لن تكون هذه الورقة برنامجا اقتصاديا واجتماعيا وعناوين مُستهلكة لتعهّد الملفّات الكبرى التي تُثقل كاهل البلد، بل هي مجرد طموحات بسيطة لإنسان بسيط ينتمي إلى شعب بسيط لم يعُد يطمح إلى أكثر من طرد الغُزاة واسترداد بلده والعيش بعد ذلك على حدّ الكفاف.
أحلم بوطن تكون عناصر شرطته من أنجب خريجي الجامعات يتلقّون تدريبا خصوصيا بحجم التكوين الأساسي ويكتسبون بموجبه فنون التعاطي الحضاري مع الاحتجاج والشتيمة والاستفزاز ومهارات التخاطب الراقي مع الناس ويمتنعون عن التمعّن في مهن المارّين على وثائق هويّتهم قبل اتخاذ القرار الذي من المفروض أن يحدّده القانون. ولكن في نفس الوقت شرطة ترتقي الدولة بمستوى عيشها ودخلها ورفاهها العائلي حتى لا يترك أي مبرّر لعدم الضرب بقانون من حديد على كل يد تمتدّ لنيل بعض الملاليم السافلة والوضيعة.
أحلم بوطن لا تُغلق أبواب جامعاته المرموقة واختصاصاتها ذائعة الصّيت أمام أصيلي القرى والمداشر المنسيّة الذين نجحوا بمعدلات متوسطة أو هم لم ينجحوا أصلا. وحين أحلم بهذه الأبواب المفتوحة فإني لا أرى جدوى تُذكر من اتخاذ قرارات شعبوية متوقّعة في المجال وإنما سنّ سياسات حقيقية تعطي جميع أطفال تونس نفس حظوظ النجاح داخل المدرسة وخارجها منذ 19 سنة على الأقل قبل اجتياز امتحان الباكالوريا.
أحلم بوطن تتوفر فيه لفتيات الأرياف والطبقات الفقيرة نفس حظوظ تثمين جمالهنّ وأناقتهنّ وقدرتهنّ على إبهار الآخر. ذلك لأن الجمال نسبي والجينات تتحسن بفعل الرفاه الاجتماعي، وأن حظوظ الزواج والقدرة على معانقة آفاق اجتماعية وثقافية أرحب تتضاعف أو تتضاءل وفق تلك الاعتبارات. لا أؤمن شخصيا بمقولة “كل واحد آش هزّت مغرفتو” لأن الكثيرين ليست لديهم ملاعق أصلا بل مجرد عيدان أكل آسيوية ونطلب منهم أن يتناولوا طعام الحساء بواسطتها. لن أسامح ما حييت دولة طبقية تهب كل المقوّمات لفتاة أولى قادرة على النجاح والتألّق وصُنع مستقبلها كما تشتهي وتجرّد فتاة ثانية من كل ما من شأنه أن يقيها من العمل المُهين بالبيوت.
أحلم بوطن مُتمدّن تحكم فضاءاته العامة معايير المواطنة وإكراهاتها وليست أية اعتبارات مغشوشة أخرى من قبيل محاسبة الناس على نواياهم وتقدير درجة إيمانهم وإطلاق الأحكام الأخلاقوية على سلوكاتهم. وطن يتمتع فيه الناس بمطلق حرياتهم الفردية والجماعية دون حسيب أو رقيب الا من حساب ضمائرهم والقوانين السّارية.
أحلم بوطن لا يتهيّب فيه المواطن من مراجعة مصالح إدارية مّا، خشية مواجهة موظف بارع في تصيّد الوثائق الناقصة والأوراق اللاغية وفوات الآجال وتعطل السيستام وتغيّب الموظفة المسؤولة عن الملف يومها.
أحلم بوطن يُمكّن مواطنيه من جوازات سفر خضراء (في خضرة مروجه وتينه وزيتونه) وتُعلن بمجرد الاستظهار بها انتماءً تعتز به أمام ديوانة العالم وشرطته. جواز يقولك ويقول تاريخك وعراقة حضارتك دون أن تتكلم. جواز يُحيل مباشرة على حنبعل وقرطاج والكاهنة وعليسة وماغون وابن شباط وابن خلدون ومحمود المسعدي.
أحلم بوطن لا يبادر تلاميذه في آخر السنة الدراسية إلى تمزيق كراساتهم وكتبهم بمجرّد حضور آخر درس في إشارة جليّة لمن يُجيد التقاطها إلى أن مدرسة الحفظ عن ظهر قلب والتلقين والنسخ والتلصيق والإملاء ومنع التلميذ في فتح كراساته وكتبه يوم الامتحان … مدرسة خشبية كهذه ولّى عهدها وباتت في عِداد المؤسسات المنتجة للمعرفة المضادّة.
أحلم بوطن يُحاكَم فاسدوه بقساوة وخائنوه والمستهترون به بضراوة بنفس الحدّة التي يُحاسب بها صغار المنحرفين والنشّالين … ولا يتحقّق ذلك إلا بعد استعمال أكثر أنواع مواد التطهير فعالية لتنقية مرافق القضاء والتشريع والمراقبة والتنفيذ.
أحلم بوطن يُغْني مواطنيه ولا يُفقّرهم، يُلبس أهله ولا يُعرّيه، يُثقّف متساكنيه ولا يُجهّلهم، يحمي شعبه ولا يدعه عرضة للانتهاك، يذود عن سيادته ولا يفرط فيها، يعالج مرضاه ويحصنهم ولا يتركهم عزّل أمام الوباء… وطن يصنع موسيقى عظيمة وأدبا جيدا ومطبخا فاخرا وأصيلا وملمحا إنسانيا مُشرقا، لنتأسّس من خلالها في ساحات العالم وأروقته.
أحلم بوطن تحترم فيه حركة عقارب الساعة بالدقة اليابانية المتناهية حتى يستطيع أن يقول أحفادنا يوما : كان أجدادنا يتندّرون بالسؤال “حافلة نصّ النهار وقتاش تخرج” ؟ لأن الوقت لم يكن ذا قيمة لديهم.
أحلم بوطن أطفاله يلعبون ويمرحون ويهرجون في غمرة من السّعادة وبهجة الحياة ولكن يشعرون في نفس الوقت أنهم مَحْمُولون أيضا وبوعي تامّ على تربية ذائقة متطورة لا تمنحها للأسف مسلسلات شوفلي حلّ وبرامج الجاهل بمكانة طه حسين وإنما عليه أن يجد مَكْمنا لها في ما يؤلّفه روّاد الموسيقى والرواية والتاريخ والبحث العلمي والاجتماعي. أحلم في هذا السياق بعربة قطار تونسي فيها أكثر من مواطن واحد يتصفح كتابا أو مجلة جادّة.
أحلم أخيرا بوطن تتوزّع فيه بأكبر قدر ممكن من العدل المُتع الصغيرة بين الناس مثل التسوّق إلى غير فضاءات بيع الخضر والملابس المستعملة وإمكانية الاستحمام في أي وقت من النهار أو الليل والتمتع بهدوء الأعصاب أمام فواتير الدولة نظرا لتوفّر إمكانيات استخلاصها والسّفر أحيانا إلى غير وِجهات التّكفير عن كل الذّنوب المرتكبة والبدء بإعداد مراسم الوداع الأخير.