تابعنا على

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 63

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

وحان الوقت المقرّر لبث اوّل انتاج مولود لنواة الانتاج التلفزي بصفاقس… تربّعت والعائلة لمشاهدة الحدث… كنت انذاك انتظر بكل زهو وسعادة وارتباك الساعة الصفر… ولم تأت تلك الساعة الصفر واصبحت انا ذلك الصفر الموضوع على يسار العدد… لا دم يسري في اوردتي… بهتة فظيعة وخجل افظع… بعضي يمزّق بعضي…

عبد الكريم قطاطة

ما ابشع ان نعيش الخذلان… ما ابشع ان نلوك الفراغ… ما ابشع ان نريد الصراخ ولا ينطلق اللسان… ما ابشع ان يبكي داخلنا دون دموع …. (غمّيت راسي) وتمرقدت… كان الف سؤال يدور بداخلي… هل فشلت يا عبدالكريم في اوّل تجربة مهنيّة في حياتك كمخرج ..؟؟ لا لجنة متابعة البرنامج عبّرت عن اعجابها بذاك المولود… مالذي حدث ؟؟؟ لماذ وقع حجب البرنامج دون ايّ تفسير ؟؟… الهذه الدرجة يحتقرون صاحب العمل… ؟؟؟ ولم استفق من بعثرتي الداخلية المبعثرة الا وانا اطرق صباحا باب المدير… لم ار قبل ذلك ايّ وجه… لكأنّي مجرم شنيع الفعلة يتحاشى انظار الاخرين… بل يومها وددت لو امسكوني بجريمة ما واسدلوا على وجهي تلك الخرقة السوداء حتى لا أرى ولا اُرى…

لست ادري تفاصيل ما حدث ذلك الصباح وانا اخرج من حوشنا حتى وصولي الى باب مكتب المدير… كان هنالك ضباب على عينيّ كي لا ارى شيئا ولكن الافدح الضباب الداخلي الذي عشته… كان كل همّي ان ينقشع… فتحت الباب ولا اتذكّر حتى ان سلّمت على المدير يومها ولكن اتذكّر جيّدا انّني ودون مقدمات سألت: علاش ما تعدّاش برنامجنا ..؟؟ نظر اليّ سي قاسم المسدّي وقال: اقعد ارتاح… كان يحسّ بأنّ في كل حرف من سؤالي (علاش ما تعدّاش برنامجنا) كومة متنقّلة من الوجع …هو يعرفني جيّدا لذلك قال (اقعد ارتاح)… هو يعرف انّ الراحة وقتها يستحيل ان تجد منفذا لي قبل معرفة السبب…. ثمّ اضاف …شربت قهوتك ..؟؟ لم انتظر لحظة واحدة واردفت بكثير من الالم والغضب: يبارك فيك سي قاسم ..علاش ما عداوش البرنامج؟…

لم يجرؤ على النظر اليّ وقال بصوت نصف هامس ونصف متألّم: ما تعدّاش وماهواش ماشي يتعدّي ..وهذي امور تتجاوزني وتتجاوز برشة ناس … لهجته الجدّية والحازمة نزلت على مسمعيّ كصاعقة… كاعصار مدمّر … كـ”تسونامي” خيبة … اجابته عندي كانت ضافية ولم تكن شافية بل هي اشبه بالنكبة … ان يقول تلك امور تتجاوزني وتتجاوز برشة ناس … تعني عمليّة وأد لحلم كم هو كبير … سألت: من وراء القرار؟ …لم ينظر اليّ… كان يوهمني بأنه مشغول ببعض الملفّات على طاولة مكتبه ..وكنت الاحظ انّه يقلّب نفس الورقة عشرات المرّات دون ان يقرأ كلمة واحدة منها… كان يُخفي وجعه هو ايضا … قال ردّا على سؤالي: ما نعرفش… وكنت واثقا انّه يعرف…

نهضت من مقعدي كجندي يحاول ان يلملم آثار هزيمته ويمشي على جراحه، طمعا في ايهام نفسه بأنه خسر معركة ولم يخسر حربا… قلت له: اوكي وبعد؟ … انذاك رجاني بأن اهدأ لأنّ له ما يضيف… جلست على مضض… وقتها اشتهيت ان اكون من اولئك الذين يتسلّون بقضم اظافرهم … انا اكره ذلك جدّا ولكن في تلك اللحظات العسيرة وددت ان اقضم ليس فقط اظافري بل انملة من كل اصبع ضغطت على زرّ من ازرار طاولة المونتاج (وانا “زعمة زعمة”اتفنن في اتقان تلك العملية، ما فائدة ان تتقن اناملك شيئا ما ثمّ يُرمى بما صنعت في قمامة الارشيف دون رجعة؟) … نظر إليّ سي قاسم وقال: شوف خويا عبدالكريم توّة اللي صار صار… وانت قادر على كل التحدّيات سواء كنت هنا او هنالك…

قطّبت جبيني باستغراب وقلت: آش معناها ؟؟ اعاد سيناريو التجوال في ملفّاته وقال:معناها تونس … صمتّ للحظة وجيزة وقلت بسخرية: آش معناها تونس ..؟؟ عاد ليلبس جاكيتة المدير وقال: الادارة العامة تحبّك ترجع لتونس … وانت كادر (اي اطار) ومؤسسة التلفزة في حاجة الى خدماتك وخاصة لكفاءتك …. (هكّة هوما في جلّهم كمديرين ينفخولك في صورتك بكلمات رنانة من نوع كفاءتك ومهاراتك وانت ما عندناش منك برشة، ويوصلو حتى للواجب الوطني وموش يعجبك تولّي في قائمة اصحاب الخيانة العظمى اذا ما تقبلش موقفهم )…اما يحبو تحت من يمرد. وقتها وبكل … سمّوه ما شئتم غرورا عنادا اعتدادا مفرطا بالنفس .. مخّي تسكّر… قُضي الامر واُغلق باب التعقّل عندي .. وبالكاد كنت نسمع في المدير وهو يقلّي: وما نحبكش تجاوبني توّة نعرفك متأزّم … امشي خوذ ثلاثة اربعة ايام راحة وبعد ارجعلي نحكيو …

نظرت اليه وقلت له اوكي ..خوذها من توّة ومانيش متأزّم زادة …لن اعود للعمل في تونس العاصمة ولو كلّفني ذلك فقدان وظيفتي …ربّي يعينك ..وغادرت دون انتظار اي ردّ منه… وللامانة تركني اغادر دون الحاح او ما اسمّيه انا حصار المسؤول في ايّة ادارة وبطرق فوقية آمرة وهو يريد اقناع الموظّف بشتّى الوسائل بمنطقيّة القرار تنفيذا لأوامر السلط العليا … لم اذق قطرة خمر واحدة في حياتي …ولكن يومها وددت لو اسكر بالخمرة حتى الثمالة …الزطلة انذاك كانت محرّمة رغم انّ البعض من آبائنا واجدادنا (وابي واحد منهم) كانوا يغرسون خفية نبتة الخشخاش وهي من المزطلات انذاك …

(يوم كبرت قليلا ـ في سن التاسعة ـ شلّقت بوجود نبتة الخشخاش في ركن منزو من جناننا… فسألت الوالدة عنها وقالت لي انّها نبتة برّية تنمو وحدها وهي عديمة الفائدة …لكنّ اجابتها لم تنطل عليّ… سالتها: اذا كانت برّية ولا فائدة منها لماذا لا يقلعها ابي عند قلع الحشائش؟… عيادة رحمها الله فهمت انّ المنجل وحل في القلّة … وحتى تستبق القادم امرت الوالدة باسلوبها الليلي الوالد ان يتخلّص منها ونهائيا … وانّى لرجل انذاك ان يلوي العصا في يد زوجته عندما تستغل نقاط ضعفه ليليّا ؟؟؟ حتّى سي السيّد (بقوتو وصولجانو) يكذب على نفسه وعلى اترابه لو اقرّ بعكس ذلك … اشبيكم راهي الوسّادة وما ادراك … لذلك تنهار الصولجانات امام التهديد بوسائد خالية مع زوجات بارعات في مسك الصولجان من حيث يجب مسكه … وسامحوني على هذي التخريجة الماسطة ولكن صدقا ذلك كان واقع جلّ الرجال في ذلك الزمن …الان… فيهم وعليهم…)

وانا اخرج من مكتب سي قاسم وددت ان اغطس في زطلة غامرة …لا عشقا لها بل هروبا من الوحش الكاسر الذي كان يسكنني …وحش الشعور بالخذلان …لم اشأ يومها رؤية ايّ كان واستحلت سائق سيارة اجرة دون ركّاب ودون اجرة ..امتطيت سيارتي (الزمردة الحمراء) واذا كان ابو نواس قد وجد الحلّ عندما قال: (عاج الشقيّ على رسم يسائله .. وعجت اسأل عن خمارة البلد) … فانا عجت اسأل عن هذا القدر الذي المّ بي ولكن خاصة عن الاقدار التي تنتظرني … قضّيت يومها اطوف من طريق الى طريق وكأني عون توبوغرافيا اسائل كل محطة ..كل حجر ..كل شجر …لماذا ….؟؟؟ ثمّ ماذا …؟؟ ومع كل نقطة كيلومترية اتجاوزها اشعر بداخلي يتضخّم عنادا وكسوحية راس ..لن اعود الى تونس العاصمة .. انا لن اعود اليك …مهما استرحمت دقّات قلبي ..تلك كانت واحدة من الاغاني التي يرددها داخلي وانا اهيم على وجه الطرقات … ذلك كان موقف العقل والقرار فيّ ولكنّ المقطع الذي طغى علىّ عاطفيّا لم يكن الا لحليّم …موعود معايا بالعذاب يا قلبي .. ولا بتهدا ولا بترتاح في يوم يا قلبي يا قلبي …

وها انا في صباح اليوم الموالي امام مكتب المدير اطلب من سكرتيرته الاذن بالدخول …وجدني سي قاسم امامه وبابتسامة مفبركة قال ..تي اشنوة صاروا الثلاثة ايام ..؟؟ موش تفاهمنا ترتاح شوية وبعد نحكيو؟… جلست وقلت له بكل حزم لا يدع له اطلاقا مجالا للتحاور : شوف سي قاسم موقفي راهو موقف مبدئي …انا مانيش بيدق امس يبعثوني رسميا لصفاقس، غدوة يقولولي ارجع لتونس، وبعد غدوة يبعثوني لرجيم معتوق …انا ما غلطتش ومهما كانت اسباب ايقاف نواة الانتاج التلفزي وما يهمنيش اشكون وراها، مستحيل نرجع للعمل بتونس العاصمة… ولمعلوماتكم وهذه عرفتها بعد 7 نوفمبر، ان حاشية الرئيس بورقيبة مثلما ارادت بعد انطلاق بث اذاعة صفاقس ايقافها بداعى المصاريف الزايدة ولم تفلح… والفضل يعود للمرحوم عبدالعزيز عشيش في اقناع الرئيس بجدوى اذاعة جهوية اعلاميا جهويا اوّلا ثم اقليميا و اعني بذلك تاثيرها على الشقيق في ليبيا …نجحت نفس الفئة الوسواسة الخناسة والتي تكنّ لنا حبّا رهيبا في عدوانيته تجاهنا والمتواصلة لحد كتابة هذه الاسطر…. نجحتْ هذه المرة في اقناع بورقيبة بايقاف نواة الانتاج التلفزي ولنفس الاسباب و يضيفون: يخخي اما ابجل النواة في صفاقس او في المنستير ؟؟

لاعد بكم الى حواري مع سي قاسم قلت وباصرار تام: “هذا موقفي امس واليوم وبعد ثلاثة ايام وبعد ثلاثة قرون …وانا نعرف اش نقول ومسؤول علّي نقولو وما تخليش روحك لسان دفاع عنّي… انا اتحمّل كلّ تبعات قراري ولو ادّى ذلك الى رفتي من المؤسسة … انا يوميا نجي للاذاعة لأني موظف بمؤسسة وعليّ حتما ان اسجّل حضوري… ابلغْهم بموقفي وسانتظر قرارهم وساتقبّله بكل رحابة صدر “… وقتها تأكد سي قاسم نهائيا انّني حازم قطاطة موش عبدالكريم قطاطة … قال لي بكل هدوء: ما نعقّدوهاش …امشي ارتاح ويعمل الله …احسست وقتها بأنه متعاطف معي ولكن ما الحلّ … ؟؟

بقيت اسبوعا كاملا وانا امارس كارثة الذهاب يوميا الى الاذاعة مع مطلع الساعة العاشرة صباحا … نعم كان الذهاب الى مؤسسة يرمقك فيها البعض بشفقة والبعض بسخرية كارثة ..فلا عيون الشفقة تريحك ولا عيون السخرية حتى لا اقول الشماتة تريحك … ولكن كان عليّ ان اتحمّل سياط تلك النظرات … قد اكون افلحت في ابداء موقف اللامبالاة امامهم ولكن نظراتهم كانت تُخلّف بعض الكدمات والجروح بداخلي … اذ كيف لذنب من لاذنب له ان ينظر اليه الاخر بعين السخرية …ثم اما كان عليهم ان يعرفوا انّ ايقاف نواة جهوية للانتاج هو صفعة لاذاعتهم ولمدينتهم قبل ان تكون صفعة لصاحب المشروع …هكذا نحن في جلّنا ننتبه لصغائر الامور وننسى الاعمق فيها .. نحن لا يمكن ان نكون ملائكة نعم …ولكن اليس علينا ان لا ننزل الى خندق ودرك الشياطين ..؟؟

ينقضي الاسبوع الاول من الشوماج المفروض عليّ … بطالتي كانت ثقيلة جدا زمنا وفكرا وروحا … هو اسبوع واحد فقط ولكنه بحجم قرن من الزئبق … في يوم اثنين من بداية الاسبوع الثاني ما ان ولجت مدخل الاذاعة حتى همس لي الحاجب …(سي قاسم يحبّ عليك) … ووجدتني بمكتبه …اهلا سي عبدالكريم ..ايّا اش عملت ..؟؟؟ سؤاله استفزّني جدا ..الى درجة انّي كنت على ابواب مغادرة المكتب دون الردّ عليه …الا انّ شيئا ما بداخلي قال لي الهدوء يا كريّم الهدوء …. وبحسّه المرهف فهم انّ هنالك غضبا بداخلي من جرّاء سؤاله فاستطرد بسرعة … حبيت نقللك ايّا اش نعملو ….. وقتها احسست بالسؤال الغمامة الذي قد يحمل غيثا.. فاجبت: اللي تشوفو باستثناء العودة الى تونس …

ابتسم وقال: “انت قبل كنت في التلفزة تعمل في بعض الريبورتاجات في الحصص الثقافية مع سي خالد التلاتلي ومع خليفة شاطر …وحتى في فرانسا كيف كنت تروّح في العطلة متاعك عملت خواطر الظهيرة هنا في اذاعة صفاقس” ..قلتلو ..نعم وهو كذلك ..قال لي: انت جاي من فرنسا واكيد ملمّ بالاغنية الغربية وانا عندي برنامج يقدّم فيه عبدالجبار العيادي حول الاغنية العالمية واسمو انغام السابعة اش قولك تخدمو معاه …. ؟؟؟ الفكرة استهوتني بسرعة ..اولا لأنّ البطالة اشنع ما يمكن ان اعيشه وانا الذي ما كنت بطالا يوما .. ثم ولعي باباطرة الاغنية العالمية شجعني على القبول … قبلت الاقتراح حتى دون السؤال عن هذا الحل ..هل هو اقتراح شخصي منه …؟؟ هل هو باتفاق مع رئاسة المؤسسة …كان داخلي يدفعني دون اي تردد او احتراز للقبول ..البرنامج كان يوميا من الساعة السابعة مساء الى الثامنة ليلا ….

التقيت بالزميل عبدالجبار وعرفت انّه متعاون خارجي ومولع بالاغنية الغربية … وبدأت الرحلة المشتركة معه …كنت استمتع جدا باختياراتي الغنائية والتي كان يقاسمني فيها عبدالجبار… الموقف لست ادري مجاملة او اقتناعا …وتلك كانت اوّل محطّة للقائي بنوعية معيّنة من مستمعي اذاعة صفاقس ..فئة تعشق الاغنية الغربية ..كان هناك تجاوب منذ الحلقة الاولى ..كنت صوتا جديدا لا غير ..لكن يبدو انّه لقي تجاوبا مع اذن المتلقّي ..قلت صوتا جديدا فقط لأن جانب الفكر او الموقف كان محدودا جدا …اذ لا يتجاوز التعريف باغنية ما او بصاحبها وفي احيان قليلة بمضمونها اذا كانت من النوع الهادف … في تلك الفترة كان زميلي عبدالجبار متعاونا خارجيا …وهذا يعني في نهاية السبعينات بعض الدنانير التي لا يتجاوز محصولها الشهري 90 د، وعند حذف الاداءات تصوروا ماذا يتبقّى في جيبه …

ارتأيت وقتها ان اناقش الامر مع سي قاسم حول ما يمكن ان يحدث لموعد السابعة ولزميلي عبد الجبار …قلت له بكلّ ايمان: انا لم آت هنا لاقضي على مدخول شهري بسيط لمتعاون كم هو في حاجة لما يتقاضاه ..هل هنالك حلّ آخر في الشبكة يُرضي الجميع …؟؟؟ قال لي حاليا لا … ولكن هل ترضى ان تكون في برنامج يومي من العاشرة صباحا الى منتصف النهار ويُعنى بالاهداءات الغنائية …. نظرت اليه وقلت …توة هذا تسميوووه برنامج اذاعي فيه اهداءات …توة هذا موش تخلّف اذاعي ..؟؟ قال لي انا معك ولكنّه حاليا وفي الاذاعات الثلاث (تونس وصفاقس والمنستير ) هو البرنامج الضارب رقم واحد . وتوة فيه منجي عزالدين وحسناء بن صالح ادخل معاهم وشوف .. قلت هل استطيع ان اغيّر فلسفته تدريجيّا ..؟؟؟ قال لي وبكل صدق وتشجيع كامل: اعمل فيه اللي تحب… كارت بلانش …

وقبلت وتركت موعد السابعة الى صاحبه ودخلت في تجربة كم هي فريدة من نوعها وكم هي جزء هام من اقداري… كان ذلك في ديسمبر 1979 … انه من البريد الى الاثير …

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 75

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

الديماغوجيا في تعريفها هي كلمة يونانية الاصل وهي في حقيقتها مشتقة من كلمة “ديموس” وتعني الشعب، و”غوجيا” وتعني العمل …

عبد الكريم قطاطة

ومن غرائب الدنيا انها تحوّلت في ما بعد من هذا المفهوم الراقي الى مفهوم ثان يتفق عليه الباحثون متمثّلا في (كلام فضفاض لا منطق له يحاول صاحبه ان يستميل اليه المتلقّي بالاغراء)… وهي عادة ما التصقت بالسياسين حيث يعرّفها المعجم الوسيط كالآتي (الديماغوجيا هي مجموعة من الاساليب التي يتبعها السياسيون لخداع الشعب واغرائهم ظاهريا للوصول الى السلطة وخدمة مصالهم) … السنا في عهد ازدهار الديماغوجيا وبامتياز ..؟؟ قلت ازدهار لانّها هي ليست وليدة سنوات الجمر التي هلّ هلالها بعد 14 جانفي بل هي من “الصداقات” التي لازمتنا منذ عهود …

هذا يُحيلني لما صرّح به السيد محمد عبدالكافي انذاك وهو يردّ على استفسارات الصحفيين حول اختفاء الكوكتيل ومن ورائه عبدالكريم .. اذ وكما اسلفت في الورقة الماضية قدّم تفسيرا وفي منتهى الديماغوجية عبر جريدة البيان بتاريخ 27 ماي 85 واعاد نفس الاسطوانة بجريدة الايام بتاريخ 30 ماي من نفس السنة عند استفساره عن سبب اختفاء الكوكتيل حيث قال: (طالبنا بتصور جديد لمختلف البرامج لاننا نرفض تلك الحصص الشبيهة بالحنفية التي يخرج منها كل شيء… العسل والزفت والقطران… والاعتماد على آراء المستمعين فقط ليس العنصر الوحيد لتقييم عمل ما… المنطق يفرض على المنشط تكييف اذواق المستمعين، والواجب يحتّم عليه الارتقاء بدائرة معلوماتهم) … ثمّ يضيف: (ليست لنا نية الاستغناء عن عبدالكريم قطاطة هذا المنشط القدير وبامكانه استرجاع برنامجه حالما ينتهي من اعادة تصورجديد له… وان لم يتمكّن من ذلك ساقدّم له شخصيا تصوّري الخاص لهذه الحصّة الاذاعية)…

ظاهريا يبدو الامر منطقيا جدا و جدّا ايضا .. لكن من واكب برامجي سيدرك مباشرة انّ مديري تحدّث بمفهومي الخاص للمنشط والمستمع… فانا اعلنتها مرار ومنذ السنة الاولى من عملي في الكوكتيل ومازلت عند قناعتي انّي ضدّ منظومة (الجمهور عاوز كده)… احترامي للجمهور لا يعني ولن يعني اني مستعد لتمرير التفاهات شكلا ومحتوى .. ثم هو تحدث في تصريحه للبيان عن رؤيته للعمل الاذاعي حيث قال: (دعوته الى اعطاء تصوّر جديد للبرنامج بصورة تجعله يساير التغيير والتوجه الذي طرأ على البث المباشر والذي يميل الى التخصص والعمل ضمن نظام المجموعات)… هذا كلام جميل ايضا ولكنّه عار من الصحّة لسببين اولهما انّ السيد محمد عبدالكافي رحمه الله كان كلّما اجتمع بالمنشطين فترة عمله مديرا على راس اذاعة المنستير، كان يحثهم على الاستماع الى عبدالكريم قطاطة والاستفادة من منهجيته واسلوب عمله… وكان يقول لهم حرفيا: (اش ناقصكم انتوما وهو اش عندو زايد عليكم ؟)… ثمّ بين عشية وضحاها يتحوّل هذا المنشط القدير حسب ما ورد على لسانه، الى انسان عاجز حتى على تقديم تصور جديد… واستعداد المدير لمدّ يده لنفس المنشط وانتشاله من العجز …

هذا اولا… ثم ثانيا اين تصوّره الجديد في ما اقترحه هو و شلّته على زميلي عبدالجليل في نادي المستمعين ؟؟ اين التخصص واين العمل ضمن مجموعات ..؟؟ لم يوجد هذا بتاتا في نادي المستمعين ومن هنا كان ردّ مديري قمّة في الدمغجة … لأنّ ما حدث قبل ايقاف الكوكتيل وصاحبه كان كالآتي: تقدمت بطلب عطلة للراحة وفي الاثناء علمت من بعض الزملاء في الادارة ان النية متجهة الى تقليص عدد حصص الكوكتيل من خمس الى ثلاث… وكذلك تقليص مدته من ساعتين الى ساعة ونصف…

اتصلت بالمدير واعلمته برفضي لمثل هذه القرارات دون تفسير منطقي لها… كما عبرت له عن نيتي في ادخال بعض التعديلات على المحتوى دون حتى ان يطلب منّي ذلك… وبكلّ امانة انشرح مديري للامر او هكذا بدا لي وحظيت مقترحاتي بموافقته وكان ذلك يوم 18 ماي 85 … وعندا فوجئت بحلول جلول ونادي المستمعين محلّ الكوكتيل اتصلت بالادارة للاستفسار… اشعرتني بانها طلبت منّي تقديم مشروع كامل لتطوير البرنامج لكنّي لم استجب لذلك … هكّة عيني عينك … وقتها ادركت انّي خسرت الجولة الاولى من معركتي الثانية مع المدير والحاشية … وعندما سالتني الصحافة المكتوبة عن موقفي اكتفيت وقتها بالقول: لا استطيع ان اقول شيئا في الوقت الحاضر… (الايام 30 ماي 85).

اعود لاقول وجيعتي كانت كبيرة … مؤامرة حيكت بشكل دنيء … اذ من حقّ ايّة ادارة ان يكون لها موقف من منشط ما او برنامج ما، ولكن كنت احترم موقفها او قرارها لو لم يكن بشكل مخادع وجبان … وللامانة انذاك لم اقبل موقف جلّول والذي اعتبرته خيانة وقررت ان احرّض عليه المستمعين وفعلت… امّا مع الادارة فارتأيت ثانية ان استرخص في عطلة بلا مقابل ولمدة سنة قد اجددها حتى اتمكّن من الكتابة في الصحف واعلان الحرب على ادارة اذاعة صفاقس… حيث تمكنني هذه الرخصة من عدم الوقوع في فخ انعقاد مجلس التأديب اذا قمت بكتابة ايّ شيء تجاه مؤسستي وانا في حالة مباشرة …

وحصلت على رخصة بعطلة دون مقابل وبدأتُ حملتي الصحفية يوم 6 جوان 85 وبجريدة الايام بمقال طويل عريض يحمل عنوان (عبدالكريم قطاطة يردّ على ادارة اذاعة صفاقس) بالقول:بكلّ برودة دم لن اساوم (وها انا اوثّق للتاريخ بعض ماجاء في هذا المقال)… عندما كتبت في شهر اكتوبر 82 عن الكوكتيل وهو يتعرض للهزّة الاولى في سجلّ ايامه، عاب عليّ البعض تسرّعي ولهجتي الحادّة واعتبر مقالي انذاك تحدّيا لتقاليد عديدة والتي مازالت لحد الان بالية هزيلة شاحبة وخاوية… وكان ما كان ودفع من اراد عرقلة الكوكتيل الضريبة غالية… وعاد الكوكتيل الى الوجود شامخا هازئا رغم الاعداء والاعداء والاعداء .. وعند تولّي الزميل محمد عبدالكافي ادارة اذاعة صفاقس وعلى اثر اوّل لقاء بيننا، خاطبته حرفيا بقولي: (لست من غواة الكاشيات ولا من هواة المناصب .. كل ما ارجوكم هو مساعدتي على القيام بهذا العمل الشاق وذلك بالتعامل معي بصدق ونزاهة، فانا اقبل كل الملاحظات والنقد والاصلاح والتوجيه ما دام صاحبه ينطلق من معدن الوضوح والصراحة … فهل تُعتبر شروطي هذه مجحفة ؟؟؟ اذ شرعيّ جدا ان يحاول كلّ مسؤول جديد في مؤسسة ما، ادخال نفَس جديد وفلسفة شخصية على سير العمل بمؤسسته… لكن هل يمكن ان يكون ذلك على طريقة نيرون الذي احرق روما ؟ وفي باب التطوير هل من المعقول ان تنسى ادارة اذاعة صفاقس مجموعة كبيرة من البرامج اكلها السوس وهي نسخة مطابقة لبعضها البعض ومنذ الستينات ؟؟ لماذا حربوشة التطوير او كرتوشته توجهت بالذات الى الكوكتيل؟”...

وحديثك عن الجمهور … انت وغيرك يعلم ان جمهور الكوكتيل متنوع وحاضن لكلّ الفئات والمستويات التعليمية… وانّ الكوكتيل من جملة ما حصل عليه في الاستفتاءات انه البرنامج رقم واحد لدى المثقفين ..اذن حذار من كلامك عن جمهور الكوكتيل … ومن اهانتك له … وردّا على ورودك وانت تنعتني بالمنشط القدير، اليس من الغريب ان تنعت هذا القدير بالمحنّط وغير القادر على التجديد بل وتذهب الى حد استعدادك لمد اليد والدعم بتصوراتك .. في خاتمة كلماتي اوجز موقفي كما يلي: انا لم ولن اكون يوما مساوما بالكلمة وسابقى رافضا لكلّ المواقف المهزوزة… والكوكتيل هو كوكتيل المستمعين قبل ان يكون كوكتيل عبدالكريم… وايقافه هو ايقاف لمسار اذاعي جديد وبكلّ غرور، وهو تحدّ لارادة المستمعين ولقد سبق ان قلت سنة 82 بامكانك ان تقتل بلبلا مغرّدا ولكنّك لن تكون قادرا على قتل غريزة التغريد في البلابل … قد يتوقف الكوكتيل شهرا، سنة، عشر سنوات ولكن وبكلّ تحدّ لن يموت لأنه لن يساوم وسيقاوم”.

هذه مقتطفات من مقالي الذي احتلّ صفحة الا ربعا في جريدة الايام… كنت استفزازيا نعم … تركته ضمنيا في حرب مع المستمع نعم .. سخرت من ديماغوجيته نعم … وكنت على يقين تام ولا جدال فيه اني خسرت معركة ولم اخسر حربا … وكان تعاطف الزملاء في جريدة الايام اولا وفي عديد العناوين مشهودا … هذا ما كتب نجيب الخويلدي في ركن صحافة الرسائل وبتاريخ 13 جوان 85 (وبدات اذاعة صفاقس تزاحم الاذاعة الوطنية في قتل الموهوبين ومعاداة النجباء … التنشيط الاذاعي موهبة وليس خطة ادارية لذلك فانا لا اتصور ان محمد عبدالكافي يمتاز على عبدالكريم قطاطة في الخلق والتصورّ وبث الذبذبات الساحرة ؟ هل يستطيع عبدالعزيز بن عبدالله* ان يملك قلوبنا كما فعل ساحر الاجيال حمادي العقربي ؟؟ وبعد كل هذا ماذا يمكن ان يقترح محمد عبدالكافي على عبدالكريم قطاطة ؟؟ يا فلان انّ عبدالكريم امبراطورية لها جماهيرها التي انتخبتها بصفة ديموقراطية لانّ الامبراطور تعامل مع الناس بالحب والامل والارادة… وهذا كان شعار الكوكتال… هذه اربع كلمات من مئات اريد ان اقولها في مسالة تثليج عبدالكريم قطاطة… فهل ستتحول جنة الاذاعات اي اذاعة صفاقس الى جحيم ..؟؟ الايام ستجيب والتاريخ سيسجّل)...

هكذا كتب زميلي وصديقي نجيب الخويلدي… وفي نفس العدد فوجئت بمقال يكتبه زميلي عبدالقادر المقري وتحت عنوان (يكرهون الجمال)… هل تصدقون ان قلت لكم اني اعتبر ما كتبه قدّور من اغلى الاوسمة في حياتي …توقفت عن كتابة بقية هذه الورقة نصف ساعة لاُعيد للمرة لست ادري كم، قراءة مقالك يا قدّور … وللمرة لست ادري كم ايضا، تفيض عيوني دمعا وانا اترشفه …حاولت جاهدا اقتطاع بعض الفقرات منه ولكن عجزت عجزا تاما عن ذلك… ايُعقل ان ابتر يدا من جسد متكامل؟… ايُعقل ان افقأ عينا من رأس من يعزّ عليّ؟؟ هكذا خُيل اليّ وانا احاول جاهدا ان اقتطع لكم منه بعض الشيء … وعدا منّي ان انسخه لكم كاملا في الورقة القادمة وانا واثق جدا من اني ساهديكم دررا ثمينة وصادقة جدا لقلم ابن المقري … شكرا قدّور على وسامك…

ـ يتبع ـ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* رئيس النادي الصفاقسي آنذاك

أكمل القراءة

جور نار

ورقات يتيم … الورقة 74

نشرت

في

عبد الكريم قطاطة:

ان تعمل في قطاع الاعلام بانماطه المختلفة… مكتوبا ومسموعا ومرئيا… ليس امرا مُتاحا للجميع من جهة، وليس بالضرورة ان تنجح في مثل هذه الاعمال ..

عبد الكريم قطاطة

انا كنت ومازلت من المؤمنين بأنّ الاعلامي هو صاحب رسالة بناءة فهو اوّلا لسان الاخرين وخاصة لسان المحرومين والمظلومين بعيدا عن الاحتواء وعن أبواق البلاط او الاحزاب… فهو بالقلم او المصدح او الكاميرا صورة عاكسة ومناضلة من اجل ذلك الذي لم تُتح له الفرصة كي يعبّر عن افراحه واتراحه… ومن ثمة يكون رجع الصدى الايجابي من المستهلك… والاعلامي الذي لا يتفاعل معه المتلقّي تفاعلا واعيا عميقا قد يخلق (البوز ) لفترة زمنية وجيزة ولكن قدره حتما سيكون كفقاعات المطر عند نزولها… تنتفخ في زهو ثم تختفي… ومن المخجل انّ هؤلاء تكاثروا بشكل رهيب بعد 14 جانفي 2011 ولم يدركوا يوما انّ الكلمة اخطر من الرصاصة … فالرصاصة تقتل فردا اما الكلمة فباستطاعتها ان تقتل شعبا…

انظروا ما آلت اليه وسائل الاعلام بعد 2011 وماذا اثمرت من اولاد مفيدة الى اولاد عواطف… جيل مهمّش لا قيم له… امكانياته الفكرية محصورة في مشطة شعر كالهدهد وفي بنطلون متعدد النوافذ… والغريب في الامر انّ اباطرة هذه التوجهات الممنهجة تصوّروا انهم بهذه الانماط الاعلامية سيواجهون التطرف والارهاب… في حين انّ النتائج ستكون كارثية يوما ما، وسينقسم التونسيون الى قطيع من متطرفين اسلاميين من شاكلة (وَ إذا قِيلَ لَهُمْ لا تًفسِدوا في الارضِ قالوا انما نحن مصلحون الا انهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون)… والى قطيع ثان من جيل الفراغ والزطلة والعبث… وتصوروا فقط هذين القطيعين يوما ما في مواجهة… انها حتما الطامة الكبرى لانهما سيكونان بيادق لحرب يقتل فيها الاخ اخاه والاب ابنه… بينما ينعم اباطرة القطيعين برغد الحياة …

كنّا في جريدة الايام ومنذ انطلاقتها في 5 ديسمبر 84 نحمل نفس هذه القناعات… وكان شعارنا “لا نجامل ولا نعادي” ولكن ايضا آمنّا جدا بالمتلقّي (اي القارئ) واوليناه عناية فائقة وخصصنا له مساحة اسبوعية تحت عنوان (صحافة الرسائل) قال عنها رئيس التحرير صديقي نجيب الخويلدي في عدد 14 مارس 1985: ستلاحظون انطلاقا من هذا العدد انّ صحافة الرسائل تمكّنت بفضل السياسة التوسّعية (وارجوكم لا تسيئوا الظن بهذه العبارة) تمكنت ان تحتلّ صفحة ثانية بعد مفاوضات طويلة وعسيرة كان فيها عبدالكريم قطاطة المحامي رقم 1 عن هذه الصفحة حيث قال عبدالكريم بالحرف الواحد: {المستمعون في حاجة الى مساحة اكبر .. علينا ان نشعرهم ان لم يشعروا الى الان، ان الجريدة مِلك لهم وانّه ليس لنا حقّ الامتياز حتى نكتب نحن عشرات الصفحات ونملأها بما يخطر لنا، فيما نحرمهم وعددهم بالالاف من المساهمة في تأثيث الايام وانتقاء بضائعها}… قاطعت عبدالكريم لأقول: (اردت ان تقول القرّاء طبعا لا ان تقول المستمعين) .. ضحك عبدالكريم وضرب على جبهته براحة كفّه وقال: الوسّادة ما غلبتش الولاّدة …

وفعلا كان لحضور القرّاء في صفحات الجريدة وحتى في بعض اجتماعات اسرة التحرير بتونس، وزنا كبيرا ومما يّحسب للايام انها اتاحت الفرصة بل مكّنت العديد لا فقط في ممارسة حقهم في الكتابة في صفحاتها بل لتّقيم الدليل على انّ في معشر القرّاء اقلاما تتفوّق وبكلّ امانة على العديد منّا وتبعث بنرجسيتنا وغرورنا للجحيم … وهنا تحضرني بعض الاسماء والتي اعتبرها من خيرة الاقلام في الكتابة شكلا ومحتوى …عبداللطيف الحداد… ياسين البازمي… منجي الشلباوي… فوزية الشرقي… الحبيب بلقاسم…

اعود الان الى الولاّدة اي الى اذاعة صفاقس… المدّة الاولى وبعد ان عّين الزميل محمد عبدالكافي رحمه الله على رأس ادارتها كانت ضبابية … وهنا اعني علاقتي به … لم تكن بيننا لا علاقة ودّ ولا علاقة حرب… هدوء تام ..لكن كنت دائم التساؤل بيني وبين نفسي …هل هو هدوء طبيعي ؟؟… للامانة لم اكن مرتاحا لذلك الهدوء ولا لتلك السلبية واللامبالاة التي كانت تظهر على ملامح مديري الجديد … كنت اعرف ان الملأ لم يهضم ولن يهضم عودتي مظفّرا الى المصدح بعد زوبعة اكتوبر 82 .. وكنت اقرأ ذلك في عيونهم خاصة بعد رحيل السيد التيجاني مقني والذين اعتبروه الراعي الحصري لعبدالكريم … لكن وهذا طبيعي ومنطقي جدا ان يتعامل هذا الصنف باسلوب (الحرب سجال) ويرقد في الخط واحيانا يعطي للذلّ كارو…حتى ينقضّ على اوّل فرصة لربح معارك اخرى …

كلّ هذه الامور من البلاهة ان لا نأخذها بعين الاعتبار في حياتنا لذلك كنت اراقب بدوري تصرفات تلك الفئة وباسلوبي ايضا .. اذ وللامانة كنت ومازلت ارقد في الخط عندما يحاول ايّ طرف استبلاهي … وذلك امّا لاستوضح الامور بكل تفاصيلها حتى لا اتسرّع في حكمي او قراري وحتى لا اظلمه… او حتى اعطيه واعطي نفسي مساحة زمنية لمراجعة الاشكال بشكل اكثر وضوحا ونزاهة … هذا يُحيلني الى مثل شعبي ذاك الذي يقول (كلّ واحد شيطانو في جيبو)… نعم … كلّ واحد شيطانو في جيبو ولكن حتى تركيبة الشياطين من وجهة نظري تختلف … هنالك شياطين فينا نحن معشر البشر تخاف منها الشياطين وينسحبون رافعين القبّعة لشيطنة ابن آدم … داخلهم سواد وحقد وكراهية …وهنالك شياطين او شيطنة كلّ همّها ان تتصدّى للفئة الاولى (تي هو القطوس يخبّش على روحو) …بل ارى من الواجب عدم الاذعان لهم واعلان الحرب الدائمة تجاههم، تلك الحرب التي تبني تؤسس وتّصلح … وفي تاريخ الشعوب امثلة عديدة لمثل هذه الحروب حيث تُستعمل الحيلة والخداع من اجل الفتك بفئة شياطين البشر …

في الفترة الاولى التي مسك فيها زميلي رحمه الله السيد محمد عبد الكافي بمقاليد الاذاعة استمرّ الكوكتيل ولم يحدث مطلقا اي اشكال مع المدير … حتى اقترب شهر ماي 1985 حيث كانت لي محادثة قصيرة مع مديري اعلمته فيها بأني في حاجة الى عطلة قصيرة للاستراحة … وافق على طلبي وتمنّى لي عودة ميمونة موفقة مشيرا الى انه عليّ ان ابحث في هذه العطلة على اركان اخرى في الكوكتيل لتجديده … اجبته على الفور: الكوكتيل متجدد بطبعه نظرا إلى أنه يتابع الاحداث بشكل فوري ودائم … نظر اليّ ولم يعلّق على ردّي … وبكلّ امانة لم اقرأ ايّة نيّة مبيتة في صمته…

في 19 ماي 85 هاتفني زميلي عبدالجليل بن عبد الله ليقول لي: (اكيد لازم نشوفك ثمة موضوع يلزم نحكي فيه معاك)… كان ذلك صباحا وتواعدنا على اللقاء على الساعة الثالثة ظهرا بنزل سيفاكس… والتقينا وكان ثالثنا زميلا تقنيا… جلّول كان مضطربا للغاية حيث وجد صعوبة بالغة في الحديث واخيرا قالها: (راهو يحبّو يوقفو الكوكتيل… وراهم عرضو عليّ فكرة تعويضك وحضّرو البرنامج اللي ماشي يعوّضك ويحبوني انا اللي نقوم بتنشيطو)… قلتلو: (وانت شنوة رايك ؟)… قللي يستحيل نقبل … والدليل انا جيتك وقلتلك باش يبدا في بالك … شكرته على موقفه وقلتلو: رد بالك يطيحوك ..راهم ماشين يغريوك بكل الوسائل … قللي اطمان صاحبك راجل …وافترقنا …

كانت عطلتي ستنتهي في اخر ماي لاعود للعمل مع غرة جوان وبعد يومين من لقائي بعبدالجليل اي يوم 21 ماي 85 فوجئت بجلّول ينشّط برنامجا اسمه نادي المستمعين محتلاّ المساحة الزمنية للكوكتيل اي من الـ10 الى منتصف النهار … يومها احسست بالخديعة المُرة … خديعة مديري الذي استغلّ غيابي ليُقصيني ويوقف الكوكتيل، ولكن خاصّة خديعة صديقي عبدالجليل الذي وعدني بأن لا يخون وخان …(حلمكم على زميلي واخي عبدالجليل لأنّه فسّر لي بعد سنوات ماذا حدث بالضبط من وسائل ضغط وتهديد لاجباره على تنفيذ المقترح …والذي اكنّ له كلّ الحبّ والودّ ويبقى واحدا من اقرب الزملاء الى قلبي)… انذاك تحرّك المارد الذي بداخلي واصبحت ارى في مديري وفي الملأ وفي جلول ايضا، العصابة الشريرة التي يجب عليّ ان احاربها وبكلّ شراسة …

تركت الامر في البداية للصحافة المكتوبة كي تعلن عن توقف البرنامج حيث كتبت الايام بتاريخ 23 ماي 85 {فوجئ احباء البرنامج الاذاعي كوكتال من البريد الى الاثير الذي ينشطه الزميل عبدالكريم قطاطة من اذاعة صفاقس بتوقف البرنامج انطلاقا من يوم الاثنين الماضي وتعويضه بمحتويات اخرى… ولا نزال الى الان لا نعرف السبب الذي توقف من اجله البرنامج، علما بان الزميل عبدالكريم كان قد اصيب منذ السبت الفائت بتوعك صحي طارئ }… فيما كتبت جريدة البيان وبتاريخ 27 ماي 85 وفي ركن “آخر لحظة”:{احدث احتجاب المنشط المعروف عبدالكريم قطاطة تساؤلات عديدة في الاوساط الاذاعية وفي اوساط متتبعي برنامجه اليومي، وقد تاكّد لدينا انّ هذا الاحتجاب لا يعود لاسباب تاديبية كما يّشاع لدى البعض… غاية ما في الامر انّه دّعي الى اعطاء تصوّر جديد للبرنامج بصورة تجعله يساير التغيير والتوجه الذي طرأ على البث المباشر، والذي يميل الى التخصص والعمل ضمن نظام المجموعات… ويبدو انّ عبدالكريم لم يقدّم التصور الجديد الى الادارة التي ستتولى بنفسها القيام بادخال التعديلات اللازمة على برنامجه، والذي مرّ على انبعاثه 5 سنوات… وقد يتولّى بذاته تنشيطه او يسند الى غيره اذا لم يعبّر عن استعداده للعمل ضمن هذا التصوّر الجديد… وتبعا لذلك اصبح عبدالكريم يعمل ضمن الاسرة التلفزية الموجودة باذاعة صفاقس في انتظار ما ستتمخض عنه المساعي الادارية من نتائج بشأن برنامجه}…

والله شيء يضحّك ويسخّف … _ مثل هذه التاويلات والتبريرات التي مازالت قائمة لحد الان في خطابات المسؤولين والتي تؤكد للمرة الالف انّ من يعتبر المستمع او المواطن غبيّا هو اغبى الاغبياء… كان هذا فعلا موقف الادارة وهو الذي ورد في جريدة البيان وساحاول تفكيك هذا الموقف فقط لابرز مدى استغباء المسؤولين للاخرين وهم يقدمون تعلاّت هي اوهن من بيوت العنكبوت …. صبركم عليّ حتى الورقة القادمة…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

جور نار

التغريبة الأخيرة… أو، من باع حقا: السلطة الفلسطينية أم إيران ومن صدّقها؟

نشرت

في

عبد القادر المقري:

منذ سنة إلا أسبوعا، أي منذ 7 أكتوبر 2023 والعملية المسماة “طوفان الأقصى”، تأججت المشاعر ومعها توزعت أسهم الدعم المطلق والتخوين المطلق… الدعم لمنظمة حماس بكل ما تقوله وتفعله وكذلك لكافة داعميها وأظهرهم إيران، وتهمة الخيانة التي وقعت جماعيا على سلطة رام الله التي أبدت إن لم يكن رفضا قراحا، فعلى الأقل تحفظا هو إلى توجس العواقب أقرب…

عبد القادر المقري Makri Abdelkader

وقد قرأنا في صحفنا عربيا وتونسيا، وكذلك في المواقع الاجتماعية هذه الاتهامات التي اندفعت دون أية ضوابط للنشر (بالنسبة إلى الصحافة) أو خشية من أزمة ديبلوماسية مع سلطة فلسطينية ممثلة في نهاية المطاف ببلادنا، تطالع يوميا أوصافا هي شتائم مباشرة لرئيسها محمود عباس وهناك حتى من طالب بتصفيته جسديا ! … نعم قرأنا ذلك في صحفنا قبل أن نقرأه على فايسبوك الذي لا جُناح على أصحابه عموما، في زمن تخصص فيه الرقابة كل وقتها لمنتقدي الرئيس التونسي فأنّى لها الانتباه لشاتمي رئيس هذه الدولة العربية أو تلك … شُتم عبّاس وسُحل وتم هدر دمه والسبب أنه لم يخرج هاتفا بستة أكتوبر وعملية طوفان الأقصى… ولم يكفهم هذا، بل هوجم في الطريق جميع فلسطينيي الضفة الغربية ولحقهم من الشتم والتخوين ما لحق قيادتهم …

مع العلم بأنه حال بدء رد الفعل الغاشم للعدوّ على أهالي غزة، خرج أكثر من مسؤول في السلطة، وأوّلهم عباس، لإدانة هذا العدوان والتضامن الكامل مع غزة على أنها جزء من فلسطين، وليست معقلا لحركة لا وجود لفلسطين في اسمها ولا في مشروعها العابر للحدود… كما أن الشارع في رام الله والخليل والقدس الشرقية وجنين ونابلس وغيرها من مدن ومخيمات الضفة، شهد موجة عارمة من المواجهات والاعتقالات وتدمير البيوت والأملاك ومصادرة الأراضي… مما حدا بدولة الاحتلال أن أخرجت من الأدراج خطة معدّة مسبقا بترحيل جماعي لملايين سكان الضفة الغربية تزامنا مع سكان غزة… ونفس الكلام (أسوده وأبيضه) قيل عن عرب 1948 سيئي الحظ مع الجميع، بيد أنهم أكدوا فعليا انتماءهم للوطن الفلسطيني دون سواه… وهاهم يتحملون هم أيضا مشروع “ترانسفير” لا يقل عنصرية وإبادة عن نظيره المرصود لمواطنيهم في القطاع والضفة…

قلنا عن رد فعل العدوّ بأنه كان “غاشما” وهذا يكاد يكون وصفا ضعيفا لما جرى ويجري… لا يخفى على أحد أننا في ظرف دولي يتميز بعنصرين: أولهما الانتخابات الأمريكية واحتدام الصراع بين معسكرين يختلفان في كل شيء إلا في نقطة مساندة إسرائيل والتصميم على حماية تفوقها التام على “أجوارها” عربا وفُرسا… بل ويتزايد كالعادة المتنافسان الجمهوري والديمقراطي في دعم الكيان الغاصب ماليا وسياسيا وعسكريا واستخباراتيا… وثاني عنصري الظرفية ، غياب كامل لقوة مضادة توازن هذا الثقل المساند للعدوّ… فالاتحاد الأوروربي تدير معظم دوله اليوم حكومات وأغلبيات برلمانية من اليمين الأقرب إلى التطرف إن لم يكن متطرفا فعلا… أما روسيا، فقد تورطت في أوحال المستنقع الأوكراني إلى أمد غير محسوب، وأصبحت بدورها في حاجة لمن يدعمها ويفك الحصار ، بل الحصارات المضروبة حولها بسياج من فولاذ… ثم وحتى في ظروفها العادية قبل حرب أوكرانيا، وحتى لو عدنا إلى الزمن السوفياتي والحرب الباردة، فإن وقوفها إلى الجانب العربي لا يمكن أن يقاس بـ 1 بالمائة مما يقدمه الغرب لإسرائيل…

ومع احترامنا لآلاف المساندين الأشراف للقضية الفلسطينية والذين ملؤوا شوارع وجامعات أوروبا وأمريكا… فإن سلطة القرار تبقى دائما وأبدا في يد من يمسك السلطة المالية والعسكرية في هذه البلدان، وهو ليس بالضرورة الشارع… خاصة في قضية ليست ذات طابع مصيري وطني يمكن أن يطيح بحكومة ويصعد بأخرى… ولا نريد أن ننكأ جراح أحد فلكل منا ما يكفيه، ولكننا نذكر بكل حرقة عدد الأثرياء العرب (والمسلمين) وحجم الثروات العربية (والإسلامية) المودعة في بنوك الغرب، وكيف يتم توظيفها لشراء خُرَد السلاح ونوادي الكرة بدل امتلاك وسائل الإعلام الكبرى والتأثير في السياسات كما تفعل الجاليات المحسوبة على العدو والمتعصبة له… ولا حديث أيضا عن “الجاليات” العربية المبثوثة في كل بلدان العالم وخاصة الغربي منه، وهي المشتتة الغارقة في صعوبات عيشها ووضعية أوراقها وما يتهددها يوميا من قوانين تزداد تضييقا على المهاجرين… وفيها حتى نسبة طلّقت بالثلاثة وطنها الأمّ بعد أن فرت منه فرار الناجين…

ـ يتبع ـ

أكمل القراءة

صن نار