تابعنا على

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 59

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

يعتقد العديدون انّ الحياة فُرص يجب على الواحد منّا ان ينقضّ عليها حتى لا تضيع منه … والانقضاض عندي اراه دوما فعلا وحشيا مهما غلا وعظم حجم تلك الفرص والتي يطلق عليها البعض صفات من نوع (فرصة ذهبية ..فرصة العمر ..فرصة لا تُعوّض).. الى غير ذلك من التوصيفات والتي هي في جُلّها مقترنة برؤية مادّية بحتة للحياة …

عبد الكريم قطاطة

لكأنّ سعادة الفرد مرتبطة اساسا بالثّراء المادّي ولا شيء سواه، حيث وبالتدرّج في تلك المنظومة يصبح الفرد عندي عبدا لثروته لا سيّدا لها او عليها… وانا رافض تماما ان اكون عبدا للمال بمفهوم الانقضاض وعدم تفويت الفرص والدخول في مسالكه بكل نهم، لاصبح من طابور ذلك الفيلق الذي يصبح عسّاسا على ثروته، يعيش دوما القلق من خسارة الدينار الواحد ..فالمليون الواحد … فالمليار الواحد … وهل من مزيد … عشت واعيش وساموت في ضيق مادّي ومن فصيلة (صبّوشي؟) …ولكن لن يجرؤ ايّ كان يوما على حصري في مثلّث الرعب البرمودي والمتمثّل في: (من اين لك هذا ؟؟؟) … وهذا فصيّل لو فًتح في تونس لاستوردنا من البلدان الصديقة والشقيقة عددا مهولا من القضاة في بدء العمليّة، وعددا اكبر من السجون في نهايتها …طبعا لو طُبّق القانون على جميع لصوص تونس قبل 14 جانفي وخاصة بعده…

لكن صدقا ما تحلموش ..ما سيقع لن يكون الا عمليات بهلوانية فيها تصفيات حسابات… بل حتى هذه لن تُجدي نفعا لأن قاعدة تعرّي نعرّي ستُلجم الجميع عن نبش الملفّات ..وسنعود الى السماء صافية والشمس ساطعة و في هذه الحالة والبوم يغرّد (على روسهم ان شاء الله)… هكذا كانت قناعاتي من المال وهكذا ساغادر يوما الحياة …

عندما عرض عليّ ذلك اليوم صاحب الشركة الخاصّة العمل معه وانا على ابواب العودة الى بلدي، كانت عيناه متسمّرتين على عينيّ وكانت عينا استاذتي الوسيطة في العرض على عكسه مسدلتين الى الارض وكأنها تريد ان تقول بتلك الحركة (خاطيني دبّر راسك انت تعرف اش يصلح بيك)… طبعا هي تعرفني ..تفهم من انا .. تُحسّ ربّما ما سيكون موقفي ..الم اقل لكم انّ علاقة الطالب باستاذه في المعهد تتجاوز تلك العلاقة الاكاديمية الكلاسيكية الجافّة؟ ..كنّا داخل الفصل وخارجه نتحاور في كلّ شيء …في المُباح وفي غير المُباح ونعيش معا ونسهر معا و … معا … معا وايضا في المُباح وغير المُباح لذلك كانت تتحاشى النّظر اليّ (عيني في عينك) لا خوفا من كشف المستور عن غير المباح… ولكن خوفا من الشعور بأنها ورّطتني في موقف قد تُلام عليه منّي وانا الذي تعوّدت بل تمرّست على الاجهار بمواقفي معها ومع غيرها دون وجل او احترام تقليدي لعلاقتي بها كاستاذة ..خاصّة وهي تعرفني من رأسي الى قدميّ …

انتهى صاحب الشركة من تقديم عرضه الذي هو بمثابة ثروة طائلة في تلك السنين ولم يطُل صمتي …ابتسمت وقلت بهدوء وصدق ووقار… سيّدي الكريم … بقدر ما اُثمّن عرضكم وثقتكم في شخصي والذي يُقاس عند آخرين بميزان الكنز، بقدر ما عليك ان تعرف انّ هناك في بلدي كنوزا لا تُقدّر بكُل كنوز الدنيا …لذلك اعتذر جدّا واشكر لك مرّة اخرى هذه الحركة …اندهش صاحب العرض وقال: هل ترى انّ العرض غير مناسب في حجمه المادّي ..؟؟ الا يمكن ان نتحاور ؟؟… وقتها تدخّلت استاذتي بعين لامعة سعادة وفخرا وقالت ساختصر لك الامر ..كريم هو طالبي نعم ولكنّه صديقي ايضا ..كريم من قماش آخر .. كريم مجنون وهو رائع لأنه مجنون … اذهب في سبيل حالك لن ينفعك الجدال معه …

استاذن صاحبنا ليغادر والف سؤال يلفّ رقبته لعلّ ابرزها ..كيف يُفكّر هذا الكريم المجنون ..؟؟؟ … الاثرياء عموما يندهشون وهم يعرضون عليك الدّخول معهم في ايّ مشروع وانت تعتذر بكلّ ادب ..هم ربّما يذهبون الى حدّ تصوّر رفضك لهم قلّة ادب …لأنهم يعتبرون عروضهم “مزيّة عليك” فكيف ترفض جميلهم؟ …هم ومن خلال ثروتهم يرون الآخرين عبيدا لمقترحاتهم المُغرية .وعليك ان تُهلّل وتُكبّر وتبوس اليد التي امتدّت اليك اي اياديهم ..في حين انّي اجد احيانا نفسي قريبا جدّا (لو تخلّيت عن جُبة الاحترام الذي تربيّت عليه) قريبا جدا من ان اوافيهم بافضل ردّ فعل على مقترحات البعض منهم… وهو ان اتبوّ… على اياديهم نظرا إلى ما في تلك العروض من قذارة وحقارة … هم يعتبرون انفسهم في سوق نخاسة وباستطاعتهم ان يشتروك مهما غلا ثمنك ..ولم ينتظروا يوما ان يأتي الواحد منّا ليقول لهم طززززززززز فيك وفي فلوسك انا لا اُشترى .. وللامانة هم معذورون نسبيا في ذلك لأنّهم ومن خلال حقل تجاربهم اكتشفوا انّ العديدين منّا ونظرا لخسّة انفسهم وذُلّهم …يصُحّ فيهم ما قاله المتنبّي في بيت من اقذع بيوت الهجاء في الشعر العربي وهو يشتم كافور (واذنه بيد النخّاس دامية .. وقدره وهو بالفلسيْن مردود)…

ماكاد الرجل يغادر المقهى حتى تركت استاذتي العنان لاناملها تداعب بعض الشّعيرات التي تدلّت على جبيني وتهمس: “هيّا قل كريم ما لم تقله لذلك السيّد… كنت واثقة من رفضك ولكن اريد ان تحكي المزيد …انا اعرفك واعرف من تكون ..فقط اريد ان اسمعك اذا لا ترى ازعاجا في ذلك” …قبّلت يدها بكل حنّية وقلت …اعتذر ولكن هذه القبلة ليست لك ..انّها لعيّادة … وجمت لا كأنثى تغار من انثى اخرى …بل كالاطرش في الزفّة الذي لم يفهم شيئا وسالت: “عيّادة هذه خطيبتك في تونس؟”.. قلت لها … خطيبتي هي ايضا عيّادة .. ايضا ؟؟؟ .اذن من هي عيادة الاخرى ..؟؟ هيّا احكي لي عن هذه المحظوظة جدا بك …وهنا وضعت اصابعي على فمها وقلت لها اصمتي ارجوك …عليك ان تفهمي انّ الحظّ ليس دائما كما يتوهّمه الواحد منّا ..انا هو المحظوظ بعيّادة وليست هي ..انّها والدتي …

في هذه الحالة بالذات يصعُب على الاوروبي ان يُحسّ بمعنى ما اقول ..فالحب والاهتمام عنده مكفول امّأ للزوجة او الحبيبة او العشيقة ..امّا ان يصُبّ في مدار الأم فتلك من العجائب عنده… وهذا يعود بالاساس الى انهيار مفهوم الاسرة اذ كيف لرجل في مقتبل العمر مثلي ان يتحدث بهذا الشغف الهستيري عن حبّه وتعلّقه بوالدته … خاصّة انّ اوديبهم حاضر في تفسير تلك العلاقة … قلت لها وانا المح رعب الدهشة في عينيها: “يا سيدة ماري في بلدي معايير العشق عندنا تختلف جذريّا عنكم ..انا اعشق جدا حومتي لحد الهوس ..حومتي على تواضعها (ساقية الدائر ) والتي كم عاثت فيها الفيضانات كلّما نزلت بها امطار قليلة …حومتي التي لا تجد بها قاعة سينما فتُعرض افلام كتابة الدولة للاعلام والثقافة على جدران معاصر زيتونها … حومتي التي لا توجد في كل قاعات السينما بباريس من الحي اللاتيني الى الشانزيليزيه افلاما امتع من افلام حياتها اليومية البسيطة الرائعة …من ذلك الدلاّل الذي ينبري يوميا وهو في الثمانين من عمره يشتغل بالمناداة على منتجات الفصول من الدلاع الى كبش العيد دون كلل او ملل… ودون ان يُغلق طريقا او يّعطّل حركة لود لمجرد أن ولده امسكه البوليس متلبّسا بسرقة ما ..

الى ذلك الفطايري الذي لا يقلّ تقدما في السنّ عن الدلاّل، وهو لا يفتأ يطلب من ابنه ان لا يتوقف عن مد النار بمزيد من الحطب بقولته الشهيرة (احمش احمش) ثم وبكُمّ يده يمسح عرق جبينه … الى ذلك التاجر الذي يبيع الحليب وهو حافي القدمين بعد ان كان قد ملأ قارورة حريف آخر بالڨاز…ولكم ان تتصوروا ذلك الخليط الكيميائي بين الحليب والنفط…الى ذلك الحمّاص (سي مبروك) وهو يقلي يوميا حميصاتو وڨليباتو السوداء بعيدا عن التبعية العثمانية في قلوب بيضاء (هاكة اش ناقصنا في تونس كلّو تمام اشنوّة المانع انّو نستوردو من عند سي اردوغان شويّة قلوب فيها الخير والبركة من عند الخليفة السادس ..الله لا تحرمنا من بركاتو ويحرم ازلامو من كل خير وبركة) … يا سيدة ماري انا في بلدكم لا آكل… انا اقتات …ماذا يُساوي طبقكم الاشهر امام (مريقة بالخبز الشعير وصبارص الزروب زادة وعزيّز الشيتة “حوّات حومتي” يتغنّى به وكأنّ طارة الحوت، الوعاء الخشبي لوضع السمك، تتحوّل الى عشيقة فكيف يبيع دون ان يغنّي لعشيقته ..يدلّلها يغازلها…او الزروب الغربي ..يرتع في الحماضة؟.. ماذا سيكون موقف ايديت بياف او شارل ازنفور وهما يستمعان الى تلك المعزوفة …

هذا عن حومتي امّا عن مدينتي فكيف يمكن لي ان اعيش دون ان اتجوّل في ازقتها الضيّقة ..هل سمعت يا ماري يوما بزنقة اسمها زنقة عنّقني؟… في لعبة البازڨة هنالك قاعدة تقول (ع الكلمة تروح) اي ايّة كلمة تصدر منك في اللعبة تلزمك تماما ولا مجال للتراجع عنها …وماري وهي تستمع الى كلمة عنّقني اشتغلت بتلك القاعدة …عانقتني وقالت اتمم ارجوك …حدثتها عن صفاقس ومدينتها العتيقة (اللي كبّ ربّي سعدها في السنوات الاخيرة واصبحت مرتعا للمجرمين والسكارى وملاذا للمزطّلة والباندية) … حدثتها عن المنازل انذاك وعن هرع العائلات الموسرة اليها شتاء… والتي تحوّلت الان في جلّها الى مصانع للاحذية تفوح منها رائحة الفئران وهي تتسلل ليلا لتعيش زطلتها برائحة الكولّة …حدثتها عن باب الجبلي ومحطّة الحافلات حيث يلتقي سكّان كل مدينة صفاقس من سيدي منصور الى خنافس وعقارب (المطار حاليا) في تلك المحطّة ذهابا وايابا ..حدثتها عن صفاقس على عجلتين وهي انذاك المدينة الثانية عالميا في استعمال الدراجة الهوائية بعد امستردام والتي تأخرت بعدها بسنوات قليلة الى المرتبة الثالثة بعد ان ازاحت شنغاي الصينية الجميع واحتلّت المكانة الاولى …وهذا امر طبيعي اذ كيف لا تتأخر صفاقس مدينة الخبز ومرقة والموبيلات الزرقة وعن عن عن، الى الوراء وهي التي كتب لها كارهوها ان تتأخر في كل شيء الاّ في العلم والعمل… وصدقا هناك من يموت يغيظه وقهرته من كارهيها لهذا التفوق التاريخي …

لن نقول لهم موتوا يغيظكم كما قالها ذلك المعتوه (غنيم) بل نقول لهم قلّدونا في العلم والعمل من اجل انقاذ تونس من براثن غنيم ومن لفّ لفّه _..حدثتها عن السي اس اس وعن عشقي المجنون لهذا الفريق وقلت لها في سخرية ماذا يساوي بلاتيني متاعكم امام العقربي ..حدثتها عن تونس بلدي الذي رغم كل مشاكله السياسية انذاك وعن نقص الديمقراطية والحريات فيها، هي من اجمل بلدان الدنيا بسيدي بوسعيدها … بحنايا زغوانها …بقربصها الدافئة …بشط جريدها … بسواعد ابنائها في المناجم … وبدماثة وذكاء ابنائها في ڨبلّي ودوز الشرقي ودوز الغربي… بحنّاء ڨابسها …بسحر جربتها … باصالة قيروانها …بالنخيل الشامخ في توزرها … بساحلها المتعدد الالوان… ببنزرتها مدينتها المناضلة … بشمالها وجنوبها … ببحارها وجبالها ..يزياتينها المباركة هنا وهناك …بكلّ شبر من ترابها …يعبق تاريخ مجيد وعامر بالحضارات … فكيف لي ان ابيع هذا الجمال بفرنكاتكم …؟؟؟ كيف لي ان انسى خطيبة لم تعرف في الدنيا سواي وانا العبيط الذي زرع هنا وهنالك وانت ادرى الناس يا ماري وحتى خطيبتي تدري…

هكذا انا لم اخف عنها شيئا …كيف لي ان انسى عيّادة امّي التي بقيت ثلاث سنوات ترسل الآهة تلو الاخرى كلّما استمعت الى الجموسي في (تمشي بالسلامة وترجع بالسلامة( وتردد معه (الله يكون معاك .. يصونك ويرعاك ..تمشي تمشي تمشي …وترجع بالسلامة)… او وهي تسمع وردة في (يا مروّح لبلاد سلملي عليهم .. قتلني البعاد متوحش ليهم( .. ولكن خاصّة لنورا الجزائرية وهي تنعى المهاجر في اغنيتها ..(يا ربّي سيدي اش عملت انا ووليدي … ربيتو بيدي وخذاتو بنت الرومية( … تحكي عنكنّ يا ماري…. عيّادة كانت على امتداد وجودي في فرنسا لم تستطع يوما نسيان ما قاله لها احد الاقرباء رحمه الله وغفر له فعلته (امسح مات ..عبدالكريم اعتبروا اوفا … هاكة توة ياخذلك ڨاورية وما يرجعلكش … تذكرون جيّدا اني طمانتها وهي تروي لي الوشاية ..الا انّ داخلها كأم كان يقول لها ويردّد: (وقتاش يجي نهار وما تتشمتش فيك الاعداء يا عيادة ويرفعلك ولدك راسك في العلالي ؟؟؟) … هل فهمت ماري لماذا رفضت عرض صاحب الشركة ..؟؟ هل فهمت حجم وقيمة الكنوز التي في بلادي ..في مدينتي… في حومتي… في عائلتي …؟؟

وقتها فقط استدرت لأرى عينيها اللامعتين دمعا ..ووقتها فقط ايضا نهضت ماري واستاذنت في المغادرة وهي تقول …كم انا فخورة بك كريم كطالب درس عندي وكصديق عرفته عن قرب ..انا آسفة للمغادرة ولكن لم اعد استطع البقاء لحظة اخرى لأني لا استحقّك …غادرت ماري وكان آخر عهدي بالمعهد وباحدى مكوّناته …ودعوني اصارحكم ببعض احلامي التي لم تتحقق …انا احلم بالعودة يوما ما الى باريس … باريس التي لها فضل عليّ لا يمكن لي ان اقدّره ايضا بثمن …كما اشتهي ان اعود ايضا لشوارعها لأزقّتها لساحاتها للمعهد الذي درست فيه للمبيتات الاربعة التي سكنت فيها …باريس هي مدينتي الثانية بعد صفاقس التي احسّ تجاهها بفيض لا يوصف من الشوق الى كل شبر فيها ..

انا من جيل النوستالجيا ..وافتخر ..انا غير قادر على نسيان تلك الشؤون الصغيرة ما عشت ..تلك التي اما اسعدتني او ارهقتني او عذبتني او شيّختني ..فبها وحدها اظنّ انّي تعلمت بعض الاشياء في الحياة … لعلّني منها تعلّمت الانتباه للتفاصيل الصغيرة عند الآخر… لأنّة البعض حتى وان لم تخرج .. لفرحة البعض حتى وان لم تبزغ …لحبّ البعض (وهنا للامانة العديد) حتى وهو مُحاصر ولاسباب متعددة المشارب ..من هذه التفاصيل الصغيرة تعلّمت ان اُمشي دوما في دروب الحب واروع حب هو من يتمشّى فوق حدود السماء …و كذلك ان ازرع بذور الحب … لنكون كعبّاد الشمس نتطلّع دوما الى نور الشمس لا الى ديجور الظلام …بكلّ حب زهرة عبّاد الشمس احبّكم …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 69

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

وكان ايقاف الكوكتيل في اكتوبر 1982… وكان عليّ ان اقوم بعمل ما… ليس من طباعي ان ارضى بالقرارات التعسّفية وخاصّة تلك التي اشتمّ من ورائها مؤامرة …

عبد الكريم قطاطة

كان لي يقين بأن المدير بالنيابة انذاك المرحوم محمد الفراتي تصرف تحت نميمة ما… وتأكّد حدسي عندما جاءني الزميل رشيد العيادي بعد اشهر من الايقاف، واسرّ لي وبكلّ حميميّة انّ المرحوم الفراتي خضع لعمليّة ابتزاز من احد النقابيين لا اتقاسم معه بعض المواقف النقابية… انا كنت ومازلت اؤمن بأنّ العمل النقابي على مستوى القيادات العليا انتهى بعد موت حشّاد كعمل نقابي وطني صرف… وانّ كل من جاؤوا بعده كانت اعمالهم تخضع لحسابات سياسية وشخصية ضيّقة… وكنت لا اجد ايّ حرج في الاصداع بهذا الموقف… وبقدر ما كنت اقدّر واحترم صدق نسبة كبيرة من القاعدة النقابية المناضلة بحقّ من اجل مصالح الطبقة الشغيلة، بقدر ما كنت احترز جدا من مواقف الهياكل العليا …

هذه المواقف لم تكن لتُرضي بعض الاطراف النقابية في اذاعة صفاس وكانت ترى في اجهاري بها زعزعة لمكانتها ولنفوذها… خاصّة ان العديدين بدؤوا يحملون نفس مواقفي لذلك كان من صالح هذه الاطراف النقابية ابعاد عبدالكريم مع ضمان فترة علاقة سلمية مع الادارة، وهكذا لا يجوع الذئب ولا يشتكي الراعي …

في الاسبوع الاول لايقاف البرنامج لم اكن اعرف هذه الحقيقة … ولكن مهما كانت الاسباب كان عليّ ان افعل شيئا ما… وقررت ان اكتب واخترت الجريدة الاكثر انتشارا انذاك (“البيان” الاسبوعية) والتي يرأس تحريرها الزميل نجيب الخويلدي وكان المقال الزوبعة “زوبعة باذاعة صفاقس” وبتاريخ 11 اكتوبر 1982 بالصفحة السابعة للجريدة … احتلّ المقال صفحة كاملة من صفحات الجريدة وهو في كلمات مقال موجّه الى المسؤولين عن الاعلام والى القرّاء… فيه تشريح لواقع الاعلام بتونس وفيه حيثيات لما حدث لبرنامج كوكتال من البريد الى الاثير … علما بأني كنت وجهت قبل نشر المقال رسالة الى وزير الاعلام واخرى الى المدير العام لمؤسسة الاذاعة والتلفزة التونسية السيد عبدالعزيز قاسم ولم اتلقّ ايّ ردّ …. علاوة على انّي كنت تنقلت الى رئاسة المؤسسة طمعا في موعد مع الرئيس المدير العام وبتوسّط من مدير الاذاعة الوطنية انذاك المفكّر والاديب والاستاذ الجامعي الصديق رياض المرزوقي، الذي كان وللامانة على قدر كبير من التقدير لي والتعاطف معي …

في الحقيقة كان املي كبيرا في حصول اللقاء مع الرئيس المدير العام السيد عبد العزيز قاسم باعتباره رجل فكر وادب الا انّه رفض رفضا باتا وساطة السيد رياض المرزوقي ورفض وبكلّ حدّة مقابلتي وبالتالي عدت بخّفيّ حنين … لهذه الاسباب وبعد ان استحال عليّ توضيح موقفي ممّا حدث التجأت الى الصحافة المكتوبة (البيان) حتى اُطلع كلّ من يهمّه امر الكوكتيل بما حدث … المقال احدث زلزالا رهيبا نظرا إلى دوزة الجرأة التي جاءت فيه من جهة ونظرا إلى أن ايّ مسؤول في تلك الحقبة (يجنّ جنونو) متى كتبت الصحافة عن خلل ما في مؤسسته …

وكان اوّل ردّ فعل من الادارة العامة ان قرّرت يوم 13 اكتوبر وبمكتوب رسمي اعادتي الى خطّتي كمركّب افلام بالتلفزة التونسية… اي انهاء علاقتي باذاعة صفاقس… يوم تسلّمي المكتوب الرسمي لنقلتي كتبت لرئيس المؤسسة ردّا اعلمته فيه برفضي المطلق لقراره الذي اعتبرته جائرا في حقّي لانه لم يمكّني من سماع موقفي… ردّي كان مرفوقا برخصة مرض من احد الاطباء المختصيّن في الامراض النفسية كما يفعل العديد منّا اتقاء لفحص مضاد من طبيب المؤسسة باعتبار انّ المرض النفسي لا يخضع لهذا الإجراء… اضافة لواقعي العائلي الذي يحتّم عليّ البقاء باذاعة صفاقس…

الا انه وككل المديرين الذين يستاؤون من تنطّع بعض المنتمين الى مؤسساتهم (وهكذا هم يرون في من يقول لا)، ردّ عليّ بالمراسلة التالية يوم 18 اكتوبر: (جوابا على مكتوبكم المؤرخ في 16 اكتوبر 1982 المتعلّق برفضكم الالتحاق بعملكم ضمن اسرة التركيب بادارة التلفزة بتونس، اذكّركم بأنكم تشغلون خطّة مركّب وانّ ضرورة العمل تقتضي ان تباشروا مهامّكم الاصلية بقسم التركيب ابتداء من 9 نوفمبر تاريخ انتهاء رخصة المرض التي تحصلتم عليها، وذلك نظرا إلى وفرة العمل بهذا القسم الشيء الذي يستوجب تعزيز الاطار العامل به. اما الاعتذارات التي قدمتوها كتعلّة لبقائكم باذاعة صفاقس فانها غير مقبولة من الوجهة القانونية وانّ القانون الاساسي العام لموظّفي الدولة يفرض عليكم الالتحاق بمقرّ العمل الذي تعيّنه لكم الادارة. لذا فإن عدم مباشرتكم لعملكم بادارة التلفزة في التاريخ المذكور اعلاه يُعتبر رفضا للعمل ويُعرّضكم للعقوبات الادارية الواردة بالقانون الاساسي. الامضاء المدير العام للاذاعة والتلفزة التونسية) وجاء امضاؤه شخصيّا بعيدا عن العنعنة …

هذا الرد وبما فيه من تهديد ووعيد لم يرعبني بتاتا بل زاد في تنطّعي وقررت التصعيد ولكن دون تهوّر… كان عليّ ان اجد حلاّ يقيني شرّ ردود افعال الادارة فقررت ان اطلب رخصة عطلة لمدة سنة دون مقابل… كنت واثقا من انّي ساحصل على الموافقة لأنهم وبكلّ غباء ينظرون الى الامر من زاوية (اعطيوه رخصة بعام نرتاحوا من بلاه)… قلت بكلّ غباء لأنهم لم يتفطّنوا الى امر قانوني هام الا وهو انّه واثناء تلك الرخصة ولمدّة سنة، استطيع ان اكتب ما اشاء دون معاقبتي اداريا لأنه ليس من حقّ مجلس التاديب ان ينعقد لمحاسبة ايّ موظّف وهو في حالة رخصة طويلة دون اجر …اي بما معناه رضينا كطرفين برخصة دون اجر (وكل واحد شيطانو في جيبو)…

ومنذ قبول الادارة بمطلب رخصة دون مقابل لمدّة سنة حدثت اشياء عديدة … اوّل ما حدث تعيين زميلة في توقيت الكوكتيل ليعود برنامج اهداءات كما كان من قبل… هذا أعتبره امرا طبيعيا للغاية اذ لا يمكن لأية اذاعة ان تتوقّف على اسم ما مهما كان حجمه وعليها ان تسدّ الفراغ البرامجي الذي يتركهه في غيابه… لكن غير الطبيعي ان تستهلّ تلك الزميلة في اوّل ظهور لها بمقدّمة من نوع {بداية من اليوم سنقطع مع الميوعة وستتمكن ايّة فتاة من ان تواكب البرنامج مع ابيها والولد مع امّه!!! …اشنوّة يخخي كنت نعمل في بورنوغرافيا في الكوكتيل ؟؟؟… ولأن التاريخ لن يرحم ايّ واحد منّا، تعود نفس الزميلة وقبل خروجها للتقاعد في برنامج ارادت ان تكرّم فيه بعض الزملاء في مسيرتها… تعود لتختارني من ضمن المُكرّمين… هي لم تكتف باختياري كافضل منشّط في تاريخ اذاعة اذاعة صفاقس فقط، بل قالت بالحرف الواحد: عبدالكريم ليس منشطا فقط هو “ربّ” التنشيط !…

من تداعيات مكتوب رئيس المؤسسة الذي حمل كما اسلفت التهديد والوعيد، ان وجد بعض النقابيين الذين قاموا ببيعة وشرية مع المرحوم الفراتي لازاحة عبدالكريم من امام المصدح… وجد بعضهم الفرصة سانحة ليكتب مقالا مطوّلا عن عبدالكريم وعن الكوكتيل متهما اياي ايضا بالتهريج وبجهل مقوّمات العمل الاعلامي الناضج، ومدافعا عن قرار الادارة دفاعا حتى الادارة نفسها لم تقم به… والحال انّ برنامج الكوكتيل احتلّ في نفس تلك السنة المرتبة الاولى لدى المثقفين والطلبة في حين انّ برنامج ذلك المُدّعي لم يحصل الا على المرتبة العاشرة … وهو بكلّ غباء لم يدرك انّ التهمة التي وجّهها اليّ هي موجّهة ضمنيا للطلبة والمثقفين … وهنا لابد من الاشارة الى انّ السنوات التي تلت ازاحت سحب الخلاف الذي بيننا بعد جلسة تحاور وصفاء …

علاقتي بالمستمعين تواصلت من خلال حوارات عديدة اجرتها معي عديد القنوات الاعلامية في الصحافة المكتوبة… كان الجميع يطالب بمشروعية عودة الكوكتيل… الجرائد وخاصة الاسبوعية منها اصبحت منبرا اعلاميا للمستمعين واصبحت العرائض تفد من كل حدب وصوب وتفتّقت قريحة العديد منهم لتحكي عن مواجعها ….اتذكّر جيّدا برقية تعزية من مستمع في 7 ديسمبر 1982 كتب فيها معبّرا عن لوعته لفقدان الكوكتايل (“يا ايّها القاتلون لا اقتل ما تقتلون ولا انا قاتل ما قتلتم لكم ضميركم ولي ضميري اتقدّم لكم باحرّ التعازي بعد ان لفظت انفاسك الاخيرة اذاعتي ولم تحتفلي بعيد ميلادك الحادي والعشرين. لقد فارقت الحياة وانت في ربيع العمر جازى الله من كان سببا في قتلك. رحمك الله رحمة واسعة ورزق كافة مستمعيك واحباءك جميل الصبر والسلوان وانّا لله وانّا اليه لراجعون”) …

اذكر في هذا الباب ايضا رسالة يتيمة اقسم بالله انّها كانت الوحيدة… جاءت من احدهم تحت عنوان “نعم نحن من اوقفنا الكوكتيل” … ولأنه مرّة اخرى التاريخ لا يرحم، جاءني صاحب الرسالة في وسط التسعينات وطلب المعذرة بعد ان اصبح زميلا في اختصاص آخر وقال لي حرفيا: اريدك ان تغفر لي ما كتبت يوما لأنه انذاك كان السبيل الوحيد لديّ لادخل معمعة الانتاج باذاعة صفاقس، وفعلا نجحت خُطتي ودخلت كمكافأة على ذلك المقال الذي كتبته ضدّك … كان يروي لي والدموع في عينيه وبكلّ خجل… ربّتُّ على كتفيه وغفرت له واصبح من اقرب الزملاء اليّ… ان نسيت لا انسى تعاطف العديد من الزملاء باذاعة صفاقس معي، بعضهم كان يكتب باسماء مستعارة في الجرائد، مطالبين بعودتي (ابتسام المكوّر)… البعض الاخر كان يتحاشى محادثتي امام اعين الجواسيس في الادارة حتى لا يناله الطشّ … فكان ياتيني ليلا الى منزلي ليُعبّر لي عن مساندته المعنوية (العين بصيرة واليد قصيرة)…

وبعد ؟؟؟

بعد ذلك كان عليّ ان اجد عملا ولو وقتيا لضمان خبز عائلتي… انا ساكون ولمدّة سنة دون مرتّب وعائل لزوجة وابنة… وهنا لابدّ من الاشادة بما وجدته من زوجتي ومن عائلتي من مؤازرة كاملة دون اي احتراز… لن انسى افضالهم وصبرهم عليّ… ولكن وبعد يا سي عبدالكريم ..؟؟؟ تكبّر راسك اوكي، اما رزق عائلتك ؟؟ حليب بنتك ..؟؟ تذكرون جيدا فيضانات اكتوبر 82 ؟؟؟ حتى سيارتي انذاك تعاطفت مع الوضع وقررت ان تكون لها رخصة طويلة الامد من جرّاء مياه الفيضانات…يعني كيف تمشي تقطّع السلاسل …وصدقا لم اشعر يوما لا بالحاجة ولا بالندم …كنت وساموت مؤمنا بأنّ الاقدار حقيقة ثابتة لا تُجادل …اذ انّه من قال انّي ساصبح يوما ما منشّطا ؟؟؟ صحيح انّي درست العلوم السمعية البصرية في دراستي العليا بفرنسا… صحيح ايضا ان السنة الاولى من الدراسة خُصّصت للجذع المشترك بما في ذلك التنشيط الاذاعي والتقنيات الاذاعية من ضمن ما درست، ولكن الاختصاص كان الاخراج التلفزي …فاذا كانت الاقدار هي التي جعلت منّي منشّطا وبكل فخر واعتزاز لماذا اشتكي من اقدار اخرى لم تعطني ما اردت ؟؟؟ او نغّصت عليّ بعض ردهات السعادة في ما اردت او احببت ..؟؟؟

ولم تطل مدّة البطالة بلا اجر …تحرّك بعضهم وعرض عليّ فكرة ان اهتم بالشؤون الثقافية في كلّية العلوم الاقتصادية والتصرّف بصفاقس …فؤجئت بالعرض ولكن لم يفاجئني صاحبه …هو زوج الزميلة ابتسام، الصديق العزيز جدّا توفيق المكوّر …اعرفه مذ كان تلميذا في التعليم الثانوي نسكن في نفس المنطقة ولكنّه كان انذاك انزوائيا جدا… وعندما توطّدت علاقتي بابتسام توطّدت علاقتي بكلّ عائلتها وخاصّة بوالدها المربّي الفاضل سي عمر رحمه الله وبزوجها خويا التوفيق …هو انسان عملّي لابعد الحدود جدّي في العمل بشكل منقطع النظير، فنان في جلساته مع الاصدقاء، يهوى الموسيقى الراقية والعزف على العود وهو في تلك الفترة يشتغل كاتبا عاما لكلية التصرّف وله علاقة حميمة مع عميدها السيد عباللطيف خماخم …

عرض عليّ الامر ودون تردد وافقت ..وافقت لا لأنني عاطل عن العمل بل لأنّ علاقتي بالصديق التوفيق تريحني للعمل معه …وصدر يوم 23 فيفري 1983 قرار تعييني من وزارة التعليم العالي والبحث العلمي كمسؤول عن الانشطة الثقافية بكلية العلوم الاقتصادية والتصرّف بصفاقس … وبدات مرحلة مهنية اخرى في حياتي …الم احدّثكم عن الاقدار …حياة الواحد منّا كبحّار يخرج بمركبه الى البحر ويرمي الشباك بحثا عن السمك … هل هناك من يدّعي انّه قادر على معرفة نوع السمك الذي سيصطاده …قد يكون كعيبات صبارص يعملو ستة وستين كيف …قد يكون كعيبات مللو حجر اللي ولّينا نسمعو بيه اكاهو ولسنا من قبيلة هاضاكا … لنجده على طاولتنا … اما الكروفات الروايال هاكي عاد قريب سوم الكيلو يشري مرجع تراب …

فقط كل ما ندعو به الى العزيز الرحمان ان يرأف بذلك البحّار حتى لا يتعرّض في كفاحه اليومي في لجج البحر الى مداهمة قرش، خاصّة ونحن معه نعيش زمن مداهمة القروش من قرطاج الى مونبليزير …

ـ يُتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 68

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

الاشهر الثلاثة الاخيرة من سنة 1982 شهدت اوّل منعرج في حياتي الاذاعية… في البداية كانت هنالك نقاط ضبابية جدا في التعامل مع المدير بالنيابة المرحوم محمد الفراتي…

عبد الكريم قطاطة

احسست بجفاف وبرودة من جانبه على امتداد مدّة لا بأس بها … كنت اظنّ انّ تحوّله من رئاسة مصلحة الاخبار الى مدير بالنيابة، جعله يلبس كسوة الطاووس المزهوّ بالثوب الاداري الجديد خاصّة وهو من الصنف الذي يصعب عليك فكّ شفرات نظراته… اذ قد يبدو سعيدا وهو غير ذلك تماما والعكس صحيح ايضا… وحتى في بعض المناسبات النادرة جدا التي دعاني فيها الى مكتبه كنت افاجأ بحواره معي في شؤونه الخاصّة والتي لا تمت لا للعمل بأية صلة… اذ كان يسألني احيانا عن حيرته في نوعية الغداء التي تؤرّق مضجعه واخرج بيد فارغة واخرى كلّها دهشة…

وللامانة كلّ هذا لا يُنقص من قيمته في شيء كواحد من افضل صحفيي اذاعة صفاقس في فترته …الاّ انّ بعض تصرّفاته كانت تبعث على القلق …ثمّ تجمّدت العلاقة معه بشكل مباشر لتُصبح بالمكاتيب… اتذكّر مرّة انّه سالني بالهاتف عن محتوى حصّتي القادمة من برنامج “كوكتيل” وهو ما لم يحدث اطلاقا مع سلفه المرحوم قاسم المسدّي… وطلب منّي ان يكون الردّ كتابيّا فكتبت له الاتي (وكل الوثائق التي ساعرضها عليكم مازلت احتفظ بنسخ منها)، كتبت له: الموضوع الرئيسي المقترح للحصّة المقبلة سيكون محوره النقل العمومي ومشاكله والهدف منه الاستماع لمشاغل الناس في هذا القطاع الحيوي، واذكّرك انّنا في وسيلتنا الاعلامية اذاعة صفاقس من واجبنا ان نستمع للمواطن ونقول للمحسن احسنت وللمسيء اسأت، واذا يُعاب علينا ان نكون كذلك فذلك شرف لنا، وليعلم كل واحد منّا انّ مسؤوليتنا تاريخية قبل ان تكون وظيفيّة اداريّة ..

كنت مدركا خاصّة بالجملة الاخيرة الواردة في مكتوبي انّي اشير اليه مباشرة بخطابي حتى اوقظ فيه جانب الصحفي المسؤول لا المدير بالنيابة على مقعده الوثير …ولكن يبدو انّ ذلك المقعد الوثير مغر… منذ فتنة عثمان رضي الله عنه هو مغر …ولو ادّى بقاتل أحد المُبشّرين بالجنّة إلى غرس خنجره فيه وهو يصيح (الله اكبر) …وكأنه قتل عدوّ الله … تماما كما يفعل منذ تلك الحادثة كلّ من يتصوّر انّه المهدي المنتظر في زمننا هذا .. رحم الله الامام محمد الغزالي الفقيه المصري في العصر الحديث الذي دعا دعاءه الشهير (اللهم ابعد اهل السياسة عن الدين وابعد اهل الدين عن السياسة) ….

بعد تلك الارساليات فوجئت يوما بنصف ورقة ارسلها اليّ المرحوم الفراتي يقول لي باحرف مبعثرة تشبه جدا روشتة الطبيب في طلاسمها والتي لم استطع فكّ رموزها الاّ بعد الاستعانة بصديق زميل يفهم في الطلاسم… ومفادها هنالك مستمعة اسمها كذا اشتكتك اليّ حيث انّك اهملت رسالتها ولم تردّ عليها … ضحكت صدقا حتى استلقيت على ظهري (ما هذه استلقيت على ظهري ؟؟… هكذا يقولون في القصص عن الامراء والملوك وابو دلامة او جحا يقصّ عليهم النوادر… وهنا لم افهم تماما اللوحة اذ كيف لملك جالس في مجلسه ان يستلقي على ظهره …؟؟ انا ادرك جيدا انّ لهؤلاء بيوت نوم فاخرة متعددة الصفات والمحتويات من القينات والغلمان … ولكن هل وقتها كان الملك (يعمل شاطح باطح) في بيت نومه وبالتحديد على سريره وعمّك جحا يروي نكته وهو راكش يبلع في ريقو .. يغزر وكل شيء فيه حي موش كان عينو حيّة … ساترك الامر للوافدين الجدد على المشهد الاعلامي جماعة شمس الشموسي يتدارسون الامر لأني اقّر بأنهم اكثر اختصاصا وكفاءة منّي .. والله لا يحضّرنا محاضر سوء) ..

اذن تلقّيت الرسالة وكان ردّي في منتهى السخرية… اجبته قائلا: “اوّلا انا لا اعرف هذه المستمعة بتاتا ثمّ وهو الاهم، الكوكتيل ليست له سلّة مهملات” .. اجابني: “انا لم اتحدث عن سلة مهملات تحدثت عن اهمالك لرسالة الصديقة” …شوفو هاكي القضية النووية اللي يحكي عليها مدير مع منتج ؟؟؟ .. ولأنني كنت ومازلت من قبيلة (وإذا عدتم عدنا) كتبت له: “بما انّ البرنامج ليست له سلّة مهملات فضمنيّا ليس هنالك اهمال لأية رسالة “… لم يردّ ولكن بدأت مجموعة من الشكوك تخامرني …اشبيه سي الفراتي هذا …؟؟ يخخي ما رقدش بلقدا قام يتوحّم عليّ؟؟ … للتوضيح انا احكي عمّا وقع في تلك الفترة دون رتوش وللتوثيق فقط لأننا وستكتشفون ذلك علاقتنا انتهت بكثير من الاحترام والتقدير الصادقين …

لم افهم وقتها بالضبط ما يُحاك لي في الخفاء …بل لم اتوقّعه بتاتا …الا انني فوجئت يوم 8 اكتوبر وانا ادخل للاستوديو بالفنّي يقول لي السيّد محمد الفراتي قرّر ايقاف الكوكتيل …حاف … قطّبت حاجبيّ للتعبير عن استغرابي العميق … وسألت الزميل الفنّي … اشنوّة ..؟؟؟ علاش ..؟؟؟ هزّ زميلي كتفيه وقال: ما نعرفش ما عندي حتّى معلومة قالولي قلتلك… خرجت من الاستوديو واتجهت الى مكتب المدير بالنيابة …طلبت من السكرتيرة الزميلة سامية ان تعلم السيد الفراتي بوجودي في مكتبه طالبا مقابلته …كلّمته في الامر ثم اغلقت الهاتف لتبلّغني الآتي: قللك ما انجمش نقابلك عندو ما يعمل …

عندها برز عبدالكريم الخايب للوجود … فتحت بابه دون استئذان ودخلت عليه كان يشرب كأس عصير ويغمس فيه “ڨرن” من البشكوتو… سلّمت عليه بكل هدوء واخبرته بما اخبروني به حول ايقاف الكوكتيل …وسألت: انجم نعرف الاسباب ؟؟… لم يأبه بسؤالي وقال: “انا ما آذنتلكش بالدخول وهذا يتسمّى اقتحام مكتب موظّف اثناء القيام بعمله” … اتّك اتّك شوف هاكي التهمة الخطيرة …نظرت اليه وقلت لشنوة تغطيس الڨرن في الكاس وطرف ما يلحق طرف، من الاعمال الجليلة عندك ..؟؟؟ اجاب من فضلك احترم غيرك … علا صوتي في تلك اللحظة وقلت آمرا ايّاه باصبعي على فمي بما معناه اسكت واستمع اليّ .. نظرت اليه بكل سخرية واستهتار وقلت .ذلك الكرسيّ الذي جلست عليه غرّك كثيرا وتوهّمت نفسك “مدير بالحق” ..ولكن خذه وعدا وعهدا عليّ ستغادر وقريبا ذلك الكرسيّ وساعود الى مصدحي رغم انفك …

لم ينبس ببنت شفة ولا حتّى بربيبتها … وغادرت المكتب والاذاعة الى لست ادري …سرت وحدي شريدا محطّم الخطوات، تهزّني انفاسي تخيفني لفتاتي، بعضي يمزّق بعضي، لست ادري الى اين ..طفت ربما يومها كلّ شوارع صفاقس وكل طرقها وثناياها وكانت عائلتي وكرامة التي لم يتجاوز عمرها بعض الاشهر هي ملاذي … اخبرتهم بالامر ولم اجد منهم جميعا الاّ الدعم غير المشروط وكلّ على طريقته وباسلوبه …

في الغد اتجهت الى الاذاعة لاجد استجوابا اداريا رسميا مرقونا في انتظاري وهذا محتواه (السيد عبدالكريم قطاطة لفت نظري في المدّة الاخيرة انحراف برنامجك “كوكتيل من البريد الى الاثير” عن طابعه التنشيطي التثقيفي الترفيهي وخروجه عنه بتحاليل قضايا سياسية من وجهة نظر تخالف اتجاه البرمجة وسياسة الحكومة، مثل طرق موضوع حول اليهود وفيه اثارة للمشاعر وبث التباغض بين الاجناس، كذلك مثل تعليق على مقابلة رئيستي بريطانيا والهند باسلوب ساخر قدّمت فيه احكاما جملية تقييمية عن سياسات دول العالم الثالث… الامضاء محمد الفراتي مدير اذاعة صفاقس) … يا بوقلب حب يلبّسهالي ولا تقرا لا تكتب هذا اولا، ثم هو مدير بالنيابة اعطاوه الكريّع مدّ ايدو للجديّق ! …

دعوني افسّر لكم ماذا حدث بالضبط في الموضوعين المشار اليهما… اولا بالنسبة لموضوع اليهود قرأت دراسة علمية لتاريخ اليهود منذ القدم دون ايّ تعليق منّي… امّا الموضوع الثاني فقلت فيه استقبلت السيدة انديرا غاندي السيدة مارغريت تاتشر واقامت على شرفها مادبة عشاء… وعلّقت بقولي زعمة مأدبات العشاء والغداء في البلدان الفقيرة موش لو كان وكّلو بيها شعوبهم خير ..؟؟؟… انا واع جدا بأن طرحي ليس بريئا بالمرّة ولكن هذا كان يحدث بشكل دائم في البرنامج مع سلفه المرحوم قاسم المسدّي فما الذي تغيّر ؟؟؟ هل الفراتي اكثر حرصا وكفاءة من سلفه ..يستحيل … خاصّة والمعروف عن المسدّي انّه واحد من جنود النظام وبكل حماسة ..الامر اذن فيه الف واو ..

في نفس اللحظة التي انتهيت فيها من قراءة الاستجواب كتبت له الرد: سيدي (حاف لا اسم ولا صفة ولا مندوب) تحية وبعد (حتى هذي شايحة كما ترون) ردا على ماجاء في مكتوبكم هذا، اعلمكم بأني غير مقتنع بتعليقكم على الموضوعين المشار اليهما حيث انّي اعتبر نفسي المتحدّث عن مشاغل تهم المواطن التونسي بموضوعية تاريخية وعلمية ولا تقبل مجالا للقدح وليس من شانها ان تثير الشغب، حيث يعلم المستمع موقف البرنامج من اليهود ومن الصهيونية… الا انّي اؤكّد لكم انكم ترقبتم الفرصة لإبعادي عن الميكروفون بعد نوايا مبيّتة وهذا من شأنه ان يضرّ بمؤسستنا الاعلامية ويخلق فيها تكتّلات واحلافا كنتم فيها المسؤول بدرجة كبرى… اؤكّد لكم ان كلّ حيثيات وجزئيات ما قمتم به لحدّ الان في هذا المضمار ساُطلع عليها وزير الاعلام والمدير العام لمؤسسة الاذاعة والتلفزة التونسية والرأي العام في رسالة مفتوحة ستُنشر على احدى صفحات الجرائد… وانّني ادين هذا التصرّف من جانبكم الذي اعتبره لامسؤولا من جهة، وتعسفا على حقوق آلاف المستمعين وسيرا ضدّ مسار الجماهير العريضة لهذا البرنامج … للحوار بقية …الإمضاء: عبدالكريم قطاطة …

ذلك كان محتوى الردّ على استجواب محمد الفراتي رحمه الله وغفر له بعد ان غفرت له يوما مّا كل الذي حدث وبشهادة السيد محمد عبدالكافي مدير اذاعة صفاقس… ففي 1987 هذا الاخير دعاني يوما الى مكتبه وقال لي السيد محمد الفراتي يريد ان يجلس اليك ويعتذر لك عما حدث سنة 82… انا من طبعي لم ارفض يوما ايّة يد تمتدّ لي للاعتذار كما لم ولن اتأخر يوما عن تقديم ايّ اعتذار متى اخطأت… لذلك قبلت الطلب وجلس ثلاثتنا… كان المرحوم محمد الفراتي اوّل من تكلّم: شوف خويا عبدالكريم اوّلا انت اذاعي من الطراز الممتاز ومكانك ليس في اذاعة تونسية فحسب بل في ايّة اذاعة عالمية … ثانيا انا جئت الان لاعتذر لك عما صدر منّي…دارو بيّ اولاد الحلال الله لا يسامحهم… وها انا امدّ يدي لاصافحك بكل صدق وارجو ان تغفر لي ماحدث …

نهضت من مقعدي وذهبت اليه عانقته وقبّلته وقلت له اطو الصفحة ليس لي ايّة صغينة احملها تجاهك … وكأنّ القدر كان يناديه …اذ انّه بعد اسبوع من تلك المقابلة تعرّض صحبة الزميل علي الجرّاية الى حادث مرور قاتل رحمهما الله …. نم يا زميلي محمد انا مسامحك دنيا وآخرة …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

“صعيدي” في الألعاب الأولمبية (2)

نشرت

في

عبد القادر المقري:

لطالما كان محصول أبطالنا من ذوي الهمم، في الألعاب الأولمبية وبطولات العالم إلخ، أكبر عددا وعدّة مما جلبه إلينا رياضيونا الأسوياء رغم قيمة ما فعله بعض هؤلاء…

عبد القادر المقري Makri Abdelkader

وهنا يتبادر إلى الذهن أن ذلك قد يفسّر ببعض السهولة في أولمبياد ذوي الاحتياجات الخاصة قياسا إلى الأولمبياد الآخر… ظننّا ذلك وكان الظن إثما، نعم … فألعاب ذوي الإعاقة لم تعد (بل لم تكن يوما) تجمّعا خيريا أو تسلية يوصي بها المرشد الاجتماعي للإحاطة النفسية … أبدا… بل هي مسابقات صارمة القوانين عالية الكفاءة تعتصر من المتسابق آخر رمق من موهبته وجهده وإرادة النصر التي يعمر بها قلبه… زائد فوق ذلك التكوين والإعداد والمعسكرات (كم أكره كلمة “تربصات” الرائجة عندنا بوقاحة) … هم هناك محترفون بأتم معنى الكلمة ويخضعون لتراتيب لا ترحم ولا محاباة فيها ولا صدقة جارية… حديد في حديد يعني، فلنكفّ عن استصغار ما هو كبير وجليل…

ولعمري فإن هذا يجعلنا ننظر بعين مقدّرة إلى إنجازات روعة التليلي ووليد كتيلة وقد أصبح الاثنان بعدُ من أساطيرنا ومن مراجع الرياضة العالمية … ويضاف إليهما شباب آخرون رفعوا رقابنا ورايتنا ونشيدنا كالتيساوي وبوكحيلي وأعتذر لمن لم يحضر الآن على طرف لساني… ننظر بعين الإكبار ونضع تلك الأسماء في مدار أعلام تونس ومفاخرها عبر الدهور… وكنت دائما أضع القمودي والشتالي جنبا إلى جنب مع ابن خلدون وابن منظور والشابي والمعزّ والجنرال حنبعل … وصار حتما علينا أن نضيف للائحة الشرف واحدة كابنة قفصة، هذه الروعة القصيرة جسدا واللامتناهية قيمة وهمّة ومجد ملكات…

بقي في القلب شيء من حتى… من المفروض ونحن من سنوات طويلة نرى رياضيينا البارالمبيين يكتسحون الدنيا بالقليل القليل الذي أخذوه… من المفروض أن ذلك فرصة لنا لكي نراجع سياساتنا سواء في العناية بهذا الصنف من الرياضة والرياضيين، أو بوضعية المعاقين في بلادنا بصورة هامة… لا منّة منا ولا شفقة، بل واجب دستوري لا نستحق دونه لقب دولة… صراحة… في هؤلاء ثروات تهزأ ببترول وغاز وأية سخطة يتعلل بها أي مسؤول ليبرر فقرنا وعجزنا وانبطاحنا “الاضطراري” لصندوق النكد الدولي والاتحاد الأوروبي، وهذه الطليانة التي تهدّ علينا بين الفينة الأخرى لتتفقّد مدى إجادتنا لدور عسّاس الحدود البحرية لبلادها…

معاقونا (وأسمح لنفسي باستعمال المصطلح الحقيقي حتى يأتي ما يخالف) معاقونا، أثبتوا دائما أنهم كنوز حية تكفيها نصف فرصة لصنع العجب… لا في الرياضة فحسب… بل في الإمكان أن يطلع منهم “هاوكينغ” تونسي، وطه حسين تونسي، و”بيرل باك” تونسية و”تولوز لوتريك” تونسي إلى آخر القائمة… شرط أن نعطيهم حقهم كبشر وأن نهيّء مؤسساتنا وفضاءنا العام لكي يكون لهم محضنا وحقلا خصبا وحافزا للطاقة…

نفعل ذلك بوعي وصدق وعمل لا يتوقف على مناسبات… لا أن نتذكرهم مرة كل نصف قرن بحميّة مباغتة أقرب إلى البروباغندا أو الموضة الزائلة بعد يومين اثنين… فنصدر كما فعلنا ذات تسعينات منشورا يأمر الإدارات بتخصيص مدرج خاص بالكراسي المتحركة… عاجلا وكما اتفق… فإذا بجميعها تسارع باستدعاء أقرب “بنّاي” وتطلب منه إنجاز مزلق بالإسمنت فوق الدروج الموجودة أو بجانبها أو بأي مكان… المهم تطبيق المنشور إرضاء لسلطة لا يهمها شيء… وقد أعطى ذلك في بعض الأحيان أشكالا سريالية أو زوايا حادة إلى درجة أنه لو استعملها معاق على كرسي، لتطلّب منه ذلك حبالا للتسلق صعودا، أو لانطلقت عجلاته كالسهم إلى عرض الطريق وهو نازل…

أكمل القراءة

صن نار