه جدا روشتة الطبيب في طلاسمها والتي لم استطع فكّ رموزها الاّ بعد الاستعانة بصديق زميل يفهم في الطلاسم… ومفادها هنالك مستمعة اسمها كذا اشتكتك اليّ حيث انّك اهملت رسالتها ولم تردّ عليها … ضحكت صدقا حتى استلقيت على ظهري (ما هذه استلقيت على ظهري ؟؟… هكذا يقولون في القصص عن الامراء والملوك وابو دلامة او جحا يقصّ عليهم النوادر… وهنا لم افهم تماما اللوحة اذ كيف لملك جالس في مجلسه ان يستلقي على ظهره …؟؟ انا ادرك جيدا انّ لهؤلاء بيوت نوم فاخرة متعددة الصفات والمحتويات من القينات والغلمان … ولكن هل وقتها كان الملك (يعمل شاطح باطح) في بيت نومه وبالتحديد على سريره وعمّك جحا يروي نكته وهو راكش يبلع في ريقو .. يغزر وكل شيء فيه حي موش كان عينو حيّة … ساترك الامر للوافدين الجدد على المشهد الاعلامي جماعة شمس الشموسي يتدارسون الامر لأني اقّر بأنهم اكثر اختصاصا وكفاءة منّي .. والله لا يحضّرنا محاضر سوء) ..
اذن تلقّيت الرسالة وكان ردّي في منتهى السخرية… اجبته قائلا: “اوّلا انا لا اعرف هذه المستمعة بتاتا ثمّ وهو الاهم، الكوكتيل ليست له سلّة مهملات” .. اجابني: “انا لم اتحدث عن سلة مهملات تحدثت عن اهمالك لرسالة الصديقة” …شوفو هاكي القضية النووية اللي يحكي عليها مدير مع منتج ؟؟؟ .. ولأنني كنت ومازلت من قبيلة (وإذا عدتم عدنا) كتبت له: “بما انّ البرنامج ليست له سلّة مهملات فضمنيّا ليس هنالك اهمال لأية رسالة “… لم يردّ ولكن بدأت مجموعة من الشكوك تخامرني …اشبيه سي الفراتي هذا …؟؟ يخخي ما رقدش بلقدا قام يتوحّم عليّ؟؟ … للتوضيح انا احكي عمّا وقع في تلك الفترة دون رتوش وللتوثيق فقط لأننا وستكتشفون ذلك علاقتنا انتهت بكثير من الاحترام والتقدير الصادقين …
لم افهم وقتها بالضبط ما يُحاك لي في الخفاء …بل لم اتوقّعه بتاتا …الا انني فوجئت يوم 8 اكتوبر وانا ادخل للاستوديو بالفنّي يقول لي السيّد محمد الفراتي قرّر ايقاف الكوكتيل …حاف … قطّبت حاجبيّ للتعبير عن استغرابي العميق … وسألت الزميل الفنّي … اشنوّة ..؟؟؟ علاش ..؟؟؟ هزّ زميلي كتفيه وقال: ما نعرفش ما عندي حتّى معلومة قالولي قلتلك… خرجت من الاستوديو واتجهت الى مكتب المدير بالنيابة …طلبت من السكرتيرة الزميلة سامية ان تعلم السيد الفراتي بوجودي في مكتبه طالبا مقابلته …كلّمته في الامر ثم اغلقت الهاتف لتبلّغني الآتي: قللك ما انجمش نقابلك عندو ما يعمل …
عندها برز عبدالكريم الخايب للوجود … فتحت بابه دون استئذان ودخلت عليه كان يشرب كأس عصير ويغمس فيه “ڨرن” من البشكوتو… سلّمت عليه بكل هدوء واخبرته بما اخبروني به حول ايقاف الكوكتيل …وسألت: انجم نعرف الاسباب ؟؟… لم يأبه بسؤالي وقال: “انا ما آذنتلكش بالدخول وهذا يتسمّى اقتحام مكتب موظّف اثناء القيام بعمله” … اتّك اتّك شوف هاكي التهمة الخطيرة …نظرت اليه وقلت لشنوة تغطيس الڨرن في الكاس وطرف ما يلحق طرف، من الاعمال الجليلة عندك ..؟؟؟ اجاب من فضلك احترم غيرك … علا صوتي في تلك اللحظة وقلت آمرا ايّاه باصبعي على فمي بما معناه اسكت واستمع اليّ .. نظرت اليه بكل سخرية واستهتار وقلت .ذلك الكرسيّ الذي جلست عليه غرّك كثيرا وتوهّمت نفسك “مدير بالحق” ..ولكن خذه وعدا وعهدا عليّ ستغادر وقريبا ذلك الكرسيّ وساعود الى مصدحي رغم انفك …
لم ينبس ببنت شفة ولا حتّى بربيبتها … وغادرت المكتب والاذاعة الى لست ادري …سرت وحدي شريدا محطّم الخطوات، تهزّني انفاسي تخيفني لفتاتي، بعضي يمزّق بعضي، لست ادري الى اين ..طفت ربما يومها كلّ شوارع صفاقس وكل طرقها وثناياها وكانت عائلتي وكرامة التي لم يتجاوز عمرها بعض الاشهر هي ملاذي … اخبرتهم بالامر ولم اجد منهم جميعا الاّ الدعم غير المشروط وكلّ على طريقته وباسلوبه …
في الغد اتجهت الى الاذاعة لاجد استجوابا اداريا رسميا مرقونا في انتظاري وهذا محتواه (السيد عبدالكريم قطاطة لفت نظري في المدّة الاخيرة انحراف برنامجك “كوكتيل من البريد الى الاثير” عن طابعه التنشيطي التثقيفي الترفيهي وخروجه عنه بتحاليل قضايا سياسية من وجهة نظر تخالف اتجاه البرمجة وسياسة الحكومة، مثل طرق موضوع حول اليهود وفيه اثارة للمشاعر وبث التباغض بين الاجناس، كذلك مثل تعليق على مقابلة رئيستي بريطانيا والهند باسلوب ساخر قدّمت فيه احكاما جملية تقييمية عن سياسات دول العالم الثالث… الامضاء محمد الفراتي مدير اذاعة صفاقس) … يا بوقلب حب يلبّسهالي ولا تقرا لا تكتب هذا اولا، ثم هو مدير بالنيابة اعطاوه الكريّع مدّ ايدو للجديّق ! …
دعوني افسّر لكم ماذا حدث بالضبط في الموضوعين المشار اليهما… اولا بالنسبة لموضوع اليهود قرأت دراسة علمية لتاريخ اليهود منذ القدم دون ايّ تعليق منّي… امّا الموضوع الثاني فقلت فيه استقبلت السيدة انديرا غاندي السيدة مارغريت تاتشر واقامت على شرفها مادبة عشاء… وعلّقت بقولي زعمة مأدبات العشاء والغداء في البلدان الفقيرة موش لو كان وكّلو بيها شعوبهم خير ..؟؟؟… انا واع جدا بأن طرحي ليس بريئا بالمرّة ولكن هذا كان يحدث بشكل دائم في البرنامج مع سلفه المرحوم قاسم المسدّي فما الذي تغيّر ؟؟؟ هل الفراتي اكثر حرصا وكفاءة من سلفه ..يستحيل … خاصّة والمعروف عن المسدّي انّه واحد من جنود النظام وبكل حماسة ..الامر اذن فيه الف واو ..
في نفس اللحظة التي انتهيت فيها من قراءة الاستجواب كتبت له الرد: سيدي (حاف لا اسم ولا صفة ولا مندوب) تحية وبعد (حتى هذي شايحة كما ترون) ردا على ماجاء في مكتوبكم هذا، اعلمكم بأني غير مقتنع بتعليقكم على الموضوعين المشار اليهما حيث انّي اعتبر نفسي المتحدّث عن مشاغل تهم المواطن التونسي بموضوعية تاريخية وعلمية ولا تقبل مجالا للقدح وليس من شانها ان تثير الشغب، حيث يعلم المستمع موقف البرنامج من اليهود ومن الصهيونية… الا انّي اؤكّد لكم انكم ترقبتم الفرصة لإبعادي عن الميكروفون بعد نوايا مبيّتة وهذا من شأنه ان يضرّ بمؤسستنا الاعلامية ويخلق فيها تكتّلات واحلافا كنتم فيها المسؤول بدرجة كبرى… اؤكّد لكم ان كلّ حيثيات وجزئيات ما قمتم به لحدّ الان في هذا المضمار ساُطلع عليها وزير الاعلام والمدير العام لمؤسسة الاذاعة والتلفزة التونسية والرأي العام في رسالة مفتوحة ستُنشر على احدى صفحات الجرائد… وانّني ادين هذا التصرّف من جانبكم الذي اعتبره لامسؤولا من جهة، وتعسفا على حقوق آلاف المستمعين وسيرا ضدّ مسار الجماهير العريضة لهذا البرنامج … للحوار بقية …الإمضاء: عبدالكريم قطاطة …
ذلك كان محتوى الردّ على استجواب محمد الفراتي رحمه الله وغفر له بعد ان غفرت له يوما مّا كل الذي حدث وبشهادة السيد محمد عبدالكافي مدير اذاعة صفاقس… ففي 1987 هذا الاخير دعاني يوما الى مكتبه وقال لي السيد محمد الفراتي يريد ان يجلس اليك ويعتذر لك عما حدث سنة 82… انا من طبعي لم ارفض يوما ايّة يد تمتدّ لي للاعتذار كما لم ولن اتأخر يوما عن تقديم ايّ اعتذار متى اخطأت… لذلك قبلت الطلب وجلس ثلاثتنا… كان المرحوم محمد الفراتي اوّل من تكلّم: شوف خويا عبدالكريم اوّلا انت اذاعي من الطراز الممتاز ومكانك ليس في اذاعة تونسية فحسب بل في ايّة اذاعة عالمية … ثانيا انا جئت الان لاعتذر لك عما صدر منّي…دارو بيّ اولاد الحلال الله لا يسامحهم… وها انا امدّ يدي لاصافحك بكل صدق وارجو ان تغفر لي ماحدث …
نهضت من مقعدي وذهبت اليه عانقته وقبّلته وقلت له اطو الصفحة ليس لي ايّة صغينة احملها تجاهك … وكأنّ القدر كان يناديه …اذ انّه بعد اسبوع من تلك المقابلة تعرّض صحبة الزميل علي الجرّاية الى حادث مرور قاتل رحمهما الله …. نم يا زميلي محمد انا مسامحك دنيا وآخرة …
ـ يتبع ـ
عبد القادر المقري:
لطالما كان محصول أبطالنا من ذوي الهمم، في الألعاب الأولمبية وبطولات العالم إلخ، أكبر عددا وعدّة مما جلبه إلينا رياضيونا الأسوياء رغم قيمة ما فعله بعض هؤلاء…
وهنا يتبادر إلى الذهن أن ذلك قد يفسّر ببعض السهولة في أولمبياد ذوي الاحتياجات الخاصة قياسا إلى الأولمبياد الآخر… ظننّا ذلك وكان الظن إثما، نعم … فألعاب ذوي الإعاقة لم تعد (بل لم تكن يوما) تجمّعا خيريا أو تسلية يوصي بها المرشد الاجتماعي للإحاطة النفسية … أبدا… بل هي مسابقات صارمة القوانين عالية الكفاءة تعتصر من المتسابق آخر رمق من موهبته وجهده وإرادة النصر التي يعمر بها قلبه… زائد فوق ذلك التكوين والإعداد والمعسكرات (كم أكره كلمة “تربصات” الرائجة عندنا بوقاحة) … هم هناك محترفون بأتم معنى الكلمة ويخضعون لتراتيب لا ترحم ولا محاباة فيها ولا صدقة جارية… حديد في حديد يعني، فلنكفّ عن استصغار ما هو كبير وجليل…
ولعمري فإن هذا يجعلنا ننظر بعين مقدّرة إلى إنجازات روعة التليلي ووليد كتيلة وقد أصبح الاثنان بعدُ من أساطيرنا ومن مراجع الرياضة العالمية … ويضاف إليهما شباب آخرون رفعوا رقابنا ورايتنا ونشيدنا كالتيساوي وبوكحيلي وأعتذر لمن لم يحضر الآن على طرف لساني… ننظر بعين الإكبار ونضع تلك الأسماء في مدار أعلام تونس ومفاخرها عبر الدهور… وكنت دائما أضع القمودي والشتالي جنبا إلى جنب مع ابن خلدون وابن منظور والشابي والمعزّ والجنرال حنبعل … وصار حتما علينا أن نضيف للائحة الشرف واحدة كابنة قفصة، هذه الروعة القصيرة جسدا واللامتناهية قيمة وهمّة ومجد ملكات…
بقي في القلب شيء من حتى… من المفروض ونحن من سنوات طويلة نرى رياضيينا البارالمبيين يكتسحون الدنيا بالقليل القليل الذي أخذوه… من المفروض أن ذلك فرصة لنا لكي نراجع سياساتنا سواء في العناية بهذا الصنف من الرياضة والرياضيين، أو بوضعية المعاقين في بلادنا بصورة هامة… لا منّة منا ولا شفقة، بل واجب دستوري لا نستحق دونه لقب دولة… صراحة… في هؤلاء ثروات تهزأ ببترول وغاز وأية سخطة يتعلل بها أي مسؤول ليبرر فقرنا وعجزنا وانبطاحنا “الاضطراري” لصندوق النكد الدولي والاتحاد الأوروبي، وهذه الطليانة التي تهدّ علينا بين الفينة الأخرى لتتفقّد مدى إجادتنا لدور عسّاس الحدود البحرية لبلادها…
معاقونا (وأسمح لنفسي باستعمال المصطلح الحقيقي حتى يأتي ما يخالف) معاقونا، أثبتوا دائما أنهم كنوز حية تكفيها نصف فرصة لصنع العجب… لا في الرياضة فحسب… بل في الإمكان أن يطلع منهم “هاوكينغ” تونسي، وطه حسين تونسي، و”بيرل باك” تونسية و”تولوز لوتريك” تونسي إلى آخر القائمة… شرط أن نعطيهم حقهم كبشر وأن نهيّء مؤسساتنا وفضاءنا العام لكي يكون لهم محضنا وحقلا خصبا وحافزا للطاقة…
نفعل ذلك بوعي وصدق وعمل لا يتوقف على مناسبات… لا أن نتذكرهم مرة كل نصف قرن بحميّة مباغتة أقرب إلى البروباغندا أو الموضة الزائلة بعد يومين اثنين… فنصدر كما فعلنا ذات تسعينات منشورا يأمر الإدارات بتخصيص مدرج خاص بالكراسي المتحركة… عاجلا وكما اتفق… فإذا بجميعها تسارع باستدعاء أقرب “بنّاي” وتطلب منه إنجاز مزلق بالإسمنت فوق الدروج الموجودة أو بجانبها أو بأي مكان… المهم تطبيق المنشور إرضاء لسلطة لا يهمها شيء… وقد أعطى ذلك في بعض الأحيان أشكالا سريالية أو زوايا حادة إلى درجة أنه لو استعملها معاق على كرسي، لتطلّب منه ذلك حبالا للتسلق صعودا، أو لانطلقت عجلاته كالسهم إلى عرض الطريق وهو نازل…
عبد الكريم قطاطة:
حياتنا عادة ما تكون اشبه بدرس من دروس الجغرافيا… الم نقرأ في ما قرأنا عن التضاريس والتلال …؟؟؟… الم نقرأ عن السهول والمروج ..؟؟؟ الم نقرأ عن الامطار الاستوائية وعن الجفاف ..؟؟؟ الم نقرأ عن الزلازل والفيضانات ؟؟؟ اليست هذه هي مواصفات حياتنا ؟؟؟
ولعلّ السمة البارزة التي طبعت حياتي منذ خُلقت ـ والحمد للكريم في ذلك ـ انني عشت الجغرافيا بكلّ طقوسها واحوالها … اذ كانت تترواج بين المدّ والجزر فأنا عشت الفقر والجوع وعشت ايضا كسب التحدّيات …كلّ ما درسته سواء في المدرسة والمعهد او في مدرسة الحياة جعلني انتمي الى عشيرة نيتشة الذي يرى انّ الحياة ارادة …اُعيد القول انّ العنصر الايماني انذاك كان شبه مفقود …الاّ ان داخلي كان ممتلئا بعزيمة لا تُقهر وبالرضى بالاقدار المؤلمة تلك التي لا حول لي فيها ولاقوّة …
ففي عامي الاوّل بعد الزواج رزقني الله بتوأم (ايمن وايمان) في الشهر السابع من الحمل …الا انهما كانا غير مكتملي التكوين وزنا (كلغ واحد وبعض الغرامات) مما جعلهما غير قادرين على مقاومة الصراع مع الحياة … ايمان انتقلت الى جوار ربّها بعد 48 ساعة من ولادتها وايمن بعد نصف شهر … كان الطبيب انذاك يهمس لي لا تحزن …عند الله افضل …لانهما كانا مهددين بالاعاقة الحتمية اذا استمرّا في الحياة… وبقدر شوقي كي اكون ابا بقدر عجبي من نفسي وانا اقبل القدر بكل راحة بال ورضى …عندما التفت الان الى جويلية 1981 شهر انجابهما وارى التوائم الان اغبط والديهما على مثل تلك النعمة الكبرى …ياااااااااااه ما اعظم ان يكون للواحد منّا توائم وما اسعد من منّ الله عليه بهم … واذكّر فقط بأني وُلدت مع توأم (بنت) لم يُكتب لها النور اذ وُلدت ميتة …
ما اردت قوله وانا في الثلاثين من عمري ان تجاربي فيما عشته جعلت منّي ذلك الذي لا يسقط بسهولة امام نوائب وصروف الدهر … ولعلّ مازاد في صلابة مواقفي وعنادي وصحّة راسي النجاح المهني الذي حققته منذ اوّل يوم باشرت فيه العمل بالاذاعة والتلفزة التونسية (1972) كمركّب افلام، الى اخر يوم من خروجي من هذه المؤسسة بعد انسحابي النهائي سنة 2012 كمنشّط عندما ادركت انّي اصبحت عبئا على بعض المناوئين والذين عملوا وبكل الاساليب الرخيصة كي يعبثوا بكرامتي ويكون طردي على ايديهم كما خططوا لذلك … ولكن عزّة نفسي ابت الا ان تكون حاضرة لحرمانهم من هذه الامنية الغادرة فانسحبت وانسحبت معي ابتسام … وها انا اعيد القول: انا مسامحهم دنيا وآخرة، لسببين اوّلهما ومهما كان الذي حدث انا لن اسمح لنفسي بحمل ايّة ضغينة تجاه ايّ كان ..ثمّ لانّي ادركت ودون رجعة ان اذاعة صفاقس مُقبلة على مرحلة مؤلمة للغاية بعد 14 جانفي… مرحلة تعملق التافهين وعنتريتهم… مرحلة يصول فيها ويجول الفارغون والصراصير _ مع احترامي الشديد للعديد من الزملاء الصادقين الطيبين والذين يقولون سرّا ما اقوله الان جهرا …وحتما ستكون لي عودة لكلّ التفاصيل في ورقات قادمة حتّى يعلم الجميع ما حدث …
مضت السنة الاولى من الكوكتيل في وهج جماهيري غير متوقّع… صمتت الادارة العامة عنّي ولم تعد ولو مرّة واحدة لطلبها عودتي الى تونس العاصمة وكأنها قبلت بالامر بشكل نهائي … وبدأت الجرائد تتابع مسيرتي وتثمّن انجازات كوكتيل من البريد الى الاثير والذي استطاع ان يخلق مساحة اذاعية جديدة في المشهد الاذاعي التونسي… اذ تخلت الاذاعة الوطنية واذاعة المنستير عن برامج الاهداءات وقلّدت اذاعة صفاقس في برمجة الضحى… نعم وبكل صدق كان للكوكتيل دور كبير في خلق مساحة اذاعية اسمها منوعة الضحى في الاذاعات الثلاث ..هذه الفترة التي كانت شبه ميّتة اصبح العديدون ولحد هذا اليوم يتكالبون عليها ويعتبرون أنفسهم مظلومين اذا لم ينالوا نصيبهم منها مرّة في الاسبوع ..
ومما يُحكى عن زميلي محمد عبد الكافي والذي كان يشغل وقتها مديرا لاذاعة المنستير انّه كان يجتمع اسبوعيّا مع المنشطين ويحثهم وبشدّة وبغضب احيانا على ان يقتدوا بما فعله عبدالكريم باذاعة صفاقس في فترة الضحى … بعبارة اخرى _ كان يقطّع شعرو ويقللهم اش عندو زايد عبدالكريم هذا متاع وذني باش ما تعملوش كيفو _ رغم انّ عبارة (يقطّع شعرو) لا تصحّ عليه نظرا لقلّة الانتاج في شعر رأسه …في الاذاعة الوطنية كان نجيب الخطاب وصالح جغام رحمة الله عليهما هما المتصدران للمشهد الاذاعي كنجمين من الطراز العالي … في اذاعة المنستير كان هنالك العديد من الاسماء علياء رحيم حبيب جغام رابح الفجاري فتحية جلاد السيدة العبيدي و نجاة الغرياني وشادية جعيدان رحمهما الله وغيرهم الذين يتداولون يوميا على مصدح منوعة الضحى… وكانت علياء اقربهم الى قلبي هي امرأة متمردة عصامية وتحمل نفسا مغايرا وهذا ما اعشقه في الفرد عموما … ولذلك هي ايضا عانت كثيرا ولكنها لم تنثن …لانّها شامخة واصيلة … كنت كذلك اتنبأ بمستقبل واعد لمنشطة مبتدئة انذاك (الفة العلاني) طالبة حقوق وقتها ومتعاونة … وكم كانت حسرتي شديدة عليها عندما غادرت هذا الميدان لاسباب اجهلها تماما …
في اذاعة صفاقس ونظرا إلى عملي اليومي في الكوكتيل من العاشرة الى منتصف النهار كامل ايام الاسبوع انذاك، لم تُتح الفرصة لزملاء آخرين حتّى ينالوا حظّهم وتلك كانت من النقاط السلبية التي طبعت مسيرتي رغم انفي .. كان بامكان الادارة انذاك ان تفكّر في اخرين الا انّ منطق (لا نغيّر الفريق الرابح) وتشبّث ايّة ادارة بالربح الآني دون التفكير في المصلحة العليا للاذاعة، حال دونها ودون مجرّد التفكير في هذه النقطة… فالمسؤولون عموما وفي ايّ قطاع يفكرون في اليوم فقط .. اتذكّر جيدا احد المديرين في الاذاعة وانا اعرض عليه مقترح التفكير في غد اذاعة صفاقس كيف يجب ان نعتني به استشرافيا.. اجابني ربما دون وعي منه ولكن كانت الحقيقة (احييني اليوم واقتلني غدوة)… معنى ذلك وهو المعمول به لحد الان في جل القطاعات المهم تلميع صورة المسؤول وتلميع انجازاته في تلك المرحلة حتى ولو كانت من نوع الـ”ان بي كا”، سرطان الفوسفات في قلب مدينة صفاقس …او بورقيبة رئيسا مدى الحياة … وهذه لمعلوماتكم اوّل من صدح بها في احد مؤتمرات الحزب هو مدير من مديري اذاعة صفاقس…. فعلا شأنه هو ايضا مدى الحياة لحدود السابع من نوفمبر (بات ما صبح) اي دخل الثلاجة مدى الحياة …
في اذاعة صفاقس كانت هنالك اربعة اسماء تحتلّ مكانة جماهيرية… عبدالكريم ابتسام ابو سهيل وبدرجة اقل عبدالجبار العيادي ..الا انّ انتظام الكوكتيل يوميا في دورية البرمجة جعله الاكثر حضورا … ابتسام المكوّر كانت ومازالت من اقرب المنشطين اليّ … كنّا ومازلنا نحمل عديد الثوابت المشتركة وحتى العيوب المشتركة (ياما عملت فينا نرجسيتنا) وللحديث عودة … كلّ ذلك جعل بعض الزملاء غير مرتاحين لهذا الوافد الجديد على اذاعة صفاقس خاصة وهو لا يتردد لحظة واحدة في التعليق على اي حدث دون نفاق او قفافيز… كنت (فرشك نيو نيو من فرنسا) متشبعا بحرية التعبير دون خوف او وجل لذلك لم ار يوما ما اي حرج في ان ابدي رايي في كل ما يحدث داخل اذاعة صفاقس مهنيا او نقابيا او علاقاتيا ..
هذا قرّب اليّ العديد من الزملاء لكنّه في نفس الوقت جعل من القليل منهم في موقع احتراز اوّلا ثم في موضع قلق ثانيا واخيرا في حالة حرب ثالثا ..اذ كيف لهذا الوافد الجديد ان يلتفّ حوله من كانوا بالامس لا يثقون ولا ينصتون الا في زيد او عمرو …رغم انني كنت اؤكد دوما انّني في طموحاتي بعيد كل البعد عن منطق الزعامة لأي هيكل مسيّر في اذاعتنا …الا ان زيدا وعمروا وشلّتهم كانوا يرون في موقفي هذا (خطابا وقتيا) وهو للاستهلاك فقط … غير انّ التاريخ اثبت في ما بعد انّي كنت نزيها مع نفسي … وحتى اشرافي على اذاعة الشباب سنة 1988 واشرافي على مصلحة البرمجة باذاعة صفاقس ثم تكليفي بمصلحة الانتاج التلفزي بوحدة الانتاج التلفزي بعدها، انتفت فيه رغبتي تماما واقسم بكل المقدسات اني لم ارغب فيها ولم اعمل عليها بتاتا … وستاتيكم تفاصيل ما حدث في ورقات لاحقة … اذن انقسمت اذاعة صفاقس في علاقتي بالزملاء الى ثلاثة اصناف… صنف اوّل وهو متواجد في كل الازمنة حدّو حد روحو لا يهمّو لا خلات لا عمرت الخبز مخبوز والزيت في الكوز… صنف ثان رأى في عبدالكريم نفَسا جديدا بكلّ المقاييس واغلبهم من الفنيين والاداريين والموسيقيين… وصنف اخير يرون في عبدالكريم ذلك الذي يهددهم اما مهنيّا او في زعامتهم …
في اواخر السنة الثانية من وجودي باذاعة صفاقس حدثت اشياء كثيرة وهامة جدّا… في 21 جويلية 1982 رزقني الكريم باوّل مولودة لي (كرامة)… كانت سعادتي لا توصف … محيطات وسماوات سبع واراض سبع بحجم سعادتي جاءت ليلة عيد فطر فاحتفل العالم الاسلامي بقدومها وكأنه اراد ان يهمس لي بكل حب ما اسعدك بعيد الكرامة … ما اروع ذلك الاحساس .. كلّ ما اذكره والحال صيف اني اشتريت لكل العاملين ليلتها بالمصحة مثلجات … كنت كطائر السنونو الذي يحلّق وهو في مكانه من وجع السعادة اللذيذ… اسالكم بالله هل هناك سعادة في الدنيا تضاهي سعادة ان تكون ابا او امّا لأوّل مرّة ..؟؟؟ مع اعتذاري الذي لا حدود له للذي حُرم من هذه السعادة… كان عيدا ليس ككلّ الاعياد… عيد عاد بكل الوان قوس قزح الجميلة وبكل طعم السعادة السعيدة… ايه يا كرامة لو تدرين … ايه يا يوزرسيف لو تدري … ايه يا عالم لو تدري …
الحدث الثاني في بداية تلك السنة … 3 جانفي 82… وفاة الاخ العزيز جدا على قلبي الفنان الاول في تونس بالنسبة لي وبكلّ المقاييس، محمد الجموسي … مرضه في البداية لم نحسب له حساب الموت… كنت زرته وهو في مصحة التوفيق (السلامة حاليا) وكنت سجلت له حوارا تلفزيا قصيرا سائلا عن صحته… وما زلت اتذكّر وجهه الباسم وهو يردّ عليّ بخفّة روحه وانا اسأل عن حالته ليقول: {خويا عبدالكريم موش طلع عندي مقطع حجر في الكلاوي!}… كانت تلك اخر كلمات اسمعها منه… بعدها تدهورت حالته بشكل مفاجئ وتحوّل اثرها الى المستشفى الجامعي الحبيب بورقيبة ليشرف على علاجه “الدكتور الجدّ” واحد من ابرز الاسماء الذي مرّت على قسم الانعاش كفاءة وحضورا دائما به …
كنّا نزوره بشكل يومي وهو في غيبوبة تامة الى ان انتقل الى رحمة الكريم … كانت وفاته الما كبيرا لكل الناس لانّه كان حبيب كل الناس في اذاعة صفاقس… وهو من القلائل الذي كان حبيب الجميع لأنّه كان حبيب الفن من قمة راسه الى اخمص قدميه… ولانّه وكما غنّى (عمري للفن)…وحتى قصة تلك الفتاة التي تعرّف عليها في اواخر حياته ويبدو انه قرّر الاقتران بها، كان فيها الجموسي الفنان الانسان الرقيق الصادق الجميل … رحل الجموسي وكان حتما عليّ ان اُخلّد رحيله بحصّة خاصّة به… حصّة خلّفت مشاكل لي في ما بعد لأن البعض من ابناء الحلال لم استدعهم للادلاء بدلوهم في مسيرته… فاعتبروا ذلك جريمة في حقّهم وحين التآمر عليّ لابعادي من اذاعة صفاقس وجدوا الفرصة سانحة ليغرسوا انيابهم فيّ وبكل شراسة …ربّي يهديهم وانا مسامحهم …
لم تمض ايام على وفاة الكبير محمد الجموسي ودفنه بمقبرة الهادي شاكر بطريق تونس حتى دُفن بجانبه من قام بتأبينه …انّه محمد قاسم المسدّي مدير اذاعة صفاقس الذي تُوفّي في حادث مرور مع والي صفاقس ايضا في طريق عودتهما من تونس العاصمة بعد ان كانا في مهمّة … رحمهما العزيز الرحمان … اثر ذلك كان لابُدّ من مٌعوّض للمرحوم المسدّي في انتظار تعيين مدير جديد، فكلّفت الادارة العامة الزميل محمد الفراتي رحمة الله عليه رئيس مصلحة الاخبار انذاك باذاعة صفاقس بخطّة مدير بالنيابة على راس ادارتها لتسيير شؤونها اليومية اداريا …ومعه بدات اولى حلقات المعاناة …
واذا كان حليّم ونزار يقولان في “رسالة من تحت الماء” (لو أني اعرف خاتمتي ما كنت بدأت) فانا اقول: لو كنت اعرف خاتمتي لكنت بدأت وبدأت واعدت… الم اقل لكم ان الحياة علمتني فيما علمتني ان الواحد منّا دون معاناة والم هي حياة فاقدة للنكهة ؟ ما معنى ان لا نسير حفاة على الرمل حتى نقبّل ولو بارجلنا اصلنا ..؟؟؟ السنا من تراب ؟؟؟ ما معنى ان نتبرجز في كل طقوس حياتنا …؟؟؟ كيف نحسّ انذاك بالفقير ؟؟ باليتيم ؟؟ بالملهوف ..؟؟؟ دعوني هنا اذكر مثلا واحدا في حياتي المهنية … كان بامكاني وانا في تنقلاتي لتسجيل “مع احباء البرنامج على عين المكان” ان اتمتّع وظيفيا بالسيارة الادارية وبمنحة الإقامة في اقرب نزل للمكان الذي اعمل به… لكنّي كنت افضّل ودون ايّ تردد ان ابيت مع المستمعين وهم يفتحون بيوتهم البسيطة واحضانهم الكبيرة لينعموا حسب قولهم بحلمهم الاكبر والذي كان بالنسبة لي الواجب الاكبر… كنت اراني وانا على حصير وفوقه جلد كبش اسعد الناس …
اتذكّر جيّدا زيارة لن انساها لاحد مستمعيّ (محمد كمال بن سالم) بمنطقة الماي جربة… هو صديق مُعاق اليدين والرجلين وكانت رسائله لي رغم اعاقته من اجمل الرسائل شكلا ومضمونا… يوم زرته لم يكن مصدّقا بالمرّة بأن هذا الذي ذاع صيته موجود لا فقط ببيته بل جالس على الارض بجانب سريره… كانت سعادته يومها لا يمكن ان تمُرّ دون ترك اثر على لسانه … صدقا لقد خرس الرجل … عجز محمد كمال عن الكلام لكنّ عينيه كانتا تقولان اشياء واشياء …ولانّه كان ثملا دون النبس بأية كلمة، قلت له هامسا: وماذا ستقول لو اعلمتك بأني سأبيت الليلة بجانبك افترش ذلك الجلد الصوفي ونسهر معا ونتسامر؟؟؟… وقتها تكلُم محمد كمال وقال (بعدها مرحبا يا موت)… وبتّ بجانبه ليلتها واستجاب الرحمان لرغبته… اذ توفي فعلا بعد ايام …
الم اقل لكم انّ الحياة جغرافيا لكلّ المتناقضات بما في ذلك الحياة والموت ؟؟؟ هنيئا لكلّ واحد منّا يحبّ الانسان … يحب الحياة بسهولها وتضاريسها بحلوها ومرّها اذ هي بالحلو بتمرّ بالمرّ بتمرّ ..
ـ يتبع ـ
استطلاع
صن نار
- ثقافياقبل ساعتين
“مصيف الكتاب” لأول مرة في شاطئ اكودة
- جور نارقبل 15 ساعة
ورقات يتيم … الورقة 68
- اجتماعياقبل يوم واحد
بمناسبة يوم العلم… وزيرة الأسرة تكرّم أبناء مؤسسات الطفولة
- شعريارقبل يوم واحد
بعد المغيب
- صن نارقبل يوم واحد
أردوغان يتعهد بـ “تطهير الجيش من جنود أتاتورك” … والمعارضة تردّ بقوة
- صن نارقبل يوم واحد
توترات بين الصين والفيليبين… والسبب تنازع السيطرة على بحر الصين الجنوبي
- صن نارقبل يوم واحد
14 شهيدا و43 مصابا في عدوان إسرائيلي على سوريا
- صن نارقبل يوم واحد
وزير من الاحتلال… هدفنا سحق حماس وحزب الله، لا إعادة المحتجزين أحياء!