التعليم مهنة شاقة … الصحة مهنة شاقة … النقل مهنة شاقة … المناجم مهنة شاقة … كل هذه الصنائع يصرخ أصحابها أنها هي الأكثر إنهاكا و إهلاكا وتقصير عمر، و هم لا شكّ صادقون كل من موقعه … وحدها الفلاحة نشاط مريح و جوّ مليح و نزهة على بساط الريح …
جاري السابق عم الفهري عليه الرحمة شيخ سبعيني ـ وقتها ـ من الوطن القبلي و لكنه كان يملك سانية متوسطة في الأحواز الغربية للعاصمة بين الدندان و منوبة … عليها يقيم و فيها يعمل و منها يعيش مع ابنه الوحيد وزوجتيه الإثنتين نظام قديم … كلما سألت عنه نعتوني على ركن قصيّ من البستان فأجيل عينيّ لأعثر عليه ضئيلا مقرفصا وسط أحد أحواض المعدنوس أو القنارية أو البسباس… يقلع الأعشاب الطفيلية تارة، و يسقي من بئر هناك تارة أخرى، و يغرس في مواسم الغرس، و يداوي و يعزق و يزبر و يغبّر ويدفع برويطة صغيرة في جميع المواسم … أما جني ذلك المحصول و ما يتبعه فتلك صفحة أخرى …
قد يكون ذلك مع المغارب أو في غسق الليل لأني لم أر ذلك و لو مرة … كل ما أذكره أنه مع منتصف الليل تعجّ شاحنة صغيرة تحت جدار بيتنا، أخرج أحيانا للاستطلاع و أنا الساهر الدائم … فتصلني تحية ليلية من صوت شاب هو لصديقي أحمد ابنه الذي فرغ للتوّ من تعبئة الخضروات على متن الإيسيزو، و هاهو يشدّ الرحال نحو سوق الجملة …
ماذا وقع في الأثناء و قبل ذلك وبعده؟ كان لابد من سنوات حتى بان بعض ما في المشهد … فقبل ذلك تُنجز أعمال من التي يقوم بها كافة فلاّحي السقويات … انتقاء دقيق للرؤوس التي نضجت لا تخطئ فيه العين الخبيرة سواء كان النضج فوق الأرض أم تحتها … ثم تنظيف لها من الطين العالق يليه في بعضها كالسفنارية غسل كامل … ثم تجميع كل عدد من العروق أو السيقان في كومة يتمّ ربطها بإحكام، و ترصيف الربطات أو الرؤوس في صناديق تستقبلها الشاحنة، و عند الوصول إلى بير القصعة دفع مكوس ومفاوضات هبّاطة و بيع و شراء ومسار لانهائي و في الأخير عودة قد تتم مع أولى أشعة الشمس …
آخرون وضعتهم الأقدار في تربية المواشي، و غيرهم في الزيتون أو اللوز أو النخيل أو البرتقال و طائفة طويلة من الأشجار المثمرة لكل موسمه و أشغاله و آفاته و حالاته بين خصب و جدب … أي عمل 12 شهرا على 12 بما فيها الزراعات الكبرى التي يخطئ من يتصوّرها يوم زراعة و يوم حصاد … في الحرث وحده و حتى إن تطوّرت الوسائل، فإن الشظف واحد و السؤال يُطرح على من ركبوا جرّار ماكورميك… و لو في مناسبة يتيمة، و لو على الطريق المزفّت، لا فوق أرض مضرّسة محجّرة تخضّ عليها الحليب فيصبح رائبا في دقائق …
كل هذا دون نسيان الآفة الكبرى لفلاحتنا … الإدارة و البنوك و التأمينات و اتحاد الفلاحين و حرس المرور وديوان الحبوب و بياطرة الوزارة و معاصر الزيت و مراكز تجميع الحليب وتجّار السماد و باعة الأدوية و مزوّدو أكياس القمح و تلول التبن و حتى خيط السباولو … زد عليهم ندرة المياه و كثرة المضاربين و لصوص المزارع و قطّاع الطرق و خنازير الجبل و عواصف الحجر و موجات الحرائق وذباب الزبّالة اللجوج و هو في حجم ذكر النحل …
و بعد هذا، يأتي عبد الوهّاب في بدلته المحدّدة و نظّارته الأنيقة و طربوشه الأرستقراطي ليشدو باسما: محلاها عيشة الفلاّح …