الإنسان ابن بيئته لكنه كذلك ابن مطالعاته و مشاهداته و متابعاته ، فما نسمعه أو نقرأه أو نشاهده يؤثر حتما في حياتنا و في تمثلاتنا للوجود… و كل كتاب أو شريط أو خبر أو حتى أغنية لا بدّ و أن يغيّر و لو قليلا من حدود تفكيرنا و نظرتنا لما حولنا… و لعل ما شاهدته هذا الأسبوع جدد عندي هذا اليقين و جعلني أتأمل واقعنا و أتملى تفاصيله و جعلني خاصة أتحسر على وضعنا في تونس فأين نحن مما شاهدته رغم أنه لا يندرج ضمن الأفلام الخيالية ! ؟
الشريط الأول الذي شاهدته هو مقطع قصير نزّله على موقع الفايسبوك أحد التوانسة المقيمين في الولايات المتحدة الأمريكية و تحديدا بمدينة فينيكس بأريزونا و قد رافقنا فيه من مقر سكناه إلى إحدى المغازات القريبة.. المذهل في الفيديو أن التاكسي التي استقلها كانت سيارة دون سائق نعم سيارة دون سائق طلب قدومها عن طريق تطبيقة إلكترونية..
انطلق الشريط من لحظة انتظار السيارة التي توقفت لتقله صحبة مرافقه ثم امتطاها لتصل به بعد حوالي ثماني دقائق إلى المكان المقصود الذي سجله طبعا على شاشة إلكترونية موضوعة أمامه
كان الطريق مرسوما أمامه و أمامنا و نحن نتابع خط سير العربة و القيادة الإلكترونية الرصينة و احترام علامات المرور و إشارات الطريق..
كان الفيديو ممتعا و مؤلما في نفس الوقت فآلاف الكيلومترات التي تفصلنا عن الولايات المتحدة الأمريكية مكانيا تفصلنا عنها زمانيا و حضاريا أيضا
كنت أشاهد الشريط و أنا أتخيل طرقاتنا و عرباتنا و طريقة سيرنا و عدم احترامنا لبعضنا البعض أثناء القيادة..
كنت أشاهد الشريط منبهرة بجمال الشوارع و نظافتها و استقامتها و متألمة من حال شوارعنا و ما فيها من أوساخ و أدران و همجية و غياب أرصفة و انعدام عناية و كنت أتساءل ما الذي ينقصنا لنصير بلدا متقدما و لتكون شوارعنا نظيفة ! ؟ هل المشكل في الحكومات أم في الشعوب؟؟
قبل أن أشاهد ذلك الشريط قضيت ثلاث ساعات انتظار في إحدى بلديات هذا الوطن من أجل استخراج مضمون ولادة و الحصول على نسخ مطابقة للأصل لبعض الشهادات
ثلاث ساعات يقضيها الفرد في الشمس و في وضع صحي غير مستقر من أجل إجراءات لا مغزى لها.. كمٌّ رهيب من الأوراق ندفعها للإدارات لتُلقى لاحقا في علب الأرشيف و ليطلب منا أن نستظهر بمثيلاتها بعد سنة واحدة حتى لا يتجشم الموظف عناء البحث عنها أينما حشرت….
في عهد السيارات الذاتية القيادة مازلنا في تونس غير قادرين على رقمنة الإدارة و تعصيرها عبر معرف وحيد يتضمن كل المعلومات عن المواطن أو طالب الخدمة مهما كانت الإدارة المقصودة و مازلنا نستعمل أطنانا من الأوراق تكلف وقتا ثمينا مهدورا و أموالا و خسائر بيئية و جهدا و طاقة بشرية…
في تونس لدينا شباب ذكي مفكر مبدع مبتكر تتخاطفه كبريات الجامعات الأجنبية و الشركات العالمية فلم لا نعطيه فرصة و لم لا نفتح أبواب المستقبل أمام الطاقات المبدعة و الأفكار الخلاقة؟ ؟
كلنا نذكر ذلك الروبوت الذي استعملته وزارة الداخلية لمراقبة مدى التزام الناس بالحجر الصحي ايام الموجة الأولى للكوفيد في 2020.. و لكن من منا يعرف أن مصمم هذا الروبوت تونسي و أن الشركة تونسية (Enova ROBOTICS) لصاحبها المهندس أنيس السحباني و هي الشركة الوحيدة في القارة الأفريقية المختصة في صناعة الروبوتات الذكية المختصة أساسا في مجال الحماية والأمن و كذلك في القطاع الطبي…
من منا يعرف أن مشروعا صناعيا ضخما بقيادة الشاب بوبكر السيالة سيخرج إلى الأسواق في المدة القادمة أول سيارة تونسية تعمل بالطاقة الشمسية ، سيارة تونسية 100٪ من حيث الهندسة و التصميم و الهيكل و النظام الاكتروني؟ و هي سيارات مخصصة لخدمات النقل السريع و النقل داخل المدن…
إن ّمشكلة تونس ليست في عقول مهندسيها ولا أطبائها ولا مخترعيها بل في عقول سياسييها الذين تفننوا في النقاشات البيزنطية و ألهاهم الصراع على الكراسي و المناصب عن مصالح المواطنين و القوانين التي تهدمهم ، و كذلك في إدارتها المتكلسة و بيروقراطيتها العقيمة…
الشباب هو عدة الحاضر و ذخيرة المستقبل عماد كل أمة و سر نهضتها و بناة حضارتها و نبض الحياة في عروق الوطن و لكننا في تونس نتفنن في خنقه و وضع العراقيل في طريقه و إضاعة وقته حتى يهج من وجوهنا و يغادر بلدنا نحو فضاءات أرحب تتفتق فيها طاقاته و قدراته… ثروتنا الحقيقية تغادر و لا تنتفع منها البلاد
هذه الطاقات آن لها أن تبرز و تأخذ حقها في الظهور و تشارك في صياغة قوانين جديدة ترغب الشباب في البقاء في بلاده و خدمتها و تطويرها حتى لا نتحسر و نحن نقارن وضعنا بأوضاع البلدان المتقدمة و نشاهد تخلفنا بأم أعيننا…
الشريط الثاني الذي شاهدته كان لحفل تأبين و توديع الفنان الفرنسي جان بول بلموندو الذي أشرف عليه الرئيس ايمانويل ماكرون على أنغام جوق الشرف للجيش الفرنسي و بحضور عدد كبير من السياسيين و الفنانين.. وداع وطني و شعبي يليق بأيقونة أعطى كثيرا لفرنسا و أمتع الفرنسيين فبادلوه عطاء بعطاء… كان مشهدا رائعا و حفلا مؤثرا بقيمة بيبيلBébel
حفل جعلني أتساءل أيضا أين نحن من كل هذا و ما مكانة فنانينا في عيون الدولة؟ ما قيمة الفن و الفنانين في تونس خاصة في السنوات العشر الأخيرة ؟؟ حتى المثل التونسي ” عاش يتمنى في عنبة، مات علقوا له عنقود” ماعادش خالطين عليه في زمن لا يطال فيه الفنانون لا العنب و لا العناقيد… زمن يفتقدون فيه للتغطية الاجتماعية و الرعاية الصحية و لا يجدون حتى ثمن العلاج أحيانا… فكم من مبدع توفي دون أن يجد سريرا في مستشفى لائق و كم من مثقف أطرده الملاك من البيت و كم من فنان و شاعر و رسام … لم يجد غير عائلته لتعيله و تقف بجانبه
كيف تعاملت الدولة و وزارة الثقافة مع العازفين و أصحاب الفرق الموسيقية و منشطي دور الثقافة و متعهدي الحفلات و غيرهم أثناء أزمة الكورونا فجاع من جاع و مات من مات …
الفنانة القديرة نعمة مثلا قبل وفاتها لم تكن تتقاضى الا 200 دينار منحة من وزارة الثقافة لا تحصل عليها إلا بعد مماطلة و تسويف و كأنها تطلب صدقة و أمثالها كثيرون
و كأني بالجميع قد نسي دورهم و أثرهم فكم أضحكونا و كم أمتعونا و كم أطربونا فماذا وجدوا غير الجحود و النكران!!؟
أ ليست الراحلة دلندة عبدو ” محل شاهد” حقيقي على إهمال الدولة لمبدعيها.. و لم تشفع لها هناني و جريدة و غيرها من الأدوار لخلاص فواتير المستشفى و لا لحفل تأبين يليق بمسيرتها..
انظروا إلى قبور فنانينا و كيف هي حالها فإن لم تتعهدها الأسرة فلا مصير لها غير الإهمال.. من منا يعرف أين دفن خميس ترنان أو علية أو علي الرياحي أو حتى نعمة و زهيرة سالم ؟
مَن مِن وزراء الثقافة و مسؤوليها اعتنى ببيوت الشعراء و الكتاب و الفنانين و ضم فيها حاجياتهم و إرثهم و تراثهم و جعلها مزارا لمحبيهم؟؟ .. من يدلنا على منازل أحمد حمزة و محمد الجموسي و علي بن عياد و محمد العروسي المطوي و الميداني بن صالح و محمود المسعدي و صليحة و شبيلة راشد ؟؟
أينما تتجول في بلدان العالم تدخل بيوت الفنانين و المشاهير و تجول في أرجائها و تلقي نظرة على مقتنياتهم و أدواتهم المحببة و ملابسهم الأثيرة و ما خطوه بأناملهم و ما حصلوا عليه من هدايا و جوائز و شهائد تقدير … قصر أحمد شوقي و بيت عبد الحليم حافظ في مصر ، منزل سالفادور دالي في قادش باسبانيا و بيت انشتاين في برن العاصمة السويسرية و غيرها كثير و قبور الفنانين و أضرحة المبدعين هي مزارات تجذب آلاف السياح سنويا… قيمة حضارية لشعوب تعرف كيف تصون مثففيها و تحافظ على صورتهم في عيون عشاقهم أما في تونس فلا ذكرى و لا ذاكرة لا للأحياء و لا لمن اختارهم الله لا حماية لأعمالهم و لا قوانين تنظم الملكية الفكرية فتنصف المبدعين و أسرهم…
بل أكثر من ذلك لا نهتم الا بالتفاهة و التافهين فنتسابق على نشر أخبارهم و تداول صورهم
سنوات ضوئية تفصلنا عن هذه البلدان في كل المجالات
فمتى تشفى بلادنا و يسترجع جسدها المريض عافيته و تلحق بركب الحضارة ؟؟؟