جور نار

ورقات يتيم … الورقة 35

نشرت

في

Bac 2020 : tous les résultats sont disponibles - Le Parisien

عبد الكريم قطاطة:

.. لعلّ افظع ما في الامتحانات عموما والمفصلية خاصّة في حياة التلميذ او الطالب… سيزيام ..باكالوريا ..اجازة .الخ … ليس الامتحان او ما قبله ..بل مرحلة الانتظار …اووف ..كم هو مرهق (ما اثقل ريحو) … انذاك يعيش الواحد منّا ساعات تُعد فيها الثواني بالدهور … تتحوّل عقارب الساعة فيها الى ثعابين تترصّد كل طاقة الصّبر فينا لتمتصّها “وعيننا حيّة”…

<strong>عبد الكريم قطاطة<strong>

اتذكّر جيدا يوم الاعلان عن نتائج الباكالوريا الذي جاء “بعد ما تمرجنا” صبرا … افقت يومها على غير عادتي صباحا وكعادتي كان ملاذي نادي الاصدقاء (حانوت الحلاق) ودخّنّا ما كتب الله لنا من سجائر ..وتثاقل اليوم في خطاه وسلّمنا على افراد الشلّة مغادرين في اتجاه معاهدنا ..وتابعنا سي المبروك الحمّاص بدعواته لنا بالتوفيق … ويخُصّني لست ادري اقتناعا ام حبّا بكلمات لي وحدي (نعرفك تنقّزها يا كُريّم) ..فيما انبرى بواحمد حلاقنا… ممثلا لندمائه يتوعّد ويتهدّد بابشع المقذوفات اللفظية اذا لم ينل نصيبه والندماء من بنت العنبة بعد نجاحنا .. كنت الوحيد من ضمن اصدقاء المراجعة الذي يدرس بالحي ..لذلك وجدتني بباب الجبلي آخذ طريق العين مترجّلا قاصدا معهدي …

كانت ساعة باب الجبلي العملاقة تشير الى الثالثة بعد الظهر .. وكنت منذ لحظة نزولي من الحافلة انظر الى الاماكن زاوية زاوية نظرة مودّع .. يومها ملأت عينيّ بكل تفاصيل الاشياء التي عشتها .. يومها شبعت بالنظر الى بائع الجيلاط والكريمة، المنتصب في قلب ساحة محطة الحافلات ..بشاربيه العريضين _ وبعين تقلي والاخرى تصب في الزيت (هذه عبارة كنّا نقولها عن من له عين ونصف في تركيبة الرؤية عنده )…يومها شبعت بالنظر ايضا لذلك الذي قضّى كل عمره وهو يبيع في بضاعة لا يزيد ثمنها الجملي عن عشرات المليمات وهو يردد “اباري بابور الباكو بدورو”… وهذه لمن يجهلها تعني ابرا كانت لتسريح الرؤيا في عين البابور الذي كان يستعمل كـ”ڨاز” لطهي الطعام …ثم يضيف نفس البائع: “فلايات مرايات” …وعبثا حاولت ان اجد العلاقة بين اباري البابور والفلايات وهذه تستعمل انذلك لقتل القمل بعد العثور عليها في رؤوسنا الوسخة …وللامانة علاقات جل العائلات انذاك مع معشر الحشرات من العقرب وصولا الى الوشواشة ومرورا بالقمل والبق والبرغوث كانت جيّدة ..

الرابح الاكبر والوحيد في هذا العالم الحشراتي هو سي القلال ..هذا كان مزوّد صفاقس الوحيد بادوية الحشرات ينتصب بحانوته قرب زنقة عنّقني وفي رواية اخرى زنقة الفنطازية ..كنا نرتجف منه ومن حانوته ونحن صغار عندما نرى الصورة الاشهارية المعلقة على حانوته (عقرب صفراء) ترتعد لها الفرائص… قد لا ينتبه لها روّاد ذلك النهج حاليّا اما لانقطاع علاقتنا الديبلوماسية في صفاقس مع فصيلة العقرب بعد ان تربّضت الغابات وانقراض العقارب منها ..او للصدأ الذي علق بتلك اللوحة والتي لم يعد يظهر منها الا مناطح نلك العقرب ..الا اني ولحد الان وكلما مررت من امامه لم انس ان ادعو له بالرفاه واليمن والبركة وبالرحمة له ولوالديه …. لاننا معه فقط وبدوائه السحري العجيب عشنا الرفاه بعد ان استسلم البق نهائيا لمفعول دوائه اصبحنا نستعمل الجرافات صباحا (قاعد نبالغ راني) لجرف هاجوج وماجوج البق كل صباح بعد ان سقط في فخ دواء سي القلال المزطّل الى حد الموت ..وكذلك بالنسبة لكامل طاقم الحوش الذي يتميّز بسقفه الخشبي في بيوته والذي هو في جلّه منخور بياجوج وماجوج البق …

عندما اخذت طريقي الى معهدي (الحي) استوقفني مدفع رمضان ..يااااااااااااااه كم كنّا ننتظره نحن تلاميذ الحي لنستمتع بطلقته الرمضانية الرهيبة عندما يصادف خروجنا توقيت الافطار …انذاك في ايامنا المدرسية لم يكن هنالك توقيت خاص بالدراسة في رمضان ..انذاك كان رمضان ياتينا شتاء في جل سنواته ..وعندما تنتهي الدراسة على الساعة السادسة مساء ليس مسموحا لنا بالافطار الا بعد مغادرة القسم .ولكن (دُوّيو !) كنّا نركّز جدا وجيّدا مع اقتراب وقت الافطار على سمفونية المدفع ..التشايكوفسكية عادة …وكما تعلمون تشايكوقسكي معروف بسمفونياته الصاخبة … والمدفع على بعد مائتي متر منّا و”عينك ما ترى النور”، ينغمس كل واحد منّا في ما اعدّه لافطاره ..كنت من الذين يفطرون على نوع من الحلويّات يُدعى “هريسة باللوز” قطعة صغيرة في حجمها لا تتجاوز ربع الكف ولكن خير من بلاش ..ثم الاكل في القسم لا يمكن ان يكون وليمة … قد يتغاضى الاستاذ في حنّية على تلاميذه ولكن تبقى دائما في خانة “انا ما نقلك وانت ما يخفاك” و”كان استاذك عسل ما تاكلوش الكل”….هما دقيقتان او ثلاث وتنتهي اصوات “تخشخيش” القراطيس التي نحمل فيها افطارنا … ونعود الى الدرس دون ان نعود ..فكيف لبطن خاوية من جهة ولشوق ولهفة لا توصف الى السيجارة، ان نعود الى الدرس او يعود الدرس إلينا …وللامانة ايضا وباستثناء الاستاذ الهرماسي الذي كان يشعل سيجارته وقت الافطار (رغم اني لم اتصوره يوما صائما يعني عازقو كما عزقناه نحن فيما بعد) باستثنائه لم اعش يوما مع استاذ يتناول ولو قرص حلوى وقت الافطار ..

وصلت الى الحي ..كانت الساعة تقترب من الثالثة والنصف . لم يكن هناك عدد مهم من التلاميذ اذ ان وقت الاعلان عن النتائج حُدّد بداية من الساعة الخامسة مساء .. اش جابك يا عبدالكريم في ها الوقت ..؟؟ لا ادري ..ربّما كنت غير قادر على مزيد الانتظار …ربما كنت ومازلت من الذين يستبقون المواعيد ولا اريد ان ينتظرني الاخر ..ربما هو الخوف من نتيجة سلبية لا قدّر الله وربّما الاستئناس بالمكان يخفّف من وطأتها …ربّما الثقة في النفس او النرجسيّة كما يراها البعض فيّ اردت من خلالها تشييئا الحدث وتهميشه و كأني اقول ها انا جاهز وبقلب اسد للحدث … عفوا سيّدي الاسد ..فتشبّهي بك هو مجازي لا غير، ما تاخذش في خاطرك منّي، نفدلك معاك راهو ..او ربما هو هذا كلّ هذه المشاعر ملخبطة في بعضها …الا انّه ومع مرور الوقت احسست بانقباض رهيب وعلى غير عادتي ..احسست بضغط يتسلل الى صدري ..وتهاطلت الصور على شاشتي ..عيّادة .. حبيبتي ..الشلّة … اصدقاء المراجعة واولهم صديق عمري ..اساتذتي بالمعهد … زملائي في الدراسة ..ماذا لو ؟..ماذا لو .؟.. ماذا لو ….؟؟؟؟

لم اخف يوما من امتحان نتيجة او انتظارا ..يومها لا ادري كيف اصف احساسي لكم … لم يكن خوفا بل كان ضياعا ..ماذا لو…لو هذه لم استفق منها الا على احد القيمين وهو يُعد المصدح بتلك الجملة المعهودة (ساه ساه) اي يقوم بتجربة الصوت…وهذا يعني ان الاعلان عن النتائج سيداهمنا ..كنّا متحلّقين جميعا كعناقيد طيور .. مشرئبة اعناقنا الى البوق هنالك ..وكأننا سنستمع باعيننا لا بآذاننا ..وكانت جل الوجوه اشبه بكعبات بطاطا مسموطة ..ممتقعة لا نبض فيها ..وبدأ سي احمد بسلاسل القائمات ..كنت اسمع ولا اسمع ..حتى دوّى صوت قائمتي في شعبة الاداب وانطلق المشوار ..دريرة ..الفقي ..القسمطيني ..ثم .. ..منطقيا بعد قسمطيني انت يا ولد قطاطة ..الا تقول هكذا الابجدية ..؟؟ زعمة المرة هاذي ما خدموش بالابجدية ..كيفاش ..؟؟ ويني انا ؟؟؟ اش معناها ..وفات فلوسك يا ولد قطاطة ..؟؟ باع وروّح ..؟؟ فاتك القطار ؟؟؟ وانتهت سلسلتي … اسمي غير موجود ..لم اتذكّر تحديدا كيف انسلخت من وسط الجموع وحملت رجليّ اللتين لم تعودا قادرتين على حملي ..قللك اسد وقلب اسد …. خرّف يللّي تخرّف ..

احيانا يحس الواحد منّا انه اتفه من حشرة … لا قيمة لا هيبة لا شجاعة .. عندما تخذل الاقدار واحدا منّا يتحوّل ولو حينيّا الى كومة رماد ..انذاك سرت وحدي شريدا ..محطم الخطوات ..تهزّني انفاسي .. تخيفني لفتاتي .. كهارب ليس يدري من اين او اين يمضي .. شك ضباب حطام ..بعضي يمزق بعضي ..بعضي يمزق بعضي ..صدقا كانت تلك حالتي وقتها …ربّما هي من المرّات القلائل في حياتي التي احسست فيها بالغثيان والتيه والضباب والقرف … كنت كعمود خشب .. لا حرارة في جسدي ..لم استطع وانا وحدي لا الكلام مع نفسي ولا البكاء عليها ..كنت شبه آدمي .. وكان عليّ ان اقوم برد فعل بشيء ما ..عبدالكريم لم يجد وقتها الا عبدالكريم فعليه ان يرُد الفعل عليه ..هيّا انت غير جدير حتى بامتطاء الحافلة للعودة الى حوشك …على ساقيك وياسر فيك … وكان ذلك ..قرابة العشرة كيلومترات مترجلا لاني لم اكن وقتها جديرا بعبارة راجل …لم ادر بالضبط كيف وصلت الى المنزل … لكن لن انسى زهمولة امّي وابي واخوتي وهم ينتظرون وصول عريس الباكالوريا ..قلت زهمولة وجمعها زهامل ومعناها طيفهم ..لان وصولي كان ليلا بعد اول واخر ماراتون مشي في حياتي (10 كم) ..وكانوا ينتظرونني في راس الزنقة ..حيث لا انوار ولا هم يبصرون ..وقديما قالوا “الظلام ستّار كل العيوب”..

وجاء صوت احد المتجمهرين من سكان الحوش يسأل وانا اقترب: اشنوة يا كريّم وليّد والاّ بنيّة ؟؟ …هل رأيتم كم ظّلمت المرأة منذ عقود ..لأن وليّد تعني النجاح وبنيّة تعني الفشل …سألتكم بربّ العزّة كم من امرأة بالف رجل ..؟؟..ماضيا وحاضرا ويوم البعث حيث الجنة تحت اقدام الامّهات ..لم اُجب ..وفي صمتي الاجابة …لم ار وجه اي واحد منهم .. دخلت وتمرقدت ..ولم انم ..لم انم بتاتا ..كيف ساواجه غدا القوم يا قوم ..امّي ..القبيلة في الحوش … اصدقائي في الشلة ..سي المبروك …وتلك المسكينة التي تنتظرني حتى اخلّصها من هذا الخطيب الذي نزل فجأة نزول الصاعقة علينا …وقبل ان ينهض الجميع غادرت الحوش ..لاشكو الى سيجارتي همّي (على الخواء) ثم بدأت الحياة تدبّ في و على الساقية و بدأت الحوانيت تُفتح ..وبدأت الاوجه تتساءل وانا اجيب برأسي لا ونفس الردود ..موش كاتبة ..الله غالب ..ما تعمل شيء في بالك ..بول عليها (حاشاكم) تمشي تفعل وتترك ..

كل واحد بنغمتو وكل واحد يغنايتو ..وانا بعضي يمزّق بعضي ..حتى وصل رضا ..علمت انه نجح وعلم اني لم انجح ..عانقته بكل حب وسعادة له مشوبة بألمي على اننا سنفترق ..لم يعلّق ولكنه اراد تهدئتي بقوله ..تعرف اللي السنة ومنذ 1965 اقل نسبة نجاح في الباكالوريا … اكتشفت بعدها ان باكالوريا دفعة 1970 لم ينجح فيها الا 3298 تلميذا ..وهي اضعف نتيجة منذ 1965 لحد يوم الناس هذا … مع اخذ عامل النسبية بعين الاعتبار ..نعم ..ومن سوء اقداري اني كنت من المنتمين لهذه الدفعة …ولكن الانكى والامرّ والاغرب والمُدمّر والمُروّع اني تحصّلت مرّة اخرى على 6 في العربية …..؟؟؟ لست ادري اي قدر هذا ..؟؟ لم افهم ما سرّ ارتباط خيباتي بالـ 6 على عشرين في مادّة العربية وانا كنت دوما فارسها …؟؟….. استاذي سي محسن في تلك المادّة صرخ يومها بكل غضب وقال مستحيل ..مستحيل ..مستحيل …والانكى والامرّ والاغرب والمدمّر والمُروّع اني لو تحصّلت على 7 من عشرين لكنت من الناجحين باعتبار ضارب المادة 4…

موش شيء يقهر ..؟؟؟ كل هذه العناصر القهرية فعلت فعلتها فيّ وبدأت ارى الحياة بنظارات سوداء قاتمة جدا .. جدا ..جدا .. ولا بد ان افعل شيئا ما .. ويا لهول ما قررت … …

ـ يتبع ـ

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version