تابعنا على

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 42

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

حقبة السبعينات في تونس كانت من افضل واخصب الحقبات التي عاشها جيلي انذاك … تونس انذاك انتقلت من مرحلة التأسيس بكل منعطفاتها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، الى فترة التجذير والخصوبة …

عبد الكريم قطاطة

فبقدر ما نجح الزعيم بورقيبة في رمي حجر الاساس لدولة لها هيبتها ومكانتها بين الامم مغاربيا ودوليا، وبقدر ما كان رجل المواقف الحازمة في القضاء على العروشية عندما جمع سلاح المقاومين وادخل جلّهم في منظومة الحرس الوطني، حتى يجنّب تونس خطرا لم نفهمه الاّ الان ونحن نُطلّ من نافذتنا الجنوبية على ما يحدث في ليبيا وهي تجسّد ابشع مظاهر القبلية… وهي نفسها تلك النعرة التي حاول بعض لصوص الثورة استغلالها في بلدنا لكسب اوراق رخيصة في انتهازيتهم سياسيا بعد 14 جانفي 2011 … ونفس الزعيم بورقيبة هو ذلك الذي ركّز فلسفته على ثلاثي عميق لبناء تونس ما بعد الاستعمار: التعليم، الصحة، المرأة… هو الذي اقام الدليل لمن عاصره ولمن اختلف معه في الراي انه داهية سياسي لا يُشق له غبار في القضايا العربية (خطاب اريحا في القضية الفلسطينية، وخلافه مع قومية جمال عبد الناصر)…

اذن كما اسلفت ..بقدر ما كان مُوفّقا في هذا المنحى بقدر ما كان ذلك الزعيم الذي اعتبر والى آخر قطرة من حكمه ان تونس هي (متاعو هو فقط) وانّه ليس من حق ايّ كان ان يقتسم معه الراي او القرار …هي ملكه الشخصي ربّما منطلقا من كفاحه الطّويل وما عاناه في يتمه اولا عائليا …وكذلك من تغريب ايام الاستعمار والذي كان يصفه ويردّده بعيارته الشهيرة في خطاباته (ايام السّخط والدُمّار والميزيريا) …ولعلّ هذه الزاوية الضيّقة لرؤيته لحبيبته تونس هي التي كانت وراء كلّ اخطائه على مدى حكمه ..حبّ التملّك (وما ابشع التملك) من جهة ونجاحه في جلب الاحترام دوليّا لشخصيّته ذات الكاريزما الرهيبة ..و خاصّة قدرته الفائقة على استقطاب عامة الشعب التونسي من خلال براعته الخطابية الهائلة… و هي من العوامل التي اضرّت به وبتونس رغم كلّ ايجابيّات ذلك الزعيم التاريخي الفذ والذي لم يستطع ايّ كان زحزحته من مكانته كافضل من عرفته تونس بعد الاستعمار مهما حاول اعداؤه تشويه صورته …

كل هذا لم ولن ينفي عديد اخطائه .. تلك الاخطاء بالنسبة لنا نحن شباب السبعينات كنّا نراها بمجهرنا المضخّم انذاك …بمنظار المعارضين الشرسين للزعيم …كنا نعدّد ونندّد ونعارض ونشهّر…بخلافاته مع اليوسفيين …باخطائه الشنيعة في معركة الجلاء وضحايا تونس فيها ..بالحرب الضروس مع معارضيه والذين لم ينفكّوا يوما عن المطالبة بحقهم في تونس وهم يقولون لبورقيبة عن تونس وبلطف (حبيبها لست وحدك حبيبها) خاصة وقد انبرت وسائل الاعلام في التزمير الماسط الركيك والمتخلّف للزعيم المجاهد الاكبر رغم انه اثبت في ما بعد ومقارنة بكل من تلاه انه الزعيم الافضل والاكبر … زد على ذلك تلك الهلبة من الاغاني التمجيدية للرئيس (يا سيد الاسياد .. يا حبيب تونس يا عزيز علينا .. حبيبي يا مجاهد …حبيب الجماهير المغربية للدوكالي والتي تحولت من تمجيد الملك الحسن الثاني من”ملكنا ديالنا واحنا ديالو” الى “بورقيبة ديالنا واحنا ديالو” ).. وحتى اغانينا التراثية في صفاقس تحولت من “مااقواني يا نور عيني ما اقواني” الى “يا غالي يا حبيب تونس يا غالي .يا هلال الخضراء العلالي” _..وحتى نشيدنا الرسمي كان فيه الزعيم حاضرا (الا خلّدي …. بروح الحبيب زعيم الوطن) ..

وكان اول امتحان عسير الى حد النكبة …

التجربة التعاضديّة والتي قادها احمد بن صالح …والتي كادت تودي بتونس في منزلقات خطيرة … ولأني لا اجرؤ على تحميل ايّ طرف مسؤولية تلك التجربة لأن المواقف تباينت فيها ولأن اوراقها متشعبة ..ولأني لست رجل اختصاص لا في الاقتصاد ولا في السياسة… فاني بحكم المنطق في المسؤولية السياسية لا اتردد في القول بأن بورقيبة ومهما كانت اخطاء من معه هو المسؤول الاول ..اليس هو من عيّن احمد بن صالح في وزارة التخطيط ..؟؟ بل جمع في فترة ما عديد الوزارات ..؟؟ اليس هو من تابعه على امتداد سنوات مثمّنا مشجّعا ومباركا لكل تصوّراته ؟؟؟ وعندما فشلت التجربة وكأي رئيس في العالم الثالث لم يجد بورقيبة ولا غيره الشجاعة لتحمّل المسؤولية والاعتراف باخطائه .، تى لا اقول الاستقالة لترك المكان لغيره (حتى انا قداش نخرّف ! في ذلك الزمن فعلها فقط سينغور رئيس السنغال بعد انتهاء فترته الرئاسية وخيّر الانشغال بالادب) …

ومن جهة اخرى .وربّما ما يُحسب لعبدالناصر انه الوحيد بين الرؤساء العرب الذي خرج بعد نكسة جوان 67 ليُقرّ بمسؤوليته الكاملة في هزيمة العرب في الحرب مع اسرائيل …البعض من اعدائه يذهبون الى انّ ذلك الخطاب التاريخي الذي قرر فيه الريّس الانسحاب من دفّة المسؤولية كرئيس مصر والانضمام الى الجيش ليواصل كجندي الدفاع عن مصر… ما هو الا سيناريو كي يخرج الشعب المصري ويرفض استقالة زعيمه ثم يعود بعده الريّس الى دفّة الحكم …تماما كما فعل بعض احمرة التجمع يوم 13 جانفي لمناصرة الزين بسيارت كراء تعبيرا عن مؤازرتهم لزين العرب ..الا اني ومن وجهة نظري المتواضعة وحسب ما وصلنا من صور تلفزية ..لم ار في حياتي مصر تخرج بتلك الهبّة الجماهيرية الرهيبة الا في خمس مناسبات ..يوم استقالة عبد الناصر بعد حرب جوان …يوم وفاته … يوم وفاة أم كلثوم… يوم وفاة العندليب ..ويوم الحشد الرهيب في ميدان التحرير للاطاحة بمُرسي .واخوانه ..لذلك انا وحتى من خلال نبرات صوت عبدالناصر وهو يعلن بكل حزن واسف تخلّيه عن الحكم، لا يمكن ان اكون الا من صفّ المصدّقين له والمصفّقين له …

اعود لتلك السنوات العجاف التي عاشتها تونس اقتصاديا في الستينات مع النظام التعاضدي لاقول ان فشل اي وزير او ايّة سياسة يتحمّلها لا فقط ذلك الوزير بل رئيس الدولة ايضا …وهذا ما لم يفعله ابدا بورقيبة في حياته ..كان دائما يحمّل الاخرين الخطايا (ويخرج منها كيف الشعرة من العجين)… ولمن يتذكّر احداث الخبز 84 .. هل مازلتم تتذكرونه يوم خطابه الشهير..؟؟ .دعوني اسرد لكم سرّا لا يعرفه الكثيرون _سرّا جهويا … الله غالب ..تحمّلوا جهويّتي التي اعتزّ بها والتي دونها لا يمكن ان اكون تونسيا …

بورقيبة في احداث الخبز كان وكعادته يتابع التقارير الامنية التي تاتيه حول التحركات في البلاد بعد اعلان الزيادة في ثمن الخبز ..وكان يوميا يسأل ..صفاقس لاباس ..اي هنالك تحرّكات ..؟؟؟ وتاتيه الاجابة الامنية .. صفاقس رايضة …وعندما واصل سؤاله دوما عن صفاقس واحوالها في تفاعلتها مع احداث الخبز جاءته الاجابة ذات يوم (صفاقس تحرّكت)… يومها بالذات خرج الى الشعب التونسي واعلن التراجع في قرار الزيادة بتلك المقولة الشهيرة: نرجعو كيف ما كنّا قبل الزيادة … ولكن ولأن بورقيبة ابدا ان اقرّ يوما باخطائه، فقد حمّل رئيس بلدية تونس شيخ المدينة (زكرياء بن مصطفى انذاك) كل المسؤولية …بل نعته باوصاف فيها الكثير من الاهانة حيث وصفه بذلك المسؤول عن القمامة _ (هاكة زكرياء متاع الزبلة) الذي قال له: “الخبز ملوّح في الزبلة” … اي حتى بورقيبة “غلّطوه” ..هذه الامور يبدو انّها في جيناتنا …

،نحن شباب السبعينات كنّا محظوظين لاننا كنّا مثقلين بهمّ الوطن ..ولأننا تدّربنا على إعمال الفكر والنقد ثم وهو الاهم، لاننا كنّا وخاصة تلامذة الحي الزيتوني في صفاقس، مُكوّنين سياسيا ومطّلعين من خلال تنوع اساتذتنا على مجموعة هائلة من الايديولوجيات… فمن اساتذتنا اليوسفي.. والدستوري.. والماركسي باطيافه .. والقومي بفصائله ..كل هذا جعل من رؤوسنا مرجلا للمعرفة وما اقسى المعرفة ومرجلها ..المعرفة هل هي نعمة او نقمة احيانا …؟؟؟ حتما ساعود الى هذا المحور الرهيب في قادم الورقات ..

فترة السبعينات في تونس كانت وكما اسلفت فترة الانتعاشة الاقتصادية الاكبر في تاريخ تونس منذ الاستقلال وحتى الان ..رغم انها انتهت بخاتمة درامية تداخلت فيها الاوراق السياسية وبداية مؤامرات القصر والتناحر وتصفية الحسابات وبداية التحالفات مما ولّد احداث جانفي 78 … نعم مرة اخرى شهر جانفي .ويا له من شهر على امتداد تاريخ تونس ..الا انّ تلك الفترة ايضا ولحسن حظّنا نحن شباب تلك الحقبة، كانت فترة ازدهار العمل الطلاّبي السياسي ..وكنا نمشي بخيلاء وزهو وافتخار بوعينا (هكذا كان يبدو لنا)… كان الواحد منّا لينين والاخر تروتسكي وثالث تشي غيفارا . هكذا كنّا في خطاباتنا وفي كذبنا على كل صديقاتنا ..كنّا نمثّل دور التقدمي في كل افكاره ولا نُعير اي اهتمام ليس فقط للتقاليد الاجتماعية في رؤيتنا للمرأة مثلا، بل حتى للدين ايضا الذي كان مُغيّبا تماما فينا نحن اليساريين زعمة زعمة … بل كنّا نسخر من ذلك العيّاش الذي لا يعرف من الحياة الطالبية الا الدراسة والانضباط ..نحن المتنطعين على المجتمع وعلى الدين وعلى كل شيء ولم نكن في الحقيقة سوى مُخادعين و منافقين ..ندّعي التحرّر وعن ايّة بكارة تتكلمون … وعندما يهرع الواحد منّا الى الارتباط يعود الى قوقعته …قالت لي اشجعهنّ: هو دارها شليلة ومليلة وكيف جاء يعرّس لوّج على بنت عايلة عاقلة ومتاع دار _ وها انا اجيب: جلّنا مثله ..جلنا “نفشفش” على كل المقررات اللواتي عرفناهن وادّعين الليبرالية والتحرّر … ووقت توصل ايدها لرجلها، نصبح مثالا على انفصام الشخصيّة .؟؟ موش لو كان نرجعو لعبدالكريم والمهنة افضل ..؟؟

سنة 1974 كانت سنة مفصلية في حياتي المهنية … الادارة التقنية لللتلفزية وبعد تعدد الانتاجات الفيلمية وقدوم مجموعة من المخرجين الذين انهوا دراستهم في تشيكوسلوفاكيا (رفيق المدب، عبدالجبار البحوري، عبدالقادر الجربي، منصف الكاتب) .. كان لزاما عليها ان تعيد هيكلة مصالحها الفنية حتى يخفّ العبء على بعض المصالح ..ومن هذه الزاوية ارتأت ان تحدث قسم المونتاج الذي كان من ضمن اهتمامات المهندس الشاب (سي ابراهيم الغضاب) مع اهتمامه بالمختبر الخاص بالمؤسسة …

جاءنا يوما سي ابراهيم الى قسم المونتاج وعبّر عن رغبة الادارة في تعيين واحد من مركبي القسم كمسؤول عنه ومساعد اداري لسي ابراهيم ..واضاف: اختاروا انتم زميلا لكم ترتاحون له، حتى تكونوا مسؤولين عن اختياركم …نزل سي ابراهيم الى مكتبه وارتأينا وبالاجماع ان يكون اكبرنا واكثرنا تجربة الزميل واستاذي في دراسة فن المونتاج (الصادق بن عايشة) هو الاجدر بهذا التكليف …ضحك سي الصادق وقال (يعمل الله)… دخل كل واحد منّا الى مقصورة المونتاج ليشتغل حتى الواحدة ظهرا موعد انتهاء الحصة الاولى من العمل اداريا …وهذه على فكرة لم امتثل لها يوما… التوقيت الاداري هو خنق للفن… الفنان هو إلهام او لا يكون ..ومتى كان الالهام مرتبطا بناقوس الساعة ..؟؟ الفنان عندي لا يتحاور مع نواقيس الارض ..الفنان عندي هو من يعدّل ساعته على خيوط الشمس ليقطف منها خيطا يفصّل على مقاسه رائعة “الدخول الى الجنة” لاندريه ريو ..في مرحلة اولى وفي مرحلة ثانية عليه ان يستلهم مما بعد الشمس لتكون له سمفونيته الخاصة به … بصمته ….دنياه مع الاخر حتى يلتقي به ليرتقي …

خرج الجميع وبقيت وحدي كعادتي اشتغل على طريقتي ..قد يكون شغلي وقتها الاستماع الى اغنية علّها تُلهمني فكرة ..قد يكون مشاهدة افلام المانية تاتيننا كهبة من الشركات المنتجة لها وهي في جلّها وثائقية وتبقى عندي لحد الان افضل ما اشاهد الاعمال الوثائقية ..كنت الوحيد الذي لا يرتبط بالواحدة ظهرا خاصة واني اقطن على بعد مائتي متر من دار الاذاعة من جهة… ثم واذكّر متى كان الغداء يعنيني ..؟؟ وهي عادة لازمتني لحد اليوم …فجأة فُتح باب مقصورتي من الخارج واذا بالقادم استاذي وزميلي السيد صادق بن عائشة …سلّم عليّ وقال: نشربو قهوة ..؟؟ وباحترام التلميذ لاستاذه ولاحد اطراف اللجنة التي امتحنتني شفاهيا بعد نجاحي في كتابي مناظرة الدخول الى المؤسسة …نزلنا الى “بيفات” الاذاعة واخذ كل منا قهوته (كابيسان بزايد حليب بالنسبة لي ولحد اليوم ايضا هي قهوتي الوحيدة) …_ وتناول هو “اكسبريس سيريه”… يا بوڨلب!…كيف يتجرعها اصحابها …؟؟

نظر اليّ استاذي وقال: تتذكّر انّو الساعة قلتلكم في ذلك العرض “يعمل الله”؟.اجبته: ايه وشكون خير منّك ؟؟ قللي ثمة شكون خير منّي ..قلتلو: والله يا استاذي لا نشوف بكل صدق وانت تعرفني انو ثمة شكون خير منّك ..قال: لانّو بوك الصادق يعرف انو تلميذو صادق… راك انت هو اللّي خير منّي …؟؟؟؟ لم اقدر على النظر اليه خجلا ..نعم كنّا نخجل ممّن علّمنا ..وسنبقى كذلك الى اخر رشفة من الاوكسجين والى اخر شعاع شمس والى اخر قطرة حب …جذبني اليه وقال: شوف ولدي .انا مشاغلي كثيرة ولي مشاريعي السينمائية الخاصة ولا اجد افضل منك لهذا الموقع ..انت اهل له وجميع زملائك يحبونك جدا ..لذلك ساعتذر في المساء وانا من سيبرشحك لهذا التكليف …تصوروا عبدالكريم ذلك الاصغر سنا ..والاتي من صفاقس والذي عاش دهرا من الجفاء، حاول ان يعدّل ذلك الجفاء بسخاء انساني صادق مع الجميع يقبل به الجميع ..؟؟

نعم ودون اي فيتو، قبِل الجميع ان اكون انا من يمثلهم ويسوس امورهم …هذه الواقعة علمتني اشياء هامة في حياتي لعلّ اولها ..قد لا يقبلك البعض في موقف ما في تصرّف ما في اسلوب ما ..ولكن ثق انّ هدفك عندما يكون زرع القرنفل الوردي عوضا عن العوسج ..وان تكون كلماتك حتى ولو تدرجت من حبّة الدواء البسيطة الى “الانتيبيوتك” كحبّة او كزًريقة موجعة ..وصولا حتى الى الصعقة الكهربائية التي يخضّون بها قلب المريض .. بتلك الكلمات، سيُدرك الاخر يوما انك لم تنفصل عن الانسان وعن حب الانسان… اذ هل يًعقل ان نلوم الطبيب على تلك الصعقة الكهربائية والتي اراد بها اعادة نبض القلب لا اعدامه ..؟؟؟ هذا احد دروس تلك الثقة الموضوعة فيّ يومها وجميع الزملاء يهنئون انفسهم قبل ان يهنئوني باختيارهم لي …امّا انا ورغم سعادتي بتلك الثقة ووالله صدقا قبل الكرسيّ كنت اقول واردد: هذه خطوة صغيرة جدا لمشروعي الحلم …هيمالايا …وستعرفون يوما انه لم يكن يوما اطلاقا كما يتوهمه البعض مشروعا انتهازيا ..وصوليا ..قذرا… بل هو مشروع مبني اساسا على الحلم لما بعد حدود السماء …

(نُشر هذا النص أول مرة يوم 8 مارس 2017 ـ اليوم العالمي للمرأة ـ وها انا اهدي هذه الورقة لاجمل نساء الدنيا… عيادة)

ـ يتبع ـ.

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ورقات يتيم… الورقة 115

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

في الفترة ما بين 2004 و 2010 لم تكن الاحداث التي عشتها كمّيا كثيرة وها انا امرّ على ابرزها لاخلص بعدها لقهرة الربيع العبري…

عبد الكريم قطاطة

عودة لسنة 2004… في اواسط تلك السنة بدأت رحلة تعاقدي مع جامعة صفاقس كخبير مدرّس للعلوم السمعية البصرية بمعهد الملتيميديا… صاحب المقترح هو مدير معهد الملتيميديا انذاك الزميل والصديق “عبدالحميد بن حمادو” الذي أعرفه منذ درسنا معا في تعليمنا الثانوي بمعهد الحيّ… سي عبدالمجيد فكّر في انشاء مادّة للعلوم السمعية البصرية ببرامج بعض شعب المعهد…تحادث في الموضوع مع زميلي الكاميرامان انذك مفيد الزواغي فأشار عليه بالاتصال بي وكان ذلك… وانطلقت مسيرتي كمدرّس لهذه المادة لمدة عشر سنوات بعد ان طلبت ترخيصا في الامر من رئاسة مؤسسة الاذاعة والتلفزة وتحصلت عليه، شرط ان لا يؤثّر ذلك على واجباتي المهنية… ومنين يا حسرة ؟

في وحدة الانتاج التلفزي كنا نعيش البطالة الدائمة ونتقاضى على ذلك رواتبنا ومنح الانتاج ايضا… وكان كلّما عُيّن مسؤول جهوي أو وطني جديد، قام بزيارة اذاعة صفاقس للتعرّف على احوالها وطبيعيّ جدا ان يزوروا وحدة الانتاج التلفزي… وكنت مطالبا كرئيس مصلحة الانتاج ان استقبلهم وان اقدّم لهم بسطة عن الوحدة وعن انتاجها… وكنت دائما اردّد نفس الاسطوانة التي كم اقلقت المديرين الذين تعاقبوا على رأس اذاعة صفاقس… كنت اقول لضيوفنا الاعزاء (اعني المسهولين): وحدة الانتاج التلفزي فيها كلّ شيء الا الانتاج، وبقية التفاصيل تأتيكم من مديري!…

مقابل ذلك كانت علاقاتي مع منظوريّ في مصلحة الانتاج التلفزي على غاية من الودّ والاحترام … بل ذهب بي الامر الى إعلامهم انه بامكان ايّ منهم ان يتغيّب لكن عليه يكتب لي مطلبا مُسبقا لرخصة غياب دون ذكر التاريخ، احتفظ به عندي حتى يكون وثيقة استظهر بها اداريّا كلّما اقتضى الامر وذلك لحمايتهم وحماية نفسي… وفلسفتي في ذلك تتمثّل في الآتي: مالفائدة في حضور موظفين لا شغل لهم ؟ خاصة انّ بعضهم يقطن عشرات الكيلومترات بعيدا عن صفاقس المدينة… ثمّ اليس واردا للموظّف الذي لا شغل له أن يصبح شغله الشاغل احداث المشاكل مع زملائه ؟ اذن مخزن مغلوق ولا كرية مشومة… لكن في المقابل واذا اقتضت مصلحة الوحدة ان يعملوا 16 و 18 ساعة ما يقولوش (احّيت)…

تلك العلاقة التي وضعت اسسها بيننا كرئيس ومرؤوسين رأيت عمقها يوم مغادرة الوحدة للتقاعد… يومها أحاط بي زملائي ورفضوا رفضا قاطعا ان اكون انا من يحمل بنفسه وثائقه وكلّ ماهو ملكه الخاص الى منزله… وحملوها عني جميعا وبكلّ سعادة مخضّبة بدموع العشرة… والله يشهد اني وطيلة حياتي كمسؤول سواء اذاعيا او تلفزيا لم اقم يوما باستجواب كتابي لايّ كان… ولم اخصم لايّ كان من اعدادهم في منحة الانتاج وفي الاعداد المهنيّة…

اذن وعودة الى علاقتي بجامعة صفاقس كمدرّس للعلوم السمعية البصرية بمعهد الملتيميديا ثم بعده بسنتين بمدرسة الفنون والحرف، حاولت ان اعطي دون كلل لطلبتي… كنت قاسيا معهم نعم… ولكن كان ذلك بحبّ لا يوصف… وبادلوني نفس الحب ان لم تكن دوزته اكبر … كنت الاستاذ والاب والاخ والصديق و كنت ايضا صدرا اتّسع حتى لاسرارهم الخاصة… رغم اني كنت ايضا بوليسا في امور الانضباط وتقديس العلم… وطلبتي الذين هم في جلّهم اصبحوا اصدقاء بفضل الفيسبوك شاهدون عليّ… ولعلّ من الاوسمة التي افتخر بها ما حصل في نهاية السنة الجامعية سنة 2012…

إذ ككلّ نهاية سنة جامعية يقع توزيع شهائد وجوائز للطلبة المتفوقين في جميع السنوات… وفي اخر القائمة سمعت من منشط الحفل يذقول: (الان الجائزة الاخيرة في هذا الحفل وادعو الاستاذ عبدالكريم قطاطة لتسلّمها)… فوجئت حقا بالاعلان… وكانت لوحة رُسمت عليها زيتونة وكُتب فيها (شهادة تكريم للاستاذ عبدالكريم قطاطة نظرا إلى عطائه الغزير لطلبة المعهد)… واعذروني على اعادة جملة تُريحني كلما ذكرتها وهي… “وبعد يجي واحد مقربع ويقلك شكونو هو عبدالكريم اش يحسايب روحو ؟؟” … بل تصوروا انّ زميلة من اذاعة صفاقس بعد حادثة ذلك الفيديو المنحوس حول من هم اعلام العار في نظري سنة 2012 (رغم انّي صححت فيما بعد ماجاء فيه ووضحت انّي لم اعمم وختمت بالاعتذار .. لكن وقت البعض يبدا يستناك في الدورة مهما وضحت وكتبت واعتذرت يكون موقفه”قاتلك قاتلك”)… تلك الزميلة ذهبت الى ادارة مدرسة الفنون الجميلة وطلبت منها فسخ عقدي معهم لاني لا اشرّفهم… وضحكوا منها وقالوا لها فيما قالوا: هاكة موش فقط استاذ الطلبة، سي عبدالكريم استاذنا وشرف لنا ان نكون تلاميذه… ورجعت المسكينة الى منزلها خائبة مذهولة مهمومة وغبينتها غبينة، المغبونة… وانا مسامحها…

قضيت 10 سنوات بمعهديْ الملتيميديا ومدرسة الفنون الجميلة وحتما ساعود الى اشياء عديدة حدثت فيها خاصة بعد قهرة جانفي 2011…

الحدث الاخير سنة 2004 كان دون جدال كُرويّا… تتذكّرو نوفمبر 2004 ..؟؟ وبالتحديد يوم 20 منه ؟؟ تتذكّروا هاكي التشكليطة السافيّة ؟ تتذكّرو زوبا وهو يمشكي في ملاعبية المكشّخة واحد بعد واحد ؟ تتذكّروا كيفاش علّق تيزييه في سقف الملعب ؟؟ انّه نهائي الكأس الشهير… وانه يوم سقوط امبراطورية فرعون الكرة ولد شيبيوب… وانا نعرف انو بعض المكشخّين ماشين عاد يسرسطو ماجاء من سور في كتابهم .. عن بطولاتهم .. عن القابهم وتونس بكلّها تعرف عن محصولهم في الشمبيونزليغ وطبعا ماشين يذكروني بهدف بوتريكة ويختمو بـ (ما تكلموناش احنا ماشين لكاس العالم في امريكا).. لاصدقائي المكشّخين الباهين فيهم وهم قلّة لانّ اغلبهم لا يورّيك ولا يفاجيك .. فقط لاصدقائي نحب نسألكم سؤال وحيد ..توة هدف زبير السافي في هاكي الفينال موش سميّح موش شيء يعمل 5555 كيف؟

موش تقول الواحد صيفا يبدا في يدو مشموم ياسمين وطاولة معبّية بالبطيخ والدلاع والهندي وما ننساوش الفقوس .. وهي تصير كورة من غير فقوس ؟…ويعاود يتفرّج عليه ويعشق العزف متاع زوبا ورقصتو كيف انتوني كوين في زوربا اليوناني ؟ وفي الشتاء يبدا قاعد تحت كوسالة وكاس تاي منعنع ويعاود يتفرّج على زوبا وهو يعزف اشي الحبّ كلّو واشي انت عمري .. واشي انساك ده كلام ويختمها ب ميا موري … نعرف اصدقائي المكشخين الباهيين يعرفوني بليد وماسط وخايب وقت نحكي على مكشختهم ..اما يدبّرو روسهم قلتلهم حبّوني؟… واذا حبوك ارتاح والله… دعوني الان اسرّ لكم بما لا يعرفه اغلب محبّي الفريقين حول ذلك النهائي… واصدقائي ومهما كانت الوان فرقهم يعرفون جيّدا انّي صادق في ما اقول والله شاهد على صدقي…

قبل خوض النهائي كان لنا لاعب معاقب (وسام العابدي)… ولد شيبوب كلّم هاتفيا انذاك احد مسؤولي النادي وقللو نقترح عليك اقتراح لفائدة الزوز جمعيات… قللو نسمع فيك هات… قللو تهبّط وسام يلعب الطرح وانا نقول للملاعبية يسيّبوا الطرح… تربح انت وتعمل شيخة انت وجمهورك وانا نعمل احتراز عليكم وناخذ الكاس… طبعا المسؤول رفض وبشدّة… ولد شيبوب قللو راك ماشي تهبط من غير قلب دفاعك وسام… تعرف اش معناها ؟ معناها ماشي انييييييييييي………… بزوز .. المسؤول ظهر حتى هو قبيّح وقللو .. انا منيش مهبّط وسام واحنا اللي ماشي انننننننننني ……… بزوز … وكلمة عليها ملك وكلمة عليها شيطان ..ولكم ان تعمّروا الفراغ وتربطوا بسهم … لكم حرية التعليق مهما كانت الوان فرقكم لكن مع ضوابط الاحترام …السبّ والشتم والكلام البذيء لا مكان لها في صفحتي! …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

لا تخرّبوا سور وسقف الوطن… فنحن غدا من سيدفع الثمن!

نشرت

في

محمد الأطرش:

كنتُ بصدد وضع اللمسات الأخيرة على مقالي الأسبوعي في جلنار، حين بلغ مسامعي صراخ وألم ووجع عائلات من قضَوْا تحت أكوام حجارة سور معهد المزونة، رحمهم الله.

تمرّد القلم بين أصابعي، ورفض إتمام ما بدأه والانصياع لأوامري، وما أكتب، معلنًا الحداد على من ماتوا، ووُئدت أحلامهم تحت حجارة سور جريح ينزف دم سنوات الإهمال والتخلي.

سور أصابته لعنة “باركينسون” تشريعاتنا المهترئة، فارتعش وجعًا. سور لم يرأف بحاله أحد من القائمين على شؤون ترميمه، وترميم ما يحيط به. سور سال دم جراحه، وأسال دم من مرّوا بجانبه وأمّنوه على أرواحهم. سور توجّع وتألم طويلًا، وبكى… ولم يسمع بكاءه أحد، حتى أبكى أمهات بعض من اعتادوا المرور بجانبه… سور تآكل، وبانت عورته، فغضب وانهار على من كانوا يمرّون بجانبه، يتكئون عليه، ويستظلون به من غضب الشمس وثورة الأحوال الجوية، وهم في طريقهم لطلب العلم.

الغريب ما قرأته بعد الفاجعة، وما سمعته من صراخ من خرجوا يهددون بالويل والثبور وعظائم الأمور. أغلب من خرجوا علينا يولولون، يطالبون بمحاسبة من تسبب في الفاجعة، ويطالبون بتحميل المسؤولية لكل من قصّر في أداء واجبه أو غفل عنه.

هكذا نقفز على كل وجع ومأساة، لنواصل الدعوة إلى الانتقام من كل ما سبق، ومن كل من سبقونا في تحمّل مسؤولية خدمة هذا الشعب… هل يجب أن ننتقم ونثأر بعد كل فاجعة أو فشل ممن سبقونا في تسيير شؤون مؤسسات البلاد؟ هل يجب أن نشيْطن كل من سبقونا في خدمة الوطن بعد كل وجع يشعر به جسد هذه الأمة؟ ألا يجدر بنا أن نعتبر مما حدث، ونبدأ بإصلاح حالنا وأحوالنا؟

أتساءل: ألا يتساءل أحدكم لماذا كل هذا العزوف عن تحمّل المسؤولية؟ أليس للفصل السادس والتسعين من المجلة الجزائية دور كبير في هذا العزوف، الذي أفرغ مؤسساتنا من كفاءات كنّا نفاخر بها، ونطمئن بوجودها على حالنا وحال مؤسساتنا وحال البلاد؟ ثم، أليس للفصل الرابع والعشرين من المرسوم عدد 54 نصيب مما نحن فيه، ومما عشناه ونعيشه؟ فمن كان يرى في السور عيبًا وخطرًا، لن يكتب عن الأمر، ولن يُنبّه لخطورته، خوفًا من أن يُتهم بنشر أخبار زائفة وإشاعات كاذبة…

ألم نغرق اليوم في وحل الفصل السادس والتسعين، ورعب المرسوم الرابع والخمسين؟ لماذا تنشر تشريعاتنا وبعض قوانيننا الخوف والرعب في نفوس كفاءاتنا، ومن يملكون القدرة على تحسين أوضاعنا؟ أيمكن للأمم أن ترتقي وهي تعيش تحت وطأة الخوف والرعب من قوانينها؟ كيف نطلب من بعضنا خدمة الوطن وهم يعيشون رعب القانون، ورعب الحقد، ودعوات الإقصاء والثأر والانتقام من كل قديم، وكل مخالف في الرأي، وكل من لا يعلن لنا البيعة، ولا يقف صارخًا “مزغردًا”، مصفقًا لأخطائنا، ملمّعًا لفشلنا، داعيًا لنا بطول العمر وجزيل الثواب؟

يا من تستمتعون بوجع خصومكم، ومن لا تتفقون معهم، ومن تركوا أثرًا طيبًا وانتصروا عليكم بما حققوه وأنجزوه…الوطن أمانة بين أيادينا جميعًا، فجنّبوه الفتنة، وجنّبوه الأحقاد، وحافظوا على سور الوطن…ولا تخربوا سقفه، فإن انهار سقف الوطن، فنحن، نحن الشعب، من سيدفع الثمن… نعم… نحن الشعب من سيدفع الثمن.

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم… الورقة 114

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

في جويلية 2004 انتهت حقبة اذاعة صفاقس مع السيّد عبالقادر عقير رحمه الله وغفر له وعُيّن السيد رمضان العليمي كبديل له وتحديدا يوم 12 جويلية…

عبد الكريم قطاطة

والسيّد رمضان العليمي شغل قبل تعيينه على رأس اذاعة صفاقس منصي كاتب عام للجنة تنسيق “التجمع الدستوري الديمقراطي” (الحزب الحاكم وقتها) بقفصة ثمّ مديرا لاذاعة تطاوين… وكعادة ايّ مدير عند تسميته اجتمع بالمسؤولين في الادارة بقاعة الاجتماعات المحاذية لمكتبه… ليعبّر وكأيّ مسؤول عن امتنانه لرئيس الدولة صانع التغيير لتشريفه بتلك المهمة… وعبّر وكسائر المديرين عن سعادته بوجوده في صرح اذاعتنا ونوّه بتاريخها وبالسواعد التي عملت فيها… ودون الدخول في تفاصيل اخرى تعرفون جيّدا تلك الخطابات الممجوجة التي يلقيها المسؤولون في مثل تلك التعيينات…

بعد ذلك تعرّف على المسؤولين فردا فردا… ولمّا حان دوري نظر اليّ السيّد رمضان العليمي وقال: (سي عبدالكريم اشكون ما يعرفوش انه اشهر من نار على علم، وهو بالذات عندي حديث خاص معاه)… وانتهى الاجتماع… وبقيت انتظر ذلك الحديث معه… وطال الانتظار… وكتبت له رسالة مطوّلة لم استجدِه فيها العودة الى المصدح فالحرة تجوع ولا تاكل بثدييها… لكن كان من واجبي ان اعطيه فكرة شاملة لا فقط عن وحدة الانتاج التلفزي حيث اُشرف فيها على مصلحة الانتاج، بل عن اذاعة صفاقس بشكل شمولي… وذلك من خلال ما عشته وعايشت فيها مع زملائي من احداث ناصعة البياض واخرى رماديّة حتى لا اقول سوداء…

هذه المراسلة كانت بتاريح 17 سبتمبر 2004 اي بعد شهرين و5 ايام من تعيينه… وها انا اختار الفقرة الاخيرة من مراسلتي الطويلة علّها تًعطي فكرة واضحة عن هدف تلك المراسلة حيث خاطبته بالآتي: (اخي الفاضل… انّ غيرتي على هذه الاذاعة هي وحدها التي جعلتني اكتب اليك فانا لا اطلب برنامجا او فضاء او ما شابه ذلك… ولكنّ الخطر الكبير يتمثّل في عديد الاسماء التي لا يمكن ان تكون امام المصدح وفي عديد البرامج التافهة تصوّرا وانجازا… وفي بعض الاشخاص الذين لا يملكون الحسّ الاذاعي ولا الكفاءة ومع ذلك يديرون امور هذه الدار على هواهم… اخي الفاضل احببت ام كرهت… الآن انت مدير هذه الدار وقدرك ان تعيد لها هيبتها وجمهورها واشعاعها… وهيبتها لن تعود الا من خلال تطبيق القانون ورفع المظالم … وفقكم الله لتسلّق هذه الجبال من المصاعب واعانكم على ان تكونوا كالميزان في عدالته، الذي لا يهمه ان ارتفع بالفحم او باللحم، بالتبر او بالتين… اليست العدالة هي اساس العمران ؟؟)…

السيّد رمضان العليمي كما ذكر في اجتماعه الاول بالمسؤولين وعد بحديث خاصّ معي… وانتظرت ولم يأت ذلك الحديث الخاصّ… وارسلت له المكتوب الذي حدثتكم عنه ولم يأت ذلك الحديث الخاص وها انا انتظر لحدّ اليوم وعده ولم يات ولن يأتي ولا حاجة لي بأن يأتي… لا لانه غادر الاذاعة ولست ادري ماذا اصبح اليوم وكلّ الرجاء ان يكون في صحة جيّدة مع طول العمر… ولكن لانّ الاجابة عن ذلك الوعد الذي لن يأتي جاءتني من احدى الزميلات في اذاعة تطاوين وهي بالاساس مستمعة لي منذ من البريد الى الاثير … وذلك بعد ستّة اشهر من تعيينه على رأس اذاعة صفاقس… حيث خاطبتني عبر مرسال فيسبوكي خاص بالقول: (لا تنتظر مؤازرة من السيّد رمضان العليمي… انه لا يكنّ لك الودّ وهذا عرفته عندما وددت تكريمك في اذاعة تطاوين ولكنّه عبّر بشكل مباشر انّه لا يطيب بذكرك… لكنّي كنت مصممة على تكريمك واذعن لي لكن لبس عن طيب خاطر)…

انذاك فهمت انّ الحديث الخاصّ معي لن يكون وحتى طيلة عهدته باذاعة صفاقس تحادثنا مرّتين فقط… يوم جاءني لمكتبي بوحدة الانتاج التلفزي ليسأل عن مشاكل الوحدة وندرة انتاجها… اي نعم قلبو وجعو على وحدة الانتاج… وتقولوشي عمل حاجة ؟؟ اقسم بالله وكانّه لم يسمع شيئا مما سردته له… المرة الثانية التي قابلته فيها يوم أقام حفلا خاصا لتكريمي سنة 2006 بعد احرازي على وسام الاستحقاق الثقافي من رئيس الدولة… وهو يصير منو ما يحتفلش بما قرره صانع التغيير؟…

ساعود لموضوع الوسام في ورقات قادمة… سنة 2004 ايضا وبالتحديد في 30 مارس شاء قدر الله ان يحرمني وللأبد من الوجود المادّي لوالدتي عيّادة… كان ذلك يوم اثنين… ولكن في الويكاند الذي سبق يوم الاثنين 30 مارس وتحديدا يوم الاحد 29 مارس كنت والعائلة وبعض من اهلي عائدين من الساحل بعد قضاء نهاية اسبوع باحد النزل… عندما وصلنا الى ساقية الزيت طلبت من سائق السيارة ان يتوقف.. اندهش الجميع لذلك… تصوروا انّ غايتي كان اقتناء قهوة او بعض المكسّرات للسهرة… توقف اذن ونزلت من السيارة وقلت لهم (كمّلوا ثنيتكم انا ماشي لعيّادة نحبّ نطلّ عليها ونبوسها وبعد نجيكم)… اندهش الجميع… يا ولدي اش قام عليك .؟ يا ولدي غدوة امشيلها … يا ولدي الدنيا مغربت .. تي راهي امّك في ساقية الدائر وانت في ساقية الزيت… تي راهو زوز كيلومتر موش شوية… تي هات على الاقلّ نوصلوك…

تعرفوه هاكة البهيم حاشاكم اللي يحرن ؟ اللي يعرفني يعرف انو من طباعي السيّئة وقت نحرن نحرن… وفعلا حرنت وزيد قلت لهم (انا طيلة دراستي الابتدائية كنت نجي من ساقية الدائر لساقية الزيت على ساقيّ… نحبّ نمشي على ساقيّ ونعيش شوية نوستالجيا ذلك الزمن… ايّا امشيو على ارواحكم)… وتوكّلت على الله وخليتهم داهشين في ها المخلوق وفي راسو الكبير وعنادو في احدى تلك اللوحات… صدقا كان هنالك احساس رهيب بداخلي وانا اقطع تلك المسافة… ذكريات… نوستالجيا… سعادة… وحزن لم افهم مأتاه…

وصلت الى مسكن الوالد والوالدة ومعهما اختي نبيهة التي تكبرني بسنة والتي لم تتزوج لإعاقة وُلدت بها ولم تقع معالجتها في زمن كان العلاج الطبّي نادرا جدّا… والتي لازمت الوالد والوالدة طيلة حياتهما، رحم الله الثلاثة… عندما دخلت للمنزل سلّمت على سي محمد… والدي هكذا كنت اناديه لا يا بابا ولا يا بويا ولا يابّا متع جيل توّة… ووجدت اخواتي الثلاث متحلقات حول عيادة… فرحت بي عيادة وباستغراب وقلق عن هذه الزيارة في وقت بدأ الليل يسدل ستائره ونظرت لولدها وسألتني: (يا وليدي لاباس عليكم ؟)… مسكت يدها وقبلتها وقلت لها وراسك الغالي لاباس توحشتك جيت نطلّ عليك اكاهو… تهللت اساريرها ونظرت الى اخواتي وقالت: (ما يعزش بيكم انتوما الكلّ في كفّة وعبدالكريم في كفّة راهو كفّتو تغلب)… وضحك البنات وأجبن (يخخي حتى تقوللنا؟..نعرفوا نعرفوا)… اعدت تقبيل يديها وبشكل جارف، لكأنّ القدر كان يهمس لي… اشبع بيها اليوم لانّها غدا ترحل…

في الغد وانا في مكتبي وكانت الساعة تشير الى الثالثة ظهرا هاتفني احدهم (لم اعد اذكر من هو) وقال لي: امّك مريضة وتحبّ تشوفك… ووجدتني بالنهج الذي تقطن فيه عيّادتي وسي محمد… وتسمّرت ساقاي عن المشي… سيارات رابضة امام المنزل… هذا يعني انّ عياّدة …. نعم دخلت وسالت اخوتي متى ؟ كيف ؟ بالامس كانت في صحة جيدة .. ماذا حدث ؟ لماذا لم تخبروني بما حلّ بها ؟… اجابتني إحداهنّ وقالت… كنا معها نتجاذب اطراف الحديث كما تعرفنا وفجأة قامت وقالت: (صلاتي ابجل من حديثكم سيّبوني نعطي فرض ربّي)… اقامت الصلاة ركعت ثمّ سجدت ثمّ هزّ ربّي حاجتو… وهي ساجدة…

دخلت فوجدتها مسجّاة في لحافها… دلفت اليها بهدوء لم ادر مصدره… رفعت الغطاء عن راسها… قبلت جبينها و قرات عليها نزرا قليلا من سورة البقرة (وبشّر الصابرين الذي اذا اصابتهم مصيبة) الى اخر الاية واعدت تقبيل جبينها و تقبيل يدها الباردة … والتي هي في برودتها وقتها كانت اشدّ حرارة من وهج الصيف في صحرائنا الكبرى… ورفعت يديّ الى خالقي وقلت (يا ربّي يجعلني كيفها)… لقد اكرمها الله بتلك الموتة الرائعة واستجاب لدعوتها الدائمة… يا ربّي يجعلني نهيّر في الفرش ونهيّر في النعش… ولأنّ الله قال في كتابه العظيم، سورة غافر آية 60: (ادعوني استجب لكم) واعاد نفس المعنى في سورة البقرة الآية 186، فالله اكرمها بان لا تقضّي حتّى يوما واحدا مريضة في فراشها…

الحمد لله اوّلا على قضاء الله… الحمد لله ثانيا على انّي نفذت وصيّتها لي بتلحيدها يوم دفنها… كان ذلك بعد اذان صلاة المغرب في المقبرة التي كنت اخاف من المرور بجانبها طيلة حياتي ليلا او نهارا… ولكن واقسم لكم بالله عندما ذهبت لتلحيدها في تلك الساعة، تحوّلت المقبرة امامي الى نور على نور… والحمد لله ثالثا انها رجتني في حياتها الاّ انقطع عن زيارة قبرها بعد وفاتها، وان احكي لها واطمئنها عن كل ما يجري في عائلتي…. وعائلات اخوتي… ووعدتها ولا زلت عند وعدي…

رحم الله عيّادة وابي واخوتي واهلي واصدقائي وزملائي… ورحم الله كلّ امواتكم واطال الله عمركم ومتعكم بالصحة والسلام الروحي …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار