جور نار

ورقات يتيم … الورقة 58

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

وحان وقت العودة ….كان ذلك في شهر افريل 1979 … انتهت حقبة من اهمّ حقب حياتي …اتممت دراستي بالمعهد الوطني للعلوم السمعية البصرية بباريس، متحصّلا على ديبلوم درجة ثالثة في الميدان اختصاص اخراج …

عبد الكريم قطاطة

كنت صدقا مزهوا فخورا سعيدا سعادة طفل يُقدّم دفتر امتحانه لوالديه وهو متحصّل على المرتبة الاولى في دفعته مع شهادة امتياز …كنت جذلان خاصّة والجميع، اساتذة وزملاء تونسيين في اختصاص تقني بحت (مهندسين) يطوّقونني بتهانيهم الصادقة …كيف لا وابن بلدهم يسجّل افضل النتائج من حيث المجموع ويرفع رؤوسهم عاليا ..وللامانة ايضا كان الزملاء الافارقة في دفعتي مقتنعين جدا بنجاحي على راس الدفعة ..ربّما لانّهم اكتشفوا فيّ ميزتين اولاهما انّني كنت اتجاوزهم خبرة وكفاءة وثانيهما انني كنت صديقا حميما لهم حقا لا مجاملة …بل كان البعض منهم اقرب اليّ من بعض التونسيين …

فيليب ندوغوي ذاك السينغالي الاصل كنت بالنسبة له الملجأ ..كان قويّ البنية شهم الاخلاق وعذب الابتسامة الدائمة …وللجميع ومع الجميع …ولكنّه كان كثيرا ما يأتيني الى بيتي في مبيت فيلييه وهو منهار تماما …كان يبكي كالاطفال بل ويصبح طفلا بين احضاني ..هو متزوج واب ولكنّ اقداره ابت الا ان تضعه في فرن الهيام ….وللهيام افران نقرأ عنها ونشتهيها ولكن عندما نقع فيها نعيش الثلج والنار فلا الثلج يطفئ النار ولا النار تذيب الثلج … فيليب تعرّف في المعهد على طالبة جزائرية ووقع كلاهما في شباك الآخر … ولا اتصوّر انّكم لا تعرفون ما معنى الوقوع في الشباك … الانسان في مثل هذه الحالات هو تماما كذلك العصفور الذي يثب على تلك القمحة المعلّقة في صنّارة الفخّ … دون وعي دون قراءة حساب لـ(اش بعدو) … ثمّ يجد نفسه حصل في المنداف…

ودعوني اسأل: هل هناك معنى للهيام اذا تعاملنا معه بمنطق زعمة نوخّر والا نقدّم ؟؟؟ زعمة نوحل ..؟؟ زعمة اشنيّة العاقبة …؟؟ الستم معي في انّ مثل هذه الحالات اذا وضعناها في خانة المنطق الحسابي او لنقل العقلاني تصبح خالية من المنطق الهيامي ..هل تساءل يوما مجنون ليلى عن اش بعدو ..؟؟ هل تساءل روميو عن غده مع جولييت ..؟؟؟ هل تساءل شمشون عن هيامه بدليلة الذي اوصله لهدم ما حوله من بنيان وهو يقول (عليّ وعلى اعدائي )؟؟؟ الهيام هو منطق لا منطق فيه …وهكذا كان فيليب مع زميلته الجزائرية …حبّ جنوني غامر من جهة وابواب موصدة تماما أمام مصير ذلك الحب ….يوم حصولي على الديبلوم قال لي فيليب: وانا لمن ستتركني …؟؟؟ وذاك كان درسا عميقا من الدروس التي تعلمتها في حياتي وصاحبتني في جلّ علاقاتي مع الاخر …اذ انّي حاولت جاهدا الا اخذل جلّ من عرفت حتى لا اتركهم …

في النصف الاخير قبل عودتي النهائية لتونس زارني احد الاصدقاء من مدينتي … هو اتى خصيصا لقضاء شؤون كثيرة من باريس ومن ميلانو بايطاليا… عرض عليّ مصاحبته لميلانو وقبلت ذلك عن طواعية لانّه من الاصدقاء المقرّبين لي … كانت زيارته اثناء المعرض الدولي لميلانو

(وهاكي المعارض والا بلاش _ فقط اكتفي بالقول انّه يعرض كلّ شيء بما في ذلك الطائرات ..ليست تلك التي كنّا نركبها ونحن اطفال في معرض صفاقس لصاحبها صالح الجربي رحمه الله… ولاصلاح اسناد الضمائر اعتذر واقول كان الاخرون يركبونها لأني كنت “طلطول” ولم اتجرّأ يوما على ركوبها خوفا وجبنا … في المقابل كنت اكتفي بل واستمتع بركوب تلك السيارات الصغيرة التي تشتغل بالكهرباء والتي كنت وامثالي نجد متعة فيها… فقط لأن الفرصة مواتية باش نتسلّطو على البنات اللواتي تركبن البعض منها فنصطدم بهنّ عنوة وزيد بكلّ قلّة حياء نقوللهم خاطيني، ثمة شكون دزّ كرهبتي يخخي اتضربت في كرهبتك … رغم انو الاصحّ ولو كان الدنيا دنيا كنت نحب نقوللها اتضربت فيك ….شفتو ما اشطنّي مللّي انا صغير ..؟؟ اش نعمل ..هاكة حدّ الجهيّد) …

في معرض ميلانو شفت العجب ..قضينا يوما كاملا فيه ولم نزر منه الا عُشُره مساحة … في الغد كان في برنامج صديقي ان ننتقل الى احدى ضواحي ميلانو لاتمام صفقة تجارية هامة بالنسبة له ..لم اكن اعرف ماهي بالضبط ولم اسال عنها فتلك شؤونه ..قبل مغادرة النزل مدّني بكمّية هامة من العملة الصعبة (الفرنك الفرنسي) ورجاني ان اضعها تحت ثيابي تماما كما وضعها هو (اي نعم عبدالكريم اشتغل مهرّبا!)… ركبنا حافلة النقل العمومي التي ستّقلّنا الى محطة قطارات ضواحي ميلانو …كانت الامور هادئة جدا ..وكنت كمهرّب اُجيد دور ذلك اللامبالي ..لكأني اشتغل في عالم التهريب منذ سنوات ….رغم انّ ما احمله من ملابس كانت كافية للشكّ فيّ (سروال دجين، مريول بحارة ابيض مخطّط بالازرق “ماران”، لحية سائبة وكثيفة وكأني سبقت جماعة داعش العلنيين وأيضا المتخفّين وراء شعارات “الاسلاميين المعتدلين” وهم اشدّ بلاء…

توقفت الحافلة عند وصولنا وكنّا نهمّ بالنزول حين صاح احد الركّاب العرب (وهو عُماني): سرقولي فلوسي… سرقولي فلوسي اولاد الحرام … ولا طاح لادزّوه كبّش السيّد في كرومتي ..انت …هكذا وبكلّ وثوق قالها وهو يشير الى عبدالكريم …. تمالكت وقلت له: يخخي تفدلك …؟؟؟ ثارت ثائرته وازبد وارعد: انت ومانيش مسيّبك كان في الشرطة .. الف فرنك فرنسي هزيتهملي من مكتوبي …فرنك فرنسي ؟؟؟ مشيت فيها يا عبدالكريم … اشنيّة حجّتك والبوليس الايطالي يفتّش في ثيابك ويجد الفرنك الفرنسي بين ملابسك ..؟؟؟ اش ماشي يكون موقفك امام الامم المتّحدة .. واعني بها عائلتي …زملائي في المهنة …زملائي في الحومة …خطيبتي ..عيادة ….اش هالفضيحة … على وجه شكون صبّحت ؟؟؟ الله يهديك يا محمد (اسم صديقي) توّة انا متاع هالاشياء ..؟؟؟ انا وجهو ؟؟؟ وانا الذي لم اسرق ابدا في حياتي الا وانا طفل ذلك التفاح من جنان الجيران واللي كليت عليه طريحة نباش القبور …او ذلك العصبان من زير المسلّي بمؤامرة ابن عمّي ودهانو كان كافيا لكي لا افلت من عينيْ عيادة ….

دعوني اقل لكم انّ اجمل الدعوات التي كانت تغدق بها عليّ عيادة كانت (برّة يسترك ويستر ذراريك دنيا وآخرة)… نعم كانت تلك الدعوة حاضرة وبشكل خرافي في كلّ مراحل حياتي …التفتّ بابتسامة صفراء ولكنّها ماكرة وقلت لذلك العماني: اعرفني انا شكون وبعد نمشي معاك وين ما تحبّ… ودلفت يدي في جيبي لاقدّم له بطاقتي المهنية حيث فيها انتمائي الى مؤسسة الاذاعة والتلفزة التونسية …. بحلق العُماني فيها ثم وبـ180 درجة خجل من نفسه واصبح يترجّاني ان اقبل اعتذاره …خويا تونسي وفي ميدان الاعلام ..بجاه ربّي سامحني الله غالب خوك من عُمان محروق على فلوسي واللي ما يعرفكش يجهلك ….وتنفست الصّعداء … ياااااااااااااااااااااااه في مثل تلك الحالات نعرف قيمة الاوكسيجين الحقيقي …ولكن وبعد مرور العاصفة نعرف الاهمّ … قيمة التونسي لدى الاشقّاء …زيدو قولو بورقيبة بيه وعليه …انا مرة اخرى اقول أن الزعيم بورقيبة اقترف عديد الاخطاء في مسيرته والبعض منها فادح وجدا ..ولكن ايضا هو زعيم اعترف له بالفضل الكبير في الوجه المشرّف جدا الذي كان يحظى به التونسي في المشرق والمغرب… وهو ما عشته ولمسته في كل البلدان التي زرتها عربيا واوروبيا هذا اولا … ثمّ اخطاء كارهيه وحتّى جرائمهم لا تقلّ فظاعة عن اخطائه …وفي هذه النقطة هم في جلّهم جزّار يعظّم على مراڨزي…

وتكملة للامثال الشعبية التي كم هي معبّرة دعوني اذكّركم بمثل شعبي آخر ليكون منطلقا لآخر ما قمت به قبل عودتي النهائية الى تونس …الفلّوس ما ينقر كان عين خوه …هذا مثل ينطبق تماما على السيارة التي اشتريتها بيجو 204 حمراء مازوت عمرها شهران …كيف لا وانا عائد من فرنسا بعد ثلاث سنوات …؟؟؟ معقولة ما نبرّدش حق كرهبة ؟؟؟ صحّيتك يا سي المدكّ ترجع بخُفّي حنين …للامانة كنت ادرس واشتغل احيانا مع شركة سينمائية خاصّة كمركّب افلام ..تتذكّرون جيّدا تلك الاستاذة المركّبة الرئيسية التي كانت سببا في انتقالي من دراسة مستوى ثان الى مستوى ثالث ..انّها هي ذاتها التي عرضت عليّ فكرة العمل نهاية الاسبوع مع شركة خاصّة… كنت اتقاضى الخير والبركة 30 الف اجرة نصف يوم من العمل بينما كانت منحتي الشهرية 130 الف ..ولمعلوماتكم القطاع السمعي البصري في التلفزيون والسينما هو من ارفع القطاعات اجورا في العالم ….قلتلكم الخير والبركة… الشيء الذي مكّنني من ادّخار الكثير.. انفقت البعض منه في شراء لوازم جهاز خطيبتي و جهاز خطيبة صديقي واخي رضا لانّه لا يُعقل عندي ان اشتري لخطيبتي ولا اشتري لخطيبة صديق عمري… وادّخرت البعض الاخر من المال لشراء السيارة .وللاشارة ليس معنى هذا اني كنت(قرنيطة)… ابدا وحده الله يعلم قداش فلّقت وترتقت فلوس ولحدّ يوم الناس هذا مازلت كذلك ..وهو عيب آخر من عيوبي لم ولا اظن استطيع يوما ان احسن التصرّف في كل ماهو فلوس ..

عرض عليّ احد الاصدقاء (وهو صفاقسي ابا عن جدا) ان يبيعني سيارته الجديدة بيجو 204 وبثمن معقول جدا ان لم يكن زهيدا …ايه مازال الخير في الدنيا زايد ما يحن عليك كان ولد بلادك … وزيد ديازال …هذي جنّة بالبقلاوة… طرت فرحا لا بمعرفة معنى كلمة البقلاوة (بالمغربي وهي غير محبذة هناك) بل بسيارة جديدة بالكاد عمرها شهران … ودون اطالة اكتشفت بعد سنوات قليلة انّي حصلت كي الضبع لانّها من اسوأ الماركات في تعقيدات ميكانيكها …وحتى لا اكون جاحدا يكفي ان اقول انّي هتّكت بيها تونس من بنزرت لبن قردان …وعملت بيها البطيط … الا ان متاعبها ونكساتها كانت تذكّرني بالمدّب التريكي والد صديق عمري الذي عرض عليه ابناؤه فكرة شراء سيارة… وكان له صديق اسمه رمضان كثيرا ما يجده منهمكا في اصلاح عربته الحطام… اجاب المدّب ابناءه بقوله (علاه تحبوني ضحكة كيف رمضان اللي يقعد تحت منها اكثر مللي يقعد فوق منها؟؟؟)… حتى لا اطيل عليكم سيارتي كان آخر عهدي بها عندما تعنّتت ذات يوم امام ملعب الطيب المهيري واقسمت باغلظ الايمان انّها ماعادش تزيد خطوة معايا ..فما كان منّي بعد ان رجوتها عديد المرات …(يا 204 يهديك .. يا بنتي يكون العقل منّك .. يا طفلة على الاقلّ وصّلني للدار وبعد يعمل الله) …كانت في قمّة عنادها … وقتها عاد طلعت الكلبة بنت الكلب وحبّيت نعمل فيها راجل ..غزرتلها وقلتلها ..طالق بالثلاثة والثلاثين … هاتفت الميكانيكي الذي تعوّد على نزواتها وقلت له السيارة موجودة بجانب ملعب الطيب المهيري وانت بيع ..احرق .. لوّح ..اعمل اللي يظهرلك …

كان ذلك بعد خمس سنوات من شرائها ..ذات يوم اقبل عليّ مع مُشتر ..قلت له راك ماشي تدفع فلوسك حرام ..ما تقولش غشّني والله في بلاصتك لا نشريها بدينار ..ضحك وقال: باهي اما انا شاريها… واشتراها منّي بـ 300 دينار… كان فرحا مسرورا وكنت اشد غبطة منه ….ذات يوم قابلت ذلك الصفاقسي الذي باعني اياها في فرنسا ..سلّم عليّ بحرارة وصدقا لم استطع مبادلته تلك الحرارة …لم احدّثه في امرها وابتلعت ريقي … الدڨان في الجيفة حرام …في نفس ذلك الاسبوع الاخير قبل عودتي اي في نهاية شهر افريل ..اتصلت بي تلك الاستاذة التي درّستني في المستوى الثاني المونتاج… اتصلت بي هاتفيا بالمعهد ورجتني انتظارها للقائها لامر هام ومستعجل جدا … ان شا الله خير … وما هي الاّ ساعة حتّى قدمت مرفوقة بسيّد تبدو عليه علامات الوقار والشياكة …تصافحنا ودعتني على قهوة بمشرب المعهد …لم تطُل حيرتي خاصة وهي تقدم لي مرافقها ..هذا هو صاحب الشركة الخاصة الذي كنت تتعامل معه احيانا في تركيب الافلام ..جاءك اليوم يريد ان يقدّم لك عرضا بعد انتهاء دراستك بتفوّق وتميّز …السيّد كان عمليّا جدا… شوف سي كريم ..انا حريص على خدماتك وساعرض عليك عقدا تفاصيله كالآتي: هو عقد لمدة 5 سنوات امكّنك فيه عند الامضاء من 50 مليون منحة امضاء مع الترفيع للضعف في اجرك اليومي الى 120 د … (طلعت نيمار وانا ما في باليش !)… ابتسمت له وقلت …

انتظروا موقف نيمار كيف كان وخاصة لماذا كان كذلك، في الورقة القادمة …يخخي انتقال نيمار من البارصا القارصة (هاذي قرصة من مدريدي) لباريس سان جرمان وذلك التشويق الذي سبقه، خير منّي زعمة ..؟؟؟ انا على الاقلّ عندي اسبقية تاريخيّة عليه …. انا نحكي على نيمار 1979 ونزيدكم زيادة اللي حبّ يشريني موش قطري … خاصة انا نحبّهم برشة هاكة الرهوط …

ـ يتبع ـ

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version