في بداية الستينات وأنا طفل لا أعرف من الدنيا سوى مرح الأطفال وعبثهم كنت أتكوّر مع عائلتي وبنات الجيران حول الراديو ذلك الكائن العجيب آنذاك …
كنّا نقتسم بشكل استباقي أغاني برنامج “أغنية لكل مستمع” في الإذاعة الوطنية ..وهو على تفاهته كان يحظى بنسبة عالية استماعا وحظوة كبيرة عندنا نحن كمستمعين سذّج …وتتمّ اللعبة السمجة بتوزيع أرقام علينا فتكون الأغنية الأولى لمن اختار الرقم واحد والثانية لمن اختار الرقم اثنين وهكذا ..ونبقى وبكلّ بلاهة ننتظر حظوظنا .. وببلاهة أكثر بلاهة نفرح إن كانت الأغنية متفائلة ونحزن إن كانت همّا وغمّا …وكانت الفتيات الأكبر سنّا منّي يترصّدن بكلّ حواسهن ما ترسله أقدار البرنامج لها من أغنيات فترى إحداهنّ تطير سعادة وهي تستمع إلى سيدي علي في قوله (قول ان شاء الله زينة زينة) بينما تكتئب الأخرى وحظّها التعيس يرمي على مسامعها فات الميعاد وبقينا بعاد …
تذكرت هذه الومضة من طفولتي وقلت ماذا لو التقيت يوما ـ لا قدّر الله ـ مع مسهول سياسي كبير في هذا البلد {……….} هذا الفراغ تركته لكم كقارئين لتضعوا اسم السياسي الذي يروق لكم سواء حبّا أو كراهية .. لو عاد بنا الزمن إلى تلك الحقبة واقترح عليّ ذلك السياسي أن اختار له رقما على هواي ثم نفتح الراديو لسماع حظّه الغنائي .. لفعلت وهاكم نتيجة الحظ التعيس … لأنّ علاقتي المهنية إذاعيا تحكمها عشرة تجاوزت الأربعين سنة، استجاب الراديو لما أضمره من نوايا تجاه ذلك السياسي ..ولعلع صوت عبدالوهاب …ورأيتموني أبوس هذا الجهاز لسببين ..
اوّلهما لانّي اعتبرت دوما في تقديري أنّ عبدالوهاب هو موسيقار أجيال وأجيال وليس موسيقار جيلين كما أسموه هو ودائما في تقديري أقدر وأمهر وأروع موسيقار استطاع أن يزوّج الكلمة والبيت الشعري بالكساء الموسيقي المناسب للونها ولرسالتها …استمِعوا إلى مقطع جورج جرداق في أغنية هذه ليلتي حين يقول (في بحار تئنّ فيها الرياح …ضاع فيها المجداف والملاح _) استمِعوا إلى الكساء الموسيقي الذي خاطه عبدالوهاب لتدركوا أنّ الموسيقى تئنّ أمام صخب الموج فتحدث ردّ فعل في لحن هذا الموسيقار الرهيب يُحيلنا إلى ضياع المجداف والملاّح …
هذا سبب نشوتي الأولى … أمّا الثاني فكانت هُويّة الأغنية التي خرجت من رحم الراديو .. إنها اغنية “لا تكذبي” وبالتحديد المقطع التالي (إنّي رأيتكما معا إني سمعتكما معا)… حتى يصل إلى (ويشبّ في قلبي حريق .. ويضيع من قدمي الطريق .. وتطلّ من رأسي الظنون تلومني وتشدّ أذني .. فلطالما باركتُ كِذبك كلّه كذبك كلّه كذبك كلّه كذبك كلّه …)
الإبرة شدّت يا جماعة ! و يعتذر المذيع عن الخلل الفنيّ الخارج دائما عن نطاقهم والتحية والشكر لزملائنا في الحافلة السياسية …