تابعنا على

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 59

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

يعتقد العديدون انّ الحياة فُرص يجب على الواحد منّا ان ينقضّ عليها حتى لا تضيع منه … والانقضاض عندي اراه دوما فعلا وحشيا مهما غلا وعظم حجم تلك الفرص والتي يطلق عليها البعض صفات من نوع (فرصة ذهبية ..فرصة العمر ..فرصة لا تُعوّض).. الى غير ذلك من التوصيفات والتي هي في جُلّها مقترنة برؤية مادّية بحتة للحياة …

عبد الكريم قطاطة

لكأنّ سعادة الفرد مرتبطة اساسا بالثّراء المادّي ولا شيء سواه، حيث وبالتدرّج في تلك المنظومة يصبح الفرد عندي عبدا لثروته لا سيّدا لها او عليها… وانا رافض تماما ان اكون عبدا للمال بمفهوم الانقضاض وعدم تفويت الفرص والدخول في مسالكه بكل نهم، لاصبح من طابور ذلك الفيلق الذي يصبح عسّاسا على ثروته، يعيش دوما القلق من خسارة الدينار الواحد ..فالمليون الواحد … فالمليار الواحد … وهل من مزيد … عشت واعيش وساموت في ضيق مادّي ومن فصيلة (صبّوشي؟) …ولكن لن يجرؤ ايّ كان يوما على حصري في مثلّث الرعب البرمودي والمتمثّل في: (من اين لك هذا ؟؟؟) … وهذا فصيّل لو فًتح في تونس لاستوردنا من البلدان الصديقة والشقيقة عددا مهولا من القضاة في بدء العمليّة، وعددا اكبر من السجون في نهايتها …طبعا لو طُبّق القانون على جميع لصوص تونس قبل 14 جانفي وخاصة بعده…

لكن صدقا ما تحلموش ..ما سيقع لن يكون الا عمليات بهلوانية فيها تصفيات حسابات… بل حتى هذه لن تُجدي نفعا لأن قاعدة تعرّي نعرّي ستُلجم الجميع عن نبش الملفّات ..وسنعود الى السماء صافية والشمس ساطعة و في هذه الحالة والبوم يغرّد (على روسهم ان شاء الله)… هكذا كانت قناعاتي من المال وهكذا ساغادر يوما الحياة …

عندما عرض عليّ ذلك اليوم صاحب الشركة الخاصّة العمل معه وانا على ابواب العودة الى بلدي، كانت عيناه متسمّرتين على عينيّ وكانت عينا استاذتي الوسيطة في العرض على عكسه مسدلتين الى الارض وكأنها تريد ان تقول بتلك الحركة (خاطيني دبّر راسك انت تعرف اش يصلح بيك)… طبعا هي تعرفني ..تفهم من انا .. تُحسّ ربّما ما سيكون موقفي ..الم اقل لكم انّ علاقة الطالب باستاذه في المعهد تتجاوز تلك العلاقة الاكاديمية الكلاسيكية الجافّة؟ ..كنّا داخل الفصل وخارجه نتحاور في كلّ شيء …في المُباح وفي غير المُباح ونعيش معا ونسهر معا و … معا … معا وايضا في المُباح وغير المُباح لذلك كانت تتحاشى النّظر اليّ (عيني في عينك) لا خوفا من كشف المستور عن غير المباح… ولكن خوفا من الشعور بأنها ورّطتني في موقف قد تُلام عليه منّي وانا الذي تعوّدت بل تمرّست على الاجهار بمواقفي معها ومع غيرها دون وجل او احترام تقليدي لعلاقتي بها كاستاذة ..خاصّة وهي تعرفني من رأسي الى قدميّ …

انتهى صاحب الشركة من تقديم عرضه الذي هو بمثابة ثروة طائلة في تلك السنين ولم يطُل صمتي …ابتسمت وقلت بهدوء وصدق ووقار… سيّدي الكريم … بقدر ما اُثمّن عرضكم وثقتكم في شخصي والذي يُقاس عند آخرين بميزان الكنز، بقدر ما عليك ان تعرف انّ هناك في بلدي كنوزا لا تُقدّر بكُل كنوز الدنيا …لذلك اعتذر جدّا واشكر لك مرّة اخرى هذه الحركة …اندهش صاحب العرض وقال: هل ترى انّ العرض غير مناسب في حجمه المادّي ..؟؟ الا يمكن ان نتحاور ؟؟… وقتها تدخّلت استاذتي بعين لامعة سعادة وفخرا وقالت ساختصر لك الامر ..كريم هو طالبي نعم ولكنّه صديقي ايضا ..كريم من قماش آخر .. كريم مجنون وهو رائع لأنه مجنون … اذهب في سبيل حالك لن ينفعك الجدال معه …

استاذن صاحبنا ليغادر والف سؤال يلفّ رقبته لعلّ ابرزها ..كيف يُفكّر هذا الكريم المجنون ..؟؟؟ … الاثرياء عموما يندهشون وهم يعرضون عليك الدّخول معهم في ايّ مشروع وانت تعتذر بكلّ ادب ..هم ربّما يذهبون الى حدّ تصوّر رفضك لهم قلّة ادب …لأنهم يعتبرون عروضهم “مزيّة عليك” فكيف ترفض جميلهم؟ …هم ومن خلال ثروتهم يرون الآخرين عبيدا لمقترحاتهم المُغرية .وعليك ان تُهلّل وتُكبّر وتبوس اليد التي امتدّت اليك اي اياديهم ..في حين انّي اجد احيانا نفسي قريبا جدّا (لو تخلّيت عن جُبة الاحترام الذي تربيّت عليه) قريبا جدا من ان اوافيهم بافضل ردّ فعل على مقترحات البعض منهم… وهو ان اتبوّ… على اياديهم نظرا إلى ما في تلك العروض من قذارة وحقارة … هم يعتبرون انفسهم في سوق نخاسة وباستطاعتهم ان يشتروك مهما غلا ثمنك ..ولم ينتظروا يوما ان يأتي الواحد منّا ليقول لهم طززززززززز فيك وفي فلوسك انا لا اُشترى .. وللامانة هم معذورون نسبيا في ذلك لأنّهم ومن خلال حقل تجاربهم اكتشفوا انّ العديدين منّا ونظرا لخسّة انفسهم وذُلّهم …يصُحّ فيهم ما قاله المتنبّي في بيت من اقذع بيوت الهجاء في الشعر العربي وهو يشتم كافور (واذنه بيد النخّاس دامية .. وقدره وهو بالفلسيْن مردود)…

ماكاد الرجل يغادر المقهى حتى تركت استاذتي العنان لاناملها تداعب بعض الشّعيرات التي تدلّت على جبيني وتهمس: “هيّا قل كريم ما لم تقله لذلك السيّد… كنت واثقة من رفضك ولكن اريد ان تحكي المزيد …انا اعرفك واعرف من تكون ..فقط اريد ان اسمعك اذا لا ترى ازعاجا في ذلك” …قبّلت يدها بكل حنّية وقلت …اعتذر ولكن هذه القبلة ليست لك ..انّها لعيّادة … وجمت لا كأنثى تغار من انثى اخرى …بل كالاطرش في الزفّة الذي لم يفهم شيئا وسالت: “عيّادة هذه خطيبتك في تونس؟”.. قلت لها … خطيبتي هي ايضا عيّادة .. ايضا ؟؟؟ .اذن من هي عيادة الاخرى ..؟؟ هيّا احكي لي عن هذه المحظوظة جدا بك …وهنا وضعت اصابعي على فمها وقلت لها اصمتي ارجوك …عليك ان تفهمي انّ الحظّ ليس دائما كما يتوهّمه الواحد منّا ..انا هو المحظوظ بعيّادة وليست هي ..انّها والدتي …

في هذه الحالة بالذات يصعُب على الاوروبي ان يُحسّ بمعنى ما اقول ..فالحب والاهتمام عنده مكفول امّأ للزوجة او الحبيبة او العشيقة ..امّا ان يصُبّ في مدار الأم فتلك من العجائب عنده… وهذا يعود بالاساس الى انهيار مفهوم الاسرة اذ كيف لرجل في مقتبل العمر مثلي ان يتحدث بهذا الشغف الهستيري عن حبّه وتعلّقه بوالدته … خاصّة انّ اوديبهم حاضر في تفسير تلك العلاقة … قلت لها وانا المح رعب الدهشة في عينيها: “يا سيدة ماري في بلدي معايير العشق عندنا تختلف جذريّا عنكم ..انا اعشق جدا حومتي لحد الهوس ..حومتي على تواضعها (ساقية الدائر ) والتي كم عاثت فيها الفيضانات كلّما نزلت بها امطار قليلة …حومتي التي لا تجد بها قاعة سينما فتُعرض افلام كتابة الدولة للاعلام والثقافة على جدران معاصر زيتونها … حومتي التي لا توجد في كل قاعات السينما بباريس من الحي اللاتيني الى الشانزيليزيه افلاما امتع من افلام حياتها اليومية البسيطة الرائعة …من ذلك الدلاّل الذي ينبري يوميا وهو في الثمانين من عمره يشتغل بالمناداة على منتجات الفصول من الدلاع الى كبش العيد دون كلل او ملل… ودون ان يُغلق طريقا او يّعطّل حركة لود لمجرد أن ولده امسكه البوليس متلبّسا بسرقة ما ..

الى ذلك الفطايري الذي لا يقلّ تقدما في السنّ عن الدلاّل، وهو لا يفتأ يطلب من ابنه ان لا يتوقف عن مد النار بمزيد من الحطب بقولته الشهيرة (احمش احمش) ثم وبكُمّ يده يمسح عرق جبينه … الى ذلك التاجر الذي يبيع الحليب وهو حافي القدمين بعد ان كان قد ملأ قارورة حريف آخر بالڨاز…ولكم ان تتصوروا ذلك الخليط الكيميائي بين الحليب والنفط…الى ذلك الحمّاص (سي مبروك) وهو يقلي يوميا حميصاتو وڨليباتو السوداء بعيدا عن التبعية العثمانية في قلوب بيضاء (هاكة اش ناقصنا في تونس كلّو تمام اشنوّة المانع انّو نستوردو من عند سي اردوغان شويّة قلوب فيها الخير والبركة من عند الخليفة السادس ..الله لا تحرمنا من بركاتو ويحرم ازلامو من كل خير وبركة) … يا سيدة ماري انا في بلدكم لا آكل… انا اقتات …ماذا يُساوي طبقكم الاشهر امام (مريقة بالخبز الشعير وصبارص الزروب زادة وعزيّز الشيتة “حوّات حومتي” يتغنّى به وكأنّ طارة الحوت، الوعاء الخشبي لوضع السمك، تتحوّل الى عشيقة فكيف يبيع دون ان يغنّي لعشيقته ..يدلّلها يغازلها…او الزروب الغربي ..يرتع في الحماضة؟.. ماذا سيكون موقف ايديت بياف او شارل ازنفور وهما يستمعان الى تلك المعزوفة …

هذا عن حومتي امّا عن مدينتي فكيف يمكن لي ان اعيش دون ان اتجوّل في ازقتها الضيّقة ..هل سمعت يا ماري يوما بزنقة اسمها زنقة عنّقني؟… في لعبة البازڨة هنالك قاعدة تقول (ع الكلمة تروح) اي ايّة كلمة تصدر منك في اللعبة تلزمك تماما ولا مجال للتراجع عنها …وماري وهي تستمع الى كلمة عنّقني اشتغلت بتلك القاعدة …عانقتني وقالت اتمم ارجوك …حدثتها عن صفاقس ومدينتها العتيقة (اللي كبّ ربّي سعدها في السنوات الاخيرة واصبحت مرتعا للمجرمين والسكارى وملاذا للمزطّلة والباندية) … حدثتها عن المنازل انذاك وعن هرع العائلات الموسرة اليها شتاء… والتي تحوّلت الان في جلّها الى مصانع للاحذية تفوح منها رائحة الفئران وهي تتسلل ليلا لتعيش زطلتها برائحة الكولّة …حدثتها عن باب الجبلي ومحطّة الحافلات حيث يلتقي سكّان كل مدينة صفاقس من سيدي منصور الى خنافس وعقارب (المطار حاليا) في تلك المحطّة ذهابا وايابا ..حدثتها عن صفاقس على عجلتين وهي انذاك المدينة الثانية عالميا في استعمال الدراجة الهوائية بعد امستردام والتي تأخرت بعدها بسنوات قليلة الى المرتبة الثالثة بعد ان ازاحت شنغاي الصينية الجميع واحتلّت المكانة الاولى …وهذا امر طبيعي اذ كيف لا تتأخر صفاقس مدينة الخبز ومرقة والموبيلات الزرقة وعن عن عن، الى الوراء وهي التي كتب لها كارهوها ان تتأخر في كل شيء الاّ في العلم والعمل… وصدقا هناك من يموت يغيظه وقهرته من كارهيها لهذا التفوق التاريخي …

لن نقول لهم موتوا يغيظكم كما قالها ذلك المعتوه (غنيم) بل نقول لهم قلّدونا في العلم والعمل من اجل انقاذ تونس من براثن غنيم ومن لفّ لفّه _..حدثتها عن السي اس اس وعن عشقي المجنون لهذا الفريق وقلت لها في سخرية ماذا يساوي بلاتيني متاعكم امام العقربي ..حدثتها عن تونس بلدي الذي رغم كل مشاكله السياسية انذاك وعن نقص الديمقراطية والحريات فيها، هي من اجمل بلدان الدنيا بسيدي بوسعيدها … بحنايا زغوانها …بقربصها الدافئة …بشط جريدها … بسواعد ابنائها في المناجم … وبدماثة وذكاء ابنائها في ڨبلّي ودوز الشرقي ودوز الغربي… بحنّاء ڨابسها …بسحر جربتها … باصالة قيروانها …بالنخيل الشامخ في توزرها … بساحلها المتعدد الالوان… ببنزرتها مدينتها المناضلة … بشمالها وجنوبها … ببحارها وجبالها ..يزياتينها المباركة هنا وهناك …بكلّ شبر من ترابها …يعبق تاريخ مجيد وعامر بالحضارات … فكيف لي ان ابيع هذا الجمال بفرنكاتكم …؟؟؟ كيف لي ان انسى خطيبة لم تعرف في الدنيا سواي وانا العبيط الذي زرع هنا وهنالك وانت ادرى الناس يا ماري وحتى خطيبتي تدري…

هكذا انا لم اخف عنها شيئا …كيف لي ان انسى عيّادة امّي التي بقيت ثلاث سنوات ترسل الآهة تلو الاخرى كلّما استمعت الى الجموسي في (تمشي بالسلامة وترجع بالسلامة( وتردد معه (الله يكون معاك .. يصونك ويرعاك ..تمشي تمشي تمشي …وترجع بالسلامة)… او وهي تسمع وردة في (يا مروّح لبلاد سلملي عليهم .. قتلني البعاد متوحش ليهم( .. ولكن خاصّة لنورا الجزائرية وهي تنعى المهاجر في اغنيتها ..(يا ربّي سيدي اش عملت انا ووليدي … ربيتو بيدي وخذاتو بنت الرومية( … تحكي عنكنّ يا ماري…. عيّادة كانت على امتداد وجودي في فرنسا لم تستطع يوما نسيان ما قاله لها احد الاقرباء رحمه الله وغفر له فعلته (امسح مات ..عبدالكريم اعتبروا اوفا … هاكة توة ياخذلك ڨاورية وما يرجعلكش … تذكرون جيّدا اني طمانتها وهي تروي لي الوشاية ..الا انّ داخلها كأم كان يقول لها ويردّد: (وقتاش يجي نهار وما تتشمتش فيك الاعداء يا عيادة ويرفعلك ولدك راسك في العلالي ؟؟؟) … هل فهمت ماري لماذا رفضت عرض صاحب الشركة ..؟؟ هل فهمت حجم وقيمة الكنوز التي في بلادي ..في مدينتي… في حومتي… في عائلتي …؟؟

وقتها فقط استدرت لأرى عينيها اللامعتين دمعا ..ووقتها فقط ايضا نهضت ماري واستاذنت في المغادرة وهي تقول …كم انا فخورة بك كريم كطالب درس عندي وكصديق عرفته عن قرب ..انا آسفة للمغادرة ولكن لم اعد استطع البقاء لحظة اخرى لأني لا استحقّك …غادرت ماري وكان آخر عهدي بالمعهد وباحدى مكوّناته …ودعوني اصارحكم ببعض احلامي التي لم تتحقق …انا احلم بالعودة يوما ما الى باريس … باريس التي لها فضل عليّ لا يمكن لي ان اقدّره ايضا بثمن …كما اشتهي ان اعود ايضا لشوارعها لأزقّتها لساحاتها للمعهد الذي درست فيه للمبيتات الاربعة التي سكنت فيها …باريس هي مدينتي الثانية بعد صفاقس التي احسّ تجاهها بفيض لا يوصف من الشوق الى كل شبر فيها ..

انا من جيل النوستالجيا ..وافتخر ..انا غير قادر على نسيان تلك الشؤون الصغيرة ما عشت ..تلك التي اما اسعدتني او ارهقتني او عذبتني او شيّختني ..فبها وحدها اظنّ انّي تعلمت بعض الاشياء في الحياة … لعلّني منها تعلّمت الانتباه للتفاصيل الصغيرة عند الآخر… لأنّة البعض حتى وان لم تخرج .. لفرحة البعض حتى وان لم تبزغ …لحبّ البعض (وهنا للامانة العديد) حتى وهو مُحاصر ولاسباب متعددة المشارب ..من هذه التفاصيل الصغيرة تعلّمت ان اُمشي دوما في دروب الحب واروع حب هو من يتمشّى فوق حدود السماء …و كذلك ان ازرع بذور الحب … لنكون كعبّاد الشمس نتطلّع دوما الى نور الشمس لا الى ديجور الظلام …بكلّ حب زهرة عبّاد الشمس احبّكم …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 85

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:
حتّى اختتم الحديث عن دورتنا التكوينية في الراي اونو والتي كانت على امتداد شهرين، عليّ ان ادوّن هذه الملاحظات التي بقيت عالقة في خانة الذكريات ..

عبد الكريم قطاطة

كلنا نعرف ان السفر مع فرد او مجموعة عنصر هام لمعرفة ذلك الشخص او تلك المجموعة معرفة عميقة .. وسفرة ايطاليا لم تخرج عن هذا الاطار ..اكتشفنا مثلا (القرناط) الذي يستخسر في نفسه شراء قهوة، في بلد اشتهر بمتعة قهوته… اكتشفنا اناسا غاية في الضمار الجميل، وكنا نحسبهم غاية في المساطة… اكتشفنا ميولاتنا الى السهرات بكلّ الالوان من حيث مشروباتنا، ومن حيث ميولاتنا لمشاهدة نوعية اخرى من البرامج الايطالية في القنوات الخاصة والتي لا يصلنا بثها الى تونس… وانا ما نقلّكم وانتوما ما يخفاكم (كولبو غروسّو ـ الضربة الكبيرة) مثال من تلك البرامج التي هي في شكل مسابقات والعاب حيث يتنافس فيها رجل وامراة للاجابة عن بعض المسابقات وبعد كلّ سؤال يقوم الخاسر بنزع قطعة من ثيابه… ستريبتيز، ما تمشيوش لبعيد .. ينتهي خلع الملابس وقت نوصلو لهاكي الاشياء …

روما ايضا هي عاصمة الاناقة في اللباس .. تقف امام واجهة متجر لبيع الملابس للرجال وللنساء ..تقف ساعات مشدوها بجمالها وفيانتها ومصدوما باسعارها … وتكتفي بالعشق ..نعم وقفت مرة امام متجر واعجبت بكوستيم (بدلة) ايّما اعجاب ..وغادرت ..وأعدت زيارة نفس المتجر مرات ومرات ولم اشتر البدلة ..الذي يعرفني يعرف اني من النوع الترتاق الفلاق في الفلوس ..ولكن كان كلّ همّي ان اخصص مدخراتي المالية لعائلتي ..وفي الاخير اشتريت ما شاء الله من ادباش وهدايا لعائلتي واكتفيت بقميص لي .. فقط فقط فقط …

وعدنا الى تونس بعد انقضاء فترة التدرب التكويني .. وان انسى فانني لن انسى ما حدث لي عند وصولي الى مقرّ سكناي بصفاقس ..ولدي انذاك كان عمره سنة ونصف ..نظر اليّ نظرة باهتة لا روح فيها ..ثمّ وبعد ثوان ارتمى بين احضاني دون ايّة اشارة من ايّ طرف من العائلة ..سعادة مثل هذه المواقف تدّخر منها فرحا طفوليا من الابن ومن والده ما يكفي لسنوات من الازمنة العجاف …نعم من مثل هذه الاحداث يستمد الواحد منّا طاقة لا تفنى في مواجهته لمصاعب ومصائب الزمن .. يكفي ان يتذكّر طفلا له يرتمي في احضان ابيه بتلك السعادة والفرح حتى يقول (وان تعدّوا نعمة الله لا تُحصوها)…

سنة 1988 عشت فيها اذاعيا محطات لا يمكن ان انساها ..اوّلها التفكير ثم الانجاز لمشروع اسميته انذاك في احد برامجي (من اجل عيون الطفولة) ..والذي اردته تفكيرا منّي وانجازا من المستمعين في شكل بعث مكتبات خاصة بالاطفال المقيمين بالمستشفيات الجامعية… لنخفّف من احزانهم ووحشتهم ولنعوّدهم على مقولة (الكتاب خير جليس وخير انيس) ..قمت بدعوة المستعمين للقيام بحملة تجميع الف كتاب او مجلة لكلّ مكتبة وكان التآلف عجيبا مع هؤلاء المستمعين… ولم تمض 3 اشهر حتى ارسينا اوّل مكتبة بقسم الاطفال بالمستشفى الجامعي الحبيب بورقيبة بصفاقس ..وتواصل المشروع مع مستشفيات اخرى ..

كنت وما زلت مؤمنا بانّ التونسي عندما تكلّم فيه لغة العقل والقلب يستجيب ..وهذا عامل من عوامل تفاؤلي الدائم بتونس والتونسيين ..اعرف انّ تونس دخلت مرحلة سوداء في العلاقات المجتمعية والعائلية منذ 2011 ..ولكن ثقتي لا حدود لها في انّ معدن الانسان الاصيل مهما مرّغوا انفه في مخططاتهم (ونجحوا ايما نجاح في ذلك ) لا بدّ ان يعود الدرّ الى صدفته .. فالذهب قد يعلوه الغبار ولكن ابدا ان يصدأ …في نفس السنة فكّرت ادارة اذاعة صفاقس في تخصيص مساحة اسبوعية للشباب حيث ينتقل فريق اذاعي الى مناطق عديدة من الجنوب التونسي لربط مباشر مع الاستوديو الذي كنت اشرف عليها تنشيطا… هدف البرنامج اعطاء الفرص وعلى امتداد 3 ساعات للشباب ليعبروا عن مشاغلهم بكلّ حرية وبعيدا عن ايّة رقابة ..ايّة رقابة … وهذه التجربة كانت منطلقا لبعث اذاعة الشباب في اذاعة صفاقس سنة 88 وساعود للحديث عنها ..

في اكتوبر سنة 88 قامت الاذاعة التونسية بتجربة جديدة في البث الاذاعي اسمتها (فجر حتى مطلع الفجر)… وكما يدلّ العنوان هو برنامج مباشر ينطلق في منتصف الليل ويتواصل حتى الخامسة صباحا… وهو برنامج يومي ويُبث بشكل مشترك بين الاذاعة الوطنية واذاعة صفاقس واذاعة المنستير ..ينشطّه من الاذاعة الوطنية مجموعة من الزملاء ونصيبهم في ذلك 5 ايام في الاسبوع… بينما بقيّة فتات الاسبوع تتقاسمه اذاعة صفاقس واذاعة المنستير حصّة واحدة في الاسبوع …وشكرا على هذه الصدقة ..والله لا يضيع اجر المحسنين ..

كنت انا من عُينت لتنشيط تلك الحصة اسبوعيا ممثلا لاذاعة صفاقس … وللامانة كانت مناسبة متميّزة لمستمعي الاذاعة الوطنية ونظرا إلى انّ بثّ اذاعتنا لا يصل لبعض مناطق البلاد حتى يكتشفوا اصواتا اخرى والوانا اخرى واجواء اخرى… وهنا اتقدّم بالرحمة على روح الزميل الحبيب اللمسي الذي كان رابطنا الهاتفي مع المستمعين المتدخلين في ذلك البرنامج من غرفة الهاتف للاذاعة الوطنية… وسي الحبيب كان ممن يسمونه حاليا (فان) لعبدالكريم…

في اكتوبر 88 حدثان هامان عشتهما في مسيرتي الاذاعية… اولها الاعتراف بديبلومي الذي نلته من المعهد الوطني للعلوم السمعية البصرية بباريس سنة 1979 .. اي نعم بعد 9 سنوات من الاهمال والظلم… والفضل في هذا يعود للمرحوم صلاح معاوية الرئيس المدير العام لمؤسسة الاذاعة والتلفزة ….علم بالاشكال الحاصل بيني وبين الادارات والمسؤولين الذين سبقوه، فدعاني لمكتبه ودعا مدير التلفزة انذاك الزميل مختار الرصاع والكاتب العام للمؤسسة، وطلب منهما وفي اقرب وقت رفع المظلمة التي تعرضت لها ..وفعلا وفي ظرف اسبوع قام بانهاء تلك الوضعية التي طالت وبكلّ جور ..

الحدث الثاني وقع بعد زيارة المرحوم معاوية لاذاعة صفاقس للاطلاع على حاضرها وآفاق تطويرها … يومها التقيته في كواليس الاذاعة وكان صحبة زميلي رشيد الفازع الذي انتمى في بداية السبعينات الى نفس دفعتي عندما قامت بتكويننا لتدعيم التلفزة التونسية باطارات جديدة كلّ في اختصاصه ..رحّب بي المرحوم صلاح الدين معاويو وهمس لي: ايّا اش قولك تشدلي انتي اذاعة الشباب ؟؟ ..واذاعة الشباب هذه انطلقت في اذاعة صفاقس منذ 1988 وهي عبارة عن فترة زمنية بساعتين من السابعة الى التاسعة مساء… فوجئت صدقا بالمقترح ..وعرفت في ما بعد انّ المرحوم صلاح الدين معاوي كان ومنذ بداية الثمانينات متابعا لاخباري بحلوها ومرّها في اذاعة صفاقس ..

اعيد القول اني فوجئت بالمقترح ..بل لم يستهوني ..وهاكم الاسباب ..انا منذ دخولي لمصدح اذاعة صفاقس كان لي مخطط لمستقبلي المهني ..هذا كان مخطّطي: 10 سنوات اذاعة …10 سنوات تلفزة … وبقية العمر ان طال العمر للسينما …. و(اللي يحسب وحدو يفضلّو) لان الانسان في كلّ حالاته ..في طفولته .. في شبابه .. في كهولته .. في شيخوخته ..وفي كلّ قرارات حياته منذ الولادة الى المغادرة لا تخطيط له ..نعم هنالك “اجندا الهية” نخضع اليها جميعا .. قد تاخذنا نرجسيتنا وثويريتنا لنقول: سافعل .. سافعل .. سافعل ..ولكن وعند الوصول الى سنّ الحكمة سنكتشف اننا جميعا خاضعون للاجندا الالهية … انا كنت وسابقى دائما من المؤمنين بالارادة والطموح والفعل …وهذا لا يتنافى مع ما قلته بل هو متناسق مع (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) ..

اعود للعرض المقترح من السيد صلاح الدين معاوي وكان ردّي الفوري: تي انا نخمم نوقّف العمل متاعي في الاذاعة لانتقل للعمل كمخرج في التلفزة وانت تقللي اذاعة الشباب ؟؟ وفعلا انا منذ سنة 88 قررت التحضير لمغادرة المصدح ولكن على مراحل اوّلها ردم كوكتيل من البريد الى الاثير واعلان وفاته .. بالمناسبة، عندما سمع المرحوم صالح جغام بنيّتي في ايقاف الكوكتيل (قطّع شعرو) كما تعرفونه رحمه الله عندما يغضب ..طلبني هاتفيا وقال لي: يا خويا عبدالكريم يخخي هبلت توقف الكوكتيل ؟؟ برنامجك ضارب ودائما الاول في الاستفتاءات السنوية .. اش قام عليك ؟؟ ضحكت وقلت له يا صالح ستعرف يوما الاسباب وبعدها نحكيو…

انذاك فكرت في ايقاف الكوكتيل وفعلت ..الكوكتيل اصبح في اذهان المستمعين اسطورة ..وانا من موقعي الفكري كنت دوما ضدّ الاساطير … اذن عليّ ان اكون متناسقا مع نفسي واوقف الاسطورة ..نعم ربما بقساوة على نفسي وعلى المستمعين اوقفت الكوكتيل ..وتلك هي المرحلة الاولى ..وفي المرحلة الثانية التجات للتعويض .. عوضته في مرحلة اولى ببرنامج مساء السبت ثم باصدقاء الليل …واختيار هذه المواقيت كان مقصودا ايضا ..كنت محسودا على فترة الكوكتيل من العاشرة الى منتصف النهار وكان بعض الحساد ينسبون نجاحي الى تلك الفترة الزمنية من اليوم ..لذلك ومع كوكتيل الاصيل ومع البرامج التي ذكرتها كنت اريد ان ابرهن انّ نجاح ايّ برنامج ليس مأتاه فترته الزمنية… بل اقول اكثر من ذلك، المنشط هو الذي يخلق الفترة الزمنية وليست الفترة الزمنية هي التي تخلق نجاح المنشط ..وحتى عندما اوقفت الكوكتيل وعوضته بمساء السبت كان في نيتي وبكل حزم ان انهي علاقتي بالمصدح سنة 1990 لانتقل الى مخططي وادخل في الحقبة الثانية وبدءا من 1990 في عشرية العمل التلفزي …

سمعني السيد صلاح الدين معاوي بانتباه وبتركيز شديدين وانا اعلمه بنية مغادرتي العمل الاذاعي سنة 90… وقال لي (ما اختلفناش… شدّلي اذاعة الشباب توة، وعام 90 يعمل ربّي .. هذا طلب اعتبرو من صديق موش من رئيس مدير عام) ..ابتسمت وقلت له طلبك عزيز وعلى العين والراس لكن بشرط ….في بالي فيه البركة مع الورقة 85 .. وطبعا ندّلل عليكم لاترك ماهيّة شرطي الذي وضعته، للورقة المقبلة …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

رغم عيوبه السبعة… الأمريكان يعيدون دونالد ترامب، ولا يستعيدون “معجزة” 2008!

نشرت

في

عبد القادر المقري:

فوز دونالد ترامب بعهدة ثانية (غير متصلة) في سدة البيت الأبيض يحمل معه عددا لامتناهيا من الدلالات… خاصة إذا عرفنا أن منصب الرئيس الأمريكي هو عبارة عن “واجهة” لتوازن قوى وإرادات ونوايا داخل الطبقة النافذة وأجهزتها، بأكبر قوة على الأرض حاليا.

عبد القادر المقري Makri Abdelkader

قد يبدو الأمر مستغربا خاصة من وجهة بلدان كمنطقتنا حيث تتجمع كل السلطات في يد شخص واحد تسبغ عليه أجلّ الأوصاف البشرية وفوق البشرية وحتى الإلهية… وهذا طبيعي بحكم الموروث الذي تراكم لدينا على مر آلاف السنوات، وتمركزت فيه السلطة بشكل مبالغ فيه لدى أفراد حملوا مختلف الألقاب التي توحي بالعظمة والقهر والسلطان المطلق، وبات ذلك مقبولا وبديهيا لدى العامة مهما كانت قشور بعض الدمقرطة هنا وهناك… وحتى في العشرية الماضية التي يسوّق أصحابها أنها كانت قوسين ديمقراطيين وسط عصور من الاستبداد، فلقد تصرف “الديمقراطيون” بشكل لا يختلف عمن سبق وعمن لحق… ويكفي هنا التذكير بذلك “الاعتصام” الذي دفعوا إليه بأنصارهم سنة 2012 أمام مبنى التلفزة التونسية، وطالبوا خلاله بعودة الإعلام الوطني إلى تمجيد “إنجازات” الحاكم، بدل عملنا الإخباري المحايد الذي حاولنا الشروع فيه بعد جانفي 2011…

إذن أسفرت الانتخابات الرئاسية الأمريكية عن عودة دونالد ترامب إلى الحكم مجددا كإحدى النوادر في تاريخ تلك البلاد… إذ تذكر المصادر أنه وحده رئيس قديم يدعى “كليفلاند” حكم في بداية القرن 19 فترة أولى، ثم خسر معركة التجديد، وعاد بعد ذلك إلى البيت الأبيض … أما الـ 55 رئيسا الباقون فكانوا إما يجددون وهم في مكانهم، أو يخرجون خروجا لا رجعة بعده… وهذا قد يعكس قوة شكيمة لدى شخصية ترامب المضارب العقاري الذي لا ييأس وفي جعبته صبر التجار وعنادهم الأزلي… ويترجم هذا الرجوع خاصة رغبة الـ “إستابليشمنت” الأمريكي في حسم بعض الملفات التي بقيت مفتوحة، بل مبعثرة الأوراق، في عهد العجوز المريض جو بايدن…

من هذه الملفات أو في صدارتها الحرب في أوكرانيا… هي كما وصفها عديدون حرب أوروبية أوروبية، وقد اندفعت في خوضها (بالوكالة) إدارة بايدن أولا لتأكيد زعامة الولايات المتحدة على الحلف الأطلسي… وثانيا ربما لانتماء الرئيس المتخلي إلى جيل ولد ونشأ وكبر ومارس السياسة والأعمال زمن الحرب الباردة، وخلّف ذلك لديه نفورا من السوفيات والروس وكل ما له صلة بهم… فضلا عن سبب ثالث يتم التطرق إليه بين الفينة والأخرى وهو أنشطة ابنه “هونتر” التجارية ومصالحه بأوكرانيا، فيما يتهم الروس بايدن الإبن بامتلاك مختبرات في كييف لإنتاج أسلحة كيميائية… وعلى العموم، فقد كلفت هذه الحرب الخزينة الأمريكية ما يزيد عن 174 مليار دولار على الأقل، من المساعدات العسكرية والاقتصادية … حسب آخر تصويت من الكونغرس (الذي كان يسيطر عليه الديمقراطيون) في شهر أفريل الماضي…

وفي هذا الباب، يقف دونالد ترامب على النقيض من بايدن… فمعروف عنه موقفه غير العدائي من روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين خاصة… بل يمكن وصف علاقة الطرفين بنوع من التفاهم إن لم يكن بالصداقة… كما أن ترامب ينتهج بعضا من نظرية “مونرو” الانكفائية خصوصا في ما يتعلق بعدم الالتزام بقضايا لا تهم المصلحة الأمريكية المباشرة… فكما قلنا، الصراع الأوكراني هو شأن أوروبي، ومكانة هذه القارة (سيما بعد أن أصبحت اتحادا) في سياسة ترامب لا تعدو كونها منطقة منافسة أكثر منها حليفا تندفع الولايات المتحدة للذود عنه والإنفاق عليه…. وهذا ما يفسر تخوف العواصم الأوروبية من مآل السباق نحو البيت الأبيض، وهي عارفة ما ينتظرها في صورة رجوع ترامب بعد أن جربته في العهدة الأولى…

وتبعا لهذا، من المنتظر رؤية عديد الالتزامات الأمريكية الخارجية تتقلص إن لم نقل تتلاشى بصفة شبه كلية… لا ننسى أن ترامب انسحب من تعهدات دولية عديدة كالتي حول المناخ مثلا، وأهم منها تهديده المستمر بالانسحاب من الحلف الأطلسي ولو جزئيا… ويستتبع ذلك كما أسلفنا انحسار “السخاء” الأمريكي في مساعدة دول هذا الحلف عسكريا وحتى اقتصاديا… دول هذا الحلف ومن ترضى عنه هذه الدول أيضا… ولعل أول من استبق هذا الانحسار، كان إيمانويل ماكرون الرئيس الفرنسي الذي سارع إلى ترميم علاقاته بدولة كالمغرب… وقد تتبع ذلك خطوات مماثلة مع دول عربية وإفريقية تجمعها علاقات “تاريخية” بفرنسا والمتروبول الأوروبي عامة (في سياسات الهجرة والتأشيرات ربما)… وقد تمثل هذه الفضاءات وأسواقها بديلا، إلى حد ما، عن الدعم الأمريكي لاقتصاد القارة العجوز… عكس ما يتوقعه اليمين الأوروبي المتطرف من قمع متزايد للهجرة، اقتداء بسياسات ترامب في بلاده من هذه الناحية…

فلسطينيا… وإن كانت سياسة واشنطن المنحازة كليا للكيان الإسرائيلي لا تختلف بين شتى الجالسين في المكتب البيضاوي، إلا أن تفاصيل صغيرة قد تتغير مع إمساك ترامب بمقاليد إدارة الصراع… وهنا يتوجب الانتباه إلى الدور الإيراني في مجريات الأحداث الأخيرة الناجمة عن هجوم 7 أكتوبر 2023 وما تلاه من عدوان إسرائيلي ماحق على غزة والحنوب اللبناني… وسواء كان الطرف الثاني في مواجهة الاحتلال منظمة حماس أو تنظيم “حزب الله”، فإن هذه الفصائل تمثل باعتراف إيران نفسها، أذرع طهران في المنطقة إضافة إلى مثيلاتها في سوريا والعراق واليمن البعيد…

وإذا كانت المواجهة في عهد بايدن ظلت تكتفي بمحاربة الأذرع العربية دون المساس بالجوهر الإيراني، فإنها مع ترامب قد تغيّر مسارها ومرماها تماما… ترامب له حساب قديم مع طهران وبرنامجها النووي وليس في وارده “ملاطفة” إيران كما فعل بايدن، كما أنه قد يركز على ضرب إيران مباشرة وتهدئة الجبهة مع أذرعها… مما قد يفضي إلى تشجيع تغيير في حكومة الكيان (وقد بدأت التصدعات بعد في فريق نتنياهو) يقضي بوقف ولو تدريجي لإطلاق النار في قطاع غزة وجنوب لبنان…

يقيت نقطة أخيرة في ما يخص “كامالا هاريس” المرشحة سيئة الحظ… لقد أثبتت هذه المرأة رغم هزيمتها، شجاعة وديناميكية منقطعتي النظير… امتطت قطار الانتخابات وهو سائر لتعويض “جو بايدن” بُعيد انسحابه المفاجئ في 21 جويلية الماضي… فيما كانت الحملة الانتخابية في أوجها على مسافة 100 يوم فقط من يوم الاقتراع، وفيما كان منافسها ترامب جاهزا منذ أشهر وحملته ماضية على أشدها… فكان عليها أولا الفوز بترشيح الحزب الديمقراطي ولم يكن ذلك بديهيا، ثم خوض حملة طاحنة في فترة قصيرة، ثم خاصة الرد على مثالب الخصم الشرس حول رئيسها وفترة حكمه، ثم حولها شخصيا وحول مقدار كفاءتها لاعتلاء منصب الرئيس…

ولئن تجاوزت الولايات المتحدة إرثها المثقل بالميز العنصري عند انتخاب أوباما كأول رئيس أسود ومن أصول غير بروتستانتية (ولا مسيحية حتى) سنة 2008، ولأسباب انكشف أنها جاءت وفق “كاستينغ” متلائم مع مرحلة تصعيد الإسلام السياسي لحكم البلاد العربية… فإنه لا يبدو أن ذلك سيتكرر بسهولة، خاصة أن هاريس تعترضها “عوائق” ما زالت ذات وزن في العقلية الأمريكية والغربية عامة… ورغم التطور الكبير في العقليات، إلا أنه يبدو أنه لم يحن الوقت بعد لرؤية امرأة على رأس بعض الديمقراطيات الكبرى… فقد فشلت “هيلاري كلينتون” سنة 2016 في سباق مماثل نحو الرئاسة الأمريكية، كما فشلت قبلها “سيغولين روايال” في فرنسا سنة 2007، وكلاهما بيضاوان أوروبيتان أصلا ومفصلا…

وهذا ما يضيف أسهما إلى شجاعة امرأة ذات أصول إفريقية وآسياوية، مثل كامالا هاريس…

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم… الورقة 84

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

الحديث عن ايطاليا البلد الذي احتوانا في تدرّبنا بالراي اونو حديث يحتاج الى مجلّدات .. اليوم ساحدثكم عن ايطاليا والمعمار والجمال ..

عبد الكريم قطاطة

لا نختلف في انّ جمال المدن الايطالية له رونق خاص وهذا ما دفع بالبعض وهو يصف بعض هذا الجمال يردد مقولات من نوع: (اشاهد فينيسيا، اي “البندقية” المدينة العائمة، ثم اموت) VEDERE VENEZIA E MORIRE .. … رغم انّ تاريخ هذه المقولة يؤكّد انها قيلت عن مدينة نابولي وليس فينيزيا ..ولانّ الجنوب كان ومازال ضحية التحيّل والظلم، تحوّل المثل الى البندقية … اي نعم كل جنوب قدره الاحتقار ..وحتى ايطاليا نفسها الواقعة في جنوب اوروبا يعتبرها الاوروبيون الاخرون حثالة اوروبا… رغم انهم يدركون جيدا انّ الفنّ خُلق في ايطاليا ..والسباغيتي ايطالية او لا تكون… والمثلجات بفففففففففف دنيا اخرى .. خللي عاد من الكورة المحنونة .. نودّكم ولا نشهّيكم ..

نحكي على اوروبا .. اما كي نحكيو على العالم كُرويا بالنسبة لي تبقى البرازيل عنوان السحر وتجي بعدها تونس (متاع الجرو والقادري!! .. ايّا نبدّلو هالصحيّن) .. في زمن ما… القرن الخامس عشر… اصبحت ايطاليا زعيمة العالم ورائدته في الفنون والثقافة ..وهو ما يسمّى عصر النهضة ..طبعا النهضة متاعهم موش النهضة متاعنا …ما اقرب طز لشرّڨ …في ذلك الزمن وتحديدا في افريل 1507 وضع البابا يوليوس الثاني حجر الاساس لبناء معلم الفاتيكان… والذي هو وبعبارة موجزة يمثّل مكّة بالنسبة للمسيحيين، لانّه مركز القيادة الروحية للكنبسة الكاتوليكيّة… وككل المشاريع الضخمة في المعمار كان عرضة للعراقيل لانّ بناء معلم الفاتيكان نهائيا لم يتمّ الا في 14 ماي سنة 1590 …

وكيف نكون في روما ولا نزور الفاتيكان؟ … الفاتيكان اصبحت فيما بعد اصغر دولة في العالم 0 فاصل 49 كيلومتر مربع مساحة… وسكانا لا يتجاوز تعداده 850 فردا ..هذه المعلومات اسوقها فقط للتذكير بها لكن ما هالني وانا ألج إلى كاتدرائية “الفاتيكان”سيكستين” هذا المعمار الضخم والرهيب …كنت اتساءل كيف للانسان في ذلك الزمن (القرن 15) ان يشيّد مثل ذلك المعلم وبذلك الحجم ..اعمدة رهيبة طولا وسُمكا .. كيف صنعوها ؟؟ كيف رفعوها وهي طولا بحجم عشرات الامتار وسُمكا بقطر دائري ضخم؟؟ .. بكلّ امانة لم ار في حياتي لا الواقعية ولا الافتراضية معلما بتلك العظمة… وهو مُحلّى بابهى الزخارف والفسيفساء اتسمعني ليونارد ديفنشي ؟؟ وبتماثيل عملاقة … قلت في بداية توصيفي له هذا المعلم الرهيب ..اي نعم ..رهبته تتمثّل في انّ كلّ من لا يحمل في قلبه ايمانا عميقا بالاسلام، قادر هناك في لحظات وجيزة ان يعتنق العقيدة المسيحية !…

معلم آخر وهو في قلب العاصمة روما لا يمكن لكلّ زائر للمدينة الخالدة ان لا يذهب اليه .. انها نافورة تريفي (لافونتانا دي تريفي) ..النافورة تُعدّ من اجمل نافورات العالم وهي من مواليد القرن السابع عشر واستغرق بناؤها 30 سنة… و منذ ولادتها ولحدّ الان ظلت محلّ رعاية واصلاح وتطوير (كيف المعالم التونسية اللي عندنا بالضبط قريب يطيحو على روسنا … وهي المصنفة في خانة “دار الخلاء تبيع اللفت”)… الشيء الخاص بنافورة تريفي انّها تختزن اسطورة منذ القدم ..فالسائح عند الوقوف امامها عليه ان يرمي بقطعة نقدية في فسقيّتها… حسب المعتقدات الايطالية، فإن القاء تلك القطعة النقديّة يحقّق لصاحبها كلّ ما يتمنّى وحتما سيعود لزيارة روما ..انا كنت طبعا من الذين القوا بالقطعة النقدية .. فقط لاخذ صور تذكارية … ولانّ نيتي كانت مخوّزة .. لم تتحقق برشة امنيات ومللي دفنوه ما زاروه …

الايطالي في حياته انسان (تعشقو عشق) يحبّ جدّا الحياة بكلّ ملذّاتها .. وفي نفس الوقت يؤمن بالعمل كقيمة حضاريّة ..الايطالي يمكن ان نفهمه من اغنية لـ”توتو كوتونيو” بعنوان (دعوني اغنّ)… لاشاتا مي كانتاري… لانه حتى وهو يتحدّث ويداه في حركات سمفونية رائعة، يغنّي .. حتى وهو يمشي (وهنا الاصحّ حتى وهي تمشي) هي تغنّي وترقص …الباعة الذين ينتصبون كلّ ايام الاسبوع في اماكن مخصصة لهم يعرضون بضاعتهم على الآخرين وهم يغنّون .. ربما هم من فهموا (المغنى حياة الروح … يسمعها العليل تشفيه ..وتداوي كبد مجروح ..تحتار الاطباء فيه ..وتخلّي ظلام الليل .. بعيون الاحبّة ضيّ .. شوي شوي شوي شوي غنيلي وخذ عينيّ) .. اصبحت لديّ شكوك في انّ الكبير محمود بيرم التونسي صاحب كلمات هذه الاغنية عمل حرقة في زمانو لايطاليا واستلهم من روح شعبها الفنان في كلّ شيء ..اغنية الستّ غنيلي شويّ شويّ …

وهنا يتوقف قلمي عن مواصلة الكتابة ..معناها بعد رائعة بيرم كلمة، وزكرياء احمد تلحينا، والستّ غناء نواصل انا في لغوي؟؟ عيب يا عبدالكريم عيب …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار