عندما تكون الأزمة شاملة اقتصادية و اجتماعية و سياسية و صحية، كالتي نعيشها، و تتطور إلى إحباط وغضب شعبي ينفلت إلى أعمال عنف و شغب و اعتداء على أملاك الغير، فإن الاستجابة السريعة للأزمة من قبل السلطة (الحكومة و الرئاسة و البرلمان) و من الأحزاب والبرلمانيين تعدّ مسألة أساسية في تهدئة الأوضاع و بث الطمأنينة بخطاب مقنع و ذكي و صادق يبرز القدرة على إيجاد الحلول العملية. ذلك أن التواصل المنقوص مع الناس من شأنه أن يسبب المزيد من الالتباس و عدم الثقة في قدرة السلطة على إدارة الأزمة و السيطرة عليها بقوة الاقتراح و إعطاء أمل حقيقي للناس.
إن المتابع للظهور الإعلامي لكل من رئيسي الدولة و الحكومة في غياب لرئيس البرلمان الذي اكتفى ببيان حزبي خشبي أراد من خلاله تسجيل حضور باهت لم يقدم أية مقترحات أو حلول للأزمة – و قد يكون فهم أنه جزء منها باعتبار الشعارات التي رفعت ضده يومي الثلاثاء و الأربعاء أمام مقر وزارة الداخلية – يبرز له جليا وجود أزمة تواصل مع الشعب و ارتباك كبير و ضعف في الخطاب المقنع و القادر على امتصاص غضب الشعب.
فقد اختار رئيس الدولة بعد صمت طويل و غياب عن الأحداث الخطيرة الدائرة، منطقة المنيهلة للتخاطب لأول مرة مع الناس باللهجة الدارجة دون أن يقدم أية حلول أو بصيص أمل … مثلما ظهر بعده بيوم رئيس الحكومة الذي خرج عبر وسائل الإعلام بعد أربع ليال من الانفلات الخطير و الاعتداءات على أملاك الناس و الإيقافات الكبيرة للشباب و القصّر المشاركين في أعمال العنف، مخيرا اللغة العربية بما تضمنه النص المقروء من أخطاء لغوية.
لكن لماذا لم يُطمْئن هذا الخطاب الناس فانتقدوه و تواصلت بعده أعمال الشغب، و خرج المحتجون هذه المرة بكثافة إلى شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة رمز الثورة، رافعين العديد من الشعارات التي منها “الشعب يريد إسقاط النظام” و “لا خوف لا رعب السلطة بيد الشعب ” فضلا عن الشعار المعروف ضدّ الغنوشي و الذي ذكّر به النائب منجي الرحوي في جلسة البرلمان يوم الثلاثاء المنقضي ليبين أن سياسة الإسلامويين هي من بين أسباب الاحتقان … إلا أن النائب الثاني لرئيس البرلمان أغلق المصدح فيما كان رئيس البرلمان قد ظهر في حوار مع تلفزة أجنبية و انفلت لسانه مصرحا بأن حليفه سيخرج من السجن معززا مكرما مما أثار غضب جمعية القضاة التي اعتبرت ذلك تدخلا في القضاء.
فعادة ما ينتظر الناس عند الأزمات خطب المسؤولين لتهدئة الأوضاع و تقديم الحلول و طمأنة الناس و قد كان من المتوقع أن يكون رئيس الحكومة سريعا في هذا الظهور خصوصا و قد كان غياب رئيس الجمهورية ملحوظا، لكنه خرج للناس بعد ثلاث ليال كاملة من العنف و الرعب و يبدو من خلال كلمته أنه لا يعتمد على سياسية اتصالية و تواصلية علمية و مدروسة، فقد كان يقرأ ورقات بما احتوته من أخطاء لغوية جعلته لا ينظر إلى مخاطبيه إلا نادرا … علما بأن النظر للمخاطب ضروري لبث الثقة و الطمأنينة و الإقناع، ذلك أن التواصل المنقوص و الارتباك الواضح و الاقتصار على معلومات عامة و خطاب فضفاض من شأنه عدم الإقناع و إحداث المزيد من الالتباس و الإشارة إلى فقدان السيطرة.
فقد ردّد رئيس الحكومة عديد المرات كلمة “أتفهم” مما جعل المتابعين يستعيدون خطاب بن علي قبل سقوط النظام الذي ردّد فيه عبارة “فهمتكم” اقتداء بخطاب شارل ديغول في الجزائر سنة 1958 أمام المستعمرين الفرنسيين عندما قال عبارته الشهيرة “فهمتكم” و كانت من أكثر الخطب السياسية غموضا.
كان من المفروض أن لا تعاد هذه الكلمة خصوصا في غياب أية إجراءات إضافية في هذا الخطاب، لامتصاص غضب الناس حتى و لو كانت بسيطة من قبيل الإعلان عن اقتناء ملايين اللقاحات التي ـ بدلا عنه ـ أعلن عنها بعد ساعات قليلة وزير الصحة المقال … فضلا عن إمكانية التشاور مع وزير الشؤون الاجتماعية لتقديم أي جديد يبرز السعي للبحث عن حلول من ذلك على سبيل المثال تقديم بطاقات علاج مجانية للشباب المعوز و العاطل عن العمل.. مثلما كان بإمكانه التكفل بالإعلان عن إطلاق سراح القصر الموقوفين… و غيرها من الإجراءات حتى يكون الخطاب عمليا و ناجعا و حاملا لمشروع، و لا يكتفي بإلقاء المسؤولية على الحكومات المتعاقبة.
إن إدارة الأزمات تستوجب على الحكومات تشكيل فريق متخصص في الغرض والتواصل مع المواطنين ولم لا إنشاء خلية إحاطة عبر الانترنت لدحض الإشاعات و مواجهة التضليل و الرد السريع على القضايا المطروحة فضلا عن إعداد الظهور الإعلامي المقنع و المميز و القادر فعلا على امتصاص غضب الناس … و لنا في ظهور الدكتورة نصاف بن علية خير مثال على ذلك إذ رغم ظهورها الإعلامي الكبير فإنها لم تنجح في إقناع الناس بدليل تفاقم أزمة كورونا … و اكتفت خلال حملتها الإعلامية بالتخويف و بنبرة الكارثة و رددت كلمة الموت عديد المرات إلى أن أصبحت كلمة عادية و لم تقدم أي تصور علمي أو تثقيف صحي … مثلما كان من الضروري أن تترك لغيرها فرص الظهور لأن الناس ملوا نفس الخطاب.